فصلية علمية متخصصة
رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم
العدد
67

الثقافة في البيئة الرقمية

العدد 65 - التصدير
الثقافة في البيئة الرقمية
كاتبة من سلطنة عمان

 

لقد تم اعتماد اتفاقية حماية وتعزيز تنوع أشكال التعبير الثقافي من قبل منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلم (اليونسكو) في أكتوبر 2005، ومنذ ذلك الحين والعالم يشهد الكثير من التطورات والتغييرات خاصة في المجال التكنولوجي والتقني؛ حيث حدثت تحولات هائلة في العصر الرقمي أثَّرت في المشهد الثقافي، وشكَّلت ظواهر إبداعية عدة في القطاعات الإبداعية في ذلك المشهد، فظهرت الشبكات الاجتماعية الواسعة النطاق، وتوسَّعت البيانات والمعلومات وتشعَّبت حوسبتها، إضافة إلى بروز أنماط جديدة ونماذج للإنتاج والتوزيع والوصول إلى تلك البيانات ومشاركتها. 

   ولهذا فإن هذه الثورة الهائلة مكَّنت المثقفين والعاملين في هذا المجال، من تجاوز أنماط التوزيع التقليدية وبالتالي نماذج التفاعل المباشر مع الجمهور بأنواعه (الفعلي والمُحتمل)، وعليه فإن هذا التطوُّر المتسارع يستوجب إيجاد أنظمة حوكمة جديدة قادرة على ضمان حماية وتعزيز تنوع أشكال التعبير الثقافي، إذ لابد من تعزيز قدرة التقنية من حماية التنوُّع الثقافي من ناحية، وتمكين سياسات الإبداع في البيئة الرقمية من ناحية أخرى، لضمان إمكانات إشراك المبدعين المثقفين في التفاعل التقني الإيجابي، ومعالجة الفجوات المسبِّبة لعدم المساواة الرقمية. 

ولعل تلك التحديات التي واجهت وتواجه التنوُّع الثقافي في البيئة الرقمية، دفعت اليونسكو إلى إدراج مبادئ توجيهية جديدة خاصة بالقضايا الرقمية في نص الاتفاقية في يونيو 2017، إضافة إلى إنشاء الصندوق الدولي للتنوع الثقافي (IFCD)، وهو اهتمام يعكس حرص الدول على حماية التنوع الثقافي، ومحاولة الوصول إلى التدابير الممكنة التي يجب اتخاذها للوصول إلى تنمية الإبداع والصناعات الثقافية والمشاركة الاجتماعية الفاعلة، وحماية حقوق الطباعة والنشر الإلكتروني وصناعات الكتب والموسيقى والأفلام والخدمات الثقافية وغيرها، ضمن أنماط التنوُّع الثقافي وأشكاله المختلفة.

ومع ظهور الذكاء الاصطناعي التوليدي وازدهاره خاصة خلال السنتين الأخيرتين فإن التوسَّع في البيانات الضخمة، والخوارزميات القادرة على استنتاج الأنماط والإجراءات اللازمة لتمثيل تطبيقات ذكية جديدة ذات إمكانات هائلة تساعد المجتمعات على مواجهة التحديات المتنوعة التي تواجهها أصبح ضرورة ملحة، فعلى الرغم من محاولات إيجاد حوكمة للقطاع التقني المتنامي من خلال أخلاقيات الذكاء الاصطناعي وغيرها، إلاَّ أن آثاره على القطاع الثقافي أصبحت تمثل تحديا كبيرا على مستوى حماية المحتوى الرقمي؛ سواء أكان مكتوبا أو وثائقيا أو أعمالا فنية أو غير ذلك من أشكال ثقافية. 

إن إنتاج البيانات ونشرها وتحريرها في ظل الرقمنة والتوسُّع التقني الهائل سيما بعد الذكاء الاصطناعي التوليدي وانتشاره، لا يؤثر على حماية التنوُّع الثقافي وحسب، بل ينعكس أيضا على التراث الثقافي الرقمي؛ خاصة مع توجُّه العالم إلى الرقمنة والتحوُّل الرقمي، الأمر الذي جعل مواد التراث الثقافي الرقمي عرضة للضياع أو حتى التدخلات أو التشويه والتغيير، ولهذا فإن العالم قد انتبه إلى ضرورة إيجاد وسائل حماية خاصة بمواد التراث الثقافي المرقمنة بما يضمن حمايتها وصونها، واستدامتها.

ولأن حماية التراث الثقافي الرقمي تُعد حماية للموروث الإنساني المشترك، فإن إيجاد سياسات حماية وحوكمة تقيه من أساليب الاستغلال والاستيلاء أو الاتجار غير المشروع من ناحية، والتدمير أو الهدر من ناحية أخرى؛ فمع أهمية التحوُّل الرقمي للتراث الثقافي، الذي يشكِّل نوعا من أنواع الحماية وجهود الحفظ، إلاَّ أنه لابد أن يتم عبر إجراءات وتدابير قانونية قادرة على حمايته وصونه. إن هذه الحماية تتخذ مجموعة من الأشكال الاجتماعية والاقتصادية والبيئية التي تتوافق مع نوع تلك المواد وما تحتاجه من أنماط الحماية الرقمية التي ترتبط بالبرامج التقنية المختلفة. 

وبسبب تلك التحديات التي تواجه مواد الثقافة الرقمية بشكل عام، والتراث الثقافي الرقمي بشكل خاص فإن اليونسكو أصدرت في مارس 2016  نص (الخطوط التوجيهية من أجل انتقاء التراث الرقمي للمحافظة عليه على المدى الطويل)؛ الذي عني بإيضاح دور المؤسسات الوطنية والشبكات في ذلك الانتقاء وقدرتها على توفير نصوص قانونية منظمة لـ «للإيداع القانوني للتراث القانوني المتعلق مثلا بالمادة المنشورة والسجلات الرسمية للحكومات»، وتأثير المحيط القانوني على انتقاء مواد التراث الرقمي، إضافة إلى أن الأشكال التقليدية للتراث (الكتب والمجلات والسجلات الحكومية، والمراسلات الخاصة والمذكرات الشخصية، والخرائط والصور والتسجيلات الصوتية والقطع الأثرية والأعمال الفنية وغيرها) تظهر في البيئة الرقمية وفق مجموعة من الأنماط الرقمية الجديدة سواء أكانت ضمن مجموعة من البيانات أو المواقع التفاعلية التي جعلتها في نطاق خطر وتحتاج إلى أنظمة حماية وصون تقني على مستوى التنوُّع والاستدامة. 

ومع تسارع التقنية وتطوُّر أشكالها الحديثة فإن اليونسكو ارتأت مرة أخرى تحديث تلك (الخطوط التوجيهية)، بإصدار طبعة ثانية بعنوان (المبادئ التوجيهية لانتقاء التراث الرقمي من أجل الصون الطويل الأجل)، وذلك في مايو 2021، وهي مبادئ موجهِّة لمؤسسات التراث الثقافي المعنية بمسؤولية «صون الموارد الفكرية والثقافية التي ينتجها المجتمع كله»، ولأنها موارد تتعاظم في المجتمع الرقمي نموا وتوليدا، فإن حمايتها وصونها سيتيح الاستفادة منها والانتفاع بها على المدى البعيد.

ولهذا قامت هذه المبادئ على أساس إشكالات التطوُّر الهائل في المعلومات الرقمية وطبيعتها العابرة المهددة بالزوال أو الاندثار، مما سيؤثر سلبا على مقروئية التراث الثقافي الرقمي وسلامته واستدامته، ولذلك فإن صون التراث الثقافي بدأ يأخذ أشكالا مختلفة تتوافق وتنسجم مع أنماط التطوُّر التقني المتسارع، إذ ظهر ما يُعرف بـ (الصون الرقمي) وهو – بتعريف اليونسكو –، «سلسلة الأنشطة الخاضعة للإدارة واللازمة لضمان استمرار الانتفاع بالمواد الرقمية ما دامت ثمة حاجة إليها ... (فهو) جميع الإجراءات المطلوبة للحفاظ على الانتفاع بالمواد الرقمية انتفاعاً يتخطى قيود تعطُّل الوسائط أو التغيير التكنولوجي والتنظيمي ....». 

إن الصون الرقمي يضمن الانتفاع طويل الأجل بالتراث الثقافي وفق أشكال تقنية مختلفة، مما يضمن القدرة على إمكانات التحوُّل التقني دون الإضرار بمواده وأشكاله، إضافة إلى فتح آفاق التطوُّر والتغيُّر في إنتاج التراث الثقافي وصُنعه وتخزينه ونشره وبالتالي استهلاكه وانتعاش الصناعات الإبداعية المرتبطة به، مما مكَّن المجتمع من القيام بأدوار مختلفة في مشاركته في الحماية والصون، سواء أكان من خلال المراقبة الإيجابية أو السلبية، أو المشاركة النشطة والإنتاج للمضامين التي تصنع فرصا جديدة للانتفاع بمواد التراث الثقافي عامة. 

وفي مقابل (الصون الرقمي) ظهر أيضا (الجمع الرقمي) لمواد التراث الثقافي، الذي يمثِّل أحد أهم قواعد ذلك الصون، من حيث قدرته على جمع تلك المواد وتبويبها في قوائم الحفظ؛ إلاَّ أن هذا الجمع تعتريه مجموعة من التحديات مثل تغيُّر البيئات الرقمية وتعقيدها أو تزاحم تلك البيانات والمعلومات، أو سرعة تطوُّر أنظمة التقنية والبرامج أو حتى تلاشي بعضها، بالإضافة إلى الحاجة المستمرة إلى إيجاد أنظمة حماية وأمان لتلك المواد لضمان صونها المستدام. 

وهذا كله دعا المجتمع الدولي إلى إيجاد معايير صارمة وواضحة بشأن الجمع الرقمي للتراث الثقافي، ومعايير انتقائه وصونه، وفق مجموعة من الاستراتيجيات والأُطر القانونية، إضافة إلى أهمية تقييم الوسائل والوسائط التي يمكن استخدامها لهذا الجمع، ومن هذه الوسائط كانت منصات وسائل التواصل الاجتماعي التي تزخر بالوثائق وأشكال التراث الثقافي خاصة الإنتاجات الفكرية والفنية العامة أو الخاصة، والتي تشكِّل أحد أنواع الجمع الرقمي الذي يحتاج إلى صون وحماية، لما تمثِّله تلك المنصات من خطورة عليها بسبب انفتاحها، والتحديات الاجتماعية والقانونية التي تواجهها على مستوى الجمع وحماية الخصوصية.

   إن التطوُّر التقني المتسارع وقدرته على التغيير الثقافي، يمثِّل فرصة مهمة لازدهار التنوُّع الثقافي وأساليب الحماية والصون سواء للتراث الثقافي أو الإنتاج الثقافي المتزايد بأشكاله وأنماطه المتعددة، إلاَّ أن ضمان هذا الازدهار مرتبط بالممكِّنات الاجتماعية والاقتصادية والبيئية والقانونية التي تُعد مصدرا مهما للحماية والصون، حتى تقوم المجتمعات بحماية ثقافتها الإنسانية وتحفظ موروثها وفق معايير تقنية عالية الجودة، وآمنة، ومحفِّزة للإبداع والابتكار الذي يضمن انتعاش الصناعات الإبداعية الثقافية.  

 

أعداد المجلة