«الرقص الخليجي للنساء» لشريفة الزياني كُتيب يوثق لأشكال الرقص الشعبي في البحرين والخليج العربي
العدد 64 - فضاء النشر
يعسر على المرأة في المجتمعات المحافظة، أن تخوض غمار ما هو محمل بالحمولات الثقافية السلبية كالرقص؛ هذا الأداء الحركي الذي عرفته البشرية طوال نشأتها، وأضحى متأصلاً في كينونتها الثقافية وربما البيولوجية؛ نظراً لعلاقته بفيزيولوجيا الدماغ، ولكونه فعلاً ممتداً للعديد من الكائنات الأخرى -التي تمارسه لأغراض متعددة، ووظائف متنوعة- يصير في بعض المجتمعات البشرية موضع إشكال ووصم، رغم مفارقة إقراره كجزء من تراث هذه المجتمعات، التي تحاول التطهر منه، بوصفه شكلاً من أشكال الدنس، وإن كانت تبتغيه لأغراض المتعة والأُنس!
كما أن هذا الوصم وصمٌ مُنتقى؛ إذ لا يُحمل بالحمولات السلبية إذا ما كان المؤدي رجلاً -وإن كان كذلك لدى بعض المتوغلين في وصم الرقص عموماً- فيما أداؤه من قبل المرأة يجعله من قبيح الأفعال، فيصير الإتيان به مرتعاً للأحكام القيمية، التي تجعل من الاقتراب منه مرهوباً حتى على صعيد الدراسة والبحث. مخافة أن تلصق تلك الوصوم بشخص الباحث أو بمسيرته الفكرية.
في ظل هذه الإشكالات، أصدرت المؤدية البحرينية شريفة الزياني كُتيبها المعنون بـ «الرقص الخليجي للنساء»، متحديةً نظرة الوصم التي يخافها كثيرون، لتقدم نفسها بوصفها موثقة ومدربة رقص نسائي خليجي، أهدت كتابها لعموم فئات النساء: «إلى كل امرأة، وبنت، وفتاة، وطفلة تريد أن تعبر عن نفسها ومشاعرها بالرقص. إلى كل أنثى تحب الفرح والبهجة، وتؤمن أن الرقص حياة وتراث وثقافة... إلى كل روح تريد أن تتسق مع هذه الدنيا بجسدها».
ربما أرادت الزياني بإهدائها أن تؤكد تحديها للوصم الذي أشرنا إليه، فهو أشبه بإهداء يدعو للتمرد على تلك النظرة السائدة لرقص المرأة، وهو دعوة صريحة للرقص بوصفه «فرح وبهجة» و«حياة، وتراث، وثقافة» وفضاء للتعبير عن النفس والمشاعر، بل أكثر من ذلك «اتساق مع الدنيا بالجسد»!
تُعرف الزياني نفسها بكونها رائدة من رواد تدريب فن الرقص النسائي الخليجي، وهي مهنة تستدعي الكثير من التحدي لممارستها، حيث تدرب الأخريات على الفنون الأدائية الفولكلورية الخليجية، هادفةً للحفاظ عليها، ومعززةً ذلك بكُتيبها الذي صدر في جزئه الأول، ليكون وثيقة تحفظ لهذه الفنون طرق أدائها بوصفها موروثاً لا ينبغي ضياعه، عبر توثيق خطواته نصاً وصورة، وإن بدا النص مفتقراً للعمق البحثي والتوضيحي، إلا أنه جاء بزخم الصورة التي توثق الخطوات توثيقاً دقيقاً، ما يجعل مادة الكُتيب، مادةً نادرةً وبالغة الأهمية، لم يسبق أن عرضها موثق، فكيف والحال بمؤلفة توثق كافة الخطوات بصورها وهي تؤدي الرقصات خطوة بخطوة، ليكون هذا الكُتيب، داعماً لما تقدمه في الفضاء الرقمي، الذي سخرته للحفاظ على هذه الرقصات من التلاشي، ولتقديم ورش العمل، والمقاطع المصورة التي تحافظ على هذا الموروث الذي يتوجب على الباحثين دراسته في سياق كونه تراثاً إنسانياً وثقافياً، والتعمق في أسباب نشوئه، وأغراضه، ووظائفه، ومعانيه...
الرقص في بعده الأنثروبولوجي:
أينما وليت وجهك، فثمت رقص؛ في عالم الحيوان، كما في عالم الإنسان، في مجتمعات هذا الأخير كافة، وكأنهُ خصيصة لازمة هذا الكائن في انتقالاته الثقافية من الأنماط البدائية وحتى ما بعد الحداثة... الرقص موجود في كل الأزمنة والأمكنة، أنهُ أشبه بمتلازمة تلازم الزمكان البشري، وهو في بعده الميتافيزيقي، أشبه بتميمة بقاء، كما جاء في رواية «زوربا» لليوناني (نيكوس كازانتزاكيس): «عندما مات طفلي وكان صغيراً كدت أموت من الألم، وبينما كان الآخرون يبكون بدأت بالرقص... نعم الرقص. وقال الآخرون عني: لقد جُنَّ زوربا. لو لم أكن رقصت لكنت متّ».
تذهب عالمة الأنثروبولوجيا الأمريكية، المختصة في دراسة الرقص، (جوديث لين هانا) للقول بأنهُ وكما هناك آلاف اللغات واللهجات حوال العالم، فإن هناك ما يقاربها من الرقصات، حيثُ ترى بأن الرقص «سلوك إنساني يتشكل من متواليات حركية وإيقاعية غير لفظية هادفة ومنتظمة، تعتمد تلك المتواليات على إيقاع منتظم، وتتميز عن الأنشـطة الحركية العادية»، ولها «قيم جمالية وحمولة رمزية عميقة من حيث الزمان والمكان والجهد، خلافًا للأنشطة البدنية المعتادة. فالرقص نشاط عضوي ووجداني معقد، مؤطر ثقافيًا، ومُنمط اجتماعيًا»، الأمر الذي يستدعي من الباحثين والمختصين، دراسة هذا الجانب، وعدم إهماله لدواعي قيمية أو أخلاقية، فليس الأمر مجرد رقصات، يقلل من قيمتها لدواعٍ ترفعية أو تطهرية، بل أبعاد إنسانية، تفضي، من خلال دراستها، إلى نتائج غائبة عنا. وهو الأمر الذي يؤكد عليه أستاذ علم الاجتماع المصري، حسني إبراهيم عبد العظيم، حيث يرى الرقص بوصفه «أحد الأنشطة الاجتماعية والصور الفنية التي تعبر عن كثير من القيم والمعاني والممارسات التي تميز المجتمع الإنساني، وتكشف عن تباينات في البنى الطبقية والإثنية والنوعية (الجندرية)»، وهو ليس عشوائياً من حيثُ المعنى والدلالات، وإنما كما يقتبس عبد العظيم، عن الباحث البريطاني المختص في علم موسيقى الشعوب (جون بلاكينج): «يمثل حركات منتظمة ترتبط بمقاصد و معانٍ إنسانية واعية، إنه يمثل خطابًا غير لفظي، وتعبيرًا مرئيًا عن قضايا وقيم ومضامين اجتماعية ورمزية، يتم فهمه من خلال البناء الثقافي والسياق التاريخي للمجتمع».
وثيقة لحفظ الرقصات النسائية الخليجية:
سبق لنا الإشارة إلى أن كُتيب «الرقص الخليجي للنساء»، لا يرقى لكونه وثيقة دراسية لأنماط الرقص الخليجي، وإنما جاء كبادرة لتوثيق الرقصات الشعبية النسائية في الخليج العربي، وهو موضوع قلما تطرق له الباحثون، دراسة، وبحثاً، وتوثيقاً. الأمر الذي يجعل من بادرة الزياني، ذات قيمة على صعيد التوثيق، فقد قرنت كُتيبها، بتسلسلٍ مصورٍ من الخطوات التي توثق الأداء الحركي، وإن كان الجانب النصي، جاء مقتضباً، وبسيطاً من حيث العمق، مكتفيةً بتعريف كل رقصة، والإيقاعات التي ترقص عليها، والأدوات المستخدمة فيها، والملابس المطلوبة لها، والوصف الحركي لأدائها وخطواته.
ولهذا يمكن أن نصف الكُتيب، بوصفه كُتيباً استرشادياً لتعلم الأداء، وليس مستنداً بحثياً لتناول الأبعاد الأنثروبولوجية والاجتماعية للرقصات الخليجية. لكنهُ بالتأكيد، يشكل أرشيفاً حافظاً لهذا الإرث الثقافي، في ظل تلاشي الخصوصية الثقافية مع التحديات التي تفرضها العولمة الطاغية، وهو الأمر الذي أكدتهُ الزياني، في تبيان هدفها من إصدار هذا الكُتيب، إذ كتبت: «لكي لا تتلاشى الرقصات البحرينية والخليجية مع رحيل الأجيال الأكبر سناً من النساء اللّاتي ما زلن يمارسنها [الرقصات]. أخذت على عاتقي البحث، والتعلم، وتدريس هذه الرقصات».
وقد جاءت مقدمة الكُتيب، كاشفةً عن البعد الذي يسلكه، مبينةً بأن الغرض «تبسيط خطوات الرقص الخليجي، الذي أعتبره كنزاً وتراثاً، وجمالاً، وروح [تجسد] شخصية المرأة الخليجية»، إذ تبتغي الزياني من توثيقها هذا «إبراز الصورة الحقيقية للرقص الخليجي»، لتكشف عن رقي هذا الفن. كما تأسف في الوقت ذاته، لما تعرض له هذا الإرث وممارسوه من نقدٍ اجتماعي على مستوى المجتمع صاحب الإرث، إلى جانب ما تعرض له من سطو ثقافي من قبل الاستعمار، الذي سبق له السطو على الرقص الشرقي، كما تؤكد الزياني، ما يجعلها تبادر بهذا الكُتيب، كبادرة لحفظ هذا الإرث الذي تأسف على غياب توثيقه وحفظه «لا يوجد كتاب أو منهج يعلم الفرد كيفية الرقص وأداء الخطوات لصعوبة ترجمة الحركة إلى كلمات، وأيضاً لصعوبة فهمها من قبل القارئ»، بيد أن الأمر لا يبدو كما تذهب إليه الزياني، فليس غياب التوثيق، مرده لصعوبة شرح الحركات بالكلمات، ولا هو لانعدام الوسائل التي يمكن تسخيرها للتوثيق، وإنما، بالدرجة الأولى، لما صبغ به هذا الإرث من أحكامٍ قيمية، ووصمةٍ قد تلاحق موثقه!
في مستهل الكُتيب، تقدم الزياني نبذة موجزة عن «تاريخ الرقص في العالم»، متناولة الجوانب الوظيفية للرقص لدى مختلف الثقافات، كالرقص لأغراض مقدسة، أو لأداء حرفة، أو لأغراضٍ علاجية، أو الحرب، أو للترويح عن النفس.. وهو ما يجعل الزياني ترى فيه «فناً، وعلماً، وجمال»، مقدمةً نموذجاً للنهوض بهذا الفن، باسم «نموذج نجمة سهيل للترويح عن النفس». و«نجمة سهيل» نجمٌ سماوي له خصيصة في الموروث الشعبي الخليجي، حيثُ تستغل الزوايا الخمس للنجم، وقلبه، لتوصف نموذجها المتشكل من الآتي:
- البيئة المناسبة: وجود الآلة الموسيقية المتناغمة مع الأداء الحركي، والفضاء المناسب للأداء.
- الثقافة الاجتماعية: تصحيح النظر للرقص والفنون الحركية بوصفها ممارسات طبيعية وليست عيباً أو محظوراً.
- القيم الإنسانية: أن يكون الرقص نابعاً من مشاعر صادقة، تُمارس بشكلٍ طبيعي وسليم.
- الصحة: انعكاسات الأداء الحركي على الصحة البدنية للإنسان.
- التطور الحركي: تطور الحركات الجسمانية، وتحلي البدن بالمرونة مع تطور الأداء.
- الشفاء المتجدد: وهو مفهوم تحاول من خلاله الزياني أن تؤلف بين ميولاتها الفكرية وما للرقص من قدرة على مقاربة هذه الميولات المتعلقة بالجوانب الروحانية، قاصدةً «إعادة الشخص إلى الكمال الروحي»، والذي يمكن أن نقاربه بالأداء الصوفي، ولهذا تضعهُ الزياني في قلب النجم!
هذا النموذج، تراه الزياني مهماً للنهوض بالرقص الشعبي الآفل في الأوساط الاجتماعية الخليجية، فمنه تنطلق لتعريف المفاهيم المرتبطة بالرقص الخليجي، بدءاً بمفهوم «الرسمة»، والذي يعني إيقاع الطبول، إذ تبين «في الأزمنة السابقة، لم تتوافر المعازف، والوتريات، والمزامير بشكلٍ كبير، فكانوا [في جلسات السمر والأنس] يقتصرون على الطبول؛ كالدف، والمرواس، والطبل البحري...»، ومن خلالها يتعرف المؤدون على نوع الإيقاع الذي تكشفه «الرسمة»، مبينةً طبيعة الأداء الذي ينبغي إنجازه وفق إيقاع حركي متناغم مع الإيقاع النغمي، كـ «السامري»، و«الدوسري البداوي»، و«العاشوري»، وغيرها من الإيقاعات، التي تُرقص عليها رقصات مثل: «النقازي»، و«الفريسة»، و«القادري»، و«دق الحِبّ».. إلخ من الأداءات الحركية التي تفصل الزياني في شرحها بالصور.
كما تضع الزياني بين يدي القارئ، تعريفات لفهم المعاني التي قد تبدو غامضة على المتلقي غير العارف بالرقصات وما يرتبط بها من مصطلحات، كـ «الحفال»: والذي يعني الحركات الأدائية التي تؤدى بالميل الجانبي مع ثني الجذع للأمام. و«الكسرة»: التي تعني النزول بثني الركبتين وصولاً للأرض، أو لنصف مسافة الجسد، وتسمى «نص كسرة». و«النشبة»: التي تعني الوثوب للأعلى مع ثني الركبتين في الهواء. و«الزفان»: وهي الحركات الأدائية في جميع الفنون... وغيرها من المصطلحات المتعلقة بالرقص.
بقي أن نشير إلى أن أفول الرقص النسائي الخليجي، جعل من هذا الموروث المهدد بالتلاشي غير ممثل في مهرجانات التراث -أحياناً يمثل عبر أداءٍ تقدمه فتيات صغيرات- فقلما تضطلع نساء لممارسته في ظل الوصم المجتمعي، ما يثير سؤال الكيفية التي يمكن من خلالها إعادة المكانة لهذا الفن الشعبي الذي مورس على مدى أجيال؟ وكيف يمكن إحداث قطيعة بين الأداء الحركي النسائي ووصمة العار المقترنة به؟ وما السبل للاحتفاء به كفنٍ عضوي نابع من احتياج المجتمع الذي ولده؟
باعتقادي أن وجود فرق نسائية تضطلع بتقديم هذه الفنون، كفيل بخلق طلب عليها للأداء في حفلات الأفراح النسائية، والمناسبات الاجتماعية المتعلقة بالنساء، وهو ما قد يدفع باتجاه حفظ هذا الموروث، وإن بآليات اقتصادية، حيثُ الطلب وقلة المعروض، كفيل بتوليد فرق أخرى لمعادلة العرض والطلب، وبذلك يمكن أن يحدث نوع من الاستمرارية لهذا الموروث. كما أن الدول في الخليج العربي، مسؤولة عن رعاية هذا الموروث ودعمه، وكذلك المؤسسات الأكاديمية والبحثية مطالبةٌ بدراسته وتوثيقه.