الإتجاهات الجديدة في الشـعر الشـعبي العراقـي
العدد 8 - أدب شعبي
إن « الفتـرة المظلمـة» من تاريخ العراق الثقافي الممتدة من منتصف القرن 7 – 9 الهجري/13-15 ميلادي،هي التي انتكس فيها الأدب العربي منـكفأً على ذاتـه، حيث برزت في هذا الأدب أشـكال شعـرية، مزخرفة بنظم يعتمد الجناس اللفظي فيها على تزويقات الكلام، وصار الاهتمام بالشكل أكثر من المضمون ممـّا حـدا بنقـاد الأدب لأن يحكموا على أدب تلك الفترة بهبوط مستوياته الى الحضيض، ما خلا بعض الالتماعات التي كانت تبرز بشكل فردي عند بعض الشعراء، أجادوا النظم وحافظوا على عمود القصيدة، رغم أن «موجة الهـبوط» قد أثـّرت عليهم وبانت في شعرهم، الاّ أنهـم نجـوا من حبالها بإبـداعهم الشعري، ومنهم على سبيل المثال لا الحصر: صفي الدين الحلي في العـراق والبهـاء زهـير في مصـر وغيرهم.
لكن اللاّفت في تلك الفترة، هـو صعود أشكال من النظم الشعبي،في شعر العـامة من الناس، وخصوصاً في العـراق، أخذ يطل برأسه بقوة ملحوظة، وكأنه يثـأر من تلك الحالة ويستفزها للنهـوض مجـدداً، حيث ظهرت هذه الأشكال من النظم بشـكل ربــاعي، أي منظومات شعرية تعتمد على أربـعـة أبيـات، ثم تطور بعض هــذه الأشكال الى خمسة أبيـات، ثم ستة، ثم ظهـر النظم السباعي، والذي أطلق عليه فيما بعـد «المـوال الزهـيري» وكانت هذه الألوان من الشعر العامي يطلق عليها إسـم«فـنون الشعر السبعة الملـحونـة» أي التي تخرج عن حـدود قواعد اللغة العربية، واللحن يظهر فيها واضحاً، وقـد رصـدها بعمق الشـاعر صفي الـدين الحـلي( 677- 750 هـ/ 1277 – 1349 م)(1) وقال عنها«إن هذه الفنون السبعة منها ثلاث منها معربة أبـداً لايغتفر اللحن فيها وهي: الشعر القريض والموشح والدوبيت، ومنها ثلاث ملحـونة أبـدا وهي: الزجـل والكـان وكان والقـومـا، ومنها واحـد هـو البرزخ بينهما،يحتمل الإعراب واللحـن، وإنما اللّـحن فيه أحسـن وألــيـق، وهـــو «المـواليـا» وإنما كان يحتمل الإعراب، وهو من عدد هذه الفنون الأربعة الملحونة، لأنـه أوّل ما اخترعـه الـواسـطيون،اقتطعـوه من «بحر البسـيط» وجعلوه معها كالشعر البسيط، إلاّ أنه كل بيتين منها أربعـة أقفـال، بقـافية واحـدة، وتغـزلوا فيه، ومـدحوا وهجـوا، والجميع معـرب، الى أن وصل الى البغــاددة، فلطـّفـوه ولحـّنوه، وسلكوا فيه غاية لاتـدرك»(2). ،ثم يضيف في مكان آخرمن نفس الكتاب:«وإنما سمي بهذا الإسم،لأن الواسطيين لمـّا اخترعوه، وكان سهل التناول لقصره، تعـلـّمه عبيدهـم المتسلمون عمارة بسـاتينهم،والفعـول والمعاصرة والأبـّـارون، فكانوا يغنون به في رؤوس النخيل وعلى سقي الميـاه، ويقولون في آخر كل صوت مع الترنيم «يـامـواليـا» إشارة الى سادتهم، فغلب هذا الإسم وعرف بـه»(3) .
من هـذا النص الهـام للحـلـّي، نكتشف أن «الشعر الشعبي» هـو للعامة أقرب، وهم إليه أحفظ ،ولفـنونه أبـدع، لأن عقـل العامة من الناس الى ما يسـلـّيهم أميل، ولفنونه ألصق، فهم يتعاطونه في كل لحظة من لحظات حياتهم، بمعنى آخر، أن التعبير بمثل هذه الألوان الشعرية، هـو أثبت في البيئة الشعبية العامـة أكثر منه في البيئة الخاصة، وليس اعتبـاطاً أن تصنـّف فنون هذا الشعر بــ«الشعر العـامي». إذن هـو هوية مميـّزة لإبداعهـم،توحـّد في نفوسهم في كل مراحل الحياة، وأصبح هو لسانهم الناطق والمعبـّر عن ذواتهـم في كل حادث منـزل ومكـتوب،وبـه تفـرّدوا عن صفـوة المجتمع، وحافظوا على تطويرأساليبه في كل مرحلة، بل كانوا السبـّاقين الى ابـتداع أشكال فنيـّة ليماشوا بها حالة التطور والرقي المصاحب لنهضة المجتمع، بمعنىً آخر،أن حالة الإبداع في الشعر الشعبي العراقي هي أسرع منها في حركة تطور الشعر الفصيح، فتنوع الألوان الشعرية في النظم العـامي أكثر منها في النظم الفصيح، ولربما كانت هذه الظاهـرة الفريدة في المنافسـة بين «الشـعرين» هي أحـد الأسباب التي جعلت من السـياب(-1926 1964) ونـازك الملائـكة (1934-2006) وشعراء الحـداثة الآخرين في العـراق لأن يجـدّدوا في شكل منظوماتهم الشعرية ويبـدعـوا القصيدة الحـرة والحـديثـة!!
إن المتابع لحركة ظهور الشعـر الشعبي في العراق يمكنه أن يتوقف مع بدايات القرن الثامن عشر الميلادي، إذ أن حالة السيطرة العثمانية على مقدرات العـراق، وإبقـائه على جهله وأميـّته، وسيادة نمط الاقتصاد الزراعي، وسيطرة الإقطاعيين على أغلب الأراضي الزراعية، الأمر الذي ولـّد العسف على الفلاحين وعـوائلهم،فراحت هذه الطبقة الاجتماعية تعكس معاناتها من خلال الشعر الشعبي، نظرا لتفشيه بين أبنائها بشكل عجيب .
وقـد كان» للمـوال» الدور الرئيسي في تطورأنماطه الشعرية المعروفة وكذلك لبقية الأنماط الشعرية الأخرى في نظم العامـة، إذ أن أهـل العراق قد تعاطوا نظمه بعد القرن العاشر الهجري/ السادس عشر الميلادي، رغم أن ولادته كانت في عصر الرشيد العباسي، إلاّ أن شكل التعاطي به،بصورة شعبية وملحوظة كان في تلك الفترة أعلاه، أي ق 10 هـ/ 16 م،حيث سطا وساد على بقية الأنواع، وتخطـّى بـه ناظـموه الى غايات ومديات لا توصف من النظم(4). ،فقد وجدت ثلاثة ألوان منه هي: الـرباعي والأعـرج والنعماني، وكان الـرباعي أقـدمها ظهوراً، حيث يعود تاريخه الى القرن الثاني الهجري/ الثامن الميلادي(5)،فيما اكتمل تطور شعر المـوال الزهـيري،ذو السبعة أشطر، في القرن 13 هـ/ 19 م(36)، فقد عثر على مثـال لهـذا اللـون من الموال- الزهيري- كنصّ قـديم منسوب الى الشيخ محمد رضـا النحـوي(منتصف ق 12 – 1226 هـ) والذي يـؤرخ فيه عام وفاة السيد محمد علي العطـّار عام 1202 هـ(7) يقول فيه ناظمـه:
كَــوّضت يامكسر العـنبر وغـــيرك غـــرب 1
وعليك أنـا الثـاجله والنـاس غيري غــــرب 2
وبـكَـيت أناشــد، ودمعي ماركَـت لـه غــرب 3
فـاجــد خيـال الــذي، مـازال قـــدره علـي 4
بــدر الكـمال الذي، صـبّ المصايب عـلـي 5
وآكَــــول ويــن إنـتَ يـاسـيـّد محمـّد عـلـي 6
مـا شوف ذاك الــبدر كَال المؤرّخ غــرب 7
شـروحـات المــــوال:
1- كَـوّضت: محـرّفة من كلمة «قـوّضت»
أي،قضـيت.
2- غـَـرَب : من الإســتغراب .
3- مـاركَـت:أصلها،«مارقّـت» من الرقـة والرأفـة، وغـرَب، يقصد بهـا الغــــرباء
4- فـاجــد : فـاقـد.... عـلـي،من العـلــــو .
5- عـلي : على ذاتي سكب المصايب .
6- ياسيد محمد علي: هـو الشخص المتوفى،وهــو السيد محمـد علي البغـدادي(8)
7- غَـرَب : من غـرب النجم، إذا غـاب، وهـو يعـادل- كما يقول الكرباسي(9) حسب الحروف الأبجـدية عـام 1202 هــ .
يـبدو أن المـوال قد بسط هيمنـته على الذائقة الفنـية العراقية، فبعـد أن تعاطاه أهـل واسط من الفلاحين وبقية الطبقات الشعبية، أخذ يغازل أفـئدة وعقول بقية طبقات المجتمع العراقي،إذ أن «غـناءالمـوال» شكـّل علامة فارقة له في التطور على بقية الفنون الغنائية، الأمر الذي جعل من السماع يرنـوَ لـه، وتتشـنـّف له الآذان، لذلك نرى كثيرا من المؤرخين العراقيين يذكرون شخصيات عامة في الدولة قد تعاطت نظم المـوال وأجادت بـه، فلقد ذكر الأستاذ عبد الكريم العـلاف(10) أن العلامة الشيخ عبد الغني الجميل،كان ممـّن يجيدون نظمه، وكذلك السيد سلمان النقيب، وذكر المـؤرخ عـبّاس العـزاوي(11) أنّ داود أغـا من آل الأورفلي، كان معروفاً بشعره العـامي، رغم أنه معروف بشعره الفصيح أيضاً،فيما ذكر الأستاذ عـامر رشيد السـامرائي(12) بأن الدكتور محمـّد صـدّيق الجليلي، قد زوّده بنماذج من المـوال، نظمها كل من الحاج عثمان الجليلي(1764-1829م)، ومحمد أمين باشا الجليلي(-1798 1846 م)، والوزير يحيى الجليلي(1785 1867- م)، والشاعر المشهـور عبد الباقي العمري، والشاعر حسـن البـزاز، وأحمد أغـا بنكَجري أغاسـي(القائد العام للجيش الإنكشاري ببغـداد) أيـّام ولاية سليمـان بـاشا الكبير، فيما كان الشيخ محمد الغـلامي(ت 186هـ) مولعـاً بنظم المـوال، رغم شاعريته في القريض(31)،كما كان الحاج عثمان الجليلي مشهوراً بنظم (الزهـيريات)، وكذلك أمين باشا الجليلي
حين أطل القـرن العشرين برأسه على العراق،كانت أغلب الفـنون الشعرية تكاد تكون معروفـةً، لأنها استقـرّت على أشكالها التي يتعاطى بها النـاس، وبها نظم الشعراء قصائدهم، وظـلّ «النظـم الربــاعي» متميـّزاً وواضح المعـالم في كل هذه الفنون، إلى جانب بـرزخ الشعر الشعبي المـوال، لاسيما» الزهيري» ذو السبعة شطرات، ومن هذه الفنون الشعرية كانت هناك «الأبـوذية والعتـابا، والميمر، والمـربـّع، والنـايل، والقـوما والكان وكان،والحمـّاق والدوبيت، وبعض الأزجـال الشعرية، وأغلب هذه المقطوعات تنظم على «أربعـة أبيات» والبعـض يعـتمد على «لازمـة»،ينظم على أساسها بقية مقطوعاته الرباعية، عادة ماتكون هذه اللاّزمة منفصلة عن بقية الأبيات الأربعة، وأحياناً تكون جزء منها، وعادة ما تكون في أول بيت من تلك المقطوعات الشعرية. بمعنى، أن كل مقطوعة رباعية تعتمد في ثلاث أبيات منها على قافية واحدة، فيما يكون البيت الرابع هو القـفــلة لتلك الأبيات الثلاث، مع اختلافه عنها بالقافية التي تستوجب أن تكون على قافية «اللاّزمة» والتي تسمى أحيانا بـ» المستهـل» أيضاً، ويجب أن يكون من نفس البحر الشعري،أيًا كان وزن هذا البحر، ماعـدا «الأبوذية والعتابة وبنود الموال» حيث يكون الجناس، هـو الأساس بدلاً عن التقفية، وأهـل الصنعة يفهمون ذلك جـيداً. وكانت أغلب المنظومات الشعرية الشعبية في العراق على هذه الشاكلة الاّ أن هناك قصائد شعرية مطولة لاتلتزم النظم الرباعي، بل تعتمد الوزن والقافية، دون الالتزام بالشكل الرباعي، وقد أشار الشيخ علي الخاقاني الى تـلك الألـــوان الشعرية(16)
بعبارة أفصـح، أن هذه الأنماط الشعرية ظلت سائدة في نظمها حتى سقوط الملكية في العراق، بعيد ثورة 14تموز1958 م. بما في ذلك «القصائد الحسينية» التي كانت تنظم في أيام العشرة الأولى من المحرم الهجري في كل عام، والتي كانت تخلـّد شهداء الطف في كربلاء عام 61 هـ، فإنها – أيضاً- لم تخرج عن هذه السياقات الشعرية المألوفة، رغم أن هناك تشابهاً بينها وبين الموشحات الأندلسية، كونها تنظم لتنـشد في مثل هذه الأيام،لكن «الرواديـد» وهم المنشدين لهذه القصائد الحسينية، والبعض منهم هم الشعراء أنفسهم، لم يأتـوا بشيء جديد، سوى التحكم بنبرة الصوت، وإضفاء شجىً حزين على تلك القصائد أثـناء عملية الإلـقـــــــــاء .
حينـما انتهت «المَلَكية» من العراق،وساد نظام الحـكم الجمهـوري، تفتـّحت أذهان الشعراء على الجديد والمحدث،بعد أن سبق السـيّاب ونازك الملائكة بقية الشعراء في استحداث» القصـيدة الحـرة» في النصف الثاني من أربعينيات القرن المنصرم، الأمر الذي جعل صداه يقلق الشعراء الشعبيين في العـراق، إذ رأوا أن شعراء الفصيح قد سبقوهم الى إبداع جديد في الشعر، فظلـّت خواطرهـم منشغلة بالتفكير لإيجاد نمط جديد ومحدث في نظم القصيدة الشعبية، يكسـر التقـليد «الكلاسيكي» لاسيما في نظم القصيدة الشعبية عن باقي فنـون النظم المألوفـة، فـــولدت» القصيدة الشعبية الحديثة على يـد الشاعر المعروف مظفـر الـنوّاب، في مطلع ستينـيـّات القرن الماضي، حيث تم تجاوز الوزن والقافية بنمط شعري جديد، يعتمد الإيقــاع الشعري في النظم، ويعتمد القافية في نهايات المقاطع الشعرية، وليس في الأبيات الشعرية، وكان ديوانه الأول «للـريل وحمـد» نقطة فارقة في الشعر الشعبي العراقي أرّخـت لمرحلة جديدة وحديثة في النظم الشعري،إضافة الى أنها «ولـّــــدت القصيدة السياسية» مع هذا الجديد المحدث،، حتى سيطـر أسلوب الـنـواب هذا في النظم على كامل عقود السـتينات والسـبعينات من القرن المنصرم،
وقـد كانت قصـيدة «البنفسـج» هي المثـال الأوضح لهـذا الأسـلوب في الشعر الشعبي بأسـلوبه الـحـر، ونـورد أدناه تلك القصيدة، تعـزيزاً للمثـال ولهـذا الأسـلوب
يــــا طعـم . . يـا ليـلة من ليـل البنفســج
يـــاحــــــلم . . يـمـــــــامـــش بمـــــــامــــــــش
طـبـع كََـلـبي مـن اطـبـاعك ذهـــــب
تـرخص .. وأغـلـّيـك . . وأحـبــــّـك
آنا متـعـوّد عليـك هــواي . . يا سـولة سكـتـّي
يـا طـواريــّك . . من الظلـمــة تجــيــني
جـانـن ثـيـابي علي غـربـة كَــبل جـيـتك
ومـسـتاحـش مـن عـيونــي
وَلـّـمتـني . .
وعـلى المـامـش ..عـلـّمتـني..
آنـا حـب هـوايـه كَــبـلك ذ وّبــاني.
إشـلـون أوصـفــك .. وانـت كـهـرب.
وآنـا كَـمرة عيـني.. دمـعـة ليـل ظـلـمـة!
إشـلـون أوصـفـك ..!!
وانـت دفــتر
وآنـي جـلمـه . . !!
يـلـّي.. مـاجـاسك فكـر بالليــل ومجاسك سـهـر
يـلـّـي بين حـواجـبـك ..غـفـوة نـهـــــــــــــــــر
يـلـّي جـرّة سمــــا بعـينـك
خــاف أفـززهــا من أكَـلـّك
آنـــا احـبـّــك
آنــا احـبـّـــك
مـامـش بمـامـش..و للـمامش . .
يـمـيزان الـذهـب . . وتـغـش واحـبــّـك
وارد أكّــلـّك . .
فـرنـي حـسـنـك . . يـابنـفـسـج
وانـتَ وحـدك . . دوّخـتني . . يـابنفـسج
وعـلى حـبـّك . . آنـا حـبيـّت الـذي بحـبـهم لـمتـني
يـاطعـم . . يـاليلـة من ليل البنفــسج
يـا عـذر عـذرين . . يـاشنهي واحـبـّك
وقد لحق به ضمن هذا الإيقاع المحدث كل من الشعراء: شاكر السماوي وعزيز السماوي،وأبـو سرحان، وعلي الشيباني، وكاظم إسماعيل الكَـاطع، وجمعـة الحلفي وعريان السيد خلف،ورياض النعماني، وكريم العراقي،وكاظم السعدي، وريسان الخزعلي، وآخرين كـثر ممـّـن لم تسعـف الذاكرة من استحضارهم.
في مطلع سبعينات القرن الماضي، أراد الشاعر عــريـان السيد خلـف أن يتفـرّد بصوته الشعري حيث أنـّه مطبوع على الشعر بشكل غريب، وحسـّاس جـداً لالتقاط المفـردة الجميلة في الشعر، وكان يشعر بـأن مظـفـر الـنــوّاب خلق سـدّاً على كل الشعراء، لذلك راح يشتغل على القصيدة الشعبية بشكل جـاد ومتواصل، حتى استطاع أن يوجـد «قصيدته الخاصة» في الشعر الشعبي العراقي، حيث بدأ النظم عنده في تـوليف القصيدة على قـافيـتين ووزن واحـد، وقد سـمّى ذلك اللـون من شعره بـ» الأنـدلـسي» ومثــاله:
«كَـمت مـن غـير وعيّي ومرحبت بيـك . .
وكَـلتـلك جيـّتك عالراس والعــيـن»
أشــو مـتـغـيـّر بـعـكـس مـعـانيــك . .
يصـيرالمــاي ينـكرعشـرة الطين
وعلى هـذا المنـوال تستـمر القصيدة، فـأخذ هذا اللــون من النظم في الإنتشـار، وتحديدا بعد عام 1975 م في مدينة الثورة، التي يسكنها الشاعر نفسه،حيث نحا الشعراء منحاه، في أغلب مـدن العـراق، وبـدا هـذا الأسلوب هـو الطاغي على المشهد الشعري الشعبي العــراقي، وظــلّ ســائدا حتى بـدايـة القــرن الحادي والعشرين.71)
عنـدما سقطت بغـداد عام 2003 م على يـد الاحــتلال الأمريكي، تنفـّس الشعر الصـعـداء، لينطلق من جـديد، راجمـاً الفـترة السابقة من الحكم الديكتاتوري، بـأقـذع ألـوان الشعر، وبنفس الوقت متصـديـاً إلى حـالة الاحتلال والحرب الطـائفية، التي جاء بها المحتل، فظهرت «القصيدة الشعرية المقـاومة» في النظم الشعبي قبل أن يبـدأ الفصـيح مقارعـته لهذه الظاهرة الاحتلالية،فأخذت القصيدة الشعبية تتسـيـّد على وسـائل الإعـلام، المـرئية والمسموعة، والشبكة العنكبوتية على الأنترنت،، رغم أن جيل السبعينات من القرن المنصرم، كان مشتتاً بين المنافي والوطن الأمر الذي جعل من قصيدة العقـد الأول من القرن الحـادي والعشرين موزّعـةً بين اتجـاهـين: الأول- يمثله جيـل المنـافي والشعراء الأوائـل مثل: مظفر الـنواب، شاكر السماوي، رياض النعماني، جمعة الحلفي، عمار الوائلي،لطيف الساعدي، وغيرهم من شعراء القصيدة الشعبية المهـمومـة بحـالة المنـفى واحتراق الوطــن ووجـد المكابرة لما يـرى ويشـاهـد من تمـزّق لحياض الوطن وسيطرة الاحتلال والطائفية على مقدراتـه، وظـلـّت قصيدة هذا الاتجاه «رهينة المحبسـين» المنفى والحـنين الى الوطن، ويكاد الحزن والتمنـّي هو الذي يحكم نظم هذا الاتجاه، دون تحديد في سياقات القصيدة التي أبدعوهـا وطـوروهـا وحافظوا عليها، أيـّام كانـوا في الوطـن، ونقـلوها معهم الى المنـافي.
أمـّا الإتجــاه الثـاني، فهـو خليط من الشعراء القدامى والمحدثـين الشباب، وهـذا الاتجاه ظلّ محافظـاً على «القصيدة العـريـانـيـة» نسبة الى الشاعر عريان السيد خلف، حتى بـداية الاحتلال للعراق عام 2003م الأمر الذي حـدا ببعض الشعراء للتـمرّد على القصيدة العريـانية ،بغية الخروج من نمط هذا الإيقاع الطاغي. ولـقـد كان لظهـور «الكمبيوتر وثورة المعلومات التقـنيـة الحديثـة» الأمر المؤثــّر على الشعراء لأن يـدافعوا على وجـدانهم المنسـي في ظل هذه الفوضى العـارمة داخل العراق، فكـان قلقهـم المشروع ينبثق من حالة التعـاطي مع هذه الأجهزة التقنية الحديثة، ممـّا يلعب دوراً في عملية حرف الذائقـة الفنية عند المتلقي، ويفرض عليهم- أقصد الشعراء الشباب- الدفاع عـن وجودهـم الإبـداعي ،ضمن كل هــذه الأمور المتشـابكة، ولقد كان الإحتلال لحظة صدمة كبيرة على كل الوعي العراقي، وكانت أولى ردود الفعل عليه ظهرت من القصيدة الشعبية حيث كان لهـا الدور المشرّف بالذود عن الحـياض قبل بقية الفـنون لاسيما عند الشعرء الجـدد، إذ أن – الجيل القـديم- بعضه هـادن الإحتلال داخل الوطن،لذلك أخذت تبرز أصوات جديدة من الشعراء الشباب وتواجـه القديم المهـادن من على شاشات التلفـزة أو في المهرجانات العامـة أو من خلال المواقع الأنترنيتية،، حيث أظهرت المئـآت من هذه القصائد الشابـة على تلك «المواقع» وبـدأنا نقـرأ لمجموعة هائلة من الشعراء الشباب، تركـّـز أكثرهم في «مـدينة الـثـورة» ببغـداد، وكأن هذه المدينة هي «المنـجـم المـذخـور» لمختلف الإبـداعات العراقية، وهي أفقـر ضاحية في العـراق على الإطـلاق!!! ومنها انطلقت إبـداعات الشعر الشعبي الحديثة لتصل الى بقيـة مناطق العـراق، إذ يوجـد فيها أكثر نسـبة من الشعراء، فهي تظم أكثر من ألفين شاعر وشـاعرة، على أقـل تقـدير(81)
إن قـلق هـؤلاء الشعراء الشباب الإبداعي، جعلهم يبحثون عـن أساليب تعـبـّر عـن ذواتـهـم، خـارج سياق المـألوف، لكنـه ينطلق من القـديم والكلاسيكي، ولكن بقـالب جـديد،تـمثــّـل في «النظم الثـلاثي المفـتـوح»مع جناسات متـطابقـة، تتـماهى وتنطلق من أصـل «الأبـوذيـة «العراقية من حيث الـوزن الشعري» الـوافـر» «مفـاعـلتن، مفـاعـلتن فـعـــــولن» وتعـديل ربـّاط الأبـوذية، أي البيت الرابـع منهـا وعـدم ختمها بـ» يـه» كما هو متعارف عليه في نظمها، الى جعل هذا البيت الرابع بيـتـاً جـديداً، ينطلق نحو تأسيس ثلاثيـة جـديدة، على نفس الوزن، وجـناس جـديد، لايخل بالمعنى العام،بل يربطــه «الـتدوير»(91) في كل بيت جديد بعد الثلاثية،وبصورة أجمل وآفـاق أرحـب، وكأن هـذا اللـون من النظـم يحـاكي ويناغـم المــوال الـعــراقي من نوع «المـشـط» أي أن النهــايات تعود على الثلاثية الأولى، أي أن جناسـات البيت الأخـير تعــود على جنـاسات الأبيـات الثـلاثـة الأولى، كما هـو معتاد في نظم المـوال،ولا يخـتم بـ«يـه» كما هو معروف في الأبـوذية، والمـثــال التـالي للشـاعرأحمـد اليـاسري،يبـيـّن ذلك بوضـوح، ضمن قصيدة لـه بعـنوان: «مـــوال لكـل الوطـن» حيث تظهـر فيه تلك الخصوصيات من هذا النظـم الجــــديد:
الزمـن جم مـرّة نـخ النة وطـــنــّه 1
عـــراقـييـــّن يــــدرينــا وطـــنــه 2
الشمس بس ضاع من عدنا وطنه 3
شلـّـك بالغـرب يا كًلــبي وك رد 4
الوطن ما راد منــك هجر وكراد 5
على جروحة تساهرعرب وكراد 6
جـفن الحقـد بجفوفــــــك وشيعة 7
حتى انصيـر كــل احنــه وشيعـة 8
تــركمـان ويزيديــّة وشيـعــــــة 9
حــب الوطـن سـوّينـــاه سـنــّـة 10
واذا مستغـرب انته اشـلون سنة 11
الاصل اشــور واحنا عرب سنة 12
العـراق الصـاغ قــالـبنة وصبـّه 13
واذا لاحـه سهـم غادر وصابـــه 14
شـَبـك كــلـدان نــــتناخـا وصبـّـه 15
وجـسر تصبح جماجـنـا لوطــنه 16
نلاحظ هنـا أن البيت(16) قد عاد بجناسه على الأبيات الأولى من الثلاثية الأولى،، والتي كانت تعتمـد كلمة» وطـنـّـه» في كل جناساتها، وهو لم يكن بالمعتاد سابقاً بنظم الأبوذية على الإطلاق
معـاني الأبيـات:
1- كم من مرّة أناخ الزمان برأسه لنا «وطـنـّه» أي طأطأ رأسه .
2- «وطـنـّـه» هو وطننا العراق وهو يعـلم بنا أنـنا عراقيون إليه ننتسـب .
3- الإشارة الى أن الشمس ضاعت عندما ضاع «وطنـّـا» وهنا تعبير عن فقـدان الحريـة خارج الـوطن .
4- وك رد = ويلك إرجـع أيها القلب الى حيث منبتك الأصلي، ودع بلدان الغـرب
5- الوطن لم يرد منك أن تهجره بـل أراد، والتي عبـّرت عنها كلمة الجــناس( وكراد) وأصلها – وك راد- أي أنـّه طلب،أن...... سنلاحظ أن المعنى سيكتمل في البيت السـادس،وهـذا مايسمّى في «فـن الأبـوذية» بــ» التــــدوير» أي إكتمال المعنى في البيت الذي يليـه.
6- الوطـن أراد أن يسـهر على جـرحـه أبـناؤه من العـــــرب والأكـــراد
7- وأن يجعلـوا من «جفـن الحقـد» جفناً ساهـراً،يخلق منـه» وشـيعـة» والتي تعني هنا،اللـّـفـاف، الذي يضمد الجـراح،وهي دعـوة للتــآخي والمحـبـّة.
8- حتى نصبح كلنا بهذه» الوشيعة» أقـوياء ،، أي شـيع متآخية ومتـحـابـّة
9- هذه الشيع هي: التركمان والإزيدية والشيعـة،وهي الطوائف المتآخية تاريخياً في العراق.
01- أن يجعلوا من حـبّ «الوطـن سـنـّة» أي قــانون إجتماعي وعرف سـائد
11 - وإذا كنت مستغرباً كيف أصبحت «هذه الخلطة،سـنـّة» فهي قانوننا الإجتماعي المعروف، مـذ انوجدنا على أرض العـــراق .
12 - حيث كـــان أصلنا من «بـلاد آشـور» ثم من العـرب «السـنـّة»،وتلك هي حالنا، منذ القـدم.
13 - لقد صـاغ العراق هذا الموزائيك من الأقــوام و«صـبـّـه» بقالب خاص به دون سواه من بقية الشعوب.
14- وإذا تعرّض هذا الوطن الى سهم غـادر و«أصـابه» فـــــإن:
15 - بقية الأقـوام والطـوائف من الشبك والكلـدان والصــبـّة،أي الصابئة المندائيين،فـإنـهم جميعاً يتعاونون للـملمـة هــذه الجراح .
16 - وكل هذه الأقـوام،نصبح جميعنا،جسـر «لوطـنا» أي نتعاون في البناء وإعادة اللحمة الإجتماعية لجسم الوطـن.
المتابع يلاحظ أن هـناك بعض التكـلـّف في هـذا النظـم، لاسيما إذا لم تكن الجناسات المتعاقبة قد ولـّدت معاني جديدة،لأن قوة الجناس في توليد المعاني المختلفـة مع الحفاظ على الشكل، وعلى العمـوم فإن هذه التجربة الشعرية مازالت جـديدة ومحـــدثة، وما زالت بكراً، وقادم الأيـام سوف يكسبها متانـة بعد طــول مــران .
هوامش
1- صفي الـدين الحلـّي، هـو عبد العـزيز بن السرايا الطائي( 677- 750 هـ/1277 – 1349 م)
2- أنظر كتـابه: العـاطل الحـالي والمرخـّص الغـالي في الأزجــال والمـوالي/ ص103 ، منشورات الهيئة المصرية العامة للكتاب – القاهـرة، بدون تاريخ، وراجع كذلك الشيخ محمد صادق محمد الكرباسي : ديـوان المـوال الزهـيري/ ص 20، ط1 لندن 1422 هـ/ 2001 م.
3- العـاطل الحـالي – ص 107
4- أنظـر – فـنون الأدب الشعبي 1/ 29 للشيخ علي الخاقـاني، منشورات دار البيـان، بغـداد – العـراق.
5- الكربـاسي/ ديوان المـوال الزهـيري- ص 50.
6- المرجع السابق / ص 51.
7- نفس المرجـع ونفس المكان.
8- نفسـه – ص 51.
9- الكربـاسي – ص 52.
01- المـوال البغــدادي- ص 17 طبعـة بغـداد – العراق.
11- تـاريخ العـراق بين احــــتلالين 7/ 18 ،منشورات الرضي- قـم الإيرانية.
21- عامر رشيد السـامرئي/ مـوالات بغـدادية/ ص 22 ، منشورات وزارة الإعـلام العراقية- ط1 بغـداد 1974 م.
13- أنظر العـلم السامي في ترجمة الشيخ محمد الغـلامي، جمع وتأليف محمد رؤوف الغـلامي، منشورات مطبعة أم الربيعين- الموصل 1942 م
14- السـامرائي/ مـوالات بغـدادية- ص23
15- الأبـوذية والعـتابا، كلاهما رباعي النظم، ومن نفس البحر العروضي» الـوافـر» إلاّ أن الأبـوذية إستقـرّت في الأماكن الزراعية والأرياف، فيما انتشرت العتــابا في الأمـاكن الصحراوية، وعند القبائل البدوية، مع ملاحظة أن الأبوذية ينتهـي بيتهـا الرابع بـ»يـّـه» والياء مشـددة على الـدوام،فيما العـتابا تختلف عنها في البيت الرابع ، حيث ينتهي هذا البيت بـ» آ» أو بــ» آ ، ب» لاسيما في « العــتابا الجـبوريـة».
61- تـراجـع موسـوعـتـه» فـنـون الأدب الشعبي».
71- حـاول نظام البعـث في العـراق، بعـد عام 1978 م إلـغــاء الأدب الشعبي من الإعلام العراقي لاسيما الشعر الشعبي منه، حين فـرّط بما يعرف بـ» الجبهة الوطنية التقدمية» وضرب كل القوى السياسية المتحالفة معـه وانفـرد لوحـده في الحكم، فأخذ يسـيـّد خطابه الحزبي في وسائل الإعلام، وحين أشعل حربـه مع إيران ، ثم مع الكويت، إضطرّ الى دعـوة الشعراء الشعبيين للمساهمـة في دعـم « المجـهـود الحربي للمعركة « ففرض نوعاً من « الشـعــر الحـماسـي، سمي بـ» القصيدة الحربية» لكن هذا النظم الشعري المحـزّب،انتهى حتى من الذاكرة بمجـرّد سقوط النظـام عام 2003 م.
81- لـدينا نيـّـة جـادة في عمل « موسوعـة الشعراء الشعبيين في مدينة الثورة» نأمل أن تتاح لنا الفرصة في تقصّي هذه الظاهرة في تلك المدينة ،والتي إنـولـدت فيها « القصيدة الملحمية في الشعر الشـعبي العراقي، حيث كتـب أحـد أبـنائها ملحمة» جـبت كل العـراق وجيت، وهي تقـع في أكثر من 1550 بيت من الشعر.
91- الـتـدويـر: هـو عملية إكمال المعنى في البيت السابق من البيت اللاّحق عليه، وهـو يحدث في « الأبـوذيـة» بين البيت الثاني والثالث أو بين الثالث والرابع، ولا يحدث بين الأول والثـاني، وهـذا عرف دأب عليه أغلب شعراء الأبوذية في العراق.