القيم المكانية في بلدتي مغدوشة
العدد 64 - عادات وتقاليد
مقدمة :
تتربع «مغدوشة» على إحدى التلال في الجنوب الغربي من قضاء صيدا من محافظة الجنوب. وترتفع تلة مغدوشة 200م جنوب شرق مدينة صيدا ضمن المنطقة المُسمّاة «إقليم التفاح». وتشكل مغدوشة جزءًا من تلال الساحل اللبناني التي تفصل بينها الأودية، ويصل ارتفاع أعلى نقطة فيها إلى 270 م عن سطح البحر.
يعتبر أنيس فريحة أن اسم مغدوشة مشتق من اللغة السريانية ويعني «مكدِّسون، وجامعو الغلال في أكداس وعرمات»1، وكما أنّ الثقافة مكوّنة من الطبقات، فكذلك اللغة، إذ مع مرور الزمن تتولّد أسماء جديدة مكوّنة طبقات لغوية مختلفة تبدو منسجمة مع لغة الساكنين اللاحقين للمكان.
في بداية القرن التاسع عشر كان عدد سكان مغدوشة حوالي 150 نسمة بحسب تقديرات كبار السنّ، وبحسب معطيات سجلات العماد في مطرانية صيدا للروم الملكيين الكاثوليك، وقد توافد السكان إليها من قرى لبنانية ومن منطقة حوران في سوريا، طلباً للحرية حين تولّى الأمير فخر الدين الثاني الكبير حكم الجبل اللبناني (1572-1635) في مطلع القرن السابع عشر، حيث كان متسامحاً ومستنيراَ، فقد عيّن وزيرًا أول مسيحيًّا (مارونيًّا) ووزيرًا مسلمًا للداخلية، ودرزيًّا للقوات المسلحة، ويهوديًّا للمالية. وكانت ولايته الأكثر إرضاءً وإزدهاراً في الحكم العثماني، فقد وقّع معاهدات مع توسكانا وولايات إيطالية أخرى، ومع إسبانيا وفرنسا، كما أنعش استيلاؤه على مرفأ صيدا في العام 1593 المنطقة وجعلها جاذبة. وقد دأب الأمير فخر الدين على السياسة الإنمائية، ففتح موانئ للتجارة الخارجية، واستقبل المرسلين اليسوعيين لفتح إرساليات للتعليم والتهذيب في جبل لبنان، وبنى سياسته الداخلية على دعائم ثلاث، هي: الأمن، والازدهار الاقتصادي، والتسامح الديني. ولأول مرة منذ مئات الأعوام، خيّمت مناخات من الأمان والحرية، وهكذا في عهد فخر الدين قدِم قسم من أبناء مغدوشة الحاليون إليها من خبب في حوران السورية.
مغدوشة الآن تعدّ حوالي العشرة آلاف نسمة، تعرّض أبناؤها لتهجير قسري خلال الحرب الأهلية اللبنانية في العام 1986، فنزحوا إلى بيروت وضواحيها وما كان يعرف وقتها ببيروت الشرقيّة، ولكن عودتهم إلى بيوتهم المدمّرة كانت سريعة، إذ بدأت العودة التدريجية بعد ثلاثة أشهر، واكتملت بخلال سنتين تقريباً، فأعادوا الإعمار وعادوا لحياتهم الطبيعية، وهذه العودة كانت لافتة للانتباه مقارنة بالمناطق التي تهجرت خلال الحرب الأهلية ولم يعد كامل ساكنيها، واقتصرت العودة على كبار السن والمتقاعدين.
وبعد التعريف بمغدوشة التي يدور حولها هذا البحث، سوف يتم التعريف بالقيم المكانية، فالمتغيّرات البيئية أو المكانية، سواء نظرنا إليها كمتغيّرات مستقلة أو تابعة، هي عناصر أساسية لا يمكن إغفالها في الدارسة السوسيولوجية للمجتمع المحلي. وإن الاهتمام والتركيز على هذه المتغيرات كان سبباً في تطوير أحد المداخل الكبرى في دراسة المجتمع، وهو ما يُعرف باسم المدخل الإيكولوجي، ومن علمائه المعاصرين «آموس هاولي» إذ يُعرِّف المجتمع المحلّي بأنه «تلك الرقعة المكانية التي يرتبط بها وفيها السكان، والتي من خلالها يتمّ تكامل الأفراد بعضهم مع بعض استجابة لمتطلباتها اليومية وخصائصها»2. إذ يتخذ الفرد من الاشتراك في المكان الواحد أساساً ترتكز عليه كلّ محاولة للتعريف أو التنميط أو الدراسة، كما ينظر إلى البعد المكاني باعتباره متغيّراً مستقلاً يفسر ما لنماذج المجتمع المحلي المختلف من خصائص متميزة. ومن ناحية أخرى نجد تصوراً آخر يؤكّد البعد السيكولوجي ويعتبر الاتصال والإجماع أو الاتفاق شرطاً ضرورياً أو مقوماً أساسياً من مقومات المجتمع المحلّي. ومن ثمّ يصبح المجتمع المحلي عبارة عن تجمّع أخلاقي تندمج فيه عقول الأفراد، ومن خلاله، تتاح الفرصة للأفراد للتعبير عن قدراتهم وإمكاناتهم بطريقة كلّية وملائمة3.
وأهمية هذه الدراسة الميكروسوسيولوجية، في أنّها تؤدّي مع دراسات تشبهها إلى المركب الماكروسوسيولوجي الذي تندمج فيه. لذا فإن اتباع طريق صاعد ينطلق من الوحدات الصغيرة للملاحظة المباشرة التي تثير اهتمام الباحث، للوصول فيما بعد تدريجياً إلى معالجة الوحدات الأكثر اتساعاً والأكثر تنظيماً داخل البنية الاجتماعية، إذ يعتبر «ايفانز بريتشارد» (Evans-Pritchard) أنّه «لبلوغ الدراسة مستوًى عاليًا من التجريد والتحليل البنائي، لا بدّ من التركيز على دراسة الجماعات التي تتميز بدرجة عالية من التماسك، والتي تُثبت قدرتها على البقاء والاستمرار والصمود ضد عوامل التغيّر لأطول وقت ممكن، بحيث تحتفظ على مرّ الأجيال بكيانها وهيكلها العام، رغم الأفراد الذين يؤلّفونها»4.
القيم المكانية:
وقد قامت هذه الدراسة على المقابلات مع بعض سكّان هذا المجتمع المحلّي الذين تهجروا وعادوا إلى بلدتهم، وتبيّن من خلال إجابات الناطقين – بعد أكثر من ثلاثة عقود على التهجير والعودة – عند سؤالهم عن الأماكن التي كانوا يتذكرونها ويشعرون بحنين تجاهها خلال فترة غيابهم القسري عن البلدة، أن هناك أماكن تكرر ذكرها في مقابلات عدّة، مما أظهر أهمية هذه العناصر المكانية البنائية، وأبرز دورها ومكانتها في الحفاظ على خصوصية هذا المجتمع، من خلال تعلق أهل البلدة بها وشعورهم بالانتماء إليها وإلى مجتمعهم ككل. وأتت الإجابات لتؤكد بأن المكان هو عنصر هام من عناصر بنية المجتمع. أما الأماكن التي أعطت قيمة معنوية للمكان في هذه البلدة فهي: البيت والأرض والبيدر والساحة والوعر.
1) البيت:
« إذا خاف الانسان من شيء ما يهرب إلى بيته، فإلى أين أهرب أنا؟ ليس لدي بيت»5.
يتضمن هذا الخطاب الذي يعبّر عن صعوبة الحرمان من البيت في فترة التهجير، ورغم بساطته، كل معاني الاحتواء والحماية والأمان التي يقدّمها البيت لصاحبه. وتبيّن أن أكثر الأماكن التي ورد ذكرها في المقابلات هي «البيت»،إذ يهتم اللبناني بأن يكون له بيت يأوي إليه ويؤسس فيه عائلة، لذلك يسعى بكلّ ما أوتي من قوة الى امتلاك بيت، حتى لو اضطر إلى بيع قطعة أرض أو الهجرة لبضع سنوات لتأمين مسكن له ولعائلته، فالبيت «أول مقتنى وآخر مبيع» بحسب المثل اللبناني. ويهاجر الكثير من اللّبنانيين لسنين وسنين ثمّ يعودون، وأوّل ما يقومون به بعد عودتهم، هو بناء بيت لهم في ضيعتهم، لأنّ «البيت عزّ» ومن المعيب أن يبيعه صاحبه لأنّه مظهر من مظاهر قوّته، وإذا تعرّض لحالة مادّية سيئة يقولون «مسكين انخرب بيته». ومن لم يمتلك بيتاً ويسكن بالإيجار، يُنظر إليه نظرة استخفاف، ويُضرب فيه المثل المعروف: «مسكين فلان مثل البزاقة بيته على ظهره».
وعندما يبدأ الفرد ببناء بيته يدعو له المحبّون ببقاء هذا البيت وازدهاره: «الله يوسع ديارك» وأيضًا «انشالله بتورّتو لولد الولد» إشارة الى أهمّية الحفاظ على ملكيّة البيت وتوريثه وبقائه ضمن العائلة الواحدة.
وإذا نظرنا إلى الحي الأقدم في القرية نلاحظ أن الأبنية تتميّز ببساطتها وبتراصّها، فبناء «الحيط عالحيط» بدافع توفير حائط ثانٍ يجعل بعضهم يضع جسور سقفه على الجدار المشترك. وهذا شائع، تجد له شواهد في كل قرية لبنانية. إضافة إلى توفير حائط، فإن سبب هذا التراص في البناء يعود إلى «حرص الأهل على أن يظل الأفراد قريبين بعضهم من بعض، للتعاون والتسلية، وبسبب فقدان الأمن»6.
ونلاحظ أن الأحياء تسمّى بأسماء عائلات معينة، فيقولون مثلاً هذا حي بيت «فلان»، فالبيت أصلاً في المجتمع المحليّ «كيانٌ عائليٌّ مرتبطٌ بحيٍّ سكنيّ، حيث يُشكّل الحيّ جزءًا لا يتجزأ من هويته، وحيث كانت «العائلة الممتدة التي تضمّ الأب والأمّ والجدّ والجدّة»7، النمط القرابي السائد في هذا المجتمع المحلي. وبالطبع فإن سكن الأقارب جنباً إلى جنب يُقوّي الألفة «ويُسهّل دخول ساكن الجوار في شبكة تبادل الخدمات التي تقوم عادة بين الأهل. خاصة أن الزراعة تفرض ارتباطًا بالجماعة يزيد من ضرورة التعاون بين الجيران في تجهيز آلة الحراثة وما إلى هنالك...»8 ومن الملاحظ بقاء السكن ضمن العائلة الممتدة في كثير من الأحيان رغم دخول الحداثة إلى المجتمع اللبناني، حيث نجد بنايات جديدة يسكن في كل طبقة منها أخ من العائلة مع أسرته النواتية، مع وجود شقة للأب الأكبر في البناية، وهذا التجاور يكرس القرابة والسكن ضمن العائلة الممتدّة.
وهكذا ظهرت مكانة البيت مرتفعة جداً لدى المغدوشي. وتؤكّد هذه الخطابات هذه المكانة، بغض النظر عن حالة البيت، إن كانت متواضعة أو غير متواضعة:
- بعد أسبوع من التهجير ذهبنا عند إبني في مرجعيون وكان أصحابه قد أعطوه «فيلا» كأنها قصر، فسكنّا فيها. وكان بيتنا في مغدوشة مؤلّف من غرفتين، وحديقة فيها شجرات ليمون البوسفير، ومرجوحتي الخاصة بجانب شجرات الليمون، فصرت أقول: «يا مين ياخد هالفيلا ويرجّعني على غرفتين وجنينة، فيها شجرات ليمون البوسفير والمرجوحة»9.
- أول ليلة بعد العودة من التهجير نمت في بيتي، كان خراباً ولكن شكرت ربّي كثيرًا، وقلت حتى لو بقيت عمري كلّه أنام على الباطون وعلى فرشة إسفنج ولا أملك كرسيا هذا أفضل من قصور خارج مغدوشة10.
- أكثر ما كنت أشتاق له هو أن أشرب فنجان قهوة في دار بيتنا تحت شجرة الليمون أبوسفير. إذ كانت الشاليه التي استأجرناها في البوار مواجهة للشمس، لا مكان للجلوس وشرب القهوة بعد الظهر. كنت أشتاق لأحواض الورد في دارنا التي زرعتها بيدي، كل يوم كنت أسأل نفسي: «يا ترى يبست الورود، أم أنها لا تزال حيّة»؟11
من الصعب أن تتجاوز ذاكرة الفرد صورة المكان الذي ولد وعاش فيه، بالأخص إذا ترك هذا المكان بطريقة قسرية، لأن العلاقة بالمكان هي علاقة بالماضي الذي عاشه الفرد في هذا المكان، وتبقى صورة البيت في ذاكرة الذي عاش فيه، يستحضرها في أوقات الحنين، وعند الشعور بالاغتراب، وعند قساوة المجتمع المضيف.
2) الأرض :
لا تزال طبيعة الأرض وخصوبتها ووفرة الماء فيها من العناصر الأساسية التي تحدّد هويّة القرى، لأن «الزراعة عصب الحياة الاقتصادية في القرية اللبنانية ومصدر رزق لأكثر أهلها»12. فللأرض اتصال وجداني بأصحابها حتى إذا أراد رب عائلة أن يدلّل ولده يقول له «يا رزقاتي ». ومن ليس لديه أملاك يُنظر إليه بأنّه أقل شأناً من الذي يمتلك الأراضي، وعودته من التهجير كانت أبطأ من غيره، والعائلات التي لم ترجع نهائيًّا الى البلدة هي العائلات التي لا تمتلك أي قطعة أرض. وهذه بعض إجابات الناطقين لإظهار أهمية الأرض بالنسبة إلى المغدوشي:
- وقت التهجير افتقدت أرضي، رائحتها، مواسمها. وفي العودة ربحنا بيتنا وأرضنا، فالإنسان لا يشعر بكرامته إلا في بيته وبلدته وأرضه، الذي لا يملك بلدة لا يملك انتماء.
استصلحنا أرضنا وصرنا نقطف مواسمها بدل شراء العنب والتين والزيت والصابون، أصبحنا نفيض بها... ربحنا أرضنا وعادت الحياة إليها ووفّرنا ماديًّا13.
- بعد شهرين من العودة بدأ موسم زهر البوصفير، عملت في أرضنا واستخرجت ماء الزهر وكان المردود بوقتها جيدًا جدًّا، وذلك نظرًا لحاجة المنطقة كلها إلى ماء زهر مغدوشة، وكان المردود جيدًا جدًّا فأصلحنا جزءًا من بيتنا بعد موسم الزهر، وانتقلنا إلى بيتنا في بداية الصيف. وكان شباب وصبايا الضيعة يعملون بأيديهم في موسم الزهر وكان الموسم يقوم على أهل مغدوشة.
- وتتميز مغدوشة بموسم العنب، فكل بيت يملك عريشة لو حتى على سطح البيت، وكل الهدايا تكون عنبًا وماء الزهر الذي يُعتبر علامة فارقة لمغدوشة. وكذلك بموسم الزهر، وأيضا نجد شجرة بوصفير أمام كثير من البيوت14.
- كنت أفتقد موسم الزهر وعيد الفصح، أفتقد رائحة الزهر الممزوجة بصلوات عيد الفصح وأشتاق إلى جوّ الضيعة عند خروج كلّ الأهالي من الكنيسة بعد الصلاة. بالنسبة إليّ ترتبط كثيرًا رائحة الزهر بفترة عيد الفصح15.
- افتقدت رائحة التراب في طريقنا إلى «ظهر حيدر» وهي اسم قطعة أرض تخصّنا، عندما كنّا نذهب إلى الحقل مع أبي صباحًا في نهاية الأسبوع لممارسة هواية الصيد وشمّ رائحة التراب الذي سقط عليه الندى، لهذا تعلّقت برائحة الأرض.
معنويًّا: سلخوني عن أرضي بالقوّة ولم يكن لدينا الخيار بالدفاع عن الأرض، بالقوّة عليّ أن أترك حياتي، روحي ومشاعري16.
- فقدنا العلاقة مع أرضنا بما يعني كرومنا التي تربّينا على حبّها وقضينا وقتاً من طفولتنا فيها وهي بالنسبة لنا عصارة أتعاب أسلافنا... فقدنا رائحة الأعشاب التي كانت تنبت في حقولنا بتميّزها عن غيرها، كعُشبة «السَّيكون» التي تنفرد بها أراضينا17.
- كنت أشتاق للمواسم، الزيتون وزهر البوصفير والعنب.
الكل يُحبّ العمل بالأرض وخصوصًا بالمواسم المغدوشيّة. نحافظ على تراثنا في صنع ماء الزهر وزراعة العنب، فإننا نجد في كلّ بيت ولو على السطح، عريشة18.
- افتقدت مواسم الأرض، رائحة زهر البوصفير، موسم الزيتون، موسم العنب، اللوز الأخضر، الفول الأخضر19.
- إذا سألونا: « لماذا عنب مغدوشة طيّب، نقول لأنّ هناك من داس الأرض وجعلها مقدّسة»20.
للأرض أهمية كبرى من حيث إنها تؤدي وظيفة الإنتاج المادي من جهة، ومن حيث إنها رمز الجاه والمكانة الاجتماعية. والأرض تعني لهم: الثبات والانتماء والكرامة والكرم والعطاء والكسب المادي والافتخار، هم يقدّمون الهدايا من أرضهم بكل فخر. هناك مشاعر كبيرة نحو الأرض، وصفها أحدهم بأنها الحياة والروح، وظهر الانتماء الى الأرض والارتباط بها، من خلال تعبير الناطقين عن شوقهم لرائحة الأرض وأعشابها الخاصة، بالاعتياد على شمّها. والانتماء يزداد إلحاحاً عند الضغط، وظهر هذا الإلحاح لدى فقدان العنصر المادي فأصبح الاستذكار هو الطريق الوحيد. هذه القيم ماثلة في الأذهان حتى في غياب العنصر المادّي المتعلّق بها، فمن قال أن ضرب الجانب المادي من القيمة يضعف القيمة؟
3) البيدر:
وهو المكان الذي كان مخصّصاً لجمع المحاصيل الزراعية من أجل استخلاص الحبوب منها قبل تخزينها. يقع البيدر عادة في أقرب مكان للتجمّع السكني، لذلك كان من البديهي أن يكون البيدر في مغدوشة قرب الساحة وقرب الكنيسة، أي في قلب البلدة ولهذا سُمّي «بيدر الضيعة» وهو البيدر الأساسي الذي استعمله الأجداد. أما البيدر الثاني وهو بيدر المعصرة، فقد استحدث منذ ما يقارب القرن تقريباً، عندما كبرت البلدة وضاق البيدر الأساسي على الأهالي. فاتفقوا مع «جبران قطان» الذي كان يملك قطعة أرض كبيرة في الناحية الجنوبية الغربية للبلدة، وهي تُعتَبر قريبة نوعاً ما من التجمع السكني، على مقايضته بأرض مشاع تشابهها في المساحة، ولكن في «ظهر الكبير»، وهي منطقة تقع في الناحية الجنوبية الشرقية للبلدة، وتبعد قليلًا عن التجمع السكني. وبحسب الياس حنا جريس قطان21 أن جبران قطان وافق على المقايضة رغم بعد المسافة لخدمة المصلحة العامة في البلدة، وهكذا تمّ استحداث بيدر جديد سُمّي «بيدر المعصرة». وكان الأهالي يقتلعون من الأرض التابعة له، والتي أصبحت مشاعاً – ولا تزال تسمّى «عريض جبران» حتى يومنا هذا - أحجار الكدّان لإنشاء بيوتهم السكنية.
وكان للبيدر وظيفة زراعية تخدم أهل البلدة كافة من كبار الملاكين إلى صغارهم، والآن تحوّلت وظيفة البيدر من زراعية إلى اجتماعية. وأصبح البيدر يعني ساحةً للتجمّع، وملعبًا رياضيًّا، ومسرحًا للمهرجانات، ومكاناً للاحتفالات الشعبية. ومن الطبيعي التركيز على «بيدر الضيعة» أكثر من «بيدر المعصرة» في المقابلات لأنه الأقدم والأقرب إلى الكنيسة والساحة. وبالتالي إلى نواة البلدة التي تتقارب فيها المنازل.
4) الساحة والعنبرة:
ساحة الضيعة هي مركز الحركة، فيها يلتقي الأهالي على اختلاف أعمارهم ومشاربهم في المناسبات والأعياد المشتركة، «فلا تكتمل الضيعة من دون ساحة»22 على حد قول أنيس فريحة، موقعها أمام الكنيسة أي في وسط البلدة، وهي مكان:
- للمناسبات السعيدة كالأعياد والأفراح، فإذا كان لأهل المدن مسارح ومقاه ودور سينما، فإن للقرويين ساحاتهم للاحتفال بالمناسبات العامة ومواسم الأعياد.
- للتلاقي: فغالباً ما نسمع الناس يتواعدون ويتلاقون بالساحة، ففيها يجتمع الكبير والصغير، وعموماً نرى العجائز في فترة قبل الظهر يجلسون مستظلّين بجدران الكنيسة يتحادثون، والشبان والشابات يجتمعون في فترة بعد الظهر وفي المساء، أما لـ«التمشاية» أو للجلوس في المقاهي أو على جوانب الطريق للتسامر وتمضية الأوقات.
- للأتراح: المشاركة في الأحزان، هي العونة الوحيدة المتبقية بحضورٍ طاغ، والساحة هي المكان الأكثر استقبالاً لهذه المناسبة بحكم وقوعها أمام الكنيسة.
- للتعبير عن آراءٍ عامّة كالاستنكار مثلاً على السياسة المحلية.
- للبيع والشراء: تنشط حركة البيع والشراء في الساحة، فهناك محالّ تجارية ثابتة، وباعة مؤقّتون ينشطون في فترة الصباح، ويعرضون المنتجات الزراعية التي أنتجتها أرضهم كالتين والعنب والفول الأخضر وزهر البوصفير وما إلى هنالك من أنواع المزروعات بحسب المواسم على مدار السنة.
وتظلّ الساحة إحدى المحطات الأساسية التي تنتهي إليها الطرقات والمسالك والمواعيد العامة. إنها الحوض الفسيح الذي تصبّ فيه جميع روافد القرية ثم تنحلّ وتعود في حركة دائرية لا تتوقّف، ولعل ما يميّز ساحة البلدة هي تلك الشجرة التي تسمى «عنبرة» زرعها الأجداد واقتلعت أيام التهجير، وأُعيد زرع شجرة غيرها من نوعٍ ثان، ولكن لا يزال اسمها «العنبرة». ونظرًا لأهميتها، تُلْبَس أبهى حلة في الأعياد والمناسبات الدينية والوطنية والشعبية (الميلاد، عيد الاستقلال، عيد الجيش، عيد الفصح، مهرجانات كروم الشمس...).
«تحت العنبرة» هي المحطة الأشهر للّقاءات والمواعدات. وهذا المكان عزيز جداً على المغدوشيين فهو قلب البلدة ويقع مباشرة أمام الكنيسة. وهو الشاهد على كل أحداث ومحطات البلدة، وهو من الأهمية لدرجة أنهم يحلفون به للتصديق على كلامهم. ويجدر بنا هنا ذكر هاتين المقولتين لنثبت مكانة هذا المكان:
- أيام التهجير افتقدت الأماكن في الضيعة، حتى كنّا نحلف بالمكان لكي يتمّ تصديقنا، مثلاً: وحياة البيدر والعنبرة23.
- يتميّز المغدوشيون بتعلّقهم ببلدتهم وبالساحة والعنبرة... وكل تفاصيل الأماكن في مغدوشة24.
وكما لـ «تحت العنبرة» حسنات في جمع أهل البلدة في كل المناسبات، كذلك لهذا المكان بعض السيئات كتشجيع الكسل والنميمة مثلاً، الأمران اللذان يحصلان بفعل التجمع المتواصل لتمضية الوقت، لذلك يصف البعض الكسول بهذا القول «ما عندو لا شغلة ولا عملة غير القعدة تحت العنبرة والحكي عالعالم». وهذه من سيئات القرية، ففي القرية سيئات (تنافر) بحسب بولس سلامة إذ يختلط الحب بالبغض والتحاسد، والألفة بالتنافس، والوفاق بالتباعد...
مهما حملت هذه الأماكن في طياتها، فإن الفرد قد اعتادها منذ طفولته، ولهذا لها حيّز كبير في نفسه وفي ذاكرته، وتظهر أهمّيتها وتتعزّز وقت فقدانها حيث تستفيق الذاكرة وتبدأ بالإلحاح.
5) الوعر :
يأخذ الوعر حيّزاً هاماً من مساحة مغدوشة. وهو يقع في الجهة الجنوبية من البلدة، ويتّصل بقريتي زيتا وقناريت. أشجاره صنوبر برّي وبطم.
واللبناني عادة يفتخر بطبيعة بلده الجبلية التي تمتاز بالوعورة والصلابة والقوة، فعندما راح «عاصي الرحباني»، في إحدى المسرحيات، يوصي ابنته المقبلة على الزواج، ويعلمها طريقة تربية أولادها قال لها: «ازرعيهم بالوعر أرز وسنديان، وقوليلهم لبنان، بعد الله يعبدوا لبنان»، أوصاها أن تزرعهم بالوعر ليتشبّثوا بالأرض، ويتمسّكوا بها رغم العواصف والأزمات التي تعصف غالباً في هذا الوطن.
والوعر بالنسبة إلى المغدوشي حيّز مهمّ من حياته، ففيه يمارس هواية الصيد التي هي هواية القروي اللبناني بشكل عام ومنذ القدم، والوعر بمثابة المنتزه الذي يستقبل عشرات لا بل مئات المتنزّهين وخاصة في أيام الربيع والخريف، حيث يجلس المتنزّهون تحت أشجار الصنوبر العملاقة، ومنهم من يمشي الى «عين بقرا» وهي الساقية التابعة للوعر، وهي مشتركة بين مغدوشة وقرية زيتا. كذلك بالوعر أرزاق تعتاش منها عشرات العائلات من خلال زراعة العنب واللوز والتين والزيتون، فالفلاح المغدوشي فتت الصخور وحوّل الوعر إلى «جلالي». وكثيراً ما كان يستفيد منه الأجداد أيضاً بتجميع الحطب في موسم التشحيل. وفي الأعوام الخالية قبل ابتكار الأشجار الاصطناعية كان الجميع يقتطع منه غصن صنوبر في عيد الميلاد لتزيينه في البيت كرمز للعيد. وكان المغدوشي ولا يزال، يستفيد من الصنوبر البرّي من خلال تجميع «حب قريش» وهي حبوب سوداء داخل ثمرة الصنوبر البرّي يستخرجها بعد تشميس الثمرة البالغة، ويستعملها كالسمسم مع الزعتر وبعض المعجّنات، ويسترسل المغدوشي في مدح الـ «حب قريش»، ويكثر من حسناته التي من أهمها أنه يعيد نمو غضروف الركبة لدى المسنين...
ألِف المغدوشي الوعر واعتاد عليه، وأحبّه كبيته، وورث حبّه عن أهله وأجداده، واشتاق إليه عندما ابتعد عنه، وما حبّ الوعر إلا تأكيد تداخل المغدوشي مع طبيعة بلدته، وهو كذلك امتداد لحبّ الحياة من خلال الجلسات والنزهات والموائد والصيد على أرضه. والتعلّق بالوعر دليل على الانتماء إلى الأرض التي تعطي الخيرات، وهذه الامور أكدتها بعض المقابلات:
الوعر، هو من أهم الأماكن عندي في مغدوشة، كنت أفتقده كثيرًا. كنتُ كل سنة أقطع غصن صنوبر من الوعر أنا وأخي، رحمه الله، نختار أصغر غصن وعندما نأتي به إلى البيت نجده كبيرًا جدًّا. وكنّا كل سنة نقطف زهرة النرجس في هذا الوقت من السنة، ونُحضر هذه الأزهار معنا من الوعر بالإضافة إلى الشجرة25.
الوعر مكان راحة للجميع، احترق الوعر هذا العام فكان سبب انزعاج نفسي للجميع، الكل شعر بالانزعاج وتضايق، كلّ العمر كنّا نراه أخضر والآن أصبح أسود26.
افتقدت كثيرًا نزهات الصيد خاصة أنا وابني: نبعة الحمّار، عين بقرا، الوعر، الرويس... عندما كنت صغيرًا كنت أذهب مع أبي إلى الصيد وإلى هذه الأماكن، وعندما كبر ابني صرت آخذه معي إلى الصيد وإلى نفس الأماكن27.
وفي يوم من الأيام رأيت في نومي حلمًا أنني أعيش في الوعر في مغدوشة، فاتخذت قرار العودة إلى بلدتي الحلوة والخضراء28.
هذه الرموز المكانية مليئة بمعاني الانتماء، فالبيت والوعر والساحة والبيدر والعنبرة والأرزاق... هي قيم مكانية، وهي إحدى أركان البنية المغدوشية، وهي «البيت».. والبيت في المجتمع المغدوشي يعني المنزل والأرض ومكان التنشئة والتجمّع القرابي. المنزل هو البيت الذي يأوي العائلة؛ والأرض هي الملكية العقارية وهي مصدر الرزق، والتجمع القرابي هو الكيان العائلي الذي يطلق عليه أعضاؤه لقب «البيت».
لأن عنصر المكان هو من المتغيّرات الأساسية التي تميّز المجتمعات المحلّية بعضها عن بعض، والمجتمع المحلّي تُحدِّده خصائص متميّزة تتوافق مع تطوّر المجتمع، فالعنصر المكاني ساعد في قيام المجتمع وبقائه، كما أن الأفراد بما طوّروا من تنظيم في القاعدة المكانية، جعل العلاقة وثيقة بين المكان وخصائصه، بما يشمل من معايير يلتزم بها الاعضاء، حيث أن للتفاعل هنا نقطة هامة هي احتواء كل أعضاء الجماعة في شبكة التفاعل على هذا النحو، وهذا لا يتحقّق إلا في المجتمعات المحلّية الصغيرة الحجم.
خلاصة :
إذا سألنا أنفسنا: ما الذي يربط حركة أفراد هذا المجتمع المحلي بمكانهم على مرّ الزمن؟ نجد إنه ذلك المخبأ الدائم الذي يعود إليه الفرد عند كل أزمة ليجد فيه الأمن والاطمئنان حماية لذاته ولهويته الثقافية والاجتماعية، مهما تعرّضت لهزّات عنيفة وهجومات تدميرية، هو القيم المادية والمعنوية المرتبطة بهابيتوسه29 الخاص كبوصلة تقود الفرد المغدوشيّ إلى برّ الأمان.
مقدار وجود هذه القيم التي تميّز هذا المجتمع المحلّي، هو دليل على مقياس حضارته وهويته. هذا المجتمع الصغير يخضع أفراده في تفكيرهم واتجاهاتهم وسلوكهم إلى مجموعة من التنظيمات المكتسبة والمعروفة باسم الثقافة الاجتماعية.
ويتبيّن من خلال تحليل القيم أن الأرض بما تضمّ من قيم عائلية وقرابية ومكانية، تحتل مكانة أساسية في البناء المعرفي، وهذه القيمة أشعرتهم بالأمن والطمأنينة لتشابههم في القيم والآراء والجو الاجتماعي العام، مما زاد من قدرتهم على مواجهة الأزمات وتحدّيها والعودة للمكان.