فصلية علمية متخصصة
رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم
العدد
67

فضيلة التسامح : هدية التراث الشعبي إلى عالم تمزقه الصراعات

العدد 64 - آفاق
فضيلة التسامح : هدية التراث الشعبي إلى عالم تمزقه الصراعات
كاتب من مصر

 

أولا : لماذا التسامح فضيلة

 أصبحنا نعيش اليوم في مجتمع يرتكز على شبكة القنوات الاتصالية التي تطالنا في كل مكان ووقت، وعبر وسائل شتی تزداد كل يوم توسعا وتنوعا في الآن معا. منها وسائل تقليدية كالراديو، والتليفزيون، والطباعة... إلخ، بل إن الهاتف التقليدي لم يعد تلك الأداة الساكنة في مكان، وإنما تحول إلى «جوال» أو «محمول» لا يفارق صاحبه لحظة من ليل أو نهار... وتفاقمت المحنة والنعمة (!!) التي خلقتها الشبكة العنكبوتية (الإنترنت)، فاستوعبت في فضائها اللامتناهي كل معارف البشر وتفاعلاتهم، وشتى تفاصيل حياتهم.. مكتوبة لتقرأ، أو مُصورة لتجذب، أو متحركة (فيديو)لتخلب اللب.

 ولكن ما علاقة كل هذه الظواهر والتحولات بموضوعنا؟ عندما ندقق في ملامح هذه المستجدات الاتصالية وآثارها( مضافاً إليها تغيرات أخرى توازيها في الأهمية: كثورة وسائل النقل والمواصلات، وتقدم فن السينما، وتقدم علوم الإلكترونيات... إلخ)؛ عندما نتأمل كل ذلك نجد أنها قد تكاتفت جميعها في خلق كم هائل من التفاعلات بين البشر على هذا الكوكب، وألغت - حقيقة لا مجازا - بُعدي الزمان والمكان في تحقيق هذه التفاعلات.

 هل يكون من المبالغة أن نقول إن هذه التطورات الاجتماعية والثقافية والتكنولوجية قد خلقت المواطن العالمي، الذي يعيش بجسده في أحد أحياء القاهرة - مثلاً - ولكنه يتشارك مع بقية سكان العالم الآخرين شتى الوقائع والتحولات، ويناله كثير مما ينالهم جميعاً من تغير، أو ما يعانونه من أزمات.

 هذه الوضعية الاجتماعية الثقافية الجديدة ليست بالقطع خيراً كلها، كما أنها ليست بالقطع شراً كلها، ولكنها جزء فاعل مهم من واقع حياتي مستحدث وسلاح جديد لم تعرفه البشرية من قبل، يصدق بشأنه ما يصدق على كل أداة أو سلاح : هو وسيلة لعمل الخير، كما أنه يمكن أن يكون أداة لاقتراف شرور خطيرة.. الفيصل هنا هو ذلك الإنسان (الفرد أو الجماعة) الذي يستعمله، ولأي غاية يوجهه.

على أن القصة لم تنته عند هذا الحد، ولكنها بالأحرى بدأت، وانفجرت بسببها جملة من المواقف والتحولات التي نركز في هذا السياق على ما يهمنا منها هنا في دراستنا للتسامح. ويلفت نظرنا تحليل جيدنز لفكرة التسامح في إطار النظام الليبرالي الجديد، فهذا النظام يفترض أن النموذج الوحيد للمساواة اليوم يجب أن يكون نموذج تكافؤ الفرص أو وفقاً لنظام «الجدارة». وبافتراض أن هذا النموذج قابل للتحقق، فإن ذلك سوف يخلق قدراً كبيراً من عدم المساواة في المجتمع، وما يترتب على ذلك من عدم التسامح وتهديد التماسك الاجتماعي. وهذا المجتمع الليبرالي سوف يشهد قدراً كبيراً من الحراك الاجتماعي إلى أسفل، حيث يصبح على الكثيرين أن ينحدروا إلى أسفل لكي يتمكن الآخرون من الحراك إلى أعلى. وهذا الحراك إلى أسفل سوف يؤدي إلى الاستبعاد الاجتماعي لعدد كبير من الناس، مما يولد شعوراً بالاغتراب لديهم، وما يترتب على ذلك من سيادة عدم التسامح في المجتمع.

 وفي ضوء ذلك يتنبأ جيدنز بأن القرن الواحد والعشرين سوف يشهد مواجهة بين الأصولية والتسامح الكوزموبوليتانى (على مستوى الكون). ففي عالمنا الذى يتسم بالعولمة، حيث تتدفق المعلومات بصفة منتظمة عبر العالم، فإننا جميعاً نتواصل مع آخرين يفكرون بطرق مختلفة، ويعيشون بأساليب حياة مختلفة عن تلك التي نفكر ونعيش بها. ويرحب أصحاب النظرة الكوزموبوليتانية ويشجعون هذا التعدد الثقافي، في حين يجده الأصوليون مقلقاً وخطيراً. وهم يحتمون إما في مجال الدين، أو في مجالات الهوية العرقية أو القومية، أو في عباءة التقاليد الخاصة المعاد إحياؤها. ومن المتوقع أن تنتصر النظرة الكونية في النهاية، لأن كلاً من التسامح والتعددية الثقافية يرتبطان بالديموقراطية ارتباطاً وثيقاً. وهذه الأخيرة تجتاح العالم الآن. ولعل العولمة هي القوة الدافعة وراء هذا الاجتياح الديموقراطي1. هذا التواصل الذي بات ميسوراً لكافة البشر خلق كماً هائلاً من التفاعلات (بالمعنى الإنساني عموماً، والاجتماعي الثقافي تحديداً). ومثل هذه التفاعلات لكي تتم في جو صحي مفيد لأطرافها ومحقق لتقدمهم لابد وأن تقوم على قاعدة بديهية وضرورية، هي كما حدد بعضها الابن والزميل الدكتور أشرف عبد الوهاب؛ تتمثل في2: 

 1)     التساهل :

 بمعنى تسامح المكونات أو الجماعات الاجتماعية إزاء بعضها البعض؛ إنْ على أسس مبدئية أو لأسباب براجماتية. كما يعني التساهل الاعتدال في المذهب والمعتقد، على عكس ذلك التطرف والغلو المصاحب لمفهوم التعصب. ولكن التساهل - إن اجتماعياً أو دينياً - يعني ضمناً أن تكون مالكاً للقوة والقدرة على إلحاق الضرر بالطرف الآخر، ولكنك تُحجم عن ذلك بفضل التسامح.

2)     التعايش: 

وهو يشبه المفهوم الأول من حيث كونه وسيلة لإنهاء الصراعات أو تجنب الدخول فيها. وهو يقوم في الغالب على أسس براجماتية كما أنه يتسم بوجود تكافؤ (تقريبي) في امتلاك مقومات القوة، بحيث تتفق مختلف الأطراف على أن الغاية من السلام الاجتماعي والتسامح هي أفضل من كل البدائل الأخرى الممكنة.

 3)    السلام الاجتماعى:

 إن السلام لا يعني فقط غياب الحرب، كما أنه ليس ظاهرة سياسية فحسب، وإنما هو يعبر عن عملية اجتماعية تجري على عدة مستويات : على مستوى الأفراد، وعلى مستوى العائلة، وعلى مستوى المجتمع، وصولاً إلى المستوى الإقليمي والدولي. فالثقة والتسامح بين الأفراد العاديين تنمو كلما كثرت لقاءاتهم، وكلما ازدادوا معرفة ببعضهم البعض.

وقد أوضح كاتب هذه السطور في دراسة سابقة3 أن ثمة مجموعات من السياسات والإجراءات الوقائية والاحتياطات التي لا يتحتم أن تواكب قيام الثقة والتفاهم والتسامح بين مواطني هذه الدول، ولكنها بالتأكيد يمكن أن تغذي مشاعر الثقة بينهم وتدعم اتجاهاتهم نحو السلام. وهذه أمور تفصيلية يعرفها علماء السياسة.

4)     المجاراة : 

إذا كان مفهوم التسامح يعني - من ضمن ما يعني - أن تتحمل وتكابد أو تصبر على نشاط إنسان ما، أو فكرة معينة لا توافق أنت عليها؛ فإن الإنسان يستطيع أن يتحمل أو يصبر على موضوع معين سواء كان يستطيع أو لا يستطيع فعل شيء حيال هذا الموضوع. 

ويضرب بريستون كنج مثلاً على هذا أنه يمكن للفرد أن يتحمل تجاوزات مسؤول أو حاكم ما، والذي لا يستطيع عمل شيء حيال سلوكه. وهناك حالات يستطيع فيها الفرد أن يتحمل ويصبر على تجاوزات طفل، حتى لو لم تكن ثمة حاجة لهذا التحمّل. في الحالة الثانية يسيطر الإنسان على نفسه ويتحكم فيها. ولكن في الحالة الأولى لا يملك هذه السيطرة أو هذا التحكم. من هنا يمكن تقديم كلا الحالتين كأمثلة للتسامح، ولكن الحالات من النوع الأول (العجز عن عمل شيء) توصف باعتبارها نموذجاً للمجاراة (وهي سمة نسبها أغلب الباحثين للشخصية المصرية، التي خضع أصحابها طويلاً لقهر سلطة أعلى، ولم يكن أمامهم من سبيل للبقاء والحياة سوى المجاراة). وهناك من الباحثين من يقصر التسامح على النوع الثاني (توفر القدرة أو المقدرة على الاستجابة). فالفرق الجوهري بين الحالتين هو امتلاك القدرة أو عدم امتلاكها.

5)     الاحترام: 

يختلف مفهوم الاحترام عن مفهوم التعايش من حيث كونه يقوم على أسس أخلاقية. ويظهر الاحترام عندما يتحمل أفراد الجماعات بعضهم البعض، ويحترم كل فرد الآخر باعتباره مواطناً في دولة، حيث يجب على الأفراد في شتى الجماعات - أغلبية أو أقلية - أن يحوزوا مكانات اجتماعية وسياسية متكافئة. والواقع أنهم مختلفون بدرجة ملحوظة حتى في معتقداتهم الأخلاقية الخاصة بأساليب الحياة، وفي ممارساتهم الثقافية، ولديهم رؤى مختلفة للعالم، ولكنهم يحترمون بعضهم البعض باعتبارهم متعادلين سياسياً وأخلاقياً، انطلاقاً من أن خلفياتهم العامة في الحياة الاجتماعية يجب أن توجه من خلال عناصر التراث (العادات والتقاليد... إلخ) التي يمكن أن تقبلها كل الجماعات والتي تؤدي إلى تميز إحدى الجماعات على الأخرى.

 6)     الحلم والاعتدال: 

الحلم فضيلة اجتماعية، وهي تشير إلى الميل الإيجابي تجاه الآخرين. فهي نزعة أو ميل داخلي لا يتضح إلا في ضوء العلاقة مع الآخر. كما أن الحلم يقترن بعدم العنف، ورفض ممارسته ضد أي فرد. ولأن الحلم اجتماعي في جوهره، فإنه يقترب من التسامح واحترام أفكار الآخرين وطريقة حياتهم.

7)     قبول الآخر:

 تناول ميلاد حنا4 مفهوم قبول الآخر بتوسع معتبراً أن «قبول الآخر» هو الترجمة الأكثر تعبيراً والأقرب إلى الصواب من مصطلح التسامح كترجمة ل Tolerance. وفى ذلك يقول: «إن ثقافة قبول الآخر ليست فلسفة رومانسية طوباوية، توجه للفقير ليقبل الآخر الثري. وليست دعوة ليقبل الأسود المقهور الآخر الأبيض وهو يفرض سيطرته على الأسود وموارد وطنه، لأن ذلك يعد نوعاً من تكريس الفاشية وسيادة أجناس على أجناس. بالإضافة إلى أن ثقافة الآخر ليست دعوة للمرأة لكي تقبل تفوق الرجل لمجرد إنه رجل، فهذا يوقف مفاهيم المساواة، لأن المرأة إنسان قبل أن تكون أنثى. وهى ليست دعوة لقبول أن هناك شعباً اختاره الله ليميزه على الآخرين، لأن الله خلق كل البشر، وهم لديه مثل أسنان المشط، ليس لعربي فضل على عجمي إلا بالتقوى والإيمان.

 ومن ثم فإن ثقافة قبول الآخر لا تشير إلى التحرر والمساواة وحقوق الإنسان فقط، بل هي ذهنية تدعو إلى الديموقراطية وتكافؤ الفرص، كما أنها تكون بمثابة البداية لتحصين المجموعات البشرية من أمراض الصراعات العرقية والدينية أو المذهبية. وثقافة قبول الآخر سلاح ذو حدين، فإذا أمكن إقناع الشعوب المقهورة بهذه الثقافة دون أن تقتنع شعوب وحكومات الدول القاهرة، فإننا نكون بهذه الثقافة قد ساعدنا القاهر على حساب المقهور. ولكن ثقافة قبول الآخر في مجملها هي محاولة لصياغة عقلية وجدانية ينبغي أن تسود دول العالم جميعاً المتقدمة منها والنامية».

8)     العدالة:

 يلعب مفهوم العدالة دوراً أساسياً في سياق المناقشات الدائرة حول مفهوم التسامح، لأن السياق الخاص بنشأة قضية التسامح بين المواطنين هو نفسه سياق العدالة. كما أن عدم التسامح يمثل أحد أشكال عدم العدالة، أي تفضيل إحدى المجموعات الأخلاقية أكثر من الآخرين بدون أسس شرعية. وهنا يعتبر التسامح فضيلة للعدالة. ومن ثم فإن أساس التسامح وقبول الآخر الذي يقوم على الاحترام والعدالة، هو الإيمان العميق بمبدإ المساواة بين كل الشعوب والجماعات والثقافات، بحيث لا يصبح من حق أي شعب أو أبناء أي ثقافة ادعاء الأفضلية والتفوق على أي شعب آخر أو ثقافة أخرى.

 والخلاصة إننا إذا أردنا أن نكون جزءا من المجتمع العولمي الذي يفرض نفسه علينا فرضاً، ويحتوينا - على غير رغبة منا أحياناً - فلابد أن نمارس التسامح فعلاً لا قولاً. بل أكاد أن أقول «نقدسه» نفعاً لنا، ولمن يتعامل معنا. على أنه من فضول القول التأكيد على أن هذا المجتمع العولمي الذي ربط كافة سكان العالم بهذه الشبكات الاتصالية السريعة، ونحّى أحياناً اللغات القومية لصالح لغة أو لغات عالمية قد جار كثيراً على تراثنا الشعبي وقيمنا التقليدية التي نتوارثها عبر آلاف السنين. هل حقا استطاعت هذه الثورة الاتصالية أن تنسينا تراثنا المفطور على التسامح؟

 هذا سؤال يحتاج إلى معالجة مستقلة، ولكنه ينبهنا على أية حال إلى مشكلة يتغافل بعضنا عنها طلباً للسلامة وراحة البال. إن تراثنا الشعبي السابق على الأديان، والمتفاعل معها - بل الحاضن لها - قد فُطر على التسامح الحقيقي وليس الشكلي .. البديهي وليس المصطنع.

 ولهذا نؤكد أن المجتمع العربي مدرسة في التسامح والتعايش وقبول الآخر على مدى تاريخه الممتد لأكثر من سبعة آلاف عام. فعلى الصعيد الاجتماعي استطاع أن يطور أشكالاً مدنية راقية أثبتت فعاليتها في شتى المجالات: العائلية، والمهنية، والطبقية وغيرها. وعلى الصعيد الثقافي طور تراثاً شعبياً غنياً يتبنى مواقف قمة في التسامح، والبعد عن التعصب، والقدرة على التعايش مع الآخر المختلف.

 وهكذا عاشت على الأرض العربية طوال تلك السنوات الطوال جماعات تنتمي إلى شتى الأديان، والأعراق، وأنماط الحياة، بل العادات والتقاليد واللغات. ولكن هذا التسامح، تلك القيمة الثقافية العظمى، لم يجد من العرب المحدثين من يرعاه ويحميه ويروي شجرته الطاهرة. وتفاعلت جملة من القوى والتيارات والمؤثرات - الخارجية والداخلية - في زرع قيم جديدة تغذي التعصب وتخنق التسامح وتصور الآخر المختلف في صورة الشيطان أحياناً أو العدو المتربص في كل الأحيان. فارتفعت رايات التطرف على أرض الحكمة والاعتدال، وأشعل الفقر المتزايد - الناجم عن الإخفاقات المتكررة للتجارب التنموية - إلى جانب دعوات التطرف الوافدة؛ أشعل كل ذلك موقفاً مشحوناً بالأزمة منذراً بشرور وأخطار لا يعلم إلا الله مداها.

 ولا تقتصر إشارتنا هنا على صور التعصب ضد المخالفين في الدين، أو في الثقافة، وإنما المؤسف حقاً أن تُبعث الحياة من جديد في ممارسات اعتقدنا أنها قد ماتت وراحت أيامها كالثأر. 

 وفى عالم العولمة وعالم القطب الواحد بدأ «الخارج» يُلوّح في وجوهنا بقبضته الثقيلة، يوجه التحذيرات والإنذارات، بل ينشئ اللجان والمراكز والمؤسسات التي تراقب مدى الالتزام بقيم التسامح في شتى المجتمعات والثقافات (وهم في الحقيقة يريدون أن يراقبونا نحن، وأن يحاسبونا دون غيرنا). 

 وهكذا أصبح الوضع الراهن مؤسفاً من عدة زوايا، أو محرجاً من عدة جوانب، فالتسامح يتراجع، والتعصب والكراهية تنشر أجنحتها، والاعتدال يتراجع أمام تطرف متصاعد. ولأننا لم نعد نعيش وحدنا، فقد أصبح هناك من يحاسبنا ويتربص بنا. ومن هنا تكتسب الدراسة العلمية للتسامح أهميتها العلمية والمجتمعية الكبرى. فهي تستهدف إلقاء الضوء على قيمة التسامح الاجتماعي في المجتمع العربي، وأهم العوامل التي تجعل الفرد متسامحاً أو غير متسامح في مواقف التفاعل المختلفة، وكذلك أهم العوامل التي تحكم تصورات الأفراد ووجهات نظرهم تجاه الآخرين وتجاه أنفسهم.

 

 

الموقف الراهن لدراسة التسامح فى علم الفولكلور

 أنفقت من عمري ستة عقود في الاشتغال بقضايا التراث (وخاصة القيم والمعتقدات الشعبية). وقد وفرت لي البيئة الأسرية التي نشأت فيها اطلاعا واسعًا على التراث الديني الرسمي - كتابًا وسنة وأحكامًا - وحفظاً لجزء كبير من القرآن والحديث، وانخراطا في الممارسات والأنشطة الدينية عموما، مع انفتاح اجتماعي إنساني واسع، ومخالطة لأنماط شتى من البشر من مختلف أقاليم مصر، ومن كثير من البلاد العربية والإسلامية (الهند، وباكستان، وبلاد المغرب العربي، وبلاد الشام... إلخ).

ولما دارت بي الأيام وتعمق اهتمامي بدراسة المعتقدات الشعبية وعدت إلى الثقافة المصرية وجدت أن تدينها تدين شعبي لين بسيط غير معقد، متسامح لا يعرف الجمود، يحترم الآخر المختلف ويقبله ويعايشه بكل الرضا. هذا التسامح وتلك الليونة هي سمة التدين الشعبي الأبرز. فمولد ولي من الأولياء فرصة للتعبد، والذكر، والدعاء... إلخ للمسلمين وللأقباط على السواء، وهو إلى جانب ذلك فرصة للترويح والتجارة والتعارف؛ بل هو فرصة لأمور أخرى كثيرة بعيدة عن الدين. فقد عاش المولد في مصر لأنه قطعة من حياة الناس بلا تجزئة مفتعلة، وبلا تطرف منفر. ذلك هو درس المعتقد الشعبي الذى لم يتعلمه الكثيرون، وساووا بينه وبين أصولية دينية تتشبث بقوالب جامدة وتنتقي من ممارسات الناس ما تشاء، وتدين منها ما تشاء، تنزع منهم تلقائيتهم، وتغرقهم في الممارسات الشكلية والمظهرية، التي حولت التدين إلى لباس، وأدعية «محفوظة» تتردد، ولحي طويلة وشوارب محفوفة... إلخ وتجاهلت معاملات الناس مع بعضهم البعض بإنسانية ورقي، وأعادت مسيرة مجتمع متحضر كالمجتمع المصري قروناً إلى الوراء.. تجاهلت فساد الفاسدين، وشجعت التجارة على الإنتاج، وهمّشت المرأة، وبدأت في هز قواعد الدولة القومية لصالح إعادة خلافة إسلامية.

ولهذا كنت أعتقد - ومازلت - أنه آن الأوان أن يلتفت دارسو المجتمع العربي، وبخاصة علماء الفولكلور العرب، إلى تركيز الاهتمام على التماس «ما تبقى من» تراثهم الشعبي يستلهمون منه قدرًا من التسامح واللين نحن أحوج ما نكون إليه الآن.

ومن هنا حرصت على أن يكون من أولوياتي البحثية في حقل الفولكلور - بعد عودتي من البعثة الدراسية - الكشف عن ثراء التراث الشعبي المصري بأفكار التسامح والمرونة وحب الحياة ... إلخ. ولهذا وجهت عددا من الرسائل العلمية التي أشرفت عليها إلى دراسة التراث الشعبي، وخاصة موضوع التسامح. وكانت أولى ثمار هذا الجهد رسالة الماجستير التي أعدها الابن والزميل الدكتور أشرف عبد الوهاب عن التسامح الاجتماعي. وقد وسعها وطورها فيما بعد مركزا الضوء في هذه المرة على علاقته بالتراث، وعلى ما تعرض له هذا التسامح من تغير5. وقد تم إنجاز تلك الدراسة فى إطار المشروع القومي لدراسة التراث والتغير تحت إشراف حسن حنفي وكاتب هذه السطور. وأثمر - بعد ثلاث سنوات - أكثر من عشرين كتابًا وعدة ندوات، جميعها منشورة ضمن مطبوعات مركز البحوث والدراسات الاجتماعية، كلية الآداب، جامعة القاهرة، (في الفترة من 2002حتى 2005). 

 ثم جاءت دراسة الابنة العزيزة نورا حسن أحمد لكي توجه الجهد الرئيسي في المعركة (بلغة العسكريين) على مفهوم التسامح في التراث وأشكاله الضمنية والصريحة6. والحق أن إسنادي هذا الموضوع للأستاذة نورا كان مدفوعاً بسماتها الإنسانية الرفيعة في الفكر والسلوك. وذلك من واقع سنوات تدريسي لها في الدراسات العليا بقسم الاجتماع بجامعة القاهرة. هذه الطبيعة الإنسانية جعلتها تؤدي عملها البحثي فيه بحب تمثل في دأب وإصرار لا يعرف الملل أو التراجع.

 وكان حب الموضوع والشغف به لازما لإنجاز بحثها الذي زاد عن ثلاث سنوات؛ لأن الهدف الذي حددته لها في بداية المشروع كان : الكشف عن التسامح في شتى عناصر التراث الشعبي المصري من واقع مدونات المادة التراثية الشعبية المتاحة (كالموسوعات والدراسات المونوجرافية، والكتب التي تحوي مادة شعبية ... إلخ). وقد يسر لها هذا توفر الأدوات البحثية اللازمة التي ساهم كاتب هذه السطور - مع زملائه وتلاميذه - في إعدادها ونشرها على امتداد نحو نصف قرن.

وقد انتهت المؤلفة في دراستها إلى أن التراث الشعبي يمثل مصدراً أساسياً في تشكيل مقومات التسامح بأبعاده وأنماطه المختلفة؛ حيث يتمتع بمظاهر عديدة تُعبّر عن المرونة والتنوع والتكيف والتعايش باعتبارها ملامح أساسية للاتجاه نحو التسامح. وفي المقابل يمكن أن يكون التراث الشعبي في بعض المجتمعات المحلية التي عانت عهودا طويلة من العزلة المكانية (الجغرافية) ،أو التهميش الاجتماعي والثقافي. مصدرًا لتعميق التعصب والكراهية والانقسام الاجتماعي، خاصة بين الناس الذين ينتمون إلى جماعة واحدة أو إلى جماعات مختلفة داخل نفس المجتمع. هذه ملاحظة تؤكد دور التراث الشعبي في تنمية التسامح، ويرجع هذا الأمر إلى أن التراث الشعبي يُمثَّل محصلة للتجارب الإنسانية المختلفة على مر العصور، والتي تعكس توجهات متعارضة كالحب مُقابل الكراهية، والاستبعاد مُقابل الاندماج، والتعاون في مواجهة التنافر، والتضامن مقابل الفرقة والتشرذم، والإجماع مُقابل الانقسام والاستقطاب. ومن ثم، فإن عناصر التراث الشعبي تمثَّل مجالاً خصبا لتبرير وتدعيم مظاهر ومواقف ومشاهد كثيرة تعبر عن التسامح والتعصب على السواء. ورغم وجود بعض صور التعصب في التراث، فإن هناك أيضا معاني دالة على التسامح في التراث الشعبي ينبغي الكشف عنها والعمل على دعمها وترسيخها. 

وأبرز ما تكشف عنه هذه الكلمات ذلك الموقف الموضوعي الرائع للمؤلفة في تناولها للتراث الشعبي. وأنا أراه موقفاً رشيداً ناضجاً بالقياس إلى سنها الصغير - نسبياً - وخبرتها البحثية التي تتحسس طريقها. فهي لم تتبن موقفًا منحازا إلى التراث يعظّمه على طول الخط، ولا منحازا ضده يركز فقط على ما فيه من سوءات أو نقاط ضعف. لقد أدركت ببصيرتها النافذة - وحسب كلماتها هي - أن التراث إنما يُمثل حصيلة التجارب الإنسانية المختلفة على مر العصور، وهى توجهات لابد أن تحوي بالضرورة عناصر متعارضة .... ولم تنكر أو تتجاهل أنّ عناصر التراث الشعبي المصري - مثلا - كأي تراث شعبي قومي آخر - تمثَّل مجالاً خصبًا ووسيلة ثقافية لتبرير وتدعيم مظاهر ومواقف ومشاهد كثيرة تُعبر عن التسامح، كما تُعبر أحياناً أخرى عن التعصب. وقد يرى البعض أن ملامح التسامح في تراثنا تفوق كثيرًا ملامح التعصب.

 وقد تناولت المؤلفة موضوع التسامح من أربع زوايا، أسمتها هي الملامح الأربعة للتسامح في التراث الشعبي. واتخذت من هذه الرؤية إطارا عامًا لتقسيم فصول دراستها. وملخص رؤية الأستاذة نورا أن التسامح يتسم بالنظرة الإيجابية للحياة.. للوجود الطبيعي وللوجود الإنساني، ويعني أيضًا بالدلالات الخاصة بالتفاؤل والبهجة كما تعكسها بعض عناصر التراث الشعبي المُختلفة. ومن أبعاد التسامح النظرة المرنة لتبرير بعض أنواع التصرفات، وتبرير بعض التجاوزات والتجاوب مع الإمكانيات. أما البعد الرابع فهو رؤية التراث الإيجابية تجاه من هو مختلف، واحترام الآخر، والتواصل، والمصالحة، وممارسات فض المنازعات والعفو بين الجماعات.

 وبعد 

فإننا نستطيع أن نتبين بكل وضوح أن الدراسة الأمينة للتراث على المستويين النظري والإمبيريقي تكشف لنا جوهره المتسامح القائم على الرؤية الإيجابية للوجود الطبيعي والإنساني، واهتمام التراث بالمشاعر الإيجابية المتسامحة كالتفاؤل والحب والبهجة. وتوضح مثل هذه الدراسات أن التراث الشعبي المتوارث إنما يعزز في غير قليل من الحالات الجانب المرن في الحياة، ويفسر المعتقدات والعادات والتقاليد بمرونة، ويعلي من قيمة الصبر والتكيف، واحترام الآخر، وتقبل الاختلاف في السلوكيات بين فئات المجتمع. كما أن التسامح ينبذ الصراعات، ويسمح بالتواصل بين الناس، على نحو ما كشفت عنه فصول هذه الدراسة الممتازة التي أعدُّها فتحا جديدا في مجال الفولكلور التطبيقي. ويقوم هذا المجال الجديد - نسبيًا - على الإفادة من دراسات التراث الشعبي في ترشيد السياسة الثقافية وتنوير العقلية الشعبية والمساعدة في توجيهها إلى الدخول بقدم راسخة إلى ثقافة العصر.

 

 

 مرونة تناقل (أو تداول) التراث الشعبي، ربما تكون إحدى أهم الدلالات على تسامح هذا التراث :

ويحدث ذلك سواء تم هذا التداول عبر الأجيال، أو عبر المناطق الجغرافية، أو بين الطبقات الاجتماعية ... إلخ. وسواء جرى هذا التداول على المضمون (أو على بعض العناصر التراثية) أو كان أطراف هذا التداول أفرادا أو جماعات. 

 لهذا لا نبالغ إذا قلنا إن التفاعل المتبادل بين الثقافات الشعبية لشتى المجتمعات ليس سوى ثمرة للقبول السمح أو المتسامح من جانب كلا الثقافتين المتفاعلتين لتراث بعضهما البعض. معنى ذلك أن استعارة أبناء إحدى الثقافات لعنصر شعبي أو أكثر من ثقافة أخرى إنما هو مؤشر واقعي وأكيد على العلاقة السمحة مع هذا الآخر، إلى الحد الذى يرقى إلى مستوى تبني بعض ممارساته أو عاداته ... إلخ. 

لذلك يؤكد لنا علماء الفولكلور أن دراسات التراث الشعبي لا يمكن أن تقتصر على إلقاء الضوء على تاريخ ثقافة معينة، سواء في ذلك التاريخ البعيد أو القريب، إنما هو يسعى بالأساس إلى الإسهام في تحليل علاقات التفاعل والتأثير المتبادل بين مختلف الثقافات، سواء كانت أطراف هذه العملية التفاعلية ثقافة غربية (أوروبية غالبا) متقدمة وأخرى متخلفة (أو بدائية كما كان يقال خطأ)، أو كان طرفاها ثقافتين متخلفتين. وهي العملية المعروفة في الأنثروبولوجيا الثقافية باسم «التثقف» أو الاتصال الثقافي، وهى الحالة التي تحدث نتيجة لالتقاء ثقافتين مختلفتين. وقد عبر كروبر عن وجهة النظر هذه إلى حد كبير. حيث اعتبره «نتائج التأثير المتبادل بين الثقافات» أو أنه : «تأثر الثقافات من جراء الاتصال بثقافات أخرى». ويصرح كروبر في أحد المواضع بأن «التثقف يشتمل على تلك التغيّرات التي تحدث في ثقافة معينة بتأثير ثقافة أخرى، والذي ينتج عنه ازدياد التشابه بين الثقافتين المعنيتين. وقد يكون هذا التأثير متبادلا أو طاغي التأثير من جانب واحد». 

ونوجز القول بأن دراسات التثقف التي يساهم فيها علم الفولكلور بنصيب الأسد تستهدف اكتشاف ديناميات تغير الثقافة في مواضع اتصال الثقافات، وهي مهمة خطيرة الشأن عميقة الدلالة بالنسبة لأي مجتمع.

 والطريف أن نلاحظ أن العالم الألماني هانز فينكلر قد انتبه إلى أهمية هذه النقطة في دراسته الشاملة للفولكلور المصري وتحديده لها كواحدة من الأهداف النهائية لتلك الدراسة، حيث يقول: «ليست مصر، كما نعلم، جزيرة نائية عن العالم تنمو حضارتها من نفس الجذور على مدى آلاف السنين. وإن كان موقعها بين الصحراء والبحار قد كفل لها درجة كافية من الانعزال، أتاحت لشعبها أن ينمي شخصيته المستقلة. ولكن هذا الشعب كان كغيره من الشعوب في تعامل مستمر متصل مع الشعوب الأجنبية. فإذا ما أردنا التعرف على تاريخ أدوات ووسائل فنية معينة في مصر، فلا بد أن نضع أصلا تاريخ هذه الأدوات والممارسات في الاعتبار .. وقد حاولت قدر استطاعتي أن أحدد علاقات أشكال الأداة أو الوسيلة الفنية ببعضها البعض .. ولكن يجب أن نلاحظ أن تسلسل النسب هذا لا يعطينا بالضرورة التسلسل التاريخي الحقيقي. وإنما يوضح كيف خرجت فكرة من الأخرى. وعملت بعد ذلك على تحديد مكان الأداة أو الممارسة المصرية في داخل تسلسل النسب هذا»7. 

 ويتحقق ذلك من خلال التمسك بوجهة النظر القائلة إن الشعب هو الذي يبدع، وهو الذي ينتج تراثه، ويعبر به عن واقعه، وعن آماله ومشكلاته، وتطلعاته ... إلخ. هكذا دون تدقيق أو تعقيد .

وفى خضم هذا الحماس الرومانسي للشعب وللشعبية رفض أصحاب هذا الرأي النظر إلى الشعب كمستقبل أو مستهلك للعناصر المدروسة المسماة بالشعبية، أو النظر إليه مثلا كمكان تتجمع فيه «بقايا» و«رواسب» تراث نازل من طبقات أعلى، أو مستعار من ثقافة أخرى. 

تلك كانت مرحلة أولى في عصر هذا العلم امتدت على رقعة واسعة من القرن التاسع عشر، كان الدارسون فيها مشغولين بالثقافة الشعبية أكثر من انشغالهم بالشعب، وكان الاهتمام بالعناصر أو المأثورات الشعبية طاغيا على الاهتمام بصانعيها .فقد كانت القضية تأكيد موضوع العلم ومادته دون الاتجاه إلى خوض بحار عميقة، أو الدخول في متاهات غير مأمونة بطرح تساؤلات عن ديناميات إنتاج وتداول هذه العناصر الشعبية. 

 ثم كان من الطبيعي بعد استقرار موضوع العلم واطراد الاعتراف به أن يتجه الباحثون إلى الانشغال بمفهوم الشعب، أو طرح التساؤل عن صاحب (أو صانع) هذه الثقافة الشعبية التي يتخذها هؤلاء الناس موضوعا لبحثهم8. ولقد قطع البحث عن هوية الشعب، صاحب التراث ومبدعه وحامله والمحافظ عليه ؛ قطع شوطا بعيدا استطاع أن يقودنا إلى حل وسط (إن شئنا التبسيط). يقول هذا الحل : 

إن الشعب -كجماعة من البشر- لا يمكن أن ينتج عنصرا معينا، فكل عنصر من عناصر التراث التي ندرسها لابد وأن يكون من صنع أفراد بعينهم. وسواء كان هذا التراث نازلا (أي مصنوعا في الطبقات الأعلى) أو من إنتاج الطبقات الأدنى، فهو في جميع الأحوال من صنع آحاد من الأفراد. وقد يتسنى لنا التعرف عليهم وتحديدهم في أحيان قليلة، ولكننا قد لا نستطيع الوقوف عليهم في أغلب الأحوال. ولا عجب في ذلك، فقد استقر علم الفولكلور على أن مجهولية مؤلف أو مبدع العنصر الشعبي لا تعني بالضرورة لا شخصية العنصر المدروس (كما أنها لا تعد شرطا لشعبية هذا العنصر).

 ولكن دورة حياة العنصر الشعبي لا تكتمل إلا إذا أوضحنا وجهة نظر علم الفولكلور التي تبين أن الشيء الذى يرتبط بالجماعة الشعبية هو تلقي أو إعادة إنتاج، أو تكرار هذا العنصر الثقافي. فهذا التلقي والتداول لا يتم إلا في جماعة. ومن هنا نجد في الغناء أن تأليف النص هو الجهد الإبداعي الفردي، ولكن الغناء هو الشيء المرتبط بالجماعة، فهو الفعل الجماعي. 

القضية الأساسية - إذن - هي أن إنتاج التراث وتداوله وتغيره عملية مستمرة منذ بدء الخليقة ومستمرة إلى الأبد، طالما هناك بشر يولدون ويتفاعلون، ولكنه قد يحدث في بعض مراحل التطور أن تتخذ التغيرات شكل الموجة، ولا نقول الموضة، فهي أقوى عودا من الموضة، وشروط وجودها أبقى وأكثر تجذرا في البناء الاجتماعي الثقافي المحيط .

دراسات التسامح أحد الإسهامات التطبيقية لعلم الفولكلور في مناخ العولمة الراهن :

لا أعتقد أننا بحاجة إلى التأكيد على إمكانية الانتفاع بالمعلومات التي يقدمها لنا علم الفولكلور انتفاعا علميا في حل بعض المشكلات التي تواجه الإنسان في المجتمع. فقد انتبه إلى تلك الحقيقة الجوهرية الغالبية الغالبة من الدارسين الأنثروبولوجيين على مدى تاريخ هذه الدراسات، وإن اختلفت غاياتهم من وراء هذا الانتفاع العملي، كما سيتضح فيما بعد. بل إنه حتى ذلك الفريق من العلماء الذين يحبذون البحث «النظري» أو «البحت» الذى لا يرتبط بأية أغراض عملية، كانوا لا ينكرون أن ما يجرونه من دراسات يمكن أن «يساهم» على نحو أو آخر في تحقيق الرفاهية الإنسانية. 

 والملاحظ أن معظم المشكلات الإنسانية تنطوي على حدوث تغيرات في السلوك، والاتجاهات، والنظم، والعلاقات الاجتماعية. ولذلك ارتبطت دراسات الاتصال الثقافي – وما يترتب عليه من تغير ثقافي – ارتباطا وثيقا بالأنثروبولوجيا التطبيقية سواء في الولايات المتحدة أو في القارة الأوروبية، أو حديثا جدا في بعض البلاد النامية التي نهضت فيها دراسات الأنثروبولوجيا (علم الإنسان)، واحتلت فيها مكانا مرموقا بين فروع العلوم الاجتماعية الأخرى. إذ نجد أن الأفكار التي تخرج بها دراسات الاتصال الثقافي يمكن أن تستخدم عمليا في أوجه متعددة. وليس هذا فحسب، بل إن العديد من المواقف التطبيقية تتيح لعالم الأنثروبولوجيا الثقافية التحكم بشكل وثيق في بعض عوامل التغير، كما تسمح بإجراء اختبار معملي لبعض الفروض والنظريات. فهذا التطبيق العملي يفيد الممارسة اليومية، تماما كما يفيد الفولكلور نفسه كعلم. 

 

الهوامش:
1. جيدنز، أنتونى، عالم منفلت: كيف تعيد العولمة صياغة حياتنا؟ ترجمة محمد محى الدين، القاهرة، ميريت للنشر والمعلومات، 2000، ص ص، 11 - 15.(نقلاً عن أشرف عبد الوهاب. أنظر الحاشية رقم(2)).
2. أشرف عبد الوهاب: التسامح الاجتماعى بين التراث والتغير، نشر ضمن سلسلة بحوث المشروع القومى الكبير:» التراث والتغير الاجتماعي» الذى أجرى في عامي 2003 – 2004 في إطار مركز البحوث والدراسات الاجتماعية بكلية الآداب، جامعة القاهرة تحت إشراف حسن حنفى ومحمد الجوهرى.
3. محمد الجوهري : علم الاجتماع التطبيقي، الإسكندرية، دار المعرفة الجامعية، 1998، ص315_ 359.
4. ميلاد حنا : قبول الآخر، في سلسلة مكتبة الأسرة، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1999، ص ص، 20 وما بعدها.
5. أشرف عبد الوهاب : التسامح الاجتماعي بين التراث والتغير، مرجع سبق ذكره.
6. نورا حسن أحمد، التسامح في التراث الشعبي المصري، مراجعة وتقديم محمد الجوهري، الكتاب رقم(46) في سلسلة الثقافة الشعبية، الهيئة المصرية العامة للكتاب ،القاهرة،  2019.
7. (1)هانز فينكلر، الفولكلور المصرى، المجلد الأول، ترجمه عن الألمانية محمد الجوهرى، وصدر عن المركز القومى للترجمة، القاهرة، 2023. 
8. وقد توصل عالم الفولكلور السويسرى ريشارد فايس إلى معادلة ذهبية  تحل هذا الموقف، وتفك الاشتباك بين التأكيد  على الشعب في مقابل التأكيد على الثقافة التقليدية (أو التراث). وهى تحتم علينا في رأيه ألا نغرق أنفسنا في الاشتغال بمفهوم الشعب وإلا تحول علم الفولكلور إلى علم نفس الشعب أو علم نفس شعبي، ولا نغرق - من ناحية أخرى- في الاشتغال بعناصر الثقافة التقليدية (دون الالتفات إلى مبدعيها ومستخدميها) فتتحول إلى علم دراسة العاديات، أى إلى دراسة مواد ميتة منفصله عن مبدعيها وعن حامليها.ويضرب المثل فيقول : لا نقصر أنفسنا على دراسة قطع الزى، ولا نقتصر على التساؤل عن الإنسان الذى يلبسها، ولكن ليكن موضوعنا هو «اللبس» أي فعل اللبس أو وظيفة اللبس.أنظر المزيد في كتابنا: دراسات في علم الفولكلور  (بالاشتراك )،  دار عين للنشر، القاهرة، 1998، ص 131.
 
الصور :
- صور مولدة باستخدام الذكاء الاصطناعي .

أعداد المجلة