بغيت صاحبك دوم؟
العدد 64 - عطف نسق
« إذا بغيت صاحبك دوم حاسبه كل يوم » مثل شعبي ذكره مواقع ألكتروني1 باعتباره مثلا شعبيا بحرينيا. استوقفني لأنه ذكرني مباشرة بالمثل الفرنسي الشهير «les bons comptes font de bons amis» وترجمته الحرفية : «الحسابات الجيدة تصنع أصدقاء جيدين». وهو من حيث المعنى يبدو قريبا جدا من دلالة المثل البحريني. فهل يمكن أن نعده مقابلا له، حاملا لفحواه؟ علينا بدءا أن نتأكد من أمرين أولهما هل المثل بحريني؟ وأما الثاني هل بين مضرب المثلين لقاء؟ هاتفت صديقا، عارفا بالثقافة الشعبية البحرينية، مستفسرا، فلم يثبت المثل. ولم يقره بحرينيا إلا بعد لأي. مما رجح لديّ أن المثل ربما يكون طارئا على الوسط البحريني، لذلك لم يبادر صديقي إلى إقراره. عندها آثرت أن أسأل عددا من الشباب، بعضهم له صلة بالثقافة وبعضهم الآخر لا علاقة له بها من قريب أو من بعيد. فأكدوا لي جميعا أن المثل متداول في مناطقهم. ورجح أحدهم أنه ربما يكون دخل إلى الثقافة الشعبية البحرينية عن طريق المسلسلات العربية. وعندما ذكرت لمحدثيّ قرب دلالة المثل البحريني من معنى المثل الفرنسي وقد شرحته لهم، ذهب بعضهم إلى أن المثل البحريني لا يتصل بالمال فحسب وإنما هو يشمل كل أنحاء الحياة التي يمكن أن تجمع الأصدقاء. وبعودتي إلى «موسوعة الأمثال الشعبية في دول الخليج العربي» للأستاذ محمد علي الناصري تأكد لدينا أن المثل متداول في منطقة الخليج العربي حيث يرويه باختلاف بسيط «إذا تبغي صاحبك دوم (...)»الناصري، ص.43. ولا يخفى علينا أن منطقة الخليج فضاء ثقافي واحد، ونسبة المثل إليه تعني نسبته إلى كل قطر فيه. بل إن الأمر يتخطى هذا الفضاء إلى المنطقة العربية كلها. ولا معنى في تقديري للتشبث بجنسية واحدة للمثل. فالفضاء الثقافي واحد مهما تعددت الحدود. ونعتنا له بأنه مثل بحريني لا يحول دون رؤيتنا له مثلا شعبيا عربيا متداولا. ورحم الله محمد علي الناصري حيث يقول «لما كانت الأمة العربية تستقي من نبع واحد وهو اللغة العربية الأم، نجد أمثالهم في كل زمان وفي كل مكان متقاربة اللفظ ومتماثلة المعنى» الناصري، ص9.
يروى المثل على طول المنطقة العربية روايات مختلفة ( العراق: تريد صاحبك دوم حاسبه كل يوم؛ مصر: إذا كنت عاوز صاحبك يدوم حاسبه يوم بيوم ...الخ)
أما الرواية البحرينية وقد بتنا نعدها إحدى الروايات المتداولة لمثل منتشر على طول المنطقة العربية وعرضها فهي تستجيب بامتياز إلى كل خصائص المثل: الإيجاز والتنغيم والبنية. أما من الناحية اللغوية فقد انبنى المثل بنية شرطية تلازمية مما يكسبه بعدا دلاليا دائما زمانا ومكانا لا تتحقق دلالة جملة الشرط إلا بتحقق جملة الجواب ( إذا أداة الشرط، بغيت صاحبك دوم : جملة الشرط ، حاسبه كل يوم : جملة جواب الشرط ) كذلك توافقت نهاية القسم الأول صوتيا مع نهاية القسم الثاني منه في صياغة مركزة وجيزة، يسرت حفظ المثل واستحضاره في آن معا. ومعنى «حاسبه» وهو فعل أمر من حاسب يتعلق في الأرجح بمجال المال سواء كان عينا أم نقدا وإلا فما معنى المحاسبة كل يوم إذا كان ذلك يتعلق بسائر مجالات الحياة؟ وقد ذهب أحد العارفين بالثقافة الشعبية البحرينية عند سؤالنا له إلى القول «بحسب المراجع التي تصدت لشرح المثل يضرب المثل لضرورة محاسبة الشركاء لبعضهم بصورة دورية لتدوم الشراكة»2. أما الناصري فيقول «يضرب في الحث على فعل الأمور الصريحة وعدم الإهمال في المعاملة وحذرا من وقوع ما من شأنه التفرقة بين الأصحاب» الناصري، 44 وهو تعريف عام جدا لا يكاد يتعين معه شيء. لذلك أميل إلى ما يذهب إليه الأستاذ حسين محمد حسين فيما أشرت إليه آنفا. ذلك أن المال في كل الثقافات هو مدخل الخلاف بين المتعاملين، الأصدقاء والأقارب على وجه الخصوص. ويتأكد الأمر إذا كانت استباحة المال قائمة على شيء من استبلاه الشريك والاستخفاف به والاستهانة بذكائه. في هذا المعنى جاء المثل الفرنسي الذي ذكرناه في البداية ومؤداه أن الصداقة الجيدة تقوم على المحاسبة الدقيقة. وهو وإن كان يركز على مجال المديونية حيث من الضروري أن يحاسب المدين دائنه على آخر فلس هو مدين به حتى تستمر العلاقة بين الطرفين وتدوم، فإنه يشمل كل مناحي النشاط الاجتماعي التي تجمع رفاقا يلتقون ويجتمعون ويتجالسون. فالمجموعة لا تقبل بأن يتأخر أحدهم عن المساهمة في تسديد ثمن ما استهلكته، متظاهرا كل مرة بأنه منشغل بطارئ ما.
أما ما يذهب إليه أحد الشباب من أن المثل يتجاوز المال ليشمل كل أنحاء الحياة كالتأخر عن الموعد أو المخالفة في الرأي أو الإصرار على المزاح الثقيل، إلى غير ذلك مما يحدث بين الأصدقاء، فأحسبه بعيدا عن معنى المثل. إذ ما معنى أن يحاسب المرء صديقه دائما في كل صغيرة وكبيرة ؟ فعظائم الأمور ينبغي ألا تحصل بين الأصدقاء ذلك أن مجرد حصولها هو إيذان بنهاية الصداقة ولا ينفع عندئذ لا لوم ولا حساب . وأما الصغائر فمن السخف أن تظل مجال أخذ ورد وحساب دائم بين الأصدقاء. وقديما قال الشاعر:
إذا كنتَ في كلّ الأُمـور معاتِبًا صديقك لم تلقَ الذي لا تُعاتبه
فعش واحدا أو صل أخاك فإنه مقـارفُ ذنـبٍ مـرًّة ومـجـانـبُه
ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلّها كـفى المرءَ نبـلا أن تُـعدَّ معائبُه
فقد تحصل بين الأصحاب معاتبات ولكنها لا تصل إلى المحاسبة الدائبة . لكن المجال الوحيد الذي يحتمل ذلك أعني المحاسبة الدائمة هو مجال المال. ولهذا رجحت أن يكون مضرب المثل متصلا به وكنت أميل إلى التفسير الذي اتجه وجهته. ومن منطلق ذلك اعتبرت المثل البحريني معبّرا بامتياز عن فحوى المثل الفرنسي .
1. موقع المرسال
2. يتعلق الأمر بالأستاذ حسين محمد حسين كان التواصل معه عبر الواتساب