المدينة العربية كموضوع للعلم الاجتماعي
العدد 64 - التصدير
المدينة العربية لم تعد موضوعا يخص الجغرافيين أو المهندسين أو مخططي ومهندسي المدن، بل بات كموضوع يخص جل العلوم الاجتماعية والإنسانية. بل باتت المدينة كموضوع تستهوي دارسي اللغة والادب وعلم النفس.. وغيرها من العلوم الاجتماعية والإنسانية. وعلاقتي بموضوع المدينة كموضوع سوسيولوجي لربما برزت في ثمانينيات القرن الماضي مع دراستي للعمالة الأجنبية في الخليج وانعكاس مناطق سكناها على أوضاعها الاقتصادية والاجتماعية، بل وصلاتها مع التراتبيات الاجتماعية المختلفة داخل المجتمع الوافد بالمقارنة بالمجتمع المحلي. ولربما بعد ذلك ببعض السنين دراسة أثر التكنولوجيا على التحولات الاجتماعية والاقتصادية في القرية الخليجية. وما نحاول تأكيده هنا أن دراسة المدينة كموضوع هو من الاتساع كفضاء دراسي كما أن مجالات هذه الدراسات تختلف باختلاف الإطار الجغرافي الذي تتم فيه المعالجة. فدراسة المدينة العربية يختلف في آلياته وأدواته عن دراسة المدينة في أوروبا أو الولايات المتحدة الامريكية أو دراسة المدينة في المجتمعات الناهضة في آسيا: في اليابان والصين، وكوريا الجنوبية، وسنغافورة... وغيرها. وهي مدن في بعضها قد نشأت كمحصلة لحالة النهوض الاقتصادي-الرأسمالي الذي جاء على هذه المجتمعات خلال الخمسة او السبعة عقود الماضية. وبالمثل فإن الحديث عن المدينة العربية قد يأتي معه بتساؤلات عديدة قد يكون أولها الإطار الجغرافي الذي تقع فيه هذه المدينة. هل هي مشرقية الموقع أم مغربية. فالمدن المشرقية تحمل سمات محددة قد لا تحملها المدن المغربية. كما أن بعض هذه المدن وتحديدا الشرق أوسطية كمدينة القاهرة ودمشق وصيدا وغيرها قد اكتسبت الكثير من سمات القوى والامبراطوريات التي خضعت لها هذه المدن. فالزائر مثلا لمدينة القاهرة لا يستطيع إلا أن يدرك أثر الدولة العثمانية وقبلها الدولة الفاطمية والامبراطوريات الإسلامية وقوى جنوب أوروبا كاليونان وإيطاليا وفرنسا... وغيرها، على العمران وعلى تسميات هذه المدن. بالمقابل فإن الزائر للمدن المغربية لا يستطيع إلا أن يدرك أثر الدولة الأموية في الأندلس ولربما دول الساحل الافريقي على عمران هذه المدينة وهو عمران يكاد أن يمتد في بعض سماته مع بعض مدن دول شمال أفريقيا. كما أن هذه المجالات تمتد لتشمل المكونات الإثنية والعرقية والدينية التي تشكلت هذه المدن في إطارها. وهي مكونات تُكسب هذه المدن كذلك سماتها وطابعها وهو ما يميزها عن المدن الأخرى.
وبشكل عام فإن المدينة العربية تثير عند الزائر لها رؤى وتخيلات بعضها واقعي وبعضها الآخر تخيلي أو انطباعي، يتناقله الزائرون عن هذه المدن من روايات وحكايات.. بمعنى عندما تتحدث عن مدينة عربية معينة، فإن ذلك يستدعي لديك تصورات ورؤى عن سكان المدينة ونمط الحياة فيها وعن أوجه الترفيه والتسلية والمتع المتنوعة داخل هذه المدينة، بل عن سلوك وطباع أهلها..
فالمدينة العربية في مصر ولبنان والمغرب واليمن... وغيرها بالنسبة للبعض هي تلك المدينة المكتظة بالسكان، والتي تتميز بكثرة مقاهيها القديمة أو بأحيائها التقليدية التي يتسكع الأفراد فيها، وتتميز أيضًا بكثرة مساجدها ودور العبادة المختلفة والمقامات والأضرحة والتي تكسب المدينة جزءا من هويتها العربية والإسلامية. كما وقد يقع على أطراف المدينة العربية القديمة، ما يُسَمَّى في بعض الدراسات بأحزمة الفقر ذات الأزقة الضيقة، والتي يتسم البناء فيها بالتجاور وأحيانا بتجاوز أنظمة البناء وشروطه، كما وتفتقر إلى العديد من الخدمات الاجتماعية المختلفة. كما أنها المدينة العربية، وفق قول أحد الكتاب الغربيين، يقضي أفراد هذه المدينة مشوارهم مَشِيًّا على الأقدام. وهي في ذلك، أي المدن العربية الكبيرة، تختلف بِشَكْلٍ كَبِيرٍ عن المدينة في الخليج، التي يقضي الفرد فيها مشاويره سائقا لسياراته. وفي المدينة العربية، ربما هذا جزء من الخيال الغربي، أن الخِمَارَ الأسود يُلَفُّهُ نِسَاؤُهَا، وربما يضفي إليها هذا قدرا من التقليدية في مقابل المدن الحديثة.
في المقابل هذا الشكل القديم من المدينة، تشكلت مدن فرعية أو أحياء أو مدن جديدة، باتت مغلقة على بعض شرائح الطبقة الوسطى الجديدة ولربما شرائح من الطبقات العليا، وتقارب في تصاميمها، المدن والأحياء الأمريكية والأوروبية، ويتواجد فيها العديد من مجمعات التسوق الضخمة التي تتنافس فيها أشهر الماركات العالمية، وتنتشر فيها سلاسل المقاهي والمطاعم ذات الأسماء (البراندات) العالمية المعروفة. وتعتبر هذه المقاهي والمتاجر والمطاعم مقاصد لأبناء هذه الطبقات الوسطى والعليا ووسيلة لانتقال أنماط الحياة الجديدة والتي تحاكي في بعضها أنماط الحياة والسلوك في المدن العالمية المتسمة بالكسموبوليتية..
وتمثل هذه الثنائية أو الثنائيات، ظاهرة باتت تتشكل وفقها حياة المدن العربية المعاصرة، فهي ثنائية تمثل في جانب منها القيم التقليدية درجة أعلى من قيم الحداثة، وقد تظهر في الجانب الآخر بعض نزعات قيم الحداثة أعلى من القيم التقليدية. وتتداخل هذه الثنائية في سلوك الناس وفي العمليات الاجتماعية وفي شبكة علاقاتهم المختلفة. وهي ثنائية شكلت في بعضها سلوكهم الحذر تجاه الآخر المحلي. وهي ثنائية تبرز في فترات ومناسبات الاحتفالات الدينية في مقابل الآخر الذي تبدو الحداثة في ملبسه ومأكله ومشربه وفي المناسبات التي يحتفي أو يحتفل بها. وفي احتفالاتهم بأعياد رأس السنة وأعياد ميلاد أطفالهم وكبارهم. وغيرها.
في مقابل هذا النموذج الذي قد يكون سائدًا في أغلب بلاد العرب في مراكزها التقليدية، أو ما يُطلق عليه حينها باسم «المركز العربي»، هناك مدن جديدة ناشئة في المنطقة العربية ومنطقة الخليج. وعلى أطراف المدن القديمة أو بعيدة عن ضوضائها تسكنها في الغالب مجموعات من الطبقة الوسطى الجديدة وبعض الشرائح العليا الجديدة من الذي تسمح دخولهم بشراء بيت ثان للعطلة الأسبوعية أو مسكن آخر جديد للعائلة. وهي مجاورات تأخذ من سمات الحداثة الكثير ويتطبع أهلها في سلوكهم العام والخاص بهذه القيم. وهي مدن تقع في الغالب بعيدا عن مراكز المدن القديمة.
وتتسم معظم مدن الخليج بكونها في معظمها مدنًا حديثة التشكل وهي بهذا إما أن أطرافها القديمة قد تم محوها أو أنها بالكامل مدن حديثة البناء وهي بهذا لا تمتلك قدرا من العمق التاريخي أو الثقافي الذي تتسم به العواصم العربية الكبرى. ولربما قد لا تجد كثيرًا فيها ما يوصلك إلى ماضي هذه المدن، أي قد لا تمتلك الروابط التاريخية بنفس القدر الذي تمتلكه المدن العربية الأخرى. والمدن الخليجية تتكون من أحياء أو مدن يسكن أجزاء منها المواطنون المحليون، ولكن في أجزاء أخرى من هذه المدن تسكن الجاليات الاجنبية العاملة في هذه المنطقة في إطار من التراتب الطبقي والمهني، وأغلب هؤلاء من العاملين في المهن والأنشطة المربحة ماليا في مباني أكثر ارتفاعًا وتشبه المباني السكنية في المدن الحديثة التكوين في سنغافورة وهونغ كونغ وماليزيا، بينما يعيش المواطنون في الفلل التي تتفاوت في مستواها وتعكس هذا، التفاوت الطبقي القائم في هذه المجتمعات.
خلاصة القول هنا إنّ بعض المجتمعات والسلطات الرسمية العربية تلجأ إلى إنشاء تجمعات سكنية جديدة شبه مغلقة على سكانها سواء كانوا محليين أو وافدين من المستويات الطبقية العليا وبعض الوسطى. وقد تكون هذه الظاهرة شائعة في بعض مناطق الخليج العربي، أو في بعض البلاد العربية التي تنزع بعض شرائح طبقاتها الوسطى والعليا نحو قدر من النزوح نحو تجمعات سكنية جديدة لا يتسق أفرادها فحسب من حيث الانتماء الطبقي وإنما هي قد تبدو متسقة من حيث سلوكها واتجاهاتها الاجتماعية ولربما توجهاتها الفكرية.
كلمة أخيرة وهي أن السنوات العشر أو أكثر الأخيرة أخرجت لنا الكثير من الدراسات للمدن العربية والخليجية والتي عالجت أوجهًا مختلفة من المدينة العربية بأفق ومناهج فكرية جديدة في العلوم الاجتماعية...وتبقى الحاجة للمزيد من الدراسات الجادة المعنية بالمدينة وتحولاتها وهويتها أو هوياتها في منطقة الخليج العربي.