فصلية علمية متخصصة
رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم
العدد
67

تجربتي في جمع الموروث الشعبي المرتبط بصناعة السفن في البحرين

العدد 63 - نافذة على التراث الشعبي البحريني
تجربتي في  جمع الموروث الشعبي المرتبط بصناعة السفن في البحرين

 

الجمع الميداني، بمثابة الأساس الذي يرتكز عليه البحث العلمي، فهو عملية جمع البيانات حول التراث الشعبي للثقافات المختلفة، إذ يتم العمل على هذا الجمع من قبل الباحث، وتفريغها وتحليلها وإعادة صياغتها لتكون مادة غنية تتعلق بالموضوع المبحوث، سواءً في الأدب الشعبي، أو العادات والتقاليد، أو المعتقدات، أو غيرها من المعارف الشعبية والإرث المتوارث عبر الأجيال.

يمثل الجمع للتراث المادي وغير المادي، تحدٍ من حيث الصعوبات التي تواجه الجامع، فخلال اشتغالي في الجمع لإعداد دراستي لنيل درجة الماجستير، الموسومة بـ «توثيق المأثورات الشعبية المرتبطة بصناعة السفن في مملكة البحرين»، واجهتني مصاعب ميدانية جمة، في جمع المأثور الشعبي المتعلق بصناعة السفن، وإعداد المقابلات مع الرواة والإخباريين، حيث عملت جاهداً على ترتيب كافة الاحتياجات والمتطلبات، والنزول إلى الميدان كأي باحثٍ آخر. وكحال العديدين، ظننت بادئاً أن الجمع الميداني مسألة بالغة السهولة واليسر، لكن ما إن نزلت إلى واقع الميدان، حتى اتضح بأني أخطأت التقدير، لأُجابه بعمل بالغ الصعوبة، مشوب بالعديد من العواقب والمتاعب، ومن هذا المنطلق أدركتُ ما ينبغي على الباحث أو الجامع إعداده قبل أي عملية جمع؛ ينبغي عليه اتخاذ الاحتياطات اللازمة، من إعداد الأسئلة الخاصة بالبحث، وتحديد مشكلة البحث، وفرضياته، وأداة القياس، ومجتمع الدراسة، وترتيب كافة الأمور الأخرى.

وفي الحديث عن الأسئلة وآلية استخلاص المعلومة كلامٌ طويل، غير أنيّ  مؤمن بأن الجامع ينبغي عليه أن يتحلى بسرعة البديهة مع الرواة والإخباريين، وأن يكون قادراً على التفاعل معهم في سبيل استخلاص المعلومات. كما يتطلب منه القدرة على إعادة الرواة إلى مسار الموضوع، من خلال تحوير الأسئلة، بصيغٍ متعددةٍ تخدم أغراض البحث، للظفر بإجابات دقيقة من المسؤول.  

كما لا يغيب عن الجامع أهمية جهوزيته بكافة معدات العمل الميداني وجاهزيتها، من قبيل شحن الأجهزة الإلكترونية المستخدمة في التوثيق، والاستعانة بأجهزة احتياطية، للاستخدامات الطارئة، واختيار الأمكنة الملائمة لإجراء التسجيل أو التصوير. وفي حال رفض الراوي أو الإخباري تصويره أو تسجيل صوته -عديد من الرواة من كبار السن يرفضون توثيقهم بالأجهزة الحديثة لأسباب ومعتقدات متأصلة في ذهنيتهم- فإن على الجامع اللجوء للتدوين التفصيلي، مع الأخذ بعين الاعتبار الإعداد المسبق للاستمارات، وبطاقات البيانات التي توثق تفاصيل موقع وزمان الجمع، وتفاصيل الراوي وكل ما يتعلق بالبحث، وفي الوقت ذاته، الحفاظ على سرية بيانات الراوي وخصوصيتها.

وينقسم الرواة والإخباريون إلى عدة أصناف، ينبغي على الجامع وضع الاعتبارات الخاصة بها، فمنهم المتفهم، والمتعلم، والمثقف، والأُمّيّ، إلى جانب ذلك، نجد الأحوال السيكولوجية المختلفة كالمتعاون بلطف، وشديد العصبية، وسريع الغضب، وفي سبيل نجاح الجمع، لابد من امتلاك آليات التعامل مع هذا التنوع، فمثلاً في حالة الراوي أو الإخباري شديد العصبية، ينبغي على الجامع زيارته عدة زيارات مسبقة، بغرض خلق نوع من الألفة، وأن يتلافى الإلحاح عليه، فأنا مؤمن بأن لكل إخباري مفاتيح يستطيع الجامع الدخول من خلالها إلى أعماق تفكيره، وكسب وده، وبالتالي الحصول على البيانات المراد جمعها.

كذلك قد تصادف نوعا من الرواة والإخباريين الذين لا يحدد وقتاً محدداً، فيعدك بلقائك بعد صلاة الظهر أو العصر، عوض تحديد ساعة محددة، وربما يأخذ في الإسهاب، دون تقيد بزمن محدد، فضع في اعتبارك أن تخصص فسحة من الوقت لمثل هذه اللقاءات.

ولتبيان أهمية تحين الفرصة، في ظل صعوبات الظفر بها وصعوبة التعامل مع الرواة والإخباريين، دعوني أحكي لكم ما تعرضتُ لهُ أثناء الجمع. فذات يوم، قصدت إخبارياً أعرفه معرفةً شخصية لمقابلته، وكان طاعناً في السن، فطلبت منه تحديد موعد لمقابلته، فردّ عليّ بلهجةٍ عامية: «ما عندك سالفة. الناس والبها على نفسها (تعني: بالكاد يحتمل نفسه)، وشله تبي (لماذا تريد) تسجل سوالفنا؟»، فشرحت له هدفي من الجمع، وأني أُعد دراسة جامعية، بالإضافة لاهتمامي بالتراث والجمع. فلم يبد اهتماماً لطلبي، فاستأذنته بلهجةٍ عامية بتدوين ما يقول، فرد: «أنت ما عندك سالفة، وشلك بهاذي السوالف، روح شوف لك مهره تستفيد منها!»، وعني بهذا: «مالك والإعتناء بهذه الأمور.. اذهب للبحث عن عمل يعود عليك بالنفع»، فخرجت منه بـ «خفي حُنين»، بيد أنيّ لم أيأس، إذ كان هذا الإخباري كنزاً من المعارف المتعلقة بمجال بحثي، لهذا قررت زيارته عدة زيارات، وأخذت أحدثه في العديد من المواضيع، ومنها الموروث وذكريات الماضي، فانطلق يسترجع الذكريات، حينها أخبرته بأني سوف أدون حديثه، فلم يمانع!

لهذا على الجامع، أن يتهيأ لمثل هذه المواقف، وأن يضع نفسه موضع الجهوزية، وإن تمكن من اختيار المكان المناسب لإجراء المقابلات التسجيلية، فليحرص على ذلك، تلافياً لأصوات الضجيج في الخلفية، كما ينبغي عليه الحرص على الجهوزية التي أسلفنا ذكرها، وفي حال تطلب الأمر الاستعانة بزميل باحث أو صديق، فينبغي على الجامع أن يبين له آليات العمل، ويشرح له كافة التعليمات، لكي يؤدي عمله بالصورة الصحيحة، وبالشكل المطلوب، ذلك أن العمل الميداني فرصة لا تعوض، ويجب على الباحث استغلال وقت المقابلات استغلالاً صحيحا، فالجمع يستدعي وقتاً وجهداً كبيرين، لكي يثري به موضوع دراسته بكافة المعلومات والبيانات التي ستزيد الموضوع رصانة وإيفاءً.

كذلك وأثناء جمعي، رتبت موعداً مع إخباري يسمى الحاج عيسى المهيزع، رحمه الله، وهو ربان سفينة سابق «نوخذة»، وورث عن عائلته الكثير من سفن صيد اللؤلؤ، كما عاصر تلك الحقبة، حيث أخبرته بموضوع بحثي، وأبدى تعاوناً كبيراً في تزويدي بالمعلومات المتعلقة بالمأثورات الشعبية المتعلقة بصناعة السفن في البحرين، كما جالست أقرانه ممن يملكون خبرةً في هذا المجال، بالإضافة لخبراتهم في صيد الأسماك واللؤلؤ، وكانوا إلى جانبه، متعاونين ومتفهمين إلى أبعد الحدود، ولديهم من الخبرة والمعارف الكثير. 

استمتعت بالحديث مع هؤلاء، وبالأخص الحاج عيسى الذي حدثني بلهجة عامية قديمة، وأوضح لي المصطلحات والمعاني، وكان رحباً في الإجابة على أسئلتي دون ملل أو تذمر. كما زودني، خلال هذه المقابلة، بالكثير من المعلومات والمعارف المتعلقة بهذه الصناعة، وبما يقترن بها في الموروث الشعبي.

وفي إحدى المواقف التي واجهتني، كنت في مقابلة مع الحاج علي راشد بوهيلة، رحمه الله، وقد وافق على تصوير اللقاء، وفي الأثناء، نفذت البطارية، ما اضطرني لإكمال المقابلة بالتدوين، فقد كان رجلاً غزير المعرفة، ومتعاوناً ولا يمانع التوثيق بأيٍ من الوسائل. ومن النماذج التي تمر على الجامع، نموذج متعاون بالغ التعاون، فذات يوم قررت مقابلة النجار الحاج رضي أحمد حسن، للتعمق حول الأخشاب المستخدمة في صناعة السفن قديماً، ومن أين تجلب؟ فأفاض عليّ بكم من المعلومات، وبتفاصيل عن نوع الخشب، وتسمياته، وعلى أغاني العمل. وقد قابلت هذا الراوي عدة مقابلات، حتى أنهُ ما إن يتذكر معلومة لم يسبق ذكرها، يتواصل معي لموافاتي بها، فكان متعاوناً شديد التعاون لإنجاح البحث، وتوثيق الموروث.

كذلك صادفت خلال جمعي، رواة وراويات، يعانون من مشاكل صحية، خاصة في حاسة السمع، فتراهم يجيبون على أسئلتك بعد إعادة طرحها عدداً من المرات، بصوتٍ عالٍ، ليتمكنوا من سماعها جيداً. وفيما يتعلق بالنساء، كن متحفظات، لا يسمحن بالتسجيل أو التصوير بشكلٍ مطلق، ولهذا كنتُ أضطر للتدوين، رغم سلبياته، مقارنة بالتسجيل الصوتي أو التصوير الفيلمي.

هذه بعض الصعوبات التي قد تواجه الجامع أثناء جمع مواد الموروث الشعبي، لكن لا ينبغي لهذه الصعوبات وغيرها، أن تثنينا عن الجمع، فالرواة هم الركيزة الأساس لتوثيق هذا الموروث، بما لديهم من كمٍ هائل من المعلومات التي ينبغي علينا كباحثين أن نعنى بتوثيقها والاستفادة منها قبل رحيلهم، فهم حملة إرث الآباء والأجداد، وهم خزين موروثنا الشعبي. 

 

أعداد المجلة