فصلية علمية متخصصة
رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم
العدد
67

قراءة في كتاب «تحليل الخطاب اللغوي للأمثال الشعبية»

العدد 63 - فضاء النشر
قراءة في كتاب «تحليل الخطاب اللغوي للأمثال الشعبية»
كاتب من الأردن

اللغة هي ثقافة مجتمع، لا تنفصل عن مركزيتها، والمجتمع بثقافته الفكريّة وصروف حياته، لا يُمكن أن نتتبع منه نتاجاً تاريخياً لجماعة، إلا بالتعبير عنه في اللّغة، فتظهر أهمية التلازم المصيريّ بين اللّغة والمجتمع، فهي الأداة التي تُعرب عن الأحداث الاجتماعيّة المُتمثلة في أطيافها، فضلاً عن أنها تصون عادات المجتمع ومعتقداته، وتحفظ هويته، فاللغة تتجاوب مع معطيات الحياة، وتحقق اجتماعيّة الفرد؛ بكونه كائناً اجتماعياً، يعبر عن ذاته وعلاقاته من خلال لغته.

وهذا الكتاب ( تحليل الخطاب اللغوي للأمثال الشعبية ) من تأليف إيمان محمد قاسمية من منشورات دار كنوز المعرفة بالأردن، هو من أحدث الدراسات التي توظف (نظرية تحليل الخطاب) في مجال (التراث الشعبي )بشكل عام (والأمثال الشعبية )على وجه التحديد، وقد صدر عام 2021 ، تبرهن المؤلفة من خلاله على تواشج العلاقة بين اللغة والمجتمع التي تمد جسوراً على تُخوم الأمثال المٌنبثقة عن المجتمع بتصوراته الجماعيّة، ووقائعه الحيّة، وحصيلة الأحداثِ الاجتماعيّة والفكريّة، التي تتخلل جزيئات الحياة الإنسانيّة...في العمل والبيت والعائلة والمهام البشرية المتنوعة .

ويرى دارسو الأدب أن الأمثال جنس أدبي شفوي يرقى لمراتب الفصاحة، المُتمثلة في إيجاز اللفظ، وإصابة المعنى، وحسن التشبيه؛ فكان من شأن هذه الدراسة البحث في مكنون الأمثال التي تشكل مرجعيّة كلما احتاج عضو من أعضاء المجتمع أن يدعم رأيه في مدار حديثه ومحاوراته الاجتماعيّة، بحجة دامغة في الاستعانة بمثل من الأمثال التي تناسب المقام وتُثبت وجهة رأي مستخدمها وصواب فكره...وتدعم حجته بطريقة بليغة وأسلوب لغوي شائق.

تؤكد المؤلفة أنّ الأمثال تشكل موضوعاً جادًا من موضوعات البحث اللّغويّ الاجتماعيّ، إذ تُعدّ جزءاً من ثقافة المجتمع التي تعكس هويته، فهي تشكل محوراً لمجمل أبواب الحياة الاجتماعيّة وأوجهها، تحمل بين ثناياها جوانب شتّى عن أحوال المجتمعات القديمة وطرائق تفكيرها وعاداتها، بحيث استطعنا من خلال الأمثال أن نكوّن أفكارنا وأحكامنا عن المجتمعات وثقافتها وطرق عيشها في كثير من الأحيان .

ومما يهم المعنيين بنظرية تحليل الخطاب أن الأمثال تحتفظ بصيغتها الأصليّة أكثر من أي نوع آخر من الاساليب اللغويّة، فلا يدخلها شيء من التغير والتحوير فهي تحتفظ بصورتها المنطوقة، دون أيّ تغيير، فتجري كما جاءت عن العرب؛ لذا فلا بد من الاشتغال والتباحث بدراسة الأمثال في حفظ مصدر من مصادر التراث العربيّ، وإغناء الدراسات التي تدور حولها، مما دعت الحاجة إلى الاهتمام بها، ومحاولة النظر إليها نظرة معاصرة، تؤكد طواعية هذا الإرث الثقافيّ الذي تتجلى فيه الاثنوجرافية الفكريّة والأخلاقيّة، فضلا عن النواحي الأنثروبولوجية التى يعنى بها علماء المجتمع والإنسان.

وتشير الباحثة إلى قول( عفيف عبد الرحمن ): إن ميدان دراسة الأمثال العربيّة ما زال بِكْرا لم يُدرس بعناية، وحريّ بالباحثين اليوم أن ينهضوا بعبء دراستها، دراسة موضوعيّة تفيد من وسائل العصر ونظرياته، وعلوم المعرفة المختلفة، فجاءت هذه الدراسة التي هي بالأصل رسالة ماجستير تلقي الضوء على «قاموس الأمثال العربيّة التراثيّة» لجامعها (عفيف عبد الرحمن )، ويرجع سبب اختيار قاموسه دون غيره، بداءة إلى أنّ هذا القاموس لم يحظَ بالاهتمام والدّراية؛ وثانيًا: أنّ الباحثة وجدت أنّ هذا الكتاب قد أوفاها حقّها، فهو يضم نيّفًا وسبعة آلاف مثل، عِلاوة على أنه لم يكتفِ بالاعتماد على كتب الأمثال المنشورة فحسب، بل تتبع الأمثال في مظانّها المتعددة من كتب الأمثال و المعاجم وكتب الأدب والموسوعات وكتب النحو واللغة؛ مما يعطي هذا الكتاب ثُبوتًا في الاختيار.

وعلى هذا الأساس كانت هذه الدراسة محاولة لتقصي رؤية اجتماعيّة نابعة من عمق المجتمع، بتسليط الضوء على أحد فروع اللسانيات الحديثة، وهي اللّسانيّات الاجتماعيّة. وهي دراسة جديرة بالنظر؛ كونها تعتمد الأمثال مرجعاً ومنطلقاً، كما أنها لم تتوقف عند حدود القاموس المختار، بل ستوسع رؤاها إلى مجاميع الأمثال القديمة، استئناساً وإحاطة حسبما تقتضيه شروط المنهج الوصفي التحليلي الذي اتبعته الكاتبة

وقد هدفت هذه الدراسة إلى:

- التحقُّق من الأبعاد التداوليّة، التي تتجلى في الأمثال العربيّة، لما تمثله من خبرات للأفراد والجماعات وسلوكياتهم. ومعتقداتهم في الأمثال، التي تكسب الجماعة شيئا من ماضيها يكون أداة للضبط الاجتماعيّ.

- إعادة إحياء التراث بتعزيز التراث الثقافيّ والاجتماعيّ، والكشف عن أهم المضامين الأخلاقيّة، بعدّها نتاجا اجتماعياً وأداة للتوجيه.

وهذه الدراسة تهدف كذلك إلى الإجابة عن السؤال الآتي: كيف نستفيد من الأمثال العربيّة في نقل الحَراك الاجتماعيّ والثقافيّ لمجتمع ما؟ ويتفرع عن هذه الغاية الأسئلة الآتية:

- كيف تجلّت المظاهر الاجتماعيّة في مضمون الأمثال؟

- ما القيم الاجتماعيّة السائدة التي انطوت عليها الأمثال؟

- ما المكانة الاجتماعيّة التي تحتلها المرأة كما تجلّت في الأمثال وما أبرز صورها؟

- كيف استطاع المثل التعبير عن عادات المجتمع ومعتقداته في حالاته المتعددة؟

وبالطبع تتبع هذه الدراسة المنهج الوصفيّ التحليليّ؛ الذي يقوم على وصف الظاهرة، بجمع البيانات من المراجع والمصادر ذات الصِلة لبناء الأطر النظريّة للدراسة، وتحليلها تحليلاً دقيقاً؛ لاستخلاص النتائج في الكشف عن المضامين الخفيّة الذي اقتضى تصنيف الأمثال في حقولٍ مُنتخبة وَفق موضوعات مدروسة، واختيار طائفة منها، ومن ثَمّ تحليل هذه البيانات في ضَوء اللسانيات الاجتماعيّة وتحليل الخطاب تحديدا .

وبالحديث عن الدراسات السابقة، لم تجد الباحثة دراسة عنيت ببحث هذا الموضوع في قاموس الأمثال العربيّة التراثيّة خاصة، ولكن وقفت الباحثة على دراسات قريبة من منهج البحث، ولعل هذه الدراسة هي الدراسة البكر في ضوء اللّسانيات الاجتماعيّة مستضيئة بما قُدِّم من الدراسات السابقة، التي أفادت هذه الدراسة من مناهجها، وحاولت هذه الدراسة أن تركز على جوانب أخرى لم تتعرض لها تلك الدراسات، مثل دراسة ريم أيوب، مضامين الأمثال الشعبيّة: دراسة اجتماعيّة تحليليّة للأمثال الشعبيّة الموصليّة، رسالة ماجستير غير منشورة، جامعة الموصل، العراق،2004م. ولا تصنّف هذه الرسالة ضمن الدراسات اللسانيّة، بل تنسب إلى علم الاجتماع، واعتمدت الباحثة على المنهج التحليليّ في دراسة المجتمع لتحليل الأمثال، واستأنست بالمنهج المقارن لتباين أوجه التشابه بين الأمثال الموصليّة والبغداديّة.

أما دراسة عيسى عودة برهومة، التجليات الاجتماعيّة في المشهد اللغويّ العربيّ من خلال مجمع الأمثال للميدانيّ، مجلة الأقصى، فلسطين، ط2006،1م.فتبحث هذه الدراسة عن أهميّة كتاب مجمع الأمثال، الذي اتخذّه الباحث موضوعاً للدراسة، باستجلاء المشهد اللغويّ الاجتماعيّ في ظل العلاقة القائمة بين اللغة والمجتمع، التي عدّها الباحث علاقة مصيريّة تاثيرية. واتّبع الباحث المنهج الوصفيّ التحليليّ، في تناوله صوراً من الحياة الفكريّة في الأمثال، ممثلة بالأدب، والشعر، والخطابة، والنقد، والقصص الخرافيّة، وانتقائه صوراً من التربيّة في الأمثال العربية، متمثلة في القيم الأخلاقية، وتمثّل ملامح الطبيعة، والمعتقدات التي آمن بها العرب. ولقد استعانت الباحثة الحالية بمحاور هذه الدراسة التطبيقية التي ساعدتها في دراستها.

في حين سعت أماني سليمان، في دراستها الأمثال العربية القديمة: دراسة أسلوبية سرديّة حضاريّة، المؤسسة العربيّة للدراسات والنشر، ط1 ،2009م.إلى تحليل الأمثال وفق مداخل منهجيّة متنوعة؛ فتناولت خصائص الأسلوب في الأمثال مستخدمة أدوات المنهج الأسلوبيّ. كما درست قصص الأمثال دراسة سرديّة في ضوء مناهج السرديّات، وحاولت الإفادة من مناهج العلوم الإنسانيّة والنقد الثقافيَ في تحليل النصوص. وتعرضت للتحليل الدلاليّ من خلال تأمل الدلالات الاجتماعيّة للأمثال من محاور مختارة، تتصل بالمرأة والطبقات الاجتماعيّة، ونفّذت ذلك على مجمع الأمثال للميدانّي.

كما قام بلال أحمد الشوابكة في، معجم الألفاظ العاميّة المستخدمة في الأردن رسالة ماجستير، جامعة الشرق الأوسط، عمان، 2015م، بتوضيح أبعاد الحياة الاجتماعيّة في إلقاء الضّوء على بعض (الألفاظ العاميّة) المستخدمة في الأردن، بمنظور لسانيّ. واعتمد الباحث على المنهج الوصفيّ التحليليّ في محاولته التبصّر بالجدلية القائمة بين اللغة والحياة الاجتماعيّة الأردنيّة، والمؤثرات اللهجيّة الداخليّة والخارجيّة في إحداثاته المُعجميّة، والكشف عن ظاهرتي الازدواجيّة اللغويّة والثنائيّة اللغويّة.

لكن الباحثة تشير إلى أن كوثر عماد بدران، في كتابها الأمثال العربيّة في موسوعة حلب المقارنة: دراسة لغويّة في ضوء اللسانيّات الاجتماعيّة، رسالة دكتوراة، جامعة العلوم الإسلامية العالميّة، عمّان، 2017.

ألقت الدراسة الضّوء على الأمثال الشعبيّة في موسوعة حلب المقارنة، وأشارت إلى نشأة الأمثال وخصائصها، وحاولت الجمع بين الحالين الاجتماعيّ واللسانيّ، أي وفق اللّسانيّات الاجتماعيّة. فتطرّقت الباحثة إلى السّياقات اللغوية في الأمثال العامّية، خاصة باللهجة الحلبيّة وغير اللغويّة كالسّياق الانفعاليّ، والثّقافيّ، والمقاميّ، وإلى المستويات اللغويّة، فضمّت كلاًّ من خطاب الذّكر وخطاب الأنثى، والأسرة والقبيلة، ومنظومة القيم، والبيئة المحيطة بما فيها من ألفاظ، واتّبعت في ذلك المنهجين الوصفّي والمقارن.

والجميل أن الدراسة الحالية التى نعرض لها لإيمان قاسمية (تحليل الخطاب اللغوي الاجتماعي للأمثال العربية) استأنست أيضاً بدراسات أخرى، أبرزها، دراسة أبي علي، محمد توفيق، الأمثال العربيّة والعصر الجاهليّ، الذي حاول الإفادة من مجمل مناهج البحث، وأكثر ما يُفيد منها المنهج البنيويّ، وأبرز نتائج دراسته كان إثبات انتساب الأمثال إلى الأدب الجاهليّ بوصفه نثراً فنياً ذا قيمة بلاغيّة.

ويتضح للقارئ كيف تشترك الدراسة الحالية مع بعض تلك الدراسات السابقة في أنها اعتمدت في دراستها للأمثال على منهج تحليليّ، بيد أن تلك الدراسات التي تناولت الأمثال في ضَوء اللسانيّات الاجتماعيّة، اقتصرت دراستها على الأمثال العاميّة (الشعبيّة) بقطر معيَّن من الوطن العربيّ، وكانت هنالك إضاءات في دراسة الأمثال العربيّة الفصيحة دراسة اجتماعيّة، توظف مفاهيم النظريّة السوسيولوجيّة في أبعاد المثل وقصّته، فأضحى من المسائل الملحّة؛ لفهم بعض الممارسات التي تظهر في المجتمع، المُرتكزة على كشف واقع المجتمع بأفراده، كواقع المرأة، التي تقوم الأمثال بدورها المنوط في توضيح معالم محيطها وأدوارها الاجتماعيّة بصورة حرفيّة، على عكس ما نرى صورتها في الشعر القائم على زخرفة الواقع المبني على العاطفة والبحث عن المثالي وليس الواقعي.

جاءت هذه الدراسة في مُقدّمة، وفصلين؛ أحدهما نظريّ وثانيهما تطبيقيّ، وخاتمة: وقد تضمنت المقدمة أهمية الدراسة، وهدفها، وبعض الدراسات التي بحثت في الأمثال، وذكرت الباحثة فيها كذلك أجزاء الدراسة، وأسئلتها التي تدور عجلة البحث فيها. ويتحدث الفصل النظريّ عن أهم المُصطلحات المِفتاحيّة المُتجلّية في تحليل الأمثال، وهو ينقسم إلى مبحثين : يناقش المبحث الأول، تعريف المثل لغة واصطلاحاً في كتب اللغة والمعاجم، كما يستعرض أهم خصائص المثل، ويُبرز الفرق بين المثل والحكمة، من ثم يناقش مسألة اللغة والفكر، واللغة والاتصال بما يخدم الدراسة. أما المبحث الثاني، فيتطرق إلى الحديث عن العلاقة بين اللغة والمجتمع، مُبرزاً المنهجيّة المُتبعة في التحليل، أي وَفق اللسانيات الاجتماعيّة وتحليل الخطاب... فيقوم بالتعريف به، بما يعضد الموضوع، من ثَمّ يعرض للمشهد الاجتماعيّ بأمدائه.

وقد جاء الفصل التطبيقيّ معنيا بالتجلّيات الاجتماعيّة في الأمثال، الذي ينقسم إلى ثلاثة مباحث:

- يدرس المبحث الأول، القيم الأخلاقية المستشفة من الأمثال العربيّة، التي تضّم أبرز القيم الاجتماعيّة المحمودة، المُتمثلة بالكرم، والشجاعة، والوفاء..، كما تدرس الصفات الاجتماعيّة المذمومة عند العرب، مثل: البخل، والجبن، والغدر.. أما المبحث الثاني، فيكشف عن صورة المرأة في الأمثال بأدوارها الاجتماعيّة، يذكر صورة المرأة في الحضارات القديمة، ثم يستعرض حال المرأة في الجاهلية والإسلام، ويستشف مكانة المرأة في الأمثال ومعاملتها كالسَّبي، والوأد..، ثم يقف عند صفات المرأة المحمودة والمذمومة.بينما يتحدث المبحث الثالث، عن العادات والمعتقدات التي أشارت إليها الأمثال، فيضمّ مطلبين: يتناول الأول العادات المُستخلصة من الأمثال، منها الزواج، والرِّهان، وشرب الخمر، والميسر، والصيد..، والثاني يتناول المُعتقدات المستقاة من الأمثال، منها: الاعتقاد بالأصنام، والاعتقاد بالجن، والتطيّر..

وبينت خاتمة الدراسة أهمية تناول الأمثال وفق مناهج لسانية اجتماعية كمنهج تحليل الخطاب، الذي يمثل أداة مهمة للكشف عن العلاقة الوطيدة بين الجانب اللغوي للأمثال وما ينطوي تحته من دلالات اجتماعية تقف بنا على مضمرات العلاقة بين الأمثال وبيئتها الاجتماعية والثقافية بوجه عام، وربما كانت هذه الميزة البارزة التي ميزت هذه الدراسة الحديثة في مقاربة الأمثال العربية القديمة وفق منهج بحثي معاصر.

أعداد المجلة