فصلية علمية متخصصة
رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم
العدد
67

في بعض أنماط الوعي بالمتخيل

العدد 8 - آفاق
في بعض أنماط الوعي بالمتخيل
كاتب من المغرب

1- سؤال المتخيل في الفكر الغربي

يرى أفلاطون في محاورة «فيدون»  أن المرء إذا أمسك بالصورة فإنه تمكن من الإمساك بالروح. وفي عُرف هذا الفيلسوف أن هذه العملية ليست في متناول أي كان، ولاسيما من يبقى من الناس مشدودا إلى العالم الحسي. إذ الحكيم وحده، المالك لقواه العقلية، هو الذي يستطيع التخلص من إغراءات الأشياء المادية، للكشف عن حقائق الصور والجواهر.

ومهما يكن من أمر هذا التصور المثالي، باعتبار أن الحقيقة يستحيل امتلاكها في عالم الواقع مادامت تسكن عالم المثل، وعملية التقاطها متوقفة على عقل تأملي متعال، فإن أفلاطون، وإن ألح على تثمين قيمة العقل وجعله أداة وحيدة للانتقال من الحسي إلى العقلي والمثال، فإنه في نفس الآن، أفسح المجال للمخيلة وللقدرة التخيلية على خلق عوالم غير مرئية بشكل محسوس.  

إن الفلسفة بحكم اعتمادها الكبير على العقل أهملت، بأشكال متفاوتة، الملكات الأخرى للإنسان، من مخيلة وحس.. الخ، لأنها تعتبر أن المخيلة عنصر يشوش على عمل العقل، كما يقول ديكارت، لذلك يتعين إقصاؤها من عملية المعرفة، لأن هذه الأخيرة هي نتاج فعل عقلي خالص يتخذ من مبادئ العقل منطقه ومرجعه.

قد تحصل الإشارة إلى المخيلة من زاوية اعتبارها تنتمي إلى مجال نظرية الأدب أو النقد الفني أو تخص عالم التصوف والأديان، ولكن أن يهتم بها داخل حقل التفكير الفلسفي فإن ذلك لم يحصل إلا في حالات نادرة جدا. لا شك أن للمنطق الفلسفي اعتباراته المبررة في تعامله مع موضوعات المخيلة والمتخيل، إذ تلتقي فيها الأساطير والحكايات والقصص والأحلام وكل الإنتاجات الرمزية التي تتخطى ضوابط العقل. لكن تهميشها والنظر إليها وكأنها تشوش على العقل معناه التعامل مع الذات الإنسانية من زاوية أحادية لا ترى فيها إلا العقل. وأما الحلم والمتخيل والحواس..الخ فإنها، على الأقل، ما دون مستوى العقل. غير أن الإنسان ليس عقلا وحسب، كما أنه ليس وعيا وحسب. بل إنه كائن «تناقضي» يحتمل في كينونته الرغبة والحلم والعقل والواقع، وتعتمل في داخله كل الملكات، وتصطرع لتتفجر في أشكال لغوية ورمزية قد يطغى عليها الجانب العقلاني، كما قد تعبر عن سمات جمالية لا تخضع بالضرورة للنسق العقلي السائد. ثم إن ما يسمى بالعقلي أو العقلاني هو، في الأساس، نتاج تربية ورؤية وثقافة، وبالتالي تعبير عن نظام وعن سلطة. وهكذا تغدو تعبيرات المخيلة والصيغ الرمزية المتعددة التي لا تستجيب، ضرورة، لمقاييس العقل، تجاوزا للنظام وخروجا عن قيم التربية وتشويشا على السلطة. هذا ما تعتقده النزعة العقلانية على الأقل.

غير أن ابتكارات الحداثة، منذ القرن التاسع عشر إلى الآن، ثوَّرت النظرة إلى الصورة وإلى إنتاجات المخيلة بشكل لا مثيل له، فاكتشافات الصورة الفوتوغرافية، والسينما، والتلفزيون وازدهار صناعة الكتاب وتوزيعه..الخ خلخلت صرامة الخطاب العقلي وأصبحت رموز هذه الاكتشافات وإنتاجاتها تتواصل مع متخيل الإنسان أكثر مما تتحاور مع عقله. وانتقلت، بمختلف تعبيراتها ومجالاتها، من منطقة الظل والهامشية إلى موقع أصبحت فيه مادة مرئية تتغذى بها العين في كل اتجاه اتخذته. وتحولت المدينة الحديثة إلى خزان رمزي ودلالي تحتل فيه الصورة مكانة استثنائية. وكأن التغيرات الجذرية التي أسستها الحداثة، والرموز البصرية التي تنطبع على كل فضاءات المدينة المعاصرة، تعطي أكثر من مبرر لاستدعاء القولة الأفلاطونية التي تؤكد على أن «المرء الذي أمسك بالصورة فإنه تمكن من الإمساك بالروح».   

لا نسعى إلى القول بأن الصورة في الزمن المعاصر هي روحه الوحيدة بالضرورة، وأننا نسترشد في مقاربتنا للصورة والمتخيل بخلفية أفلاطونية، بل ما نود التأكيد عليه هو أن الصورة، باعتبارها نتاجا من إنتاجات المخيلة والحس الإبداعي، أصبحت أداة حاسمة من أدوات التواصل سواء اعتمد هذا التواصل على العقل أو على غيره من الملكات التي يحوزها الإنسان. وغدت رموز المتخيل، بالتالي، مصدرا من مصادر التبادل على الصعيد الثقافي والإنساني.

تشكل الكتابة بمختلف أجناسها وأساليب تعبيرها، كما الإبداع مجالا غنيا للعمل التخيلي، وهو بصوره ومجازاته وتشبيهاته وأساطيره يمكن أن يخلق فرصة للحوار الثقافي، أحيانا، أكثر مما يمكن أن يوفره اهتمام عقلاني صارم. فالكتابة والفن بوصفهما تجليا للمخزونات الواعية واللاواعية لجسد الكاتب والفنان، هي، في مبدئها، نداء متميز. كما أن النص المكتوب يمثل دعوة للقاء بين متخيل الكاتب والقارئ المفترض. الذي هو بدوره سيقرأ من منطلق متخيله الرمزي الخاص. وداخل هذه العملية إما أن يحصل التفاعل وإما أن يستقر التباعد. ففي جدل الكتابة والقراءة تتحدد علاقات قوى غير مفكر فيها بالضرورة، ولكنها غالبا ما تتدخل في فعل الكتابة والقراءة بحيث يغدو هذا الجدل إما تكثيفا لإرادة هيمنية وإما تعبيرا عن إرادة حوارية.

غير أن الميل إلى الهيمنة أو الرغبة في الحوار لا يعبر عنهما إلا داخل ما يسميه «بول ريكور» بـ «الممارسات المتخيلة» إذ أن الهيمنة أو الحوار يستدعيان الآخر بالضرورة. وسواء أكان مشابها لنا أو مختلفا عنا أو معنا، فإن هذه «الممارسات المتخيلة» لا تخرج عن مجالي الإيديولوجيا واليوتوبيا Utopie. وإذا كان لكل من هاتين الممارستين خصائصهما ومنطلقاتهما وغاياتهما فإن الفرق الجوهري بينهما هو أن اليوتوبيا تشكل جنسا أدبيا معروفا، يعلن عن ذاته كيوتوبيا.. ووجوده الأدبي يمكن مقاربته من خلال كتابته، بينما الإيديولوجيا لا تعلن عن نفسها باعتبارها كذلك، لأنها غالبا ما تفضل الاختفاء والتستر. فالكتابة كنداء قد تروم الاستقطاب كما قد تستهدف التفاعل المتكافىء. لذلك فإن المتخيل يمثل مستوى تعبيريا يكثف تجليات الجسد وصيغ اللغة وأشياء الواقع، وهو بقدر ما يجمع بينها، أي بين الجسد واللغة والواقع، فإنه يفصل بينها، لأن المتخيل يتميز دوما بالتوتر سواء في اتجاه توظيف إرادة للقوة أو في أفق الانطلاق والتحرر.

ربما يبدو على هذا الكلام شيء من المبالغة، كأن يقال مثلا: ما شأن المتخيل بالهيمنة أو بصراع القوى أو بالتحرر...الخ. مادام هذا المتخيل يعبر عن نفسه من خلال صور وحكايات وأساطير تتعالى بالضرورة عن الواقع وتتخذ من ذاتها مرجعها الأسمى. ثم ما علاقة الكتابة بالاستقطاب أو الاختلاف مادامت تصوغ نصوصا تتقصد التبادل الثقافي من خلال نداء للتواصل والتفاعل؟  

إن كل هذه الاعتراضات ممكنة. إلا أن المتخيل باعتباره مجالا لانبجاس الرموز لا يكتفي بإعادة صياغة الأشياء أو ترتيب الصور والحكايات. لأنه بقدر ما يورط الذات الفردية في عملية إنتاجه يتجاوزها ليلتقي باعتبارات ما يسميه بول ريكور بـ «المتخيل الاجتماعي». وهنا تدخل لعبة التحرر والدمج أو الاختلاف والتطابق. سواء كان ذلك على صعيد الثقافة الوطنية أو على مستوى الأدب الكوني. الأمر الذي أدى بريكور إلى القول بأننا لن نمتلك السلطة الإبداعية للمخيلة إلا ضمن علاقة نقدية مع هذين الشكلين من الوعي المغلوط. ويقصد الأيديولوجيا واليوتوبيا. على اعتبار أن الأولى تتستر وتموه في صياغة خطاباتها. وأن الثانية تنسج أحاديث يتجاذبها الاستيهام والإبداع، وتتأرجح بين الرغبة في الهروب والتطلع إلى المكوث. إن اليوتوبيا بحكم كونها تنفصل عن الواقع وترتمي في عوالم متخيلة تخلق وعيا منفصما، في حين أن المتخيل، بالرغم من أنه يتعالى على الواقع، فإنه حاضر في الحياة في كل لحظة من لحظات التواصل اليومي، سواء مع الذات أو مع الآخر، لأنه يكسر التكرار ويخرج عن أطر المألوف التي تميز اللغة المعادة، ويخلق إيقاعا زمنيا خصوصيا ممتدا لا علاقة له، بالضرورة، بالزمن العام. حين يخلق المتخيل هذه الزمنية الخاصة فإنه، في حقيقة الأمر، يبدع وجودا مختلفا يوفر إمكانية التوازن الذاتي أو الجماعي.

لا تبتعد عناصر المتخيل عن مناطق النظر والفكر والعمل. ولاسيما حينما يتعلق الأمر بثقافة يتداخل فيها القديم والجديد، التقليدي والحديث، ويسعى منشطوها إلى النظر والتعامل مع الواقع بإيقاعين يفتقدان الخلفية التركيبية، أو التصور الدقيق لمفارقات التاريخ والثقافة.

2- المتخيل والعقل

عمل الغرب منذ فلسفة الأنوار إلى الآن على الجمع بين مستويين اثنين من مكوناته: إنتاج ذاته وعناصر هويته من جهة، ونقد هذه الذات وتحولات تلك الهوية من جهة ثانية. تارة يتم هذا النقد باسم العقل وتارة أخرى يتخذ هذا النقد شكل سلب جذري لما هو كائن، وتارة ثالثة باسم اللاعقل وإعادة الاعتبار للمتخيل.. الخ وهكذا نحت تاريخ الأفكار الغربية طرقا وأساليب متعددة جعلت منه تاريخا يجمع بين مقاربات وحساسيات متصارعة ومتباينة تصل أحيانا إلى درجة التنابذ والإلغاء المتبادل.

ومعلوم أن الحداثة الفكرية الغربية قد تأسست بعض مقوماتها منذ العقلانية الديكارتية التي تحولت، شيئا فشيئا، إلى عقلانية نقدية ذات بعد إنساني مع فلسفة الأنوار، إلى أن توجت في القرن التاسع عشر  الذي شهد نشوء القواعد التحتية لكل من العلوم التجريبية والعلوم الإنسانية.

لقد وجدت الحداثة الغربية ما يسند ويعضد مشروعها على المستوى العلمي والإيديولوجي، لذلك حاولت إقصاء كل ما يزعج حركتها وما يشوش على معقوليتها. وعملت بالمقابل على إدماج كل ما يغني ممارستها وما يساعد على تثبيت كونيتها.

هذا التوتر الداخلي الذي ميز الحداثة الغربية عملت الفلسفة الحديثة والمعاصرة على صياغته بأشكال وطرق مختلفة. ولم تقتصر الفلسفة، بسبب ذلك، على تثبيت الهوية وترسيخ المطابقة والتغني بالعقل والوحدة..الخ بل اخترقتها تيارات معاكسة تقول بالاختلاف والتناقض واللاوعي والمتخيل والمتعدد...الخ. فالبرغم من سيطرة العقلانية التي استطاعت تأسيس عناصرها في شكل مؤسسات وعلاقات، فإن اتجاهات أخرى دعت إلى الانفلات من ضوابط العقل –ولاسيما في تعبيراته القمعية- ونبذت الوحدة وقالت بالاختلاف.

لقد أحدث ديكارت تحولا هائلا في صيرورة الفكر الغربي حين أكد على اعتبار العقل الأداة الأساسية لاكتساب المعرفة، والملكة التي تعطي للكائن قيمة لوجوده. وتأكيده على العقل يفترض استبعاد كل ما يشوش على عمل العقل والتقليل من أهمية ما لا يستجيب، ضرورة، لمقتضياته وضوابطه. لذلك اعتبر ديكارت أن المخيلة «سيدة الخطأ والضلال». وهكذا يكون مؤسس العقلانية الفرنسية، ومدشن الحداثة الغربية على الصعيد الفكري، قد سطر للفلسفة كيفية الانتقاص من القيمة الوجودية للصورة ولعمل المخيلة، وفتح المجال لإقصاء أهمية المتخيل Imaginaire من الفعل الإبداعي للإنسان ككائن عاقل ولكنه متعدد القدرات في نفس الآن.

لا يهمنا، في هذا المقام، التأريخ لعملية إقصاء المخيلة والمتخيل من التراث العقلاني الغربي، ولاسيما الفرنسي منه. ولكن يتعين القول بأن موقع المخيلة في فلسفة ما وشكل الخطاب الذي تسلكه هذه الفلسفة لتحديد هذا الموقع يؤشر على بعدها الأنطولوجي العميق ويكشف عن بعض عناصر توجهها الأساسي.

والحديث عن المخيلة بهذا الشكل لا يعني أن هناك نزعة صوفية تتحكم في خلفية هذا الحديث أو أن لا عقلانية ما تريد أن تؤسس تبرمها من العقل باتخاذ المتخيل ذريعة لها. بل ما يهمنا هو الرغبة في تلمس دلالات مفهوم المتخيل في بعض لحظات الفلسفة الغربية والوقوف، بشكل أساسي، عند الإسهام الحاسم الذي يقدمه الفيلسوف الفرنسي «جيلبير ديران» في هذا المجال.

3- المتخيل والوعي

إذا كان ديكارت حكم على المخيلة  بالتهميش في فلسفته، واعتبرها مصدرا للتشويش والخطأ، فإن كانط أعطاها أهمية مختلفة تماما في فلسفته الترنسندنتالية. ففي نقده للعقل الخالص حدد المخيلة في موقع وسط بين الإدراك والفهم. ووساطتها هذه يصعب الإمساك بها في عملية التحويل من الحساسية إلى الفهم. ذلك أنه لا يرى في المخيلة مصدرا للمعرفة بقدر ما يعتبرها إطارا موحدا لمصدري المعرفة: الإدراك والفهم.

هل معنى هذا أن كانط يدخل المخيلة كجزء في عملية تحصيل المعرفة، حينما اعتبرها إطارا لتوحيد كل من الإدراك والفهم؟ وهل يمكن القول إنه مع كانط حصل نوع من إعادة الاعتبار للمخيلة في الفلسفة الحديثة؟

 لا نريد أن نُفصِّل كثيرا عند تعرضنا لهذين السؤالين. المهم أن كانط في نظرته للمعرفة أعطى دورا معينا للمخيلة ولم يعتبرها «سيدة الخطأ والضلال» كما هو الشأن عند ديكارت. بل إن كانط وهو يرى في المخيلة إطارا توحيديا للإدراك والمفهوم فإنه يسلم، بالضرورة، بكون المخيلة شرطا «قبليا» لوحدتهما؛ إذ بفضلها يحصل التراكم وتتوفر إمكانية إصدار الأحكام..الخ، هذا من جهة ومن جهة أخرى فإنه من الواضح أن كانط أعطى للمخيلة شرعية الحديث عنها في عملية المعرفة حين أدخلها في التركيب العام الذي يتم بين الإدراك والمفهوم. ومن ثم رفع عنها تهمة التشويش على العقل وإزعاج طمأنينته.

لا يعني هذا أن الموقف الكانطي سيغير من استمرار العقلانية في تهميش المخيلة، بل على العكس من ذلك فإن الحداثة الغربية، ولاسيما أثناء القرن التاسع عشر، أسست مقوماتها القاعدية، سواء من حيث أساسها المادي والمؤسسي أو من حيث الاكتشافات العملية التجريبية منها والإنسانية، أكدت على أن العقل وحده يمكن أن يضبط المجتمع ويصنع التقدم. أما المخيلة والمتخيل فهي ليست من موضوعات الثقافة العَالِمَة بقدر ما هي قضايا تشغل العامة في خيالاتها واستيهاماتها.

غير أن الاتجاه الفلسفي الذي عمل على إعادة النظر في أهمية المخيلة في الفكر وأعطاها بعدها الوجودي المناسب، هو الاتجاه الفينومينولوجي. فأصبحت كلمات مثل صور Image، ومتخيل Imaginaire، ومخيلة Imagination، وتخيل Fiction عناصر أساسية من المفهوم الفينومينولوجي للعالم والوعي والواقع والأشياء.

فالصورة عند سارتر مثلا هي «التنظيم التركيبي الكلي للوعي»1 باعتبار أن الوعي ذو طبيعة راهنة وعينية، يوجد في ذاته ولذاته، ويمكنه أن يعطى للتفكير بدون وساطة. ومن ثم تغدو الصورة تعبيرا عن علاقة الوعي بالموضوع: «أن تدرك، وأن تفهم وأن تتخيل. هذه النماذج الثلاثة التي من خلالها يمكن للموضوع نفسه أن يعطى لنا»(2).

بهذا المعنى أصبحت للمتخيل وظيفة معينة في الحياة النفسية للإنسان. فليس من المقبول القول بأن الصورة أو المخيلة تزعج عمل العقل، كما قال ديكارت وغيره من العقلانيين، أو تحد من نشاط الفكر. لأنه ليس هناك أي تعارض بين الصورة والفكر في نظر الفينومينولوجي، إذ يتخذ الفكر أحيانا شكلا مصورا حين يعبر عن درجته الإدراكية أو حين يريد تأسيس ذاته على نظرة ما للموضوع. ولكن مع ذلك، فإن موقفنا تجاه الصورة يختلف تماما عن موقفنا تجاه الموضوع. لأن الموضوع، في شكل صورة هو شيء «لاواقعي». لا شك أنه حاضر، غير أنه لا يمكن الإمساك به أو لمسه أو تغيير مكانه، أو بالأحرى يمكن أن يتم ذلك ولكن شريطة أن يحصل بكيفية لا واقعية: «إن المخيلة ليست سلطة تجريبية أو مضافة إلى الوعي، بل إنها الوعي بأكمله حين يتحقق. فكل وضعية عينية وواقعية للوعي في العلم تكون مشحونة بالمتخيل حين تتقدم دائما باعتبارها تجاوزا للواقع»(3)

لا يمكن لأي إدراك للواقع أن يتحول إلى متخيل، ولكن عند سارتر، مادام الوعي يوجد، باستمرار، في «وضعية» معينة لأنه حر على الدوام، فإن هناك، في كل لحظة، إمكانية فعلية لإنتاج اللاواقع بالنسبة له. إلا أن: «اللاواقع يتم إنتاجه خارج العالم من طرف وعي يبقى في العالم. إن الإنسان يتخيل لأنه حر ترنسندنتاليا»(4). يتجاوز المتخيل الموجود ويتخطاه ولكنه يتمثل في كل لحظة المعنى الضمني للواقع. ولذلك إذا كان السلب –أو التجاوز- هو المبدأ اللامشروط لكل مخيلة، فإنها بالمقابل، لا يمكن أن تتحقق إلا في ومن خلال فعل تخيلي. إذ ينبغي أن نتخيل ما نتجاوزه: «إن ما يشكل موضوعا لسلب ما لا يمكن أن يكون واقعا، إذ سيصبح الأمر إثباتا لشيء نسلبه. ولكنه لا يجوز اعتبار أن ما ننفيه عدما تاما لا يمكن أن يطرح إلا كمتخيل»(5).

وهكذا فإن امتلاك الواقع باعتباره عالما يؤدي إلى تجاوز مستور نحو المتخيل. وكل وعي متخيل يحافظ على العالم كعمق معدوم  néantisé للمتخيل. وبالمقابل، كل وعي بالعالم يستدعي ويحفز وعيا متخيلا كامتلاك للمعنى الخاص للوضعية.

إن ظهور المتخيل أمام الوعي هو الذي يساعد على امتلاك نفي العالم كشرط أساسي وكبنية أولية له. ولهذا السبب يعتبر سارتر أنه إذا كان من الممكن تصور وعي لا يتخيل، فإنه ينبغي تصوره كأنه منغمس تماما في الموجود ولا قدرة له على امتلاك أي شيء غير الموجود. ومن ثم إذا لم يطرح المتخيل معناه أن التجاوز والحرية يمكثان في العالم دون أية إرادة لاكتشافهما لأن هذه الإرادة تبقى مطوقة بالواقع وسجينة العالم.

هكذا نلاحظ كيف أن سارتر أدخل عمل المتخيل في الحياة النفسية للكائن وأعطاه دوره في عملية الوعي. فالصور لم تعد عبارة عن إعادة إنتاج الحساسية أو الإدراك أو أنها تتماهى مع الموضوع، أو هي استحضار ذهني لموضوع مدرك.. الخ بل إن نظرية سارتر في المتخيل قدمت وصفا –وهو يؤكد على كلمة وصف في بداية كتابه- للمتخيل دون تقديم جواب عن الأسباب التي تكمن وراء الميل نحو جعل الموضوع شيئا متجاوزا ولا واقعيا بفعل المتخيل.

لا شك أن سارتر أعاد الاعتبار لمسألة المخيلة في الفكر الغربي وقطع مع التبرم العقلاني منها، وأصبح المتخيل عنصرا مكونا للتعالي الفكري وليس أداة مشوشة على عمل العقل أو «>سيد الخطأ». ولكن بالرغم من هذه الإضافة السارترية المتميزة بخصوص تاريخ الاهتمام بموضوع المتخيل في الفكر الغربي، فإن إسهام المفكر الفرنسي «جيلبير ديران» في هذا المجال يعد من أكبر الإسهامات نسقية. إذ إنه وظف كل إمكاناته وجهوده لصياغة «نظرية» في المتخيل من خلال مراجعة جسوره لمكونات العقلانية، وللأساس الرمزي للثقافة الغربية مستندا في ذلك على مجموعة من الإضافات النظرية والمعرفية سواء في الفلسفة أو العلوم الإنسانية. فكيف أطر «ديران» مسألة المتخيل؟ وما هي الأبعاد الفلسفية التي أعطاها لنظريته؟ وكيف جعل من المتخيل فرصة لمحاكمة تاريخ الأفكار الغربية؟  

4-بـــنية المتخــــيل والوظائف الرمزية

يبدأ «جيلبير ديران» مشروعه بتقديم مراجعة نقدية لكل أشكال التعامل الفكري الغربي مع المتخيل وقضايا المخيلة. فهو يرى أن الضربة الأولى والأساسية التي تلقاها المتخيل في صيرورته جاءت من ديكارت في القرن السابع عشر. فهذا الفيلسوف أقصى الرمز Le symbole والمخيلة من فلسفته. لذلك يبقى صحيحا الإدعاء «بأنه مع ديكارت فقدت الرمزية في الفلسفة حقها المرجعي»(6)، واحتلت مكانا بعيدا عن مركز العقل ونشاطه، لأن المتخيل، في اعتبار العقلانية، عنصر إزعاج أكثر مما هو عامل إغناء للممارسة العقلية. ومن ثم يكون الموقف الديكارتي قد حكم على المتخيل بالتهميش لمدة أكثر من قرنين في تاريخ الأفكار الغربي.

في بداية القرن العشرين بدأت الفلسفة تهتم أكثر بدور المخيلة في العملية الذهنية، ولكن دائما ضمن التفكير في شروط الوعي واكتساب المعرفة. فالفيلسوف «ألان» Alain اعتبر المتخيل عبارة عن «طفولة الوعي»، في حين دمج برغسون بين المخيلة والذاكرة. أما سارتر فقد اعتبره «ديران» من بين الفلاسفة القلائل الذين أعطوا لموضوع المتخيل راهنية جديدة وردوا له الاعتبار في التفكير الفلسفي المعاصر. ونظرا لهذا الاهتمام السارتري بالمتخيل فإن «ديران» أولاه عناية خاصة في تقييمه النقدي.

إن سارتر حين تحدث عن المتخيل، أو بالأحرى حين قدم وصفا له، اعتبر أن للمتخيل مجموعة من الخصائص؛ أولها أن المتخيل وعي وبالتالي فهو، ككل أشكال الوعي، متعال؛ ثانيا إن ما يميز المخيلة عن النماذج الأخرى للوعي هو أن الموضوع المتخيل يعطى مباشرة كما هو، بينما تتميز المعرفة الإدراكية بكونها تتشكل بطريقة بطيئة وبالتتابع؛ ثالثا إن الوعي المتخيل يتجاوز موضوعه وينفيه.

يرى ديران أن أصالة سارتر، في هذا المجال، تتمثل في كونه بذل مجهودا في وصف الوظيفة الخصوصية للمخيلة بهدف تمييزها عن المعرفة الإدراكية، ولكن سارتر في سياق بحثه عن سيكولوجيا فينومينولوجية، «>عقم خصوبة الظاهرة المتخيلة... بإرجاعها إلى محاولة مفهومية غير موفقة. بينما في هذه النقطة بالذات ينبغي المطالبة، مع باشلار، Gaston Bachlard، بالحق في «دراسة نسقية للتمثل»(7).

ويلاحظ «ديران» أن سوء التفاهم الأساسي الذي يسكن النظرة الفينومينولوجية للمخيلة هو أنها خلطت في قاموسها بين الصورة والكلمة. وهذه مسألة غاية في الأهمية. لأنه إذا كان اختيار الدليل Le signe في اللغة ليست له أهمية كبرى لأنه يتم بشكل اعتباطي، فإن الأمر يختلف تماما في مجال المخيلة حيث إن الصورة تحمل في ذاتها معنى لا يمكن البحث عنه خارج الدلالة المتخيلة. وبالتالي فإن المعنى المجازي هو الأكثر دلالة من المعنى المباشر والحقيقي. بل إن «ديران» يخلص إلى القول بأن النظريات المختلفة التي تعرضت للمتخيل ضيعت فعاليته لأنه فاتها «تحديد الصور باعتبارها رمزا»(8)، إذ في الرمز المكون للصورة هناك تجانس بين الدال والمدلول داخل دينامية منظمة لها. وهذا ما يجعله يختلف عن الدليل الاعتباطي في اللغة.

لا شك أن الزمن المعاصر استعاد اهتمامه بقيمة الصور الرمزية في الحياة الذهنية، حسب ما يرى «ديران»، وذلك بفضل العطاءات النظرية لعلم النفس المرضي وللدراسات الأنتروبولوجية. لقد أثبتت هذه العطاءات أن جزءا كبيرا من علامات العصاب والهذيان ورموز البدائي تشكل مكونا من مكونات التمثلات العامة التي يحملها الإنسان العادي أو المتحضر. غير أنه: «إذا كانت نظرية التحليل النفسي، كما الأنتروبولوجيا الاجتماعية، قد اكتشفتا أهمية الصور وقطعتا، بطريقة ثورية، مع ثمانية قرون من كبت وقمع المتخيل، فإنهما، مع ذلك، لم يكتشفا المخيلة الرمزية إلا لمحاولة دمجها في النسقية الثقافية السائدة»(9).

هذا التعامل النقدي مع مختلف الإسهامات النظرية في العلوم الإنسانية والفلسفية لا يعني أن «ديران» لا يستفيد من بعض انفتاحاتها. بل إنه أحيانا يتبنى كلية بعض أطروحات الباحثين الذين اشتغلوا بموضوع الرمز والمتخيل. لذلك نجده يستند على بعض آراء غاستون باشلار، بكل وضوح. فهذا الأخير بنى تصوره للرمزية المتخيلة على اعتبارين متكاملين: «إن المخيلة عبارة عن دينامية منظمة، وبأن هذه الدينامية المنظمة عامل تجانس في التمثل»(10) ويعلق «ديران» على ذلك قائلا بأن المخيلة قوة دينامية تغير شكل النسخ المعطاة من خلال الإدراك. وبأن هذه الدينامية «المصححة» للإدراكات تغدو  هي أساس الحياة النفسية بأكملها باعتبار أن قوانين التمثل متجانسة. ومادام التمثل يكون مجازيا في كل مستوياته فإن كل «المجازات تتساوى فيما بينها»، ثم إن هذا الانسجام بين المعنى والرمز لا يعني أن هناك غموضا ما، على اعتبار أن هذا الانسجام يمكن أن يتأكد في جدل معين. إن وحدة الفكر وتعبيراته الرمزية تتقدم كأنها تصحيح دائم أو بالأحرى تنقية مستمرة»(11)

إن «ديران» بالرغم من استفادته من مختلف عطاءات العلوم الإنسانية إلا أنه يريد، في نفس الوقت، أن يبتعد عنها. لأنه يرى أن هذه العلوم تسقط، في كثير من الأحيان، في تصورات أحادية وخطية لا تساعد على إغناء الموضوع بقدر ما تساهم في تفقير النظرة إليه. فالتأويل السوسيولوجي يعطي الأهمية للعوامل الخارجية لتفسير الظواهر الرمزية للمتخيل. أما التناول السيكولوجي فإنه يؤكد على دور الكبت والتوتر الداخلي للبنية النفسية للذات المتخيلة. المهم أن «جيلبير ديران» سعى إلى الانفلات من النظرة  الأحادية في معالجة موضوعه وعمل على سلوك منهج متعدد الاختصاصات يلتقي  فيه السوسيولوجي بالسيكولوجي، الأنتروبولوجي بتاريخ الأديان، الأبستمولوجي بالأدبي. قد تبدو في الأمر مغالاة. لكن نص «ديران» ثري بالإحالات والأسماء، ويلتجئ إلى كل الحقول. كل ذلك من أجل اكتناه حقيقة الرمز وسبر أغوار المتخيل. وللوصول إلى ذلك التزم بما يسميه بـ «الأفق الرمزي» لدراسة «النماذج الأساسية للمخيلة الإنسانية». بل إنه يموضع نفسه بوضوح ضمن «مسار أنتروبولوجي»، أي ذلك المسار الذي يفترض وجود تبادل لا متوقف على مستوى المتخيل بين الغرائز الذاتية والاستيعابية وبين الإبلاغات intimations الموضوعية المنبعثة من الوسط العالمي والاجتماعي(12).

5- في أبعاد المخيلة الرمزية

يبدأ «ديران» حديثه عن القاموس الرمزي بالإشارة إلى الغموض السائد بخصوص الكلمات والألفاظ المختلفة التي تميز لغة المتخيل. وهذا الغموض راجع إلى تعدد الاستعمالات التي يسلكها الباحثون والمفكرون لهذه الكلمات. بل إن هذا الغموض قد يكون في نظر «ديران»، سببا في الانتقاص من أهمية المتخيل في الفكر الغربي. فكلمات مثل: صورة، دليل، استعارة، رمز، مثل، أسطورة، شكل، إيقونة...الخ. كلها توظف بكيفية مختلفة في وسط الباحثين، لذلك يتعين الانتباه إلى دلالة ومستوى كل كلمة في القاموس التخيلي.

يرى «ديران» أن الوعي يمتلك أسلوبين اثنين لتمثيل العالم. الأول مباشر يكون فيه الشيء ذاته وكأنه حاضر في الذهن كما هو الشأن في الإدراك. أما الأسلوب الثاني فهو غير مباشر ويتميز بكونه يتمثل الأشياء الغائبة من خلال صور. ولذلك فإن هناك نوعين من الدليل: الدليل الاعتباطي له دور إشاري يحيل على واقع يمكن تقديمه في كل حين. والدليل الاستعاري الذي يحيل على واقع يصعب تقديمه.

أما المخيلة الرمزية فهي ذلك المستوى الذي لا يمكن فيه تقديم المدلول، Signifié، وبأن «الدليل لا يمكن أن يرجع إلا إلى معنى معين وليس إلى شيء حسي»(13). ينتمي مجال الرمز أو حقل المتخيل إلى ما يتجاوز الحس وبالتالي إلى ما يتخطى الواقع والطبيعة. وتغدو الصورة الرمزية عبارة عن تحوير لتمثل عيني بواسطة معنى مجرد دائما: «الرمز إذن هو تمثل يبرز معنى مستورا، هو تجل épiphanie للغز ما»14. إذ «ديران» معتمدا في ذلك على اجتهاد للفيلسوف «بول ريكور»، يعطي لكل رمز أصيل ثلاثة أبعاد: فهو أولا «كوني»، أي أنه يستمد بعض أشكاله وصوره من العالم المرئي؛ وهو ثانيا «حلمي»، بمعنى أنه متجذر في الذكريات والحركات التي تنبعث من الأحلام والتي تشكل المستوى الأكثر صميمة للكائن؛ ثالثا يتميز الرمز بكونه «شاعريا» على اعتبار أن الرمز يستدعي اللغة ففي تعبيراتها المتدفقة وأيضا في مستواها اللامرئي واللامقول الذي يخلق عالما من التمثلات غير المباشرة، والدلائل الاستعارية بحيث تشكل، في آخر الأمر، منطقا خاصا منسجما مع ذاته.

وبالإضافة إلى هذه الأبعاد الثلاثة للرمز يعمد «ديران» إلى القيام بتصنيف للكون الرمزي حسب مجالات التعبيرات التي يتم فيها الالتجاء إلى الرمز. فهناك ما يسميه بالتكرار الدال للحركات التي تشكل فئة «الرموز الشعائرية» Les symboles rituels. فالمسلم مثلا يتوجه إلى القبلة عند الصلاة. ثم هناك تكرار العلاقات اللسنية التي تميز الأسطورة mythe ومشتقاتها، باعتبار أن الأسطورة، كما يقول ليفي ستراوس، تكرار لبعض العلاقات المنطقية واللغوية بين بعض الأفكار وبعض الصور المعبر عنها كلاما. أما الصنف الثالث فهو المتعلق بالصور المرسومة أو المنحوتة أو كل ما يسمى بـ «الرموز الإيقونية « Symboles iconographiques  .

إن الرمز، بالرغم من الاختلاف الموجود في أصنافه ومجالات بروزه، تشترك في تكراره جميع الأصناف. ثم إن هذا التكرار ليس «توتولوجيا» بقدر ما يغني الرمز ويكمله من خلال تتابع تراكمي.

الرمز إذن في نظر «ديران»»: «باعتباره دليلا يحيل على لا مقول ولا مرئي مدلول، مضطر لتجسيد هذه المعادلة التي تنفلت منه، وذلك بواسطة لعبة التكرارات الأسطورية، والشعائرية والإيقونية التي تصحح وتكمل، بشكل لا يتوقف، هذا اللاتناسب»(15).

هكذا تتشكل المعرفة الرمزية عند «ديران». فهي فكر غير مباشر دوما، وحضور للتعالي، وفهم متجل. وهنا يفترق هذا المفكر مرة أخرى عن تاريخ الفكر العقلاني. فهو بهذا التعريف لا يميز بين الوعي العقلاني والظواهر النفسية الأخرى، لأنه بالنسبة له إذا كان المعنى المباشر والحقيقي هو الذي  يؤدي  إلى المفهوم وإلى الدليل المناسب، فإنه ليس إلا حالة خاصة جدا من المعنى المجازي. أي أن المعنى المباشر ليس إلا رمزا محدودا. ومن ثم فإن إنتاجات العقل هي صياغات مختلفة لبلاغة تتحرك داخل المجال التخيلي العام. وبالتالي فإنه يخلص إلى أنه ليست هناك قطيعة بين ما هو عقلاني وما هو متخيل لأن: «العقلانية ما هي إلا بنية مُسْتَقْطَبَة خاصة بحقل الصور»(16).

من هذا المنظور يتم دمج الفكر، في كليته، في الوظيفة الرمزية، ومن ثم لم تعد المخيلة، كوظيفة رمزية، تمثل انتقاصا من قيمة الفكر أو تشكل ما قبل تاريخ المعرفة الصحيحة، بل أكثر من ذلك فإن المخيلة تغدو «عاملا عاما للتوازن النفسي-الاجتماعي»(17).

اضطر «جيلبير ديران» من موقعه الأنتروبولوجي إلى تقسيم مختلف لصور وتعبيرات المخيلة إلى نوعين من «>الأنظمة»: النظام النهاري Régime Diurne والنظام الليلي Régime Nocturne . والمتخيل، في نظره، ينتج عن التوتر الموجود بين هذين النظامين وعن التعارض الذي يميز مختلف الصور التي تنتمي إلى هذا النظام أو ذاك. وبالرغم من هذا التنابذ والتوتر الذي يميز علاقات هذه الصور، فإن كل مجموعة تحتفظ بتفردها وقدرتها على التضاد. ولكنها تلتقي فيما بينها في سياق زمن السرد ضمن  نسق متميز وليس كنتيجة لتركيب بين عناصرها. ولذلك فإن «هذه الدينامية المتعارضة للصور تساعد على فهم المظاهر النفسية والاجتماعية الكبرى للمخيلة الرمزية ولتنوعها في الزمن. فتقدم الفنون وتطور الأديان وأنظمة المعرفة والقيم، والأساليب العلمية نفسها، تظهر بانتظام متناوب مكنت سوسيولوجيي التاريخ والثقافة من معاينته منذ مدة».

إذا كان الرمز دليلا يحيل على ما لا يقال وما لا يرى، وإذا كان من وظائف المخيلة خلق شيء من التوازن النفسي والاجتماعي، وإذا كانت الصور تتوزع على نظامين متعارضين ومتفاعلين في نسيج السرد واللحظة الزمنية، فإن المخيلة لها مستويات رمزية متعددة للتعبير عن رموزها وصورها. وبسبب هذا الغنى والتنوع الموجود في قاموس المتخيل، ولأن «ديران» يستعرض كل أنواع الصور والرموز والمجازات المميزة لكل من النظام النهاري والليلي في كتابه الأساسي: «البنيات الأنتروبولوجية للمتخيل»، فإننا سوف لن تقف عند كل خصائص الصور المتخيلة التي قام بتصنيفها ونمذجتها، وإنما سنكتفي بأهم الأدوات التي ساعدته على كشف بنية المتخيل وعلى صياغة ما أسماه بـ «فلسفة المتخيل» أو «ميتافيزيقا المخيلة». كل ذلك من أجل وضع نظرية لـ «الخيال المتعالي» (Fantastique transcendantale) .

ففي كل مرة تطرح مسألة تحديد الرمز أو مكونات المتخيل أو تفكيكها يجد المرء نفسه أمام ذلك الغموض الذي أشرنا إليه سابقا، والذي يتمثل في تعدد كلمات قاموس المتخيل من جهة وإلى امتلاك الرمز للمعنى المباشر والمعنى الإيحائي في جهة ثانية، وإلى تعارض أنظمة الصور المتخيلة وانتظامها في نسيج السرد من جهة ثالثة.

وإذا كان الرمز تكثيفا لفكر غير مباشر ومجازي فإن «الرسم الخيالي» (Schème) «تعميم دينامي وشعوري للصورة». إنه يمثل الإنابة اللاإسمية العامة للمتخيل. ينتمي الرسم الخيالي إلى ما يسميه بياجي.. «الرمز الوظيفي» أو ما ينعته باشلار بـ «الرمز المُحرِّك». إنه يقوم بوظيفة، ليس بين الصورة والمفهوم، كما أراد ذلك كانط، بل بين الحركات اللاواعية للظاهرات الحسية الحركية، بين الانعكاسات الغالبة والتمثلات. إن هذه الرسوم الخيالية هي التي تشكل الهيكل الدينامي والنسيج الوظيفي للمخيلة»(18).

أما بخصوص مفهوم الأسطورة (mythe) فإن «ديران» لا يقتصر على المعنى المحدود، نسبيا، الذي يعطيه له علماء الأثنولوجيا، أي باعتباره المقابل المتمثل لفعل شعائري معين. بل الأسطورة هي: «نسق دينامي للرموز والنماذج المثالية والرسوم الخيالية، إنها نسق دينامي لأنه بدافع من رسم خيالي ينزع إلى أن يتركب في سرد ما. فالأسطورة هي بداية للعقلنة مادامت تستعمل سياقا للخطاب تتحول فيه الرموز إلى كلمات والنماذج المثالية إلى أفكار»(19).     

تعبر الأسطورة، في نظر «ديران» أو تفصح عن رسم خيالي أو عن مجموعة من الرسوم. وقد أدى به القول إلى اعتباره أن «المذهب الديني» انبثق من الأسطورة، بل حتى النسق الفلسفي والسرد التاريخي. فبارمنيدس يمثل اللحظة الأساسية الأولى للتأمل الفلسفي في الغرب، في نظر «ديران»، لأن النسق الأفلاطوني يمثل امتدادا معينا لأنطولوجية بارمنيدس ومثالا على تأثير المخيلة في الفكر الفلسفي. ومن هنا يؤكد «ديران» على أن العقلانية أو الفكر العلمي مهما بلغ من التجريد والعقلنة فإنه لا ينفلت من المتخيل، وبأن كل نسق كيفما كان مستوى معقوليته فإنه يحمل في ذاته اتهاماته الخاصة. المهم أنه لا يمكن أن نفصل بين حدود العقلاني والمتخيل لأن في العقلاني يسكن المتخيل وفي المتخيل شيء من المعقولية.

ومن أجل تعميق هذه النتيجة عمد «ديران» إلى صياغة فلسفة للمتخيل تستمد بعض عناصرها من الدرس الأنثروبولوجي ومن التحليل النفسي وتأملات باشلار في الصورة والفضاء والعناصر الأربعة، إلى جانب عطاءات «يونغ» و»إلياد» و»هنري كوربان». وبالرغم من تعدد مصادره وأطره المرجعية فإن «ديران» لم يلتجئ إلى أطروحات الآخرين إلا لإضاءة «مساره الأنتروبولوجي» وتدعيم بعض نتائج تحليلاته.

وبعد نقده لكل النظريات التي تعرضت للمتخيل والمخيلة وبعد تحديد مجاله النظري والفلسفي وبعد القيام بتصنيف ونمذجة مختلف الصور التي تنتظم في نظامي المتخيل والتي ترجع، في الأخير، إلى ثلاثة أنواع من البنيات: بنيات فصامية (Schizomorphes) وبنيات صوفية (mystiques) وبنيات تركيبية (synthétiques) فإنه يؤسس أبحاثه على افتراض أن الصور تتموضع ضمن إطار دلالي وليس ضمن إطار سيميولوجي، رافضا اعتبار الصورة مجرد دليل لواقع نفسي أو خارج عن الوعي.

والبحث عن البعد الأنطولوجي لدلالية الصورة والرمز استدعى الانتقال من تشريح تصنيفي لبنيات المتخيل إلى نوع من «فيزيولوجيا وظيفة المخيلة»، أو إلى ما أسماه به «فلسفة المتخيل». وهذه التسمية ليست لعبا بالكلمات لأنها تفيد مبحثا يكشف عن وظيفة المخيلة التي لا تعلل بالأشياء بل من خلال إعطاء «معنى «ثان» لها، ذلك المعنى الذي يشكل القاسم المشترك الأكثر كونية. مما دفعه إلى القول بـ «كونية المتخيل» إذ إن: «بداية إبداع للعقل الإنساني، سواء كان نظريا أو عمليا، تتحكم فيها الوظيفة الخيالية. ليس فقط لأن هذه الوظيفة تظهر بوصفها كونية في امتدادها من خلال النوع البشري. ولكن أيضا في شموليتها: إنها جذر كل عمليات الوعي، وتنكشف كأثر أصلي للعقل»(20).

إن المخيلة الرمزية، كما يحددها «ديران»، هي سلب حيوي. سلب للعدم والموت والزمن. وبسبب ذلك فإنها تخلق توازنا متعدد المستويات: توازن حيوي مع الموت، توازن نفسي-اجتماعي، وتوازن انتروبولوجي، أي ذي بعد إنساني، لاسيما في الوضع العالمي الراهن لأن: «العقل والعلم لا يربطان الناس إلا بالأشياء، ولكن ما يجمع بينهم سواء في مستوى متواضع للسعادة أو على صعيد الآلام اليومية للنوع الإنساني، فإنه هذا التمثل الشعوري، لأنه معاش، الذي تكونه إمبراطورية الصور»(21). بمعنى آخر إن الرمز، فضلا عن أنه سلب حيوي، فهو كذلك جدل بالفعل وتوتر إبداعي لا يقبل بالتوقف. لأن الإنسان يمتلك قدرة هائلة على تحسين العالم ولكن بتجاوز كل تأمل عبثي. يقول ديران: «إن كل الذين انكبوا على دراسة موضوع المتخيل، بطريقة أنتربولوجية، أي بتواضع علمي واتساع أفق، متفقون على الاعتراف للمخيلة، في كل تجلياتها الدينية والأسطورية، الأدبية والجمالية، بهذه القدرة الميتافيزيقية بالعمل على إقامة أعمالها وآثارها ضد «عفن» الموت والقدر»(22)، ولذلك فإن الوظيفة الخيالية هي في عمقها وظيفة أمل لأنها تتخطى اللحظة وتسعى إلى قهر الموت لنشدان عالم أجمل وأفضل ومتوازن إنسانيا. إذا كانت الصورة المتخيلة لها خصائص ثلاث تتمثل في كونها شهادة، وذات «عمق» أخلاقي ونفسي وكلية الحضور بالقياس إلى الامتداد الإدراكي، فإن هذه الصورة لا محدودة.

يعين «ديران» لكل بنية من بنيات المتخيل مجالا فكريا متميزا، ولكل بنية منطقها. فالفلسفات الثنائية وأشكال منطق الإلغاء تتشكل في البنية الفصامية. أما في البنية الصوفية فيرتسم منطق السلب المزدوج أو الإنكار. في حين أنه بمناسبة البنية التركيبية تبرز فلسفات التاريخ والمنطق الجدلي.

ومهما يكن من صدق في هذا التقسيم الذي استنتجه بعد دراسة معمقة ومقارِنة لمختلف الصور الرمزية التي تشكل نظامي المخيلة (النهاري والليلي) فإن «ديران» بتأكيده الملحاح على ثراء الرمز وتعالي المتخيل، يستهدف نقد التراث العقلاني الذي تعتمد عليه الحضارة الغربية الراهنة والذي يعمل على إقصاء كل ما لا يستجيب لضوابط العقل أو يفجر أطره ومقولاته. إنه يسعى من وراء ذلك إلى إنهاء القطيعة بين العقلاني والتخيلي، وإعادة النظر في الحقيقة التي كرستها الحداثة الغربية: «إن من بين القناعات التي تستفاد من بحثنا هي أنه يتعين مراجعة تعريفاتنا الضيقة الأفق للحقيقة، حين يتعلق الأمر بالفهم الأنتروبولوجي»(23).

بين دلالية الرموز وشكلانية المنطق يرى «ديران» أن البلاغة (La rhétorique) هي التي تضمن التواصل بينهما وتتوسط بين المخيلة والعقل: «وهذا الدور التوسطي يبين ترف المخيلة والجفاف التركيبي والمفهومي يبرز من خلال غنى البلاغة»(24). إن البلاغة إذن في نظر «ديران»، هي نهاية هذا «المسار الأنتروبولوجي» الذي في داخله يظهر مجال المتخيل. باعتبار أن «المتخيل يشكل جوهر العقل بمعنى مجهود الكائن لإقامة أمل حي تجاه وضد العالم الموضوعي للموت»(25).

6-انسدادات العقلانية وانفتاحات المتخيل

يحمل المتخيل إذن بعدا أونطولوجيا. وبعيدا عن كونه مجرد ظاهرة عارضة سلبية، أو إلغاء أو تأمل لا فائدة منه لماض انتهى، فإن المتخيل لم «يظهر كنشاط يغير العالم أو مخيلة إبداعية فقط، بل بالخصوص كتغيير تلميحي للعالم.. كتنظيم للكائن لما هو أحسن»(26). إن المتخيل هو الذي «يعطي» للفراغ السيمولوجي للظواهر ثقلها الأنطولوجي وينشط التمثل... هو ما يجعل التفكير دوما في كون المخيلة هي القدرة على الممكن وقوة حدوث المستقبل»(27).

لا شك في أن فكر «ديران» يتميز بنزعة إنسانية واضحة، فهو بالرغم من كل الأبعاد التي يعطيها لنظريته فإن دعوته إلى اللقاء بواسطة المخيلة الرمزية تتحكم فيها نظرة إنسانية ينعتها بـ «>النزعة الإنسانية المفتوحة»، والتي لا علاقة لها بالنزعة الإنسانية لفكر الأنوار. فالرمزية، وليس العقل وحده، تشكل الوساطة الدائمة بين آمال الناس بوضعهم الزمني بالرغم من الاختلافات التي توجد بينهم. لأن اعتبار ثقافة ما بأنها تتضمن قيما ونماذج صالحة لكل الثقافات، هو تعبير عن اتجاه ثقافي ذي طبيعة هيمنية واستعمارية. فما هو معياري هو هذا الخزان المتعدد للرموز والصور والأساطير والأشعار.

هذا الخزان هو الرأسمال المشترك بين كل الناس. لهذا فالمتخيل هو ذلك «الملتقى الأنتروبولوجي» الذي تتقاطع فيه كل أساليب التفكير الإنساني. إنه عامل لإعادة التوازن للنوع البشري. فالغرب «العقلاني» بكل نزعاته وادعاءاته، في حاجة إلى ثقافة الشعوب الأخرى. يقول ديران»: بالنسبة إلينا نحن الغربيين، فإن «اللجوء إلى الشرق» وقبول أنظمة ومجموعات الصور المصاغة من خلال فن الشرق، أو فن الحضارات الأخرى غير حضارتنا، يشكل وسيلة، أو بالأحرى الوسيلة الوحيدة لإعادة التوازن الإنساني»(28).

حين ينشد «ديران» «اللجوء إلى الشرق» لا يريد أن يعارض الثقافة الغربية بـ «شرق» خيالي أو «>استشراقي»، كما يقول ولو تبين، أحيانا، أن هذا اللجوء إلى الشرق الأتنوغرافي والثقافي كان في غاية الأهمية لتسجيل الفروقات التي تميز الثقافة الغربية.

من أجل تعميق هذه المسألة على المستوى النظري، انتقل «جيلبير ديران» في أبحاثه من أعمال الجمع والتصنيف والمقارنة والتحليل لمختلف الرموز والصور والمجازات التي تزخر بها أنظمة المتخيل، إلى مرحلة أخرى تتميز برغبة واضحة في التنظير والسجال. يحاكم «ديران» الأسس الفكرية والمنهجية للثقافة الغربية ويبحث عما يسمى بأزمة الفلسفة والعلوم الإنسانية. لا شك أنه في محاكمته هذه يلجأ إلى أطروحات قد تبدو غير مستساغة، الآن، نظرا، لتطور الإنتاج النظري، ولكن المرء يشعر بأن هذا الباحث يستند إلى مادة مرجعية غزيرة ويمتلك ثقافة واسعة ويحوز وسائل تتميز بانسجام واضح لصياغة أفكاره واستنتاجاته.

ينطلق «ديران» من أطروحة يؤكد فيها أن الإنسان هو «دائما نفسه» لأن آلهته هم أنفسهم لم يتغيروا. أي أن «معنى» صورة الإنسان، كرمز يحيل على مدلول معاش، لا يمكن الإمساك به إلا إذا ابتعدنا عن التبدلات» والاشتقاقات التي استهدفت إلغاء هذا المعنى الرمزي لإحلال مفاهيم وتعاريف واضحة ومتميزة ذات تسلسل عقلي محله. في حين أنه ليست هناك أدنى قطيعة بين دلالات الأساطير القديمة والتركيب الحديث لمختلف أنماط السرد الثقافية سواء كانت أدبية، فنية، أيديولوجية  أو تاريخية.. الخ بل إن «السلوكات العينية للناس، وبالضبط سلوكهم التاريخي، تُكرَّرُ بخجل، وبقليل من السعادة، اللوحات والوضعيات الدرامية للأساطير الكبرى»(29).  

يبدو تقرير من هذا النوع وكأنه تحد للتاريخ وخروج عن منطق التقدم. و»ديران» يريده، بالفعل، تحديا لأن الأمر بالنسبة له يتعلق بخلخلة البنية المطمئنة التي ترتكز عليها عقلانية الغرب ونزعته المتمركزة حول ذاته. فبالنسبة له منذ قرنين والفلسفة الغربية تتحدث عن أزمتها، لدرجة أصبحت هذه اللفظة لازمة تتكرر في كل خطاب فلسفي حديث أو معاصر. فمنذ المفكرين الرومانسيين والفكر الغربي يحاول البحث عن أسباب عظمة وانحطاط الحضارات، عن «تمزق» الوعي وعن «استيلاب» الإنسان. بمعنى آخر إن الحديث عن أزمة الفلسفة وأزمة الحضارة الغربية بدأ في الوقت الذي تمت فيه صياغة سؤال «ما هو الإنسان؟» من طرف كانط سنة 1793.

المهم أن  «جيلبير ديران» مستفيدا في ذلك من أعمال باشلار ويونغ والياد وكوربان، وكذا من التحليل النفسي والأنتروبولوجيا الثقافية..الخ. يؤكد على أن هذه المباحث تثبت أن الإنسان منذ بداياته الأولى كانت له نفس الرغبات، نفس البنيات الشعورية، ونفس الصور التي تنعكس على الزمان والمكان. غير أن التدخل العقلاني، في تعبيراته الصارمة، أحدث تحولا كبيرا في رؤية الإنسان لذاته وللآخر ولعلاقته بالطبيعة والعالم وكذا في ممارسته لرموزه وصوره.

وبالرغم من هذا الميل العارم نحو توحيد الإنسان وصوره يعتبر «ديران» أن الثقافة العقلانية منذ ظهورها في شكل مؤسسات وعلاقات إلى الآن، استطاعت أن تخلق إنسانا آخر له خصائص تميزه عما يسميه بـ «الإنسان التقليدي». هناك إذن، بالنسبة له، اختلاف بين الإنسان الحديث» نتاج العقلانية والحداثة الغربية، وبين «الإنسان التقليدي» الذي بقي يتحرك ضمن الأطر الفكرية والتخيلية الكبرى للإنسانية. وهذه الخصائص المختلفة بينهما يلخصها «ديران» فيما يلي:

أولا: إن الإنسان التقليدي لا يفرق ببن الأنا واللاأنا، بين الإنسان والعالم، في حين أن مجمل بيداغوجية الحضارة الغربية تنشط في الفصل بين الإنسان والعالم، والتفريق، بدافع الموضوعية، بين «الأنا المفكرة» والأشياء «المفكر فيها». إن هذه الثنائية هي البنية «الفصامية» الكبرى في الوعي الغربي، إنها مرتبطة دائما بالنزعات الكليانية وأيديولوجية غير متسامحة، أحادية واحتكارية؛

الخاصية الثانية تتفرع عن الأولى، أي أن معرفة الإنسان التقليدي معرفة واحدة وموحدة، وأن وعيه منظم ضمن نسق محدد، بينما معرفة الثقافة الغربية معرفة ممزقة بسبب اهتمامها بما هو خارج عن الذات. إن وحدة المعرفة مثلت دائما مشكلة بالنسبة للوعي الغربي، المجزأ بسبب تقديسه للواقع الموضوعي. من هنا سبب التعارض الدائم بين «المنهج» و»المنطق»ّ، أو بالأحرى بين «العقل» ومضامين المعرفة؛

ثالثا؛ إن الثقافة الغربية المشدودة إلى الميتافيزيقا الإغريقية للكائن وللتراث اليهودي- المسيحي تسلم بوحدة الذات تجاه التعدد الميؤوس منه للعالم. لذلك يختلط «المنطق» و»العقل» و»المنهج»- ودائما بالمفرد- مع «الروح». إن الوحدة المعطاة المسلم بها، المثبتة تجاه وضد الكل هي وحدة «الذات المفكرة» وحدة الأنا والشخص. ومن ثم يتعين توحيد العالم على غرار النموذج التوحيدي للكوجيتو. وعلى العكس من ذلك فإن الفكر التقليدي لا يفصل بين التعدد والوحدة: إنها الوحدة الرمزية المستمدة من العالم والمرسلة إلى ذات تعيش نفسها كتنوع «بالنسبة للفكر التقليدي ليست الوحدة طريقة لإرجاع المختلف إلى المتشابه وإنما هي مبدأ، هي مبدأ الوحدانية التي تستشعر كوحدة للكون وكتعدد في نفس الآن... بالنسبة للفكر التقليدي إذن يعيش الإنسان ذاته كتعدد وكتنوع»(30)،

تتمثل الخاصية الاختلافية الرابعة في كون الفلسفة الغربية تنظر إلى المكان والزمان وإلى سببيتهما كأنها أشكال أو مقولات فارغة للفهم. أو باعتبارها الوحدة الفارغة للأشكال القبلية للحساسية. في مقابل هذه الإرادة الذاتية للتوحيد الصوري، يتعامل الإنسان التقليدي مع العالم المفكر فيه من خلال أسلوب رمزي. أي «إن الأشياء –المفكر فيها في الكون- لها معنى» وتتضمن قيمة مخفية يصعب استخراجها بالفكر المباشر (الإدراكي أو المعقلن) «الذهني»31 أي أن الفكر التقليدي غنوصي، عرفاني في حين أن الفكر الحديث لم يستطع الانفلات من ثنائيته؛

أما الخاصية الخامسة فتكمن في كون «الإنسان الفلسفي» متأزم. إنه يعيش «التمزق» الأبستمولوجي بين الوحدة العامة والتجربة المتعددة. بل «يمكن القول بأن الفيلسوف الغربي مستلب بطرفي أسلوبه الفكري. من جهة يحافظ على وحدة، ولكنها فارغة من كل حياة، ومن الجهة الأخرى يحصل على معرفة ولكنها موزعة وجسورة»32، على العكس من ذلك فإن الإنسان التقليدي كائن مرتاح يتمثل بدل المجهود عنده في فردنة الأنا على النموذج الرمزي للطبيعة العارية: «وأخلاقه تصاغ بلغة تفتح الحياة وليس بلغة إرادة القوة»(33)؛

تتجلى الخاصية الاختلافية السادسة والأخيرة في الطابع الأسطوري والأنطولوجي الذي يفرق إنسان الحضارة عن إنسان التقليد. فالحياة بالنسبة للفيلسوف هي عبارة عن نفي وغربة. أما عند الإنسان التقليدي «فإنها هجرة وعود دائم»(34).

هذه هي الخصائص الاختلافية التي تميز فكر كل من الإنسان الحديث والإنسان التقليدي. ويبدو أن الأمر، في الواقع، لا يتعلق بخصائص فقط بل بإطارين مرجعيين مختلفين تماما، إن لم نقل ببنيتين لهما مقوماتهما ونظرتهما للإنسان والطبيعة واللغة والفكر.

إن «ديران» حين يقول بشمولية المتخيل وثراء المخيلة الرمزية، واستمرار وظائفها منذ البدايات الأسطورية إلى الآن، وحين يبين بأنه ليس للثقافة الغربية من حق في ادعاء أي تفوق «عقلاني» أو حضاري، لأن هذه الثقافة بعقلانيتها أقصت أهم ما يجسد إنسانية الإنسان، بل وما يشكل النظام العام لهذه العقلانية نفسها، ألا وهو المتخيل. حين يقول ويبين كل هذا فإنه يريد أن ينفلت مما يسميه بـ «إمبريالية التاريخ الغربي»، ومن النزعة الهيمنية التي تتخذ من الثقافة الغربية مركز الفكر السامي ومصدر المعرفة الحقيقية.

يتعلق الأمر بممارسة جديدة للرمز وبفهم كوني للفعاليات الذهنية والإبداعية للإنسان. الشيء الذي أدى «بجان دوفينيو» إلى القول بأنه «تجاوز لمعنى الفن الغربي» و»متحفه المتخيل» فإنه يمكن الانخراط في مسالك جديدة حيث الإبداع والتبدل يتشابكان مجددين ومغيرين بذلك ما نسميه بالابتكار(35)، أي أنسنة العالم الحاضر بتكسير تلك الوحدة التاريخية والمفهومية والإيديولوجية للإنسية الغربية.

كل هذا يعني أن الفكر الغربي المعاصر، بسبب مختلف الانفتاحات الأبستمولوجية والمعرفية، تكونت داخله حساسية ثقافية جديدة. حساسية ليس بالمعنى الإدراكي للكلمة، بل بالمعنى الوجودي والجمالي والرمزي. لأنه مع المخيلة الإبداعية (باعتبار أن هناك بالمقابل مخيلة تكرارية غير منتجة، اضطر الفيلسوف إلى قلب منطلقات فلسفته وتغيير قاموسها اللغوي: هكذا فإن «اللغة الجديدة» التي أوحى لنا بها موضوع –تأملاتنا تفضي إلى «منطق» جديد ليس بمنطق الهوية ولا بمنطق نقيضها، وإنما هو منطق قلب المعنى antiphrase .(36)

فلسفة المتخيل عند «ديران» إذن تستهدف اختراق الأشكال الغربية للمخيلة بإدخال صور الثقافات الأخرى فيها، وجعل بنيات المتخيل عبارة عن عناصر تبتكر التحول والإبداع أكثر مما تكرس المحافظة والثبات، وبالتالي خلق إيقاع جدلي تتمازج فيه الدينامية الاجتماعية والدينامية التخيلية.  

 

هوامش

1 - Sartre (J.P) ; L’imaginaire, Ed. Gallimard, Paris, 1940, P 19

2 - Ibid. P 36

3 - Ibid. P 358

4 - Ibid. P 358

5 - Ibid. P 361

6 -Gilbert Durand ; L’imagination symbolique. Ed PUF, Paris 1964, P 19

صدرت ترجمة عربية لهذا الكتاب تحت عنوان الخيال الرمزي عن المؤسسة الجامعية للدارسات والنشر سنة1992.  

7 - Gilbert Durand ; Les structures anthropologiques de l’imaginaire, Ed Bordas, Paris 1969. P 24

وقد صدرت ترجمته عن المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر تحت عنوان الانتروبولوجيا: رموزها وأساطيرها وأنساقها، سنة 1991.

8 - Ibid. P 95

9 -Gilbert Durand : L’imagination, op. cit, PP. 38-39

10 - Gilbert Durand, Les structures anthropologiques de rl’imaginaire, op cit. P 26

11-  Ibid. P 26

12 - Ibid. P 37

13- Gilbert Durand ; L’imagination symbolique, op. cit. P6

14 - Ibid. P 8

15 - Ibid. P 14

16 - Ibid. P 84

17 - Ibid. P 85

18 - Gilbert Durand, Les structures anthropologiques de l’imaginaire, op.cit. P 61

19 - Ibid. P 64

20 - Ibid. P 461

21 - Gilbert Durand, L’imagination symbolique, op.cit P 120

22 - Gilbert Durand, Les structures … op.cit. P 470

23 - Ibid. P 494

24 - Ibid. P 483

25 - Ibid. P 499

26 - Ibid. P 499

27-  Ibid. PP 500-501

28 - Gilbert Durand : L’imagination symbolique, Op.cit. P 120

29 - Gilbert Durand, Figures mythiques et visages de l’œuvre, ed. Berg international Editeurs, Paris, 1979. P 11.

30 - Ibid. P 37

31 -  Ibid. P 42

32 - Ibid. P 47

33 - Ibid. P 48

34 -  Ibid. P 49

35 - Jean Duvignaud : La pratique de l’imaginaire, in, Les imaginaires, Ed Lige, 10/18 Paris, 1976, P 410

36 -  Gilbert Durand, le Regard de Psyché, op.cit P 89.

أعداد المجلة