فصلية علمية متخصصة
رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم
العدد
67

هذا التراث الذي نحيا به

العدد 63 - عطف نسق
هذا التراث الذي نحيا به

 

كنا جماعة في سيارة تقلنا من مكان إلى آخر . كان الحديث بين الجماعة ذا شجون وصوت الراديو خافتا لا يكاد ينتبه إليه أحد . وفجأة انطلق إعلان إشهاري لحفل «الزيارة» الصوفي المزمع عرضه في مسرح قرطاج. أذاع الإعلان لقطات صوتية من حفل سابق ... كلمات ... ودندنة أنغام... زاد السائق من صوت الراديو. حرك يديه جيئة وذهابا إلى الأعلى وتمايل على كرسيه راقصا. تبعه البقية مترنمين بأغاني الحضرة يتمايلون طربا وهم في غاية الانتشاء. بدت لي اللحظة مجاوزة لحدود المعقول. كيف للمرء أن ينشغل عن المقود وهواجس الطريق متخليا عن هدوئه وتركيزه مستعيضا عنهما بلحظة طرب تستخفه، إلى درجة لم يعد معها متحكما في عاطفته ولا في حركته حتى استهان بما ينبغي أن يكون عليه من حيطة وحذر؟  كيف يمكن أن نفسر ذلك؟ هل هي طبيعة النغمات القائمة على إيقاع متسارع متدافع صعودا ونزولا ؟ أم هو مضمون النص الصوفي الذي يتغنى بأسماء بعض الأقطاب الصوفيين؟ أم هما معا؟ أم أن الأمر ذو أبعاد نفسية يلتقي فيها هذا بذاك؟ لا أحسب أن مجرد الإصداع بأسماء الأقطاب الصوفيين وحده يبرر هذا الانقطاع الطربي الذي انصرف إليه الصحب. ولا أحسب أن أصوات الدفوف ولا أنغام «المزود» (الجربة) يسعها أن تقدم تفسيرا لحال الغبطة التي استحالوا إليها. وإن كان هذا وذاك يقدم جزءا من التفسير. فهل من تفسير أوفى ؟ لقد كانت الكلمات في الإعلان الإشهاري بسيطة، واضحة، لا تعقيد فيها، تتغنّى بخصال إحدى سيّدات الموروث الصوفي تقول :

 نغّارة يا سيدة يا نغّارة يا سيّدة

نغّارة دبّر عليّا بدبارة يا سيّدة

للاّ أمي، يا محلى ذكرك في فمي

انت الي تجلّيلي همي

ومهما كانت دلالات المعاني التي تحتملها هذه الكلمات ومهما كان موقف الناس منها، ولا أحسب أن الجماعة كانوا يولونها اعتبارا فإنها لا تفسر حالة الانشراح والطرب التي أحدثتها اللقطة الإشهارية . فـ « نغّارة» تعني أن هذه السيدة تغضب لمريديها وتنتصر لهم وتحرص على أن تجلي همومهم . وهي من الاعتقادات الشعبية التي لا تسلم بها الأغلبية الساحقة من الناس. فالقطب الصوفي في نهاية أمره، فرد من الناس، لا يملك أن يغيّر من أحوالهم شيئا.  وعلى كل حال فذاك رأي الجماعة في سيارتنا فيما انتهى إليه سؤالي لهم. ومن هذه الناحية لا أحسب أن المعتقد الشعبي في وسعه أن يحرك من حيث هو نوازع الطرب في الجماعة. وأبلغ من ذلك لا أظن أن عموم الناس تعنيهم المنزلة الروحية للقطب الصوفي فما بالك أن يطربهم ما يقال فيه من مدائح وأذكار . ومن ثم فإني لا أظن أن النص من حيث هو نص مديح وتغن بالمناقب يمكن أن يفسر برهة الانتشاء التي انقطع الرفاق إليها. وإنما هو الإيقاع نقرا على الدفوف وإصداعا بالأصوات الصادحة وحالة من الانتشاء الطربي التي ترقى إلى ما تسميه الثقافة الشعبية «التخميرة» هو ما أفضى بهم إلى حال الغبطة التي كانوا عليها بمجرد سماعهم لنقرات الدف والتقاطهم لنغمات المديح الصوفي في إخراجه اللحني وإنجازه الطربي الموقع.

 أولت «الثقافة الشعبية» الموروث الصوفي حيزا مهما من اهتمامها ونشرت بحوثا عديدة تناولته من مختلف أبعاده. وكان الجانب الموسيقي حاضرا في عدد من هذه الدراسات ( انظر : زغندة، العدد 16، ص.116. دمق، العدد38، ص.134. بن عمر، العدد57، ص.120. وغيرهم). ولقد كان الاهتمام فيها منصبا على العلاقة بين الطرق الصوفية والموروث الموسيقي الشعبي. ولكن البحث في الأسباب التي تجعل الناس يطربون لمثل هذا اللون من الأداء الموسيقي فإنه لم يكن مندرجا ضمن اهتمامات الباحثين. ولم يكن من شأنهم أن يبحثوا فيه.

وليس من شك عندي في أن اللحن وتوزيعه على الآلات الإيقاعية التي وظفت لإنجازه يمكن أن يكون أحد العناصر المهمة في التفسير إن لم يكن العنصر الأهم . وهو، كما سبق أن قرأنا على صفحات «الثقافة الشعبية»، لحن ناشئ عن حفل الحضرة في منجزه الشعبي. لكنه هذب وطور بحيث بات منسجما مع واقع جديد وإيقاع للحياة مختلف. ومن هذ المنطلق فإن قدرة الغناء الصوفي على خلق حالة من الطرب لا يمكن أن تتحقق لو لم يخرج بها اللحن إلى فضاء دنيوي يستدعي الشعبي القديم إلى فضاء دنيوي مستجد. فهو لم يفقد خصائصه الأساسية باعتباره لونا صوفيا قائما على المديح والذكر. ولم يكن غريبا عن فضائه الذي ينجز فيه باعتباره يعبر عن ذائقة موسيقية مازالت نابضة بالحياة. فالحضرة اليوم تطرب ليس لأنها مناسبة مدائح وأذكار فحسب وإنما لأنها فسحة طرب تستدعي القديم وتوظف في إنجازه من الآلات ما يطرب الفرد ويدخله في حال من الانتشاء. ولعل قدرة حفل مثل حفل الزيارة الصوفي على أن يطرب مرده أنه لم يظل حبيس الإطار الديني وإنما استطاع الخروج إلى الفضاء الدنيوي ليلبي حاجات الناس الإيقاعية والطربية. وإذا كانت التخميرة في الممارسة القديمة تعبر عن حال من الغبطة لها عواملها الدينية الصوفية التي حرصت بعض الدراسات على وصفها، فهي في الممارسة الحادثة تلبي حاجة طربية يلتمسها الفرد في سياق العاطفة الجماعية التي تشده إلى انتماء ثقافي بعينه انتماء نغمي موسيقي قبل أن يكون صوفيا دينيا. ولذلك ضحك مني الجماعة لما سألتهم عن مدى إيمانهم بكرامات السيدة . فهو أمر لم يكن يعنيهم . وإنما هو الإيقاع الذي شدهم والنغم الذي استهواهم. ولذلك ابتعدنا عن «التخميرة» الصوفية التي كان ينتهي إليها الراقصون في الحضرة الدينية وتحملهم على أن يأتوا أفعالا لا يستسيغها العقل مثل أكل الزجاج أو المشي فوق النار . ولا يمكن أن ندرج في هذا السياق ترك المقود والسيارة في الطريق. ذلك أن السائق رقّصَ يديه وحرص على أن يتحكم في سيارته بقدميه. 

وهكذا نلاحظ أن حفل الزيارة الصوفي وغيره من الاحتفالات التي تحيي الطرق الصوفية إنما اتسع له أن يطرب لأنه استدعى القديم وأمكن له أن يقدمه في أداء أكثر تهذيبا وأقرب ما يكون في العبارة عن الإحساس الموسيقي للجمهور. ولذلك ابتعد الناس عن سلوكيات «التخميرة» الصوفية واكتفوا منها بلحظات ابتهاج حولت الممارسة إلى لحظة طرب وأنس واستمتاع. وإذا كانت غاية العبارة في الطريقة الصوفية أن تفصح عن عشق للحضرة الإلهية فإن منجزها الموسيقي اليوم يعرب عن عشق للدنيا. والعشقان يلتقيان ولا يتنافران فحبنا للدنيا هو الوجه الآخر من حبنا لله تعالى الذي حبانا بها.  ولم يكن هذا التراث الذي يسكننا ويسري منا مسرى النفس إلا إطارا مناسبا يتيح لنا العبارة في بهجة وفرح عن الوشائج الروحية التي تشدنا إليها، نعمة من الله وآية من آيات كرمه الذي لا ينتهي عند حد. 

 

أعداد المجلة