تنمية وتطوير حرفة السعفيات في منطقة مروي شمال السودان
العدد 62 - ثقافة مادية
مقدمة:
تعد الفنون الحرفية التقليدية من مجالات التراث الثقافي غير المادي، بحسب تصنيف اتفاقية صون التراث الثقافي غير المادي لعام 2003م، التي تركز على المهارات والمعارف المتصلة بهذه الفنون وليس بالمنتجات الحرفية نفسها، عليه إذا أردنا صون هذه الفنون ينبغي أن نشجع الحرفيين على الاستمرار في ممارسة حرفهم، وعلى نقل ما لديهم من مهارات ومعارف إلى الآخرين، وخصوصاً في مجتمعهم نفسه.
تواجه الفنون الحرفية التقليدية العديد من التحديات الكبيرة التي تطرحها العولمة مثل منافسة المنتجات الحديثة من الأدوات المختلفة التي يستخدمها الانسان في حياته اليومية التي تنتج في المصانع أو الشركات، تخلى عدد من الحرفيين عن ممارسة حرفهم بسبب تلك المنتجات، وذلك لأنها تنتج بكميات كبيرة ونجدها زهيدة الثمن. كما أن هناك تغيرات مناخية وبيئية أثرت على الموارد الطبيعية التي تستخدم كمادة خام قي انتاج عدد من الأدوات مثل الغابات وغيرها، بالإضافة إلى هجرات الحرفيين التي أدت إلى زوال العديد من الحرف.
التقاليد الحرفية لها نظم قديمة للتدريب والتتلمذ. ويتمثل أحد الأساليب التي دللت على نجاحها في تدعيم هذه النظم وتعزيزها في تقديم حوافز مالية للطلاب وللمعلمين تجعل عملية نقل المعارف أكثر اجتذاباً للطرفين من خلال إنشاء مراكز أو معاهد لتعليم هذه الحرف. كما يمكن تدعيم الأسواق المحلية التقليدية للمنتجات الحرفية، وكذلك إنشاء الأسواق الجديدة في الوقت نفسه.
يمكن في حالات أخرى أن يعاد غرس الغابات كمحاولة للتعويض عن الأضرار التي نزلت بالحِرف التقليدية التي تعتمد على توفر الأخشاب كمادة أولية. وفي بعض الحالات قد يكون هناك حاجة إلى اتخاذ تدابير قانونية لضمان حقوق المجتمعات في استخدام مواردها، مع التكفل بحماية البيئة في الوقت نفسه.
كما يمكن لتدابير قانونية أخرى، من قبيل حماية الملكية الفكرية وتسجيل البراءات أو حقوق النشر، أن تساعد المجموعة المعنية على الاستفادة من رموزها وحرفها التقليدية. ويمكن في بعض الأحيان لتدابير قانونية موجهة لأغراض أخرى أن تشجع الإنتاج الحرفي. من ذلك مثلاً أن الحظر المحلي على استخدام الأكياس البلاستيكية بصورة مبددة أن ينشط سوق السلال من السعف والأطباق، مما يسمح بازدهار المهارات والمعارف التقليدية.
تعريف الحرف التقليدية:
الحرف التقليدية هي عنصر من عناصر الفنون الحرفية التقليدية و ترتبط بتلبية احتياجات الأفراد المعيشية والاجتماعية في المجتمع، وللبيئة الطبيعية دور كبير في إنتاج هذه الحرف وكذلك الخبرات المكتسبة من هذه البيئة، إلى جانب الخامات التي تتوفر فيها، وحاجة الناس في المجتمع هي التي تشكل المقومات الأساسية لقيامها، وتظل مستمرة ما دام الناس في المجتمع في حاجة لوظيفتها التي قامت من أجلها، فنجد أن الحرف تعكس لنا المستوى الثقافي الذي وصل إليه المجتمع، كما تعكس لنا أنماط الأنشطة الاقتصادية، وكذلك الأوضاع الاجتماعية، وموقف المجتمع من الشريحة التي تمارس هذه الحرفة، كما تبين مقدرة الإنسان على التفاعل مع بيئته التي يعيش فيها ومقدرته على التكيف مع الأوضاع والظروف المحيطة به من خلال سعيه إلى الوفاء بمتطلبات حياته في تلك الظروف عن طريق استخدامه لمعارفه التقنية1.
يمكن تعريف الحرف التقليدية على أنها: «القدرات العقلية والإبداعية والفنية للحرفي الشعبي، المستنبطة من بيئته المحلية أو الموروثة من ثقافته التقليدية الشعبية والتي يستطيع بها اختيار وتشكيل وتحويل المواد الخام المحلية إلى منتوجات وأدوات يستفيد منها أفراد مجتمعه في حياتهم اليومية، مثل تشكيل الأواني الفخارية من الطين والأثاث التقليدي مثل العنقريب من الخشب»2.
نجد أن القدرات العقلية الإبداعية تمثل مهارات الإنسان وهي الأساس للحرف التقليدية، فجودة الإنتاج في نظر المجموعة المستخدمة تدل على مهارة منتجها، فكلما كان الحرفي مجوداً كان إنتاجه أجود، وهذه المهارات متعددة، فمنها ما يتعلق باختيار المادة الخام، ومنها ما يتعلق بكيفية اختيار المقاسات المناسبة للقطعة المراد إنتاجها، ومنها ما يتعلق بكيفية إعدادها وإخراجها بالصورة التي تتناسب مع حاجات الإنسان الاجتماعية والاقتصادية، ونلاحظ كذلك أن أغلب هذه المهارات تعتمد في تطبيقاتها على الخبرة بالدرجة الأولى، وهذا يقودنا إلى القول بأن الحرفي في أغلب أعماله لا يستخدم أدوات القياس المعتادة مثل المسطرة، ولعل التجربة هي التي تلعب دوراً أساسياً في هذه العملية، وبهذه الطريقة يكسب الحرفي الخبرة في التعامل مع ضروب الحياة المختلفة من حوله.
يعرف يوسف حسن مدني الحرف التقليدية بأنها:
«تلك الحرف التي تتوارثها المجموعة جيل عن جيل والتي يمارسها الحرفيون المحليون الذين ينتجون من المواد المحلية منتوجاتها ويستعملها أعضاء المجموعة لخدمة غرض اجتماعي أو اقتصادي معين»3.
الحرفي التقليدي:
يقصد به أي عضو من أعضاء المجتمع يوظف مهاراته مع استخدام يديه وبعض من الآلات التقليدية مع مواد بسيطة من بيئته؛ لينتج ويمد مجتمعه بمنتوجاته اليومية.
في هذا الخصوص أيضاً يعرف يوسف حسن مدني الصانع الحرفي بأنه: «هو ذلك الفنان الذي يستطيع المزج بين الجمال والوظيفة العملية في إنتاجه ويستخدم لتلك الغاية يديه، مستعيناً بأدوات بسيطة لإنجاز عمله والحرفي اليدوي المزود بذلك الحس الذكي بماهية الجمال وماهية الوظيفة العملية الموجودة لا يقتصر إنتاجه على الخطوط والمواصفات الموروثة فحسب بل هو أيضاً يستطيع أن يخلق ويجدد مستشعراً في داخله ذلك الأساس الحضاري الموروث الذي يحمله لخلق الجديد»4. وقد يعمل بمفرده، ومثال لذلك حرفة الفخار، أو مع بعض أفراد أسرته ومجتمعه مثل حرفة الغزل والنسيج، ويستقي تصميمات هذه المنتجات وفنياتها وأدواتها من داخل نطاق أسرته ومحيطه الاجتماعي والثقافي، بالوراثة أو التعليم وذلك بانتقالها عبر الأجيال المتعاقبة.
أهمية الفنون الحرفية التقليدية:
1) الأهمية الحضارية والثقافية:
تمثل الحرف التقليدية العمل الذي نشأ مع الإنسان ولا زال يصاحبه، وسيظل إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فيها تحافظ الأمم على هويتها الثقافية وأصالتها الوطنية.
دارسو علم الآثار نجدهم يرجعون للأدوات التقليدية المعاصرة؛ وذلك في تفسيراتهم للمواد التي يصعب عليهم تفسيرها، وحتى يتمكنوا من فهمها ومعرفة وظيفتها، فالعلاقة تبادلية بين الآثار ودراسة الحرف والصناعات التقليدية، حيث أننا في دراستنا للحرف التقليدية لابد من دراستها باعتبارها عنصرا ثقافيا حيا وموروثا ومتداولا له بعده التاريخي؛ لذا حينما نريد أن ندرس أي مادة ثقافية لابد من الرجوع إلى السجل الأثري، ومجاميع المتاحف، والتاريخ المكتوب والتاريخ الشفاهي.
تسهم في تعريف ثقافة الجماعات والمجموعات المختلفة ببعضها البعض من خلال متاحف التراث المادي التي توثق للأدوات المختلفة التي يستخدمها الإنسان في حياته اليومية.
هنالك عدد من الحرف التقليدية نجدها متجذرة في الحضارة السودانية ومستمرة على الرغم من تأثيرات المدنية والتحديث التي أدت إلى اندثار العديد من عناصر الثقافة التي من ضمنها الحرف التقليدية منها؛ صناعات الفخار مثل زير الماء، المفارش السعفية التي ترتبط بالعادات والتقاليد؛ كما أنها تعكس جوانب التراث المشترك بين المجموعات المختلفة في السودان.
2) الأهمية الاجتماعية:
قدرة الحرف التقليدية على إيجاد فرص العمل لجميع فئات المجتمع ذكوراً وإناثاً، دون الحاجة إلى رأس مال كبير لما يتميز به القطاع الحرفي من قدرة كبيرة على استيعاب طاقات وظيفية مهمة، فضلاً عن مساهمته في عملية توازن التنمية إلى جانب خفض الهجرة من القرى إلى المدن الكبيرة.
3) الأهمية الاقتصادية:
تولد الحرف التقليدية قيمة مضافة في الدخل الوطني، وهي بذلك تسهم في تنمية الاقتصاد وتنشيط الحركة الإنتاجية والتسويقية.
4) الأهمية السياحة:
أصبح من المسلَّم به أن هناك ارتباطاً وثيقاً بين الحرف التقليدية والسياحة، وذلك في معظم الدول، حيث نجد أن السائح الزائر لكل بلد من خلال السياحة التي يمارسها إذا كانت إقامته طويلة أو قصيرة لا يغادر المكان الذي يزوره دون أن يحمل معه تذكاراً، ودائماً ما يكون هذا التذكار من منتجات الحرف التقليدية؛ لذلك أصبحت الحرف عنصراً فعَّالاً من عناصر الجذب السياحي، مثلها مثل العناصر الأخرى البيئيَّة، والتاريخية والآثارية وغيرها.
أدَّى طلب السيَّاح للمنتجات الحرفية إلى تنشيط ممارسة إنتاج الحرف التقليديَّة، وأصبح من متطلَّبات السياحة في السنوات الأخيرة، تنوُّع منتجات الحرف التقليدية، وهذا ما تعكسه الأسواق التي أصبحت الآن تزدهر بالحرف التقليدية بمنتجاتها المتنوعة؛ لذلك أصبحت الدول تهتم بهذا القطاع من منظور أنَّ الحرف التقليديَّة ليست تمثل تذكاراً فقط للسائح، وإنما أصبحت تعكس ثقافة بأكملها، لأن الهدف من السياحة تعريف السيَّاح بالموروث الثقافي للبلد الذي يزورونه.
والآن تغيَّر مفهوم السياحة كثيراً حيث أصبح يقوم على مفهوم التواصل مع أهل المكان، والاطلاع على ثقافتهم من خلال حرفهم التقليدية، التي هي تمثِّل الإرث الثقافي، بل أصبحت الدول دائماً ما تحافظ على المجمَّعات الحرفية، وتقوم بدعمها لممارسة الحرف والمحافظة عليها بغرض توظيفها في الجذب السياحي، وهذا أدَّى إلى نقل المعارف والتقنيات الحرفية إلى الأجيال القادمة وبالتالي ساهمت في تنمية هذا القطاع.
العلاقة المتبادلة بين السياحة والحرف التقليدية تكون مفيدة أيضاً في الفعاليات الثقافية والسياحية المحلية والدولية؛ خصوصاً في المهرجانات التي تقام وتشكل فرصة لعرض المنتجات الحرفية، وبالتالي تساهم في التعريف بالثقافات وتبادل الخبرات في هذا المجال، ونقل المعارف المرتبطة بها. وتساهم في الترويج للسياحة وتخدم الجهات المسؤولة عن هذا القطاع.
حرفة السعفيات:
هنالك عدد من الأدوات السعفية التي يتم إنتاجها من ضَفِيْرَةْ سَعَفْ النَّخِيْلْ الذي يستخدم كمادَّة خام، وهي تختلف في أشكالها وأحجامها، وتستعمل في أغراض الحياة اليوميَّة، ولها وظائف واستخدامات مختلفة، منها؛ ما يعرف بـ (المُعْلَاْقْ)، وهو أداة تستخدم لحفظ الطَّعام، بِتَعْلِيقه، أو ربطه في سقف المطبخ، أو ما يعرف بـ (اللَّقَدَابَة)، أو (الْرَّاكُوْبَه)، وأداة (الهبَّابَة)، وتستخدم لتحريك الهواء؛ لإشعال النَّار، وهنالك نوع آخر من (الْهَبَّابَة)، تستخدمها المرأة للتهوية، في أيَّام الصيف المرتفعة الحرارة، تعرف بـ (المَرْوَحَة)، ومن الأدوات ما يعرف بـ (الكَسْكَسيْكَة)، أو (الكَسْكَسيْقَة)، وهي عبارة عن طاقيَّة، تستخدمها النِّساء، ويستخدمها الرِّجال، بارتدائها في الرَّأس لاتقاء أشعة الشَّمْس، في فصل الصَّيف، ومن الأدوات أداة (الْقُفَّة)، وهي إناء يستخدم في موسم حصاد التَّمر؛ لجمع وتعبئة المحصول، وتستخدم لوظائف أخرى، منها حمل الخُضْرَوَات، وغيرها من الأغراض المنزليَّة، كذلك من الأدوات ما تعرف بـ (الْعُمْرَة)، وهي عبارة عن إناء أفطح، يستخدم لحفظ كسرة القمح، وتوضع على أداة المُعْلَاق، ومن الأدوات أيضاً أداة (الطَبَقْ)، الذي يستخدم لغطاء أواني الطعام، وكذلك من الأدوات المَفَارِشْ بأشكالها وأنواعها المختلفة، أو ما يعرف بـ (الْبِرُوْشْ)، وهي أنواع؛ منها (بِرِشْ الصَّلَاة)؛ ويفرش لأداء فريضة الصَّلاة، و كذلك ما يعرف بـ (البِرِشْ الْأَحْمَرْ)، ويستخدم في مناسبات الأفراح المختلفة، منها الزَّواج والختان، ويفرش على سرير (العَنْقَريْبْ)، ليجلس عليه العريس للحِنَّاء. ومن البِرُوْشْ أيضاً الـ (الْبِرِشْ الأَبْيَضْ)، أو ما يعرف بـ (بِرِشْ الْعَوَجَهْ)، ويفرش على عَنْقَريْبْ الجَنَازَة، ليحمل عليه الميِّتْ إلى مثواه الأخير، كذلك هنالك ما يعرف بـ (الْتَقَروْقَة)، وهي عبارة عن مفرش دائري الشَّكل، ويستخدم بفرشه لأداء فريضة الصَّلاة، كذلك من الأدوات التي تستخدمها المرأة ما يعرف بـ (النُّطُعْ)، تجلس عليه المرأة بعد فرشه على حفرة (الدُّخَانْ)، التي تشعل فيها أعواد شجرة الطَّلِح بهدف التَّعطير والزينة، ويشبه التَقَروْقَهْ إلَّا أنَّه مفتوح في الوسط، وكل تلك الأدوات سالفة الذكر تقوم بإنتاجها النِّساء، ونوع السَّعَف الذي يستخدمونه لإنتاج هذه الأدوات؛ سعف نَخِيْلْ المُشْرِقْ، والمَدِيْنْ، والْقُنْديْلَا، والجَّاو، بالإضافة إلى سعف ذكر النَّخِيْلْ، سأقدم في هذه الورقة شرحاً مفصلاً لطريقة إعداد السعف، وأنواع ضفيرة السعف التي تستخدم لإنتاج الأدوات سالفة الذكر.
خلفية تاريخية:
في آثار ثقافة بلانة التي تعود إلى فترة ما بعد مروي (X Group)، نجد من الحرف صنع السلال، وتم اكتشاف سلتين من سعف النخيل في جبانة جوار الشلال الثاني، وفي الطرف الآخر من نفس الجبانة تم اكتشاف أربع وثلاثون سلة ورجح أنها كانت تستعمل في أعمال حفر القبر ودفنه، وهذه الطريقة من الفنيات التي تستخدم في منطقة النوبة لإزالة التراب وردمه5. كما استخدمت السلال لأغراض أخرى كثيرة ومتعددة. «انظر الصورة رقم (3)».
كان السكان في فترة حضارة كرمة يوظفون أجزاء شجرة النخيل للاستخدامات المختلفة، حيث يستخدم سعف النخيل لصنع عدد من الأدوات، وعثر في إحدى المقابر على أحزمة مضفورة من سعف النخيل، كان يستخدمها الجنود الرماة، حيث تم كشف هذا النوع في مقبرة كاملة تمثل نموذج لكتيبة الرماة النوبية6، «انظر الصورة رقم (4)».
في فترة حضارة كرمة اشتهرت حرفة السعفيات، حيث تم الكشف عن عدد من البروش والأطباق التي صنعت من السعف، وهي تحمل نوع الضفيرة نفسها التي في البروش، ونوع الغرز نفسها المستعملة في الأطباق التي تستخدم في الوقت الحالي دون تغيير يذكر عدا في الأشكال الزخرفية7، «انظر الصورة رقم (5)».
في الفترة المسيحية انتشرت الأدوات السعفية وأضحت شائعة الاستعمال، وأكثرها في كلبنارتي وأتيري، حيث عثر على كميات هائلة من الحصير من ضمن البقايا الأثرية في الأماكن السكنية، وأنواع مختلفة من السلال.
من الأدوات السعفية، البِرُوْشْ أي المفارش، نجدها متجذرة في التاريخ القديم، فبالرجوع إلى السجل الآثاري، أثبتت الدلائل أنها استخدمت منذ فترة العصور الحجرية، واستمرت خلال الفترات التاريخية المختلفة والمتعاقبة، مروراً بحضارة كرمة، ونبتة ومروي والفترة المسيحية والاسلامية، ولم يحدث بها أي تغيير يذكر، مما يؤكد مدى العمق التاريخي والبعد الحضاري والاستمرارية في تاريخ السودان القديم، وارتبطت بحياة الناس من خلال عاداتهم وتقاليدهم، حيث نجدها في التاريخ القديم مرتبطة بعادات دفن الموتى، فقد تم اكتشاف متوفي حُفِظ بفعل الطبيعة ملفوفا ببرش يعود إلى فترة العصر الحجري الحديث، وفي مواقع أخرى وجد أن الميت يرقد على البرش، وفي غيرها مغطى به، وتمت صناعتها من سعف النخيل8.
في فترتي نبتة ومروي استخدمت البروش لأغراض مختلفة، منها استخدامها في تقنيات صناعة الفخار، حيث تم العثور على عدد كبير من الأواني التي يظهر على سطحها طبعات ضفيرة البرش، وتستخدم البروش بفرشها على حفر صناعة الأواني الفخارية، ويتم تبليلها بالماء، ومن ثمَّ تأخذ شكل تلك الحفر، ويتم بناء الأواني عليها بالطين، وبالتالي تأخذ هذه الأواني شكل الضفيرة في سطحها من الخارج (7). وهذا يؤكد الوجود الأثري للبروش واستخدامها في فترتي نبتة ومروي.
استمر استخدام البِرُوْش حتى الفترة المسيحية، وتعددت وظائفها حيث تم العثور من خلال المكتشفات الأثرية الحديثة بمنطقة الضانقيل، في حفريات الهيئة العامة للآثار والمتاحف في موسم 2014م، على هيكل لمتوفي ملفوفا ببِرِشْ، يعود إلى الفترة المسيحية، «انظر الصورة رقم (6)».
استمر هذا التقليد في الفترة الإسلامية، حيث أصبح يُحمل المتوفي على عنقريب، عبارة عن سرير خشبي، مفروش عليه بِرِشْ أبيض يعرف بـ (بِرِشْ العَوَجَة)9، فنجد أنَّ هذا الارتباط بعادات الدفن مازال مستمراً، واستخدام البِرُوش ليس فقط في حالة الموت، بل تستخدم أيضاً في حالات الميلاد والختان والزواج، فالبِرِشْ نجده يرتبط بدورة حياة الإنسان منذ الميلاد وحتَّى الممات، حيث نجد أنَّ المرأة النفساء يفرش لها برش أحمر لترقد عليه بعد الولادة، والطفل المختون أيضاً يفرش له بِرِشْ أحمر، وكذلك عند الزواج لابد من أن يُفْرَش للعريس في ليلة الحناء على (العَنْقَريْبْ) الذي يجلس عليه بِرِشْ أحمر، وكذلك يُفرش على العنقريب الذي يجلس عليه العروسان لأداء طقوس (الجَرْتقْ). فاللون الأحمر أيضاً له دلالة معتقدية في الثقافة، وذلك للاعتقاد أنَّ اللون الأحمر يساعد في الشفاء مما يعرف بـ (دم التاير)10.
الأدوات السعفية مثل البروش أي مفارش السعف نجدها مختلفة الأشكال والأحجام ولها وظائف مختلفة، والسلال والهبابة والمعلاق جميعها تقوم بصناعتها المرأة وبرعت في هذه الصناعة التي تبدأ بضفيرة السعف لعمل ما يعرف بـ (القَديْقَة)11، وتختلف أنواع الضفيرة، بحسب نوع الأداة التي تريد المرأة صناعتها، فعلى سبيل المثال البروش نجدها مختلفة الأشكال والأحجام؛ منها البرش الأبيض، أي برش (العَوَجَة)، الذي يفرش على سرير الجنازة (العَنْقَريْب)، والبرش الأحمر الذي يستخدم في ممارسات دورة حياة الإنسان منذ الميلاد والختان والزواج.
طريقة إعداد السعف:
يتم قَطْع السعف من قَلْبْ النَّخْلَة باستخدام أداة المُنْجَلْ، وبعد إحضاره تُجْرَى له بعض المعالجات، بحيث يتم تقطيعه إلى سَلْخَاتْ، ووضعه تحت أشعة الشَّمس لتجفيفه، لمدَّة يومين، ثمَّ تشقيقه، وكسر قعوره، ثمَّ بعد ذلك يتم استخدامه بعد بَلِّه بالماء، ووضعه فيما يعرف بـ (الْبَلَّالْ)، وهو عبارة عن جَوَّال من (الخَيْشْ)، وهو من نوع الجَوَّالاتْ التي يعبَّأ فيها التَمْرْ، ثمَّ تبدأ المرأة بعمل ما يعرف بـ (الضَّفِيْرَة)، والتي تستخدم لإنتاج الأدوات المُختَلِفة.
هذا النَّوع من السَّعَفْ، وكيفيَّة معالجته توضِّحَها لنا الرَّاويَة سعاد سيد أحمد حمد وتقول:
«بِنْجِيْبْ الْسَّعَفْ حَقْ تَمُرْ الْمُشْرِقْ وَلَّا الْمَدِيْنْ وَلَّاْ الْقُنْديْلَا نَقْطَعْ الْقَلِبْ الْسَعَفْ الَّبْيَضْ وُجَنْبُوْ بِنَقْطَعْ مِنْ الْأَخَدَرْ الْبِكُوْنْ مُتْفَرِّعْ مِنْ الْقَلِبْ وَالْقَلِبْ دَاْ بِكُوْنْ فِيْ نُصْ التَّمْرَهْ بِنَقْطَعْ مِنُّوْ وَاْحِدْ أَبْيَضْ بيْ الْمُنْجَلْ يَاهُوْ نَجِيْ نَسَلِّخُوْا نَخَلِّيْ إِنْشَفْ نَمِسْكُوْ نَشَقِّقُوْ نَطَلِّعْ مِنُّوْ الْحَنْقُوْقْ اللَّيْلُوْ دَاْ وُنْكَسِّرْ قُعُوْرُوْ دِيْ وُبِنْشَفْ فِيْ يوْميْنْ بَسْ نَشُرُّوْا اللّيْلَهْ فِيْ الشَّمِشْ نَمِسْكُوْا بُكْرَهْ نَشَقِّقُوْا نَاعِمْ وُنَبِلُّوْا فِيْ الْبَلَّاْلْ هِنَا وُنَجِيْ نَضُفْرُوْا»12.
ضَفِيْرَة السَعَفْ:
تقوم المرأة بضَفِيْرَة السَّعَف، وهي أنواع مختلفة، بحسب نوع الأداة التي تريد إنتاجها، وطريقة الضَّفِيْرَة واحدة، لكنها تختلف في عدد السَّعف، وبالتَّالي عرضها، كما تختلف أيضاً في أطوالها. ومن أنواعها؛ (أُمْ إِتْنيْنْ)، وتعني استخدام سَعَفَتين، و(أُمْ تَلَاْتَهْ)، وتعني استخدام ثلاث سَعَفَاتْ، و(أُمْ أَرْبَعَهْ)، وتعني استخدام أربع سَعَفَاتْ، ونلاحظ أن التَّسمية تطلق على نوع الضَّفِيْرَة، بحسب عدد السَّعَفْ الذي تقوم المرأة الحرفيَّة بطيِّه في عمليَّة الضَّفِيْرَة، لكن بعد بداية الضفيرة يظهر عدد السعف مضاعف، أي ما يعرف بـ (الْقَلْبَه ْ). وعن أنواع الضَّفِيْرَة تتحدَّث الرَّاوية فاطمة فضل المولى سليمان وتقول:
«الضَّفِيْرَهْ دِيْ أَنْوَاعْ فِيْ أُمْ إِتْنيْنْ بِكُوْنْ عِنْدَهَا أَرْبَعَهْ سَعَفَاْتْ إِتْنيْنْ بيْ هِنِيْ وُ إِتْنيْنْ بيْ هِنِيْ وُأُمْ تَلَاتَهْ عِنْدَهَاْ سِتَّهْ سَعَفَاتْ تَلَاتَهْ بيْ هِنِيْ وُ تَلَاتَهْ بيْ هِنِيْ وُ أُمْ أَرْبَعَهْ دِيْ بِكُوْنْ عِنْدَهَاْ تَمَاْنْيَهْ سَعَفَاْتْ أَرْبَعَهْ بيْ هِنيْ وُ أَرْبَعَهْ بيْ هِنيْ بِنْسَمِّيْهَا بيْ الْقَلْبَهْ يَعْنِيْ بالْعَدَدْ بِتَاْعْ الْسَّعَفَاْت الْبِنَقْلِبِنْ ديْلْ وُديْلْ كُلَّهِنْ بِنَضْفُرِنْ وُأَيِّ حَاجَهْ ضَفِيْرَتَا بَرَاْهَا الْهَبَّابَاتْ ديْلْ والْمُعْلَاْقْ بِنَضْفُرْ أُمْ إِتْنيْنْ والْقُفَّهْ أمْ تَلَاتَهْ وُأُمْ تَلَاتَهْ دِيْ بِنَعْمَلْ مِنَّهَا الْتُّبَابَهْ بِنْتَبِّبْ بيْهَا الْبِرِشْ اللِّيْلْ الْصَّلَا دَا والْبِرِشْ اللَّبْيَضْ بَرْضُوْ وُ أُمْ أَرْبَعَهْ للْبِرُوْشْ أهَا أَيِّ ضَفِيْرَهْ مِنْ ديْلْ بِنَعْمَلَاْ نَضْفُرْ وُ نَلِفْ نَضْفُرْ وُ نْلِفْ لَاْمِنْ تَتِمْ الْقَديْقَهْ وُ بَعَبِرْ بالْبَاعْ زَيْ تَلَاتَهْ ضُرَاعْ كَدِيْ الْشّوْط وُكُلُّ حَاجَهْ عِنْدَهَا مَقَاسْ بِنْقِيْسُوْا بالْضُّرَاعْ نَبَيِّعُوْ كَدِيْ والْبِرُوْشْ دِيْ بِنْقِيْسَا بالْشّوْطْ»13.
هنا شرحت لنا الراوية فاطمة، أنواع الضَّفيرة، مبيِّنَة أنَّ عدد السَّعَفْ يكون ضعف، عدد النَّوع، وأنَّ النوع سمي نتيجة لعدد السَّعف المستخدم في الضَّفِيْرَة؛ وذلك لأنَّه دائماً ما يتم طيَّه لضَفْرَه؛ لذلك يظهر العدد مضاعف، «انظر الصور رقم: (13)، (14)، على التوالي».
قِسْ على ذلك بأنَّ نوع الضَّفِيْرَة تُسَمَّى بِعدد السَّعَف الذي حدَّدته الحرفيَّة لعمل ضَفِيْرَتَهَا، بِحَسَبْ نوعْ الأداة التي تريد عملها، كما بيَّنَتْ الرَّاوية فاطمة، وأضافت الراوية بأنها تَضْفُرْ، وكلَّمَا طالت ضَفِيْرَتَهَا، تقوم بِطَيِّهَا، في شكل دائرة، تسمَّى بـ (الْقَديْقَة)، «انظر الصَّوْرة رقم (15)».
ثمَّ تقوم بقطع المقياس الذي يكفيها لعمل الأداة، إذا كان مُعْلَاْقْ، أو قُفَّة، أو غيرها. وتمارس المرأة عملها في منزلها، وتقوم بعمليَّة الضَّفِيْرَة، في أوقات فراغها من أعمالها المنزليَّة، وتقول الراوية سعاد سيد أحمد:
«أَنَا بَضْفُرْ فِيْ أَيِّ وَكِتْ أَكُوْنْ فَاضْيَهْ فِيْوْ مَا عِنْدِيْ شَغَلَهْ بَسْ أَقَنِّبْ فِيْ سَعَفِيْ دَاْ وُ كَاْنْ عِنْدِيْ حَاْجَهْ بَخَلِّيْ فِيْ بَلَّاْلُوْ دَاْ بَجِيْ بَلْقَا سَمِّحْ مَاْ عِنْدُوْ عَوَجَهْ يَعْنِيْ أَنَاْ فِيْ الْبيْتْ بَشْتَغِلْ وَكِتْ فَرَاْغِيْ بَسْ وُبَضْفُرْ أَيِّ نوْعْ بَعْمَلْ كَمْ قَديْقَه وُبَخلِّيْهُنْ وَكِتْ مَا أَكُوْنْ دَايْرَهْ أَعْمَلْ الْحَاجَهْ الْدَّايْرَاهَا بَعْمَلَا مِنَّهُنْ أُمْ إِتْنيْنْ دِيْ بَعْمَلْ مِنَّهَاْ الْمُعْلَاْقْ وُبَعْمَلْ مِنَّهَاْ الْهَبَّابَهْ وَالْقُفَّهْ دِيْ بيْ أُمْ تَلَاْتَهْ وُكُلْ حَاجَهْ عِنْدَهَاْ قَديْقَهْ بَرَاْهَاْ بَسْ الْمُعْلَاْقْ حَقَّتُوْ دِيْ مَاْ كَبِيْرَهْ الْمُعْلَاْقْ كُلَّهَاْ إِكُوْنْ بَاْعيْنْ تَلَاْتَهْ شيْطَاْنْ بِنَعْمَلْبَهُنْ الْمُعْلَاْقْ وَالْهَبَّاْبَهْ شوْطْ وَاحِدْ بِيْعْمَلْ الْهَبَّاْبَهْ وَالْقُفَّهْ دِيْ سَبْعَهْ بَاْعْ تَمَاْنْيَهْ بَاْعْ وُ أُمْ أَرْبَعَهْ دِيْ بَعْمَلْ مِنَّهَاْ الْبِرُوْشْ دِيْ كُلَّهَاْ بِرْشْ الْعَوَجَهْ وُبِرِشْ الْدُّخَاْنْ والْتَقَروْقَهْ اللَّتْ الْصَّلَاْ وَالْبِرِشْ اللَّحَمَرْ بِرْشْ الْحِنَّاْ»14.
نَستَنْتج أيضاً من قول الراوية، أنواع الضَّفِيْرَة كما ذكرت لنا الراوية فاطمة، وتضيف الراوية سُعاد أنَّ أيِّ نوع من أنواع الْضَّفِيْرَة يستخدم لعمل أداة محدَّدة، مثلاً الهبَّابَة، والْمُعْلَاق، يُضْفَر لهما ضَفِيْرَةْ أُمْ إِتْنيْنْ، والْقُفَّة، أُمْ تَلَاْتَهْ، وجميع أنواع البِرُوْشْ، بأمْ أَرْبَعَهْ، والأطوال تختلف بحسب نوع الأداة، يتم طَيَّهَا بعمل الـ (قَديْقَةْ)، أي لّفَّة الضَّفِيْرَة؛ لكن هنالك ثوابت، في أنَّ هذه الأطوال التي تستخدم، يتم قياسها بما يعرف بـ (البَاْعْ)، وهو مقياس بِمِقْدَار طول اليَدَيْن، وهي مَفْرُوْدَة بشكل مستقيم، ويُعَادِل البَاْعْ ثلاثة أَذْرُع، أي (ضُرَاْعْ)، ويعادل طول اليد الواحدة، كما ذكرت الرَّاوية سُعَاد. والباع يعادل (180سم) تقريباً، فكل أداة لها مقياس محدَّد يُقاسْ بـ (البَاعْ)، ويتم طيَّه، بلفة (الْقَديْقَةْ). وطريقة الضَّفِيْرَة متشابهة في كل الأدوات؛ لكنها تختلف في عدد السَّعَف، فبعد أن تحدِّد الحرفيَّة نوع الأداة التي تُريْد صُنْعَهَا، تحسب عدد السَّعَفْ للْضَّفِيْرَة، ثمَّ تقوم بوضع، السَّعَفْ ليكون متوازياً، مُمْسِكَةٌ بأطرافه، ثمَّ تقوم بِطَيْ سَعَفَة في وسط سَعَفْ الضَّفِيْرَة المرصوف بشكل طولي ومتوازي، ووظيفة هذه السعفة العرضية، تثبيت السَّعَفْ، وذلك بتمريرها بشكل لَوْلَبِيْ، بحيث تربِط السَعَفْ وتُقَسِّمْه إلى نصفين متساويين، ثمَّ تبدأ الحرفيَّة في طي الجزء الأيمن من السَّعَفْ بالترتيب، بحيث تطوي السَّعَفَة الطَرَفِيَّة أوَّلاً، وتقوم بتشبيكها في بقيَّة السَّعَفْ، بحيث تُنْزِلْ سَعَفَتين، وتَرْفَع السَعَفَتَيْن التَّاليَتَيْنْ لها، إلى آخر سَعَفَة، وبالطريقة نفسها تطوي التي تليها، والتي تليها، حتى تكمل سَعَفْ الجزء الأيمن، ثمَّ تكرِّرْ العمليَّة نفسها في سعف الجزء الأيسر، لتكون الحركة معكُوْسَة، وبهذه الطريقة يكون السَّعَفْ أخذ شكل الرَّقم سَبْعَه، وتمسك به المرأة من الوسط، وتستمر في تشبيك كل مجموعة، على التَّوَالي، على اليمين أوَّلاً، ثمَّ على اليَسَار، بالتَّبَادُل، وهذه هي طريقة الضَّفِيْرَة، «انظر الصور رقم: (16)،(17)،(18)، على التَّوالي».
تستمر المرأة بعد ذلك في مواصلة عمل الضَّفِيْرَة، وكل ما تُكْمِل سَعَفَة، تقوم بإدخال سَعَفَة في مكانها، ويكون بجانبها كميَّة من السَّعَفْ المَبْلُوْلْ بالماء فيما يعرف بـ (الْبَلَّالْ)، وبهذه الطريقة يزيد طول الضَّفِيْرَة، وكلَّما زاد طولها تقوم الحرفيَّة بطيِّها، وبذلك تتكوَّن لفَّة الْقَديْقّة، «انظر الصورة رقم (19)». وتستمر الحرفيَّة في الضَّفِيْرَة إلى أن تكتمل القَديْقَة، وتقوم بقياسها بـ (البَاعْ)، لتحديد الطول المناسب للأداة التي تُريْد صُنْعَها.
تقوم النساء عادة بإنتاج الأدوات السعفية في أوقات فراغهنَّ، ويحصلن على عائد مادي من بيعها، يساعد في زيادة دخل الأسرة، فهذا يشكل بعداً اجتماعياً واقتصادياً هاماً، حيث أنَّ هذه الحرفة تشكل فرصة عمل كبيرة لقطاع النساء الذي يمثل نسبة كبيرة من القوى العاملة، حيث تنعدم في أحيان كثيرة فرص العمل الأخرى بالنسبة لهذا القطاع. ومن الناحية الاجتماعية تحقق مساهمة المرأة في ميزانية الأسرة عن طريق الدخل الذي تجنيه في تعزيز دورها ومكانتها في الأسرة والمجتمع، وهو عمل فيه إبداع جمالي وفنِّي، ولا تزال هذه الحرفة رائجة، ويقبل عليها الناس لحاجتهم لوظائفها العملية والاجتماعية والثقافية والجمالية التي لا تزال مستمرة في المجتمع.
ونجد أنَّ المرأة بشكل عام تملأ وقت فراغها وتمارس عملا إبداعيا وجماليا، وله وظيفة عملية في المجتمع، وتتكسَّب من هذا العمل، ويشكل لها مصدر دخل مادي، تساهم به في دخل الأسرة، مما يعزز دورها في محيطها الأسري والاجتماعي، كما أنَّ هذا العمل يعبِّر عن ثقافتها، ويمثل هويتها التي تعتز بها، لأنَّ لهذا العمل تاريخا طويلا في الموروث الثقافي بالمنطقة.
حرفة السعفيات تمثل نشاطاً اقتصادياً مهماً للمجتمع؛ لأنها وسيلة وعنصر مهم من عناصر الإنتاج، فهي تلبي احتياجات الناس في المجتمع، ووسيلة لكسب العيش، وتوفر الاستقرار لشريحة كبيرة في المجتمع، وتُبعد عنهم شبح البطالة، كما تساعد في تقوية العلاقات الاجتماعية بين الناس، ولهذا نجدها تساعد في استقرار الفرد والمجتمع، كما تسهم في حل مشكلات عديدة تواجه المجتمع؛ مما يؤكد أهميتها الاجتماعية والاقتصادية.
تنمية وتطوير الفنون الحرفية السعفية التقليدية:
في هذه الجزئية نقترح تأسيس قرية السعفيات، والهدف منها إحياء كل الموروث الثقافي الذي يرتبط بالحرف التقليدية القائمة على الانتفاع من سعف النخيل في منطقة مروي، لضمان صونها بالمحافظة عليها وضمان استمراريتها في ثقافة المنطقة، ونقلها للأجيال القادمة، وتفعيل دورها الاقتصادي والاجتماعي، ابتداءً من قطع السعف من النخلة وعكس كل التقنيات والمعارف التقليدية المرتبطة بها، بالإضافة إلى الفنون الحرفية التقليدية، ومراحل إنتاجها التي يتبعها الحرفيين في صنع الأدوات، وتحتوي هذه القرية على متحف يوثق للمنتجات السعفية، يسمَّى متحف السعفيات، ويلحق به مركز للدراسات والبحوث، ويتم إنشاء معهد الحرف والصناعات التقليدية، والغرض منه تأهيل وتدريب الحرفيين، ورفع قدراتهم، وتجويد إنتاجهم؛ من أجل تسويق هذا المنتج لينافس في السوق المحلية والعالمية، ويساهم في دخل الأفراد والمجتمع، ويروج للمنتج سياحياً، ويلحق بالمعهد سوق وصالة لعرض المنتجات.
متحف حرفة السعفيات:
الغرض من إنشاء هذا المتحف هو عرض كل أدوات الثقافة المادية بشقيها الآثاري والأثنوغرافي، ويتَّبَع في العرض كل الأساليب العلمية الدقيقة الخاصة بمتاحف التراث، وأهمها عرض القطع بشكل يشبه بيئتها الطبيعية، على أن توضِّح استخدامها في الثقافة، بحيث تُفْصح طريقة العرض عن الأداة ووظيفتها، ويشمل العرض قسمين، قسم للعرض الداخلي في صالات المتحف، ويشمل الأدوات الأثرية وأدوات الثقافة المادية، وقسم للعرض الخارجي، ويشمل مزرعة للنخيل؛ لتوضيح كل التقنيات والمعارف المرتبطة بزراعته، وأنواعه، وبها وحدة إنتاج حرفة السعفيات التقليدية لإنتاج الأدوات السعفية المختلفة القائمة على الانتفاع من سعف النَّخِيْل مثل صناعة الحبال، التي تبيِّن لزوَّار المتحف طريقة صنع الأدوات بمراحلها من المادة الخام وحتى المنتج النهائي، ويلحق بالمتحف مكتبة تضم كل الكتب والدراسات والبحوث في مجال المتاحف، والآثار والسياحة والتراث والثقافة المادية والحرف التقليدية، وقسم الأرشيف الذي يحفظ كل وسائل توثيق التراث الخاص بالمنطقة، والمكتبة والأرشيف لفائدة الباحثين والدارسين في مجال التراث الثقافي، ويلحق بالمتحف مطعم للزوَّار تقدَّم فيه كل المأكولات والمشروبات الشعبية، ويراعى في عمارة المتحف عكس العمارة التقليدية؛ وذلك باستخدام مادة الطين في المباني، وجريد النَّخِيْل وسعفه وسوقه في السقف، ويلحق بالمتحف قسم لاستراحة الزوار يتم تصميمها أيضاً من سُوق النَّخِيْل وجريده، وتزيَّن بعمل الأصائص من سوق النَّخِيْل، ويتم تصميم كل الأثات من جَرِيْدْ النَّخِيْل بعمل المقاعد والمناضد، ويتم في هذه الاستراحة عرض للأفلام الوثائقية التي توثق للحرف التقليدية.
قسم الدراسات والبحوث:
من مهام هذا القسم:
1. جمع وتوثيق ودراسة وتحليل وحفظ الحرف التقليدية؛ وذلك من أجل صونها وحفظها.
2. القيام بالمسوح الميدانية المتعلقة بالثقافة التقليدية المعنوية والمادية منها، والوقوف على اتجاهات التغيير في الحرف التقليدية والعوامل التي تؤدي إلى ذلك.
3. جمع العينات الأصيلة بغرض عرضها بالمتحف، وتسجيل كل التراث المرتبط بهذه العينات، بجانب الإشراف على المتحف المفتوح؛ وذلك بانتقاء الحرفيين المهرة من المجموعات التي تقطن المنطقة الذين برعوا في الحرفة المحددة للعرض، لتقديم الصورة الحقيقية لعرض الحرفة.
4. إكمال النقص في المعلومات الخاصة بالمتحف، والمكتبة والأرشيف.
5. التوعية بأهمية التراث بشكل عام والحرف التقليدية على وجه الخصوص.
6. تنظيم البرامج التثقيفية والتعليمية لطلاب المدارس بمراحلها المختلفة؛ لتحقيق هدف المتحف التربوي والتعليمي.
7. الإشراف على توصيل المعلومات لزوار المتحف والطلاب والباحثين، من خلال البطاقات المتحفية المصاحبة للقطع المعروضة، بالإضافة إلى الشرح بمرافقة زوار المتحف، وعمل المطبقات التي تحتوي على معلومات عن فكرة المتحف، وتقسيمه الداخلي ومقتنياته.
معهد الحرف التقليدية:
الهدف من إنشاء المعهد هو تدريب الحرفيين من أجل تجويد منتجاتهم، بحيث تكون مواكبة لمتطلبات العصر، ويمكن تسويقها داخلياً وخارجياً، وحتَّى تكون هذه المنتجات مرغوبة بالنسبة للسياح الذين يفدون إلى المنطقة؛ لابد من تدريب الحرفيين على أصول التصميم، وأساليب التسويق والإدارة وبناء القدرات؛ لحصول المنتجين على الفهم الصحيح حول أهمية التصميم وتطوير الإنتاج من أجل عملية إنجاح التسويق الجيِّد، بالإضافة إلى عمليات الترويج للمنتجات، ويستعين المعهد بمتخصصين في هذه المجالات للقيام بعمليات التدريب.
يقوم المعهد بتدريب الحرفيين والأفراد الذين يرغبون في الانضمام للمعهد، والحرفيين المبدعين ممن يتم انتقاؤهم من المجتمعات المحلية الذين يقومون بإنتاج أدوات متميِّزة الصنع.
يتم عرض نماذج من منتجات المعهد في صالة العرض الملحقة بالمعهد، ويسوق للإنتاج بالسوق الملحق بالمعهد، ويتابع هذه العملية مختصون من أجل تحقيق عائد مادي لدعم مناشط المعهد، وللعمال الذين يعملون به.
بعد إنهاء الدورات التي تقدم للمتدربين، يعودون إلى مجتمعاتهم المحلية لممارسة حرفهم بالتقنيات الحديثة التي تعلموها، ويتم تكليف المتفوقين بالمعهد ليكونوا مسؤولين عن تدريب آخرين في مجتمعاتهم المحلية، بعد أن يوفر لهم المعهد الإمكانيات المادية والمتابعة الدقيقة.
يتم عرض نماذج من إنتاج الحرفيين بالمجتمع المحلي، في صالة المعرض الملحقة بالمعهد، والجزء الأكبر يتولَّى جهاز التسويق مسؤولية تسويقه ورد العائد المادي للحرفيين.
يتبنَّى المعهد استيعاب الحرفيين المبدعين الذين يستحدثون منتجات تتوافق مع روح العصر، ويقوم المعهد بصقل مواهبهم بتقديم الدورات التدريبية لهم في مجالات التصميم، والإدارة والتسويق والترويج.
مشاركة المعهد في المعارض الداخلية والخارجية، وعمل جائزة سنوية تمنح للمبدعين الذين يقدمون أعمالا إبداعية في هذا المجال، بحيث تكون مواكبة لروح العصر.
أهداف المعهد:
1. الإسهام في وضع استراتيجية لتطوير الحرف التقليدية بالتعاون مع قسم الدراسات والبحوث.
2. تنشيط علاقات التعاون بين المعهد والجهات ذات الصلة داخل البلاد وخارجها؛ وذلك للتشاور وتبادل المطبوعات والمعلومات العلمية والتوثيقية، والتنظيم المشترك للقاءات من أجل دراسة قضايا الإنتاج والمشروعات المقترحة لتطوير الحرف التقليدية.
3. تنظيم ندوات ومؤتمرات تناقش قضايا الموروث الثقافي بشكل عام والحرف التقليدية على وجه الخصوص، فيما يتعلق بقضايا التصميم، تنمية المهارات، جودة الإنتاج الحرفي، التمويل فرص التسويق، السياسات الوطنية لتنمية قطاع الحرف التقليدية، والمؤتمرات توفر فرصة لراسمي السياسة، والمخططين والإداريين القائمين على ميدان التوثيق، وخبراء هذا القطاع، للالتقاء والتشاور وتبادل الخبرات، ووجهات النظر حول المعوقات وآفاق المستقبل المتعلقة بموضوع توثيق الموروث الثقافي، وهذا يساهم في وضع سياسة للنهوض بمناهج وطرق موحدة للتوثيق، وبالتالي المحافظة على الموروث من موجات الاندثار التي يتعرَّض لها.
4. الاهتمام والعناية بالحرفيين والحرفيات الذين يعملون في قطاع الحرف التقليدية؛ وذلك بتدريبهم، وتوفير الاحتياجات الضرورية لأعمالهم، وتجويد إنتاجهم، وإطلاعهم على التصميمات الجديدة من أجل تطوير قدراتهم للابتكار والتطوير، بالإضافة إلى إيجاد السوق لمنتجاتهم.
5. عرض التجارب الجديدة والغنية للدول العربية والأجنبية للحرفيين للإفادة منها في التطوير وتحسين الإنتاج، مثل دول المغرب، والجزائر، والمملكة العربية السعودية، وغيرها.
6. إعداد بروشور ترويجي جيِّد، يشتمل على الأعمال الحرفية المميزة التي تعكس الموروث الثقافي بالمنطقة، بهدف الترويج لها سياحياً، وزيادة الطلب عليها من قبل المشترين.
7. توفير فرص المشاركة للحرفيين في المعارض والمهرجانات الداخلية والخارجية في مجال الحرف التقليدية من أجل تحسين مستواهم.
8. توفير مصادر التمويل.
المستهدفون والمستفيدون من القرية:
الحرفيون والراغبون في تعلم الحرف التقليدية من الشباب، ويستوعب المتحف ومركز الدراسات والبحوث والمعهد خريجي أقسام الفولكلور، والآثار والمتاحف، والسياحة، والتاريخ، وخريجي كليات
التربية، والفنون الجميلة والتصميم، ويستفيد كل من طلاب المدارس في المراحل المختلفة وكافة المستويات في الجوانب التعليمية والتربوية.
المنطقة الجغرافية التي تخدمها القرية:
يخدم المتحف والمعهد ومركز الدراسات والبحوث بشكل رئيسي محلية مروي وما حولها من الولاية الشمالية، ويمكن أن يقدم المعهد خدمات التدريب للراغبين في ممارسة الحرف التقليدية من مناطق ومحليات أخرى بالولاية الشمالية، كما أنَّ قرية السعفيات ستكون منطقة جذب سياحي للسياح من الداخل والخارج.
الجهات الشريكة ذات الصلة:
1. وزارة الثقافة والإعلام الاتحادية.
2. المجلس القومي للتراث الثقافي وترقية اللغات القومية،
3. الإدارة العامة للسياحة.
4. الهيئة العامة للآثار والمتاحف.
5. معهد الدراسات الإفريقية والآسيوية، ممثل في قسم الفولكلور.
6. إدارة السياحة بمحلية مروي.
7. كلية الآداب والدراسات الإنسانية بجامعة دنقلا، ممثلة في قسم الفولكلور بمدينة كريمة.
8. متحف جبل البركل بمدينة كريمة.
9. وزارة التربية والتعليم الاتحادية، ومكتب التعليم بمحلية مروي.
10. وزارة الصناعة.
11. وزارة الرعاية الاجتماعية.
12. وزارة الزراعة والغابات الاتحادية.
13. مكتب الزراعة بمدينة مروي.
14. منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة.
نجد أنَّ جل هذه الجهات تنفذ بعض البرامج التي ربما تساهم بشكل أو بآخر في المحافظة على الموروث الثقافي على وجه العموم، وعلى الحرف التقليدية بصفة خاصة، وهذا يعني أنَّ هنالك مجهودات مبذولة من جانب هذه الجهات المختلفة تهدف إلى تنمية الحرف التقليدية؛ وهذا يعتبر تبديدا للجهود؛ وعليه لابد من تأسيس هيئة أو وزارة متخصصة تعنى بالحرف التقليدية، وتقوم برعاية المشاريع التي تهدف إلى صون وحماية الموروث الثقافي والحرف التقليدية، هنالك عدة دول عربية نجحت في تنمية وتطوير الحرف التقليدية مثل تونس والمغرب؛ وذلك لتخصيصهما لجسم واحد يهتم بهذا القطاع، ممثل في وزارة أو هيئة تعنى بتنمية الحرف التقليدية اقتصادياً وسياحياً، وأدَّى ذلك إلى المحافظة على الحرف التقليدية، وتطويرها، والاستفادة منها في الدخل القومي. ونحن في السودان بشكل عام نحتاج إلى تأسيس وزارة الحرف التقليدية، على أن تكون هنالك وزارة اتحادية، ووزارة ولائية لمباشرة تنفيذ مشروع تطوير الحرف التقليدية بمحلية مروي، ومن مهام هذه الوزارة الرئيسة وضع الخطط والبرامج والاستراتيجيات بمعاونة كل المختصين في مجالات الموروث الثقافي والآثار والمتاحف والآثار والسياحة، وبمعاونة كل الجهات سابقة الذكر المتوقع دعمهم لهذه القرية، وتستوعب هذه الوزارة خريجي الآثار والفولكلور والسياحة والمتاحف بجامعات السودان المختلفة، وتقوم بتدريب الطلاب وتأهيلهم، وتشرف هذه الوزارة على تنفيذ القرية المقترحة وتوفر لها الدعم من كل الجهات المتوقع دعمها للقرية، بالإضافة إلى استقطاب الدعم من منظمات المجتمع المدني المحلية والمنظمات العالمية ممثلة في منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (UNESCO)، ومثل هذه المنظمات تدعم هذه المشاريع، وحينما تُنشأ وزارة اتحادية متخصصة، هذا يشجِّع مثل هذه المنظمات لدعمها، خصوصاً إذا قُدِّمَت لها مثل هذه المشاريع وفق خطة مدروسة.
الخاتمــة
الحرف التقليدية التي يستخدم فيها سعف النخيل كمادة خام في إنتاجها نجدها متنوِّعة ومتعددة منها الأواني المنزلية، مثل (الْقُفَّة)، و(العُمْرَة)، والمفارش مثل (البِرُوْشْ) بأنواعها المختلفة، والتي ارتبطت بدورة حياة الإنسان منذ الميلاد وحتَّى الممات، مثل (البِرِشْ الأَحْمَرْ) الذي استخدم كمفرش للنفساء، ويستخدم أيضاً كمفرش للطفل المختون، وفي الزواج يجلس عليه العريس لأداء طقوس الحِنَّاء والجَرْتِقْ، وفي الموت يستخدم ما يعرف بـ (بِرِشْ العَوَجَة)، الذي يفرش على (عَنْقَريْبْ) الجنازة، وتنتج الحبال من ليف النخلة،
نجد أنَّ للحرف التقليدية أهمية اقتصادية واجتماعية، حيث تمثل مصدر دخل لعدد كبير من أفراد المجتمع، يساهم في استقرارهم؛ وبالتالي يقلل من نزيف الهجرة من الريف إلى المدن الكبرى، خصوصاً شريحة النساء اللائي ينتجن الأدوات السعفية، حيث يمارسن هذه الحرفة في منازلهن وهذا يمكنهن من رعاية أبنائهن، ويمارسن أعمالهن في أوقات فراغهن من واجباتهن المنزلية، وتمثل هذه الأعمال مصدر دخل مهم يساهم في تعزيز دورهم الأسري، ويحقق لهم وظائف في المجتمع، حيث نجد أنَّ مجتمع منطقة مروي مجتمع ريفي، وتقل فيه فرص العمل بالنسبة لشريحة النساء، أو تكاد تكون معدومة؛ لذلك توفر الأعمال السعفية وظائف عمل للنساء في مجتمع تقل فيه فرص العمل.
الآن أصبح هذا الموروث الثقافي مهدداً بالاندثار وبالزوال نتيجة للتنمية التي قامت بالمنطقة دون دراسة لطبيعة هذا الواقع الثقافي ومعرفة أبعاده الاقتصادية والاجتماعية، وذلك بإنشاء مشروع سد مروي الذي أثر تأثيراً بالغاً في مناخ المنطقة، الذي بدأ يظهر الآن من خلال التغيرات التي طرأت على النخيل وزراعته وإنتاجه، وبالتالي ينعكس ذلك على كل المنتجات والحرف القائمة على الانتفاع من النخيل، كما عجل سد مروي بدفع عجلة المدنية والتحديث، المتمثلة في التغير العمراني بالمنطقة، وهجرات السكان من مناطق أخرى واستقرارهم بمنطقة مروي، وكل هذه العوامل تؤثر في الموروث الثقافي بالمنطقة وتحدث تغيرات في عناصر هذا الموروث.
عليه كان لابد أولاً من توثيق وتدوين هذا الموروث الضخم، وذلك لأنه سيطر عليه طابع الإهمال بعدم تدوين تلك العناصر التي أصبحت الآن مهددة، فالحرف التقليدية لازالت تختزن موروثاً من الناحية العملية والنظرية، نتيجة لارتباطها بالواقع الثقافي في جميع مجالاته، وتدوين وتوثيق هذا الموروث يعتبر أمراً جوهرياً لابد منه في هذه المرحلة التي تتسم بالتغير بشكل سريع؛ وذلك لأن الموروث يحمل في ثناياه هوية المجتمع، إذ كان أيضاً من الضروري معرفة البعد التاريخي لهذا الموروث، بالإضافة إلى الأبعاد الجغرافية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية بغية المحافظة عليها بتسجيلها على أضعف الايمان في هذه المرحلة الحرجة؛ وذلك من أجل توجيه الأنظار إليها، وهذه الدراسة تعطي صورة للواقع الذي يمدنا بالمعطيات التاريخية والإبداع الحرفي الذي يعكس واقعاً اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً.
اهتمت العديد من الدول في العالم بقطاع الحرف التقليدية للمزايا التي يتمتع بها، المتمثلة في أنها مصدر دخل للحرفيين وللدول، حيث يمكن أن تساهم في الدخل القومي، هذا بالإضافة إلى أنها تعتبر مستودع للموروث الثقافي يعكس الموروث الثقافي، بالإضافة إلى أنها تميز الأمم عن غيرها لما لها من خصوصية ثقافية ومزايا اقتصادية لا تحتاج إلى رؤوس أموال كبيرة؛ ولكل ذلك اهتمت الدول بهذا القطاع وقامت بتنميته وتطويره ليتماشى مع روح العصر، ويتناسب مع المدنية والتحديث في عصر العولمة الذي خلق روح المنافسة بين الشعوب، التي بموجبها يطرح كل شعب موروثه الثقافي ويحافظ عليه حتى لا يتأثر بثقافات الشعوب الأخرى؛ لذلك تم توظيف الحرف باعتبارها مكوناً ثقافياً وفنياً يعبر عن ثقافة الشعوب، ويعكس مدى الإبداعات التي توصلت إليها، حيث تمت الاستفادة منها خصوصاً في مجال السياحة، فمن خلالها يتم عكس الموروث الثقافي، وفي نفس الوقت تمثل مصدر دخل اقتصادي للأفراد وللدولة، وتساهم في المحافظة على الموروث الثقافي، وضمان استمرار إنتاجه.
التوصيــات
من أجل تفعيل دور حرفة السعفيات التقليدية في التنمية الاقتصادية والاجتماعية نوصي بالتوصيات التالية:
1. إنشاء قرية السعفيات، التي تشتمل على مزرعة للنخيل، ومتحف السعفيات، ومعهد لحرف السعفيات التقليدية؛ من أجل تنميتها وتطويرها، وجعلها مواكبة للتغير المعاصر؛ لتتناسب مع متطلبات العصر.
2. صون حرف السعفيات التقليدية من مخاطر الزوال والاندثار بحفظها وحمايتها ونقل المعارف والمهارات المرتبطة بها للأجيال القادمة، بحيث تستمر ممارستها في المجتمع الذي ينتجها، وتدعيم الأسواق المحلية التقليدية للمنتجات الحرفية، وكذلك إنشاء الأسواق الجديدة في الوقت نفسه.
3. توفير أراض لغرس مزارع النخيل، كمحاولة لتجنب الأضرار التي قد تلحق بالحرف التقليدية القائمة على النخيل، واتخاذ التدابير القانونية لضمان حق المجتمع في استخدام موارده، مع التكفل بحماية البيئة في الوقت نفسه.
4. تفعيل القوانين المرتبطة بالملكية الفكرية، وتسجيل البراءات أو حقوق النشر، وهذا يساعد المجتمع على الاستفادة من حرفه التقليدية. ويمكن في بعض الأحيان لتدابير قانونية موجهة لأغراض أخرى أن تشجع الإنتاج الحرفي. من ذلك مثلاً أنَّ الحظر المحلِّي على استخدام الأكياس البلاستيكية أن ينشط سوق الأواني السعفية مثل (الْقُفَّة) التي تضفر من سعف النخيل، مما يسمح بازدهار المهارات والمعارف التقليدية.
5. تقديم الدعم المادي للحرفيين لتشجيعهم من مزاولة وممارسة حرفهم، ولكثير من التقاليد الحرفية نظم قديمة للتدريب والتتلمذ. ويتمثل أحد الأساليب التي دلَّلت على نجاحها في تدعيم هذه النظم وتعزيزها في تقديم حوافز مالية للمتدربين وللمعلمين وهذا يجعل عملية نقل المعارف أكثر اجتذاباً للطرفين.
6. توحيد جهود المؤسسات المسؤولة عن قطاع الحرف التقليدية في مؤسسة واحدة تتولى تحديد الأهداف ورسم السياسات الصحيحة وتنفيذ البرامج والأعمال التي من شأنها أن تدفع بالحرف والصناعات التقليدية إلى الطريق السليم، وذلك بإنشاء وزارة متخصصة في هذا القطاع، ويعمل بها مختصون في هذا المجال.
7. إدراج الحرف التقليدية في المناهج الدراسية لتجد مكانها اللائق في مراحل التعليم المختلفة ابتداءً من مرحلة الأساس، وكذلك في معاهد ومراكز التعليم المهني والصناعي، تذكرة بمعهد مروي الحرفي، وكذلك في كليات الفنون الجميلة والتطبيقية.
8. الاعتراف الرسمي من قبل الدولة وقناعتها بأهمية دور قطاع الحرف التقليدية ودمجه في خطط واستراتيجيات التنمية المستدامة؛ لما يوفره من عائدات دائمة في ظل الأزمة الاقتصادية التي تمر بها البلاد.
9. المساهمة في التسويق لمنتجات الحرف التقليدية، داخلياً وخارجياً، عن طريق المعارض الثقافية في الداخل والخارج ومن خلال المتاحف.
10. الاستفادة من الحرف التقليدية في الترويج السياحي.
11. مساهمة وسائل الإعلام المختلفة في التوعية بأهمية الحرف التقليدية الثقافية والاجتماعية والاقتصادية؛ وذلك لإقبال الأجيال الجديدة على ممارسة الحرف التقليدية، وكذلك حث العاطلين عن العمل لممارستها؛ لما توفره من وظائف لإدرار الدخل.
12. إنشاء مراكز متخصصة في تدريب وتأهيل الحرفيين في كل المجالات الحرفية لا سيما الحرف المهددة منها بالانقراض، وتهتم أيضاً بالدراسات والبحوث المختلفة المرتبطة بمجالات الحرف والصناعات التقليدية.
13. إنشاء قاعدة بيانات محلية تشتمل على صفحات إلكترونية تعرف بقطاع الحرف التقليدية، وتعرِّف بجميع الحرفيين والمؤسسات الحكومية والأهلية المعنية بهذا القطاع.
14. إعداد ملف عن حرفة السعفيات وادراجه في قائمة حصر التراث الثقافي غير المادي الوطنية في السودان بغرض المشاركة به في الملف المشترك بين الدول العربية الذي بادرت به دولة الإمارات العربية المتحدة للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم لتسجيله في القائمة التمثيلية للتراث الثقافي غير المادي للإنسانية لدى اليونسكو.