عادات وتقاليد قبيلة السادة البكَّارة في محافظة حلب
العدد 62 - عادات وتقاليد
قبل البدء بالحديث عن عادات وتقاليد السادة البكَّارة في محافظة حلب لابد لنا من تقديم نبذة مختصرة عن هذه القبيلة لتعريف القارئ بها قبل أن ندخل في عاداتها وتقاليدها.
تنتسب قبيلة السادة البكَّارة لأجدادها آل بيت النبوة وبالأخص جدهم محمد عليه وعلى آله وأبنائه وذريته الطيبين الطاهرين أشرف الصلاة وأفضل التسليم1.
اكتسبت قبيلة السادة البكَّارة اسمها الذي تُعرف به اشتقاقاً من جدها الكبير الإمام محمد الباقر عليه السلام، وتلفظ البقارة بـ(البكَّارة)، حسب اللهجة المحلية، وفي الموصل تلفظ على مفردها البجاري. وهي عشيرة عربية هاشمية النسب عدنانية الحسب من العرب المستعربة الأصيلة المشهورة بأنقى السجايا وأسطع الخصال، وعرفت بالبسالة والكرم والوقار ولهذه القبيلة مكانتها الرفيعة ومنزلتها الجليلة بين العشائر ويكفي أنها تنتمي إلى الدوحة الهاشمية2، ونخوتها (اخوة ردسة) أما صيحتها فهي (العايد).
وأما لفظة سيد فقد وردت في الكتاب والسنة، ففي كتاب الله قال تعالى:{مُصَدِّقاً بِكَلمةٍ منَ اللهِ وَسَيّداً وَحَصُوراً}3. أما في السنة فقد ورد عن أبي ليلى عن الحسن بن علي رضي الله عنه قال، قال رسول الله ﷺ: يا أنس انطلق فادع لي سيد العرب، فقالت عائشة رضي الله عنها : ألست سيد العرب ؟ قال : أنا سيد ولد آدم وعلي سيد العرب4.
وتعني لفظة السَّيَّدُ المالكُ والمَلِكُ، والمولَى ذو العبيد والخدم، والمُتَوَلَّى للجماعة الكثيرة، وكل من افتُرِضت طاعته، وهو لقب تشريف يخاطب به الأشراف من نسل الرسول ﷺ5.
كما يطلق لفظ سيد على كل من ينحدر من ذرية علي بن أبي طالب عليه السلام عند علماء الأنساب6، ومن المُعتقد أنَّ اللفظة مشتقة من قول الرسول الكريم ﷺ(الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة)7.
وفي العهدين العباسي والعثماني سُمي (السَّيَّدُ) شريفاً حيث أحدثوا منصب نقابة الأشراف لتدقيق صحة الأنساب العلوية لإعفائهم من الخدمة العسكرية، أو إعطائهم بعض الحقوق أو رعايتهم بشكل متميز حرمة لمكانتهم وقرابتهم من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، ولكل بلد تسمياته ففي العراق تطلق كلمة السَّيَّدُ على كل علوي، وفي الحجاز يسمى السَّيَّدُ شريفاً، أما في المغرب فتطلق كلمة السَّيَّدُ على كل حسني وحسيني، وفي مصر حصروا اسم الشريف على ذرية الحسن والحسين8. ويشترط في السَّيَّدِ أن يكون حليماً كريماً تقياً9.
وتشمل عادات وتقاليد قبيلة السادة البكَّارة ما يلي:
1) اختيار زعيم أو شيخ للقبيلة:
من العادات المشتركة بين أفراد القبائل بشكل عام وقبيلة السادة البكَّارة في محافظة حلب بشكل خاص هي عادة اختيار زعيم لهم، ومن صفاته:
1. أن يمتلك مجموعة من الأخلاق المجتمعة مع بعضها البعض المتمثلة بالشهامة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وخدمة أفراد القبيلة بما يحقق مصالحها ويؤدي إلى ازدهارها، وكان التأكيد على هذه الصفات دون غيرها لأنها ما إن توافرت في شخص ما حتى ميزته عن باقي أفراد القبيلة وأهلته لسيادتها.
2. أن تتوفر له حاضنة شعبية، أي أن يكون محبوباً من أفراد أسرته وأفراد القبيلة، لأنَّ المحبة تؤدي إلى التفاف أفراد أسرته وقبيلته من حوله، وبالتالي تقبل الأوامر التي يمليها عليهم وهذا أمر مهم جداً لتوحيد آراء أفراد القبيلة لاتخاذ أي قرار يخص مستقبلها10.
3. أن يكون ذو شخصية قوية تتمكن من فرض احترامها وتقديرها على الوجهاء وباقي أفراد القبيلة، وفي حال مخالفة أحد أفراد القبيلة لأوامره يقوم برفع القدر عنه، وهذا يؤدي إلى كرهه من قبل كافة أفراد القبيلة. وكون الزعيم قوي الشخصية لا يعني هذا أن يكون زعيماً فظاً قاسياً، بل أن يكون بساماً مع أفراد عشيرته في طباعه قليل من اللين، ومع ذلك يترفع عن المزاح السخيف، والهزل، والكلمات النابية المسيئة، فيفرض بذلك على كل أفراد القبيلة محبته واحترامه مع الخوف منه، لا لأنهم يحترمونه فقط ولكن لأنهم يحرصون على محبته لهم11.
4. أن يكون كريماً معطاءً لكافة أفراد قبيلته ولأفراد القبائل الأخرى، فيجود بما تسمح له الحال في أثناء طلب المساعدة المالية، فلا يتردد في التبرع بالأموال أو حتى المؤون الغذائية أو بقطع الأرض في حال دعت الضرورة لذلك.
5. أن يكون حليماً وحكيماً بالوقت نفسه في اتخاذ قراراته، فلا يتسرع في اتخاذ أي قرار في أي أمر كان حتى لو كان يخص أهل بيته دون تقليبه على كافة الأوجه، وأن يبتعد عن تحكيم عواطفه الشخصية في اتخاذ القرارات أو تنفيذها.
6. أن يكون عادلاً في إطلاق أحكامه على أبناء قبيلته فينصف المظلوم ويقتص من الظالم.
ولابد قبل أن ننهي الحديث عن صفات الزعيم أن نذكر أنَّ وفرة المال لاتعد من الصفات التي يجب أن تتوافر في الشخص لاختياره زعيماً، فامتلاك المال ليس ضرورياً أمام الصفات السالفة الذكر لتعيينه زعيماً.
كما تميزت قبيلة السادة البكارة بمجموعة أخرى من العادات الراسخة فيها ورّثها الأجداد إلى الأبناء ومن ثم الأحفاد، وهي:
2) إكرام الضيف:
وأبرز هذه العادات هي إكرام الضيف، سواءا كان من أفراد قبيلتهم أو عابر سبيل لا تربطه بالعشيرة صلة قرابة12. وهذا إن دلَّ على شيء فإنه يدل على محبة أفراد العشيرة للضيوف دون النظر إلى صلتهم بقبيلة السادة البكَّارة، وتمسكهم بسنة النبي محمد عليه وعلى آل بيته أفضل الصلاة والتسليم وفقاً للحديث النبوي الشريف: فعن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنهما- عن النبي صلى الله عليه وعلى آل بيته أفضل الصلاة والتسليم قال:
( من كان يُؤمن بالله واليوم الآخر فليُكرم ضيفه ومن كان يُؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليسكت13.
وكانت عادة إكرام الضيف لا تشمل الأغنياء من أبناء القبيلة بل الفقراء أيضاً، فعندما يدخل ضيف إلى أحد بيوت القبيلة الفقيرة فإنهم يقدمون له أجود ما لديهم من طعام أو شراب مع الترحاب المستمر به ليشعر الضيف بأهمية وجوده، وفي حال كان البيت مفتقراً للطعام والشراب يلجأ صاحب البيت لاستدانة المال لإكرام ضيوفه.
في حين كان الأغنياء من أهل القبيلة يكرمون الضيوف بذبح إحدى أنواع المواشي وصنع وليمة فاخرة كانت تحتوي على أشهى أطعمة العشيرة التقليدية وهي المنسف الذي يتكون من الأرز والفريكة، المغطى بقطع لحم الذبيحة14.
3) تأدية الأمانة لأصحابها:
ومن عاداتهم أيضاً تأدية الأمانة لأصحابها والحفاظ عليها، وعدم المساس بها، إلى أن يأتي صاحبها ويطالب بها فترد إليه كما كانت. فاشتهر أفراد قبيلة السادة البكَّارة بهذه العادة الحسنة، مما جعلهم مقصداً لكل شخص يرغب بإيداع أمانته وهو مرتاح البال15.
4) إغاثة الملهوف:
فبالنسبة إلى إغاثة الملهوف يُلاحظ أنَّ أي فرد من أفراد قبيلة السادة البكارة يهب إلى مساعدة أي إنسان يجده في الطريق أو يقصده في بيته لطلب حاجة ما، وهي من الصفات النادرة التي أصبحنا نفتقد إليها اليوم في مجتمعاتنا المعاصرة16.
5) الشجاعة:
أما الشجاعة فهي عادة تمشي في عروق أبناء القبيلة مع دمائهم النابضة في عروقهم، ففي أثناء حدوث أي مشكلة نجد أنَّ ابن القبيلة يتدخل بين الأطراف المتصارعة دون خوف أو وجل بغية حل النزاع، في حين نلاحظ اليوم أنَّ معظم الشباب جبناء يبتعدون عن الدخول في المنازعات.
وتاريخ قبيلة السادة البكَّارة كما ذكرنا سابقاً كان حافلا بالمواقف الشجاعة كمحاربة اللصوص، والإقطاعيين، ومن ثم الدخول مع الثوار لطرد المحتل العثماني ومن بعده الفرنسي. ومن المواقف التي تدخل في خلق الشجاعة والتي اعتبرها أفراد القبيلة عادة متوارثة هي قول كلمة الحق، ونصرة المظلوم حتى لو كان ظالمه على درجة كبيرة من القوة، وهذا يدل على تمسكهم بتعاليم النبي محمد عليه وعلى آل بيته أفضل الصلاة والتسليم، فعن أنس رضي الله عنه، عن النبي محمد صلى الله عليه وعلى آل بيته أفضل الصلاة والتسليم قال:
عَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا ، قُلْنَا : يَا رَسُولَ اللهِ ، نَصَرْتُهُ مَظْلُومًا فَكَيْفَ أَنْصُرُهُ ظَالِمًا ؟ قَالَ : تَكُفُّهُ عَنِ الظُّلْمِ ، فَذَاكَ نَصْرُكَ إِيَّاهُ17.
وبسبب شجاعتهم في قول كلمة الحق أصبحوا مقصداً لجميع أفراد القبائل الأخرى لحل النزاعات المستعصية، بهدف نشر الاستقرار والأمن بين العشائر المجاورة عملاً بأحد أقوالهم المشهورة عندما يكون الخير بأرض جارك تجده بديارك .
6) صلة الرحم:
وبالنسبة لصلة الرحم فقد حرص أبناء قبيلة السادة البكَّارة على التمسك بتعاليم النبي محمد عليه أفضل الصلاة والتسليم، وتعاليم آل بيته بالتأكيد على صلة الرحم وفقاً للحديث النبوي الشريف: فعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي عليه وعلى آل بيته أفضل الصلاة والتسليم قال:
( من سرَّهُ أن يبسطَ له في رزقه، وأن ينسأَ له في أثره، فليصل رحمه)18
لذا فقد كان أبناء هذه القبيلة يصلون أرحامهم وأقاربهم في كافة مناطق سوريا، وحتى في الدول الأخرى المتواجدين فيها، وبالفعل عادت صلة الرحم بعظيم الفائدة على قبيلة السادة البكارة حيث أدت إلى توثيق أواصر المحبة بين أفراد هذه القبيلة في كل أرجاء سوريا، وعدد من الدول العربية الأخرى.
7) التكافل الاجتماعي:
ومن العادات الحسنة التي توارثها أبناء قبيلة السادة البكارة هي التفاني في خدمة أبناء القبيلة لبعضها البعض في إطار التكافل الاجتماعي الواجب على كل أفرادها. ففي مواسم حصاد الحبوب تجد أنَّ أبناء العشيرة قديماً كانوا يجمعون بعضهم على شكل مجموعات ويخصصون أياما محددة لحصاد محصول كل فرد من أفراد القبيلة، اتُبعت هذه العادة عندما كانت أساليب الحصاد بدائية تعتمد على المنجل اليدوي. أما اليوم ومع تطور أساليب الحصاد المعتمدة على الآلات الحديثة فقد ظهر التعاون بين أفراد القبيلة عن طريق إعارة القادرين على شراء هذه الآلات الحديثة لفقراء القبيلة والقرية.
إضافة إلى تعاون أفراد القبيلة قديماً وحديثاً مع بعضهم البعض في الأفراح والأحزان عن طريق تقديم المساعدة بالجهد والمال. ففي الأحزان يُقدم أفراد القبيلة على مواساة أهل الفقيد ومساعدته في استقبال المعزين وتحضير الطعام على روح الفقيد، ودفع التكاليف المادية في حال كانت أسرته من الأسر المحتاجة.
أما في الأفراح وخاصةً حفلات الزفاف فكان أبناء القبيلة يتعاونون في جمع مبلغ مالي لإعانة العريس على تكاليف الزواج في حال كان فقيراً، كما كانوا يتطوعون لمساعدته في تجهيز بيته ونقل الأثاث المنزلي إليه.
ومن عادات قبيلة السادة البكارة المتوارثة هي زواج الرجال بأكثر من امرأة دون الجمع بأربعة نساء بحسب وصايا الرسول الكريم عليه وعلى آل بيته أفضل الصلاة والتسليم والقرآن الطاهر الشريف. وكانت غاية الرجال من الزواج بأكثر من امرأة هو إنجاب عدد كبير من الأبناء بهدف زيادة عدد أفراد القبيلة التي وصُفت بأنها من القبائل كثيرة العدد19، وامتثالاً بحديث الرسول ﷺ(تَزَوَّجُوا الولودَ الودُودَ، فإنِّي مُكَاثِرٌ بكمُ الأمَمَ يومَ القيامةِ)20.
ولكي تتقاسم النساء مهام الحياة القاسية، من جمع الحطب لإشعال النار, وصناعة الخبز اليومي عن طريق طهيه بالتنور أو على الصاج، وجلب المياه من الآبار بشكل يدوي، إضافةً إلى ممارسة أعمال الزراعة الشاقة، والأعمال المنزلية، وتربية الأبناء. أما في الوقت الحالي فنلاحظ أنَّ هذه العادة قد أصبحت قليلة بسبب الأدوات العصرية الحديثة التي كان لها دور كبير في تخفيف الجهد عن المرأة والرجل فاكتفى الرجل بالزواج من امرأة واحدة في كثير من الأحيان.
8) الاحتفالات الدينية:
وفيما يخص العادات المتوارثة في قبيلة السادة البكَّارة والمتعلقة بالدين الإسلامي فكان أبرزها إحياء ذكرى ولادة الرسول الكريم عليه وعلى آل بيته أفضل الصلاة والتسليم في اليوم الثاني عشر من ربيع الأول من كل عام هجري.
فمن مظاهر الاحتفال بهذه الذكرى نصب بيوت الشعر في القرية وتهيئتها لاستقبال المنشدين الدينيين لإنشاد الأغاني النبوية التي تزخر كلماتها بمديح النبي وآل بيته عليهم أفضل الصلاة والتسليم، وفي أثناء اندماج المحتفلين مع الأناشيد الدينية وترديد كلماتها الجميلة، كان أفراد من قبيلة السادة البكارة يوزعون الحلويات على الحاضرين.
وفي شهر رمضان المبارك كان لأفراد قبيلة السادة البكَّارة عادات تشبه أهل محافظة حلب، فعندما يهل هلال شهر رمضان تبدأ المباركات بين أفراد العائلة الواحدة وبين أفراد القبيلة في هذا الشهر الفضيل، فيذهب وجهاء العشيرة إلى زعيمها يهنئونه بمناسبة حلول هذا الشهر، وإلى القبائل الأخرى للقيام بواجب التهنئة إلى مشايخها باسم زعيم قبيلة السادة البكارة.
وحرص وجهاء العشائر على دعوة أفراد العشيرة للإفطار في رمضان على خيرة أنواع الأطعمة كمناسف الأرز والفريكة التي تغطيها لحوم المواشي اللذيذة، وإلى جانبها اللبن الرائب. وذلك لإطعام الفقراء من أهل القرية طعاماً دسماً لا يستطيعون تناوله في بيوتهم. في حين كان أبناء القبيلة يتبادلون أطباق الأطعمة قبل آذان المغرب مع الأقارب والجيران وهي عادة تزيد من أواصر الود والمحبة بين الأفراد.
كما حرص زعيم القبيلة ووجهائها وأفرادها على أداء صلاة التراويح في المساجد للتزود بالحسنات قدر المستطاع في هذا الشهر الفضيل، والإكثار من توزيع الصدقات المادية على المحتاجين والفقراء. إضافةً إلى قيام المثقفين دينياً من أفراد قبيلة السادة البكَّارة بإعطاء الدروس الدينية والمواعظ.
ومن المناسبات التي كانوا يحرصون على إحيائها هي عيد الفطر وعيد الأضحى، فمن التقاليد المتوارثة في عيد الفطر في هذه القبيلة أن يؤدي الوجهاء صلاة العيد، ومن ثم يتوجه زعيم القبيلة ومن خلفه أبناؤها لزيارة مقابر موتاهم وشهدائهم، وقراءة ما يتيسر من القرآن الكريم قرب القبور، وزرع زهور جديدة إضافةً إلى القديمة، ونثر أنواع الحلوى على هذه القبور على روح موتاهم وهو تقليد متبع في قبيلة السادة البكارة كانت الغاية منه أن يتناول الأطفال هذه الحلوى ويحصل المتوفى على الأجر والثواب.
وبعد العودة من زيارة مقابر أفراد العشيرة وأفراد القرية المتوفين، يأمر زعيم القبيلة عشيرة أبنائها بإقامة وليمة في مضافته، كان الطعام الأساسي المقدم فيها هو اللبنية لكونها طعاماً مريحاً للمعدة بعد صيام شهر كامل، ويدعو كافة الوجهاء لحضور مائدة زعيم القبيلة، وهدف الزعيم من ذلك جمع كافة أفراد العشائر على هذه المائدة للتقريب بين أفراد القبيلة وإنهاء النزاعات.
وكانت هذه العادات نفسها متبعة في عيد الأضحى باستثناء اختلاف وحيد، ألا وهو نحر الأضاحي من الماشية، والتي تشمل كل أنواعها من البقر والأغنام والماعز والجمال، بعد أداء صلاة عيد الأضحى، طبعاً يساهم الزعيم بالتضحية بالنسبة الكبرى من هذه المواشي، في حين يضحي أفراد القبيلة كل حسب مقدرته المادية على أرواح موتاهم، وكان الغرض الأساسي من تقديم هذه الأضاحي التقرب من الله سبحانه وتعالى بالدرجة الأولى، ومن ثم تحصيل الثواب والجزاء من الله عند توزيع لحومها على فقراء العشيرة والقرية وحتى القرى المجاورة.
وفي كلا العيدين يقوم أفراد القبيلة بتبادل الزيارات بين بعضهم البعض وتناول أطباق الحلوى التقليدية فرحاً بهذه المناسبة كالسيالات، وغيرها من حلويات العيد التي يقوم أفراد القبيلة بجلبها من مدينة حلب في أثناء نزولهم إليها لشراء الملابس الجديدة لكل أفراد الأسرة.
أما عن التقليد المتبع داخل أفراد العائلة الواحدة في قبيلة السادة البكَّارة فهو اجتماع الأبناء مع زوجاتهم وأطفالهم في منزل الأب في أول يوم العيد سواءً عيد الفطر أو عيد الأضحى وتناول طعام الإفطار والغداء وأطباق الحلوى اللذيذة والأشربة.
ومن الأفراح التي كانت تقام على مدار السنة هي حفلة الختان للمواليد الصبيان ويُقال لها بالعامية عند أبناء العشيرة (حفلات الطهور)، والتي كانت تقام عند تطهير المواليد الجدد من الصبيان عملاً بسنة الرسول الكريم عليه وعلى آل بيته أفضل الصلاة والتسليم21.
9) الأكلات الشعبية في موروث قبيلة السادة البكارة الثقافي:
ومن الجدير بالذكر أنَّ أبرز طعام القبيلة التقليدي هو المنسف الذي كان يتألف من الفريكة والأرز المطهوين، حيث تضع نسوة القبيلة الفريكة أولاً في أطباق خاصة كبيرة وتغطيها بالأرز ومن ثم يغطين المنسف بأكمله بلحوم المواشي المسلوقة بعظمها وخاصةً لحم الخروف وبجميع أنواع المكسرات من فستق حلبي ولوز، ومن ثم تُزين برأس الخروف المطهو.
ومن المأكولات الشهيرة المليحية أو الأكلة البجارية، وهي تتكون من خبز الصاج ولحم الخروف العواس البلدي بعظمه واللبن الرائب والسمن العربي الأصلي، وتعدّ من أفضل الأطعمة لدى أبناء قبيلة السادة البكَّارة ومن أجودها، وكان هذا الطبق يقدم في مواسم الاحتفالات الكبيرة وفي رمضان وفي الأعياد أو في التعازي عند وفاة فرد من أفراد القبيلة أو عند زيارة زعيم قبيلة أخرى قبيلة السادة البكَّارة، فتقديم هذا الطبق كان له رمزية في القبيلة، وهذه الرمزية تتمثل بأنَّ الشخص المقدم له هذا المنسف هو ذو أهمية بالنسبة لزعيم القبيلة وأفرادها ويلقى احتراماً كبيراً من قبلهم22.
أما بالنسبة إلى أبرز طعام العشيرة التقليدي من الحلويات، فيتربع على رأسها نوع من أنواع الحلويات يُعرف باسم السيالة: وهي عبارة عن طحين القمح تقوم النساء بعجنه وتخميره في الليل، وفي الصباح الباكر تجتمع النسوة ويقمن بتقسيمه إلى كرات صغيرة، ومن ثم تخميره لمدة ساعين، وفي أثناء ذلك يشربن القهوة العربية المرة ويتبادلن الأحاديث، وبعد اختمار العجين مرة أخرى يقمن بتحويل كل كرة من كرات العجين إلى رغيف رقيق جداً، ثم يخبز على الصاج، وبعد نضج الرغيف تضع النساء مجموعة من الأرغفة الناضجة فوق بعضها وتقطعهن قطعا صغيرة مربعة أو مثلثة، ثم تصب النساء فوقها السمن العربي والعسل، ومن ثم يقمن بتزيينه بالفستق الحلبي. كما كانت النساء في قبيلة السادة البكَّارة يصنعنَّ أنواع أخرى من الحلويات البسيطة التي لا تتطلب وقتاً كبيراً، بسبب انشغالهن بأعمال البيت والزراعة، ومنها المأمونية التي كانت تتألف من السميد والسكر والسمن العربي والقشطة، والمشبك المؤلف من السميد والسكر والقرفة، التي تعتبر من الأكلات الحلبية تعلمتها نساء قبيلة السادة البكَّارة من النسوة الحلبيات نتيجة لاحتكاكهن بهن.
وعن أهم المشروبات التي تناولها أفراد عشيرة البكارة وتوارثوها عن أجدادهم اللبن الرائب المصنوع من حليب المواشي، الذي يُعرف باللهجة العامية في العشيرة باسم(الشنينة)، أو( الخاثر)23.
10) ملابس أفراد قبيلة السادة البكارة:
أما عن لباس أفراد القبيلة التقليدي فقد كان وجيه العشيرة يرتدي الكلابية الناصعة البياض، وفوقها العباءة المصنوعة من الحرير في الصيف، وفي الشتاء تكون مصوفة من الداخل لرد البرد القارس، ويضع على رأسه المنديل الأبيض المخطط بالأحمر وفوقه العكال الأسود، ويقال له البريم أيضاً. وتحت الكلابية يرتدي السروال الأبيض، والكسرية السوداء في القدمين.
ومن الجدير بالذكر أنَّ العباءة والمنديل والعكال كانت تميز الوجيه عن بقية أفراد القبيلة، أما بقية أفراد القبيلة من الرجال فكانوا يرتدون الكلابية الفضفاضة السوداء أو الفضية، ونادراً ما كانوا يرتدون اللون الأبيض بسبب الحرص على عدم اتساخها في أثناء أداء أعمال الحياة اليومية، كما كان الرجال يرتدون الجاكيت فوق الكلابية في الشتاء، والسراويل السوداء اللون تحت الكلابية وفي الأرجل يرتدون الكسرية.
ونلاحظ تخلي شباب قبيلة السادة عن لباسهم التقليدي عند ذهابهم إلى المدينة، لإكمال تعليمهم في الجامعات بهدف مواكبة تطور العصر في حداثة الأزياء.
فبالنسبة للشباب فإنهم يرتدون القميص والبنطال الحديث، أو الطقم الرسمي المؤلف من قميص وبنطال وجاكيت وكرافة في حال دخولهم إلى الجامعة، والبنات يرتدين كنزة، وتحتها تنورة ومن فوقها المانطو المتحضر مثل بنات المدينة. طبعاً هذا لا يعني أنهم تخلوا عن ملابسهم التقليدية المتوارثة ولكنهم كانوا يرتدون هذه الملابس تماشياً مع موضة العصر، وعندما يعودون إلى قريتهم يرتدون ملابسهم التقليدية الجميلة. إلَّا أنَّ جزء من أفراد هذه القبيلة قطعت صلاتها بقبيلة السادة البكَّارة فتخلت عن هذه العادات العشائرية التي تميز أفراد هذه القبيلة وفضلت التحضر واتباع عادات وتقاليد أبناء محافظة حلب24.
11) توارث المقتنيات المادية:
وأهم ما يميز أبناء القبيلة هو محافظتهم على تقليد مهم ألا وهو توريث المقتنيات الخاصة من الآباء إلى الأبناء، ومازال هذا التقليد متوارثا حتى الوقت الحاضر على الرغم من تطور الحياة المعاصرة، وتتألف هذه المقتنيات من دلال القهوة، والمهباج، والمباخر، والسيوف، وحجر الرحى25.
12) علاقة أفراد قبيلة السادة البكارة مع بعضهم البعض وعلاقة القبيلة مع القبائل الأخرى في القرى المجاورة:
كانت العلاقات السائدة بين أفراد قبيلة السادة البكارة قائمة على المحبة، وأبرز مظاهر المحبة هو التعاون بين أفرادها في السراء والضراء وخاصةً في تنفيذ المشاريع الاقتصادية الخاصة برفع المستوى الاقتصادي للقبيلة.
ومن مظاهر التعاون بين أفراد القبيلة هو مشاركة أفراد القبائل بعضهم البعض في الأحزان والأفراح عن طريق مواساة أهل المتوفى والتخفيف عنه من الناحية المعنوية، وجمع مبلغ من المال من أفراد القبيلة لمساعدة أهل المتوفى مادياً لدفع تكاليف مجالس العزاء. وكذلك الحال كان في إقامة الأعراس فكان الأفراد يتشاركون في إقامة حفلات الأعراس في تحضير ساحات الأعراس عن طريق تنظيفها وملئها بالكراسي الخشبية لاستقبال المدعوين وإعداد الولائم الدسمة تعبيراً عن فرح أهل العريس بولدهم، طبعاً كان أفراد القبيلة لا يقصرون بالأفراح من الناحية المادية لمشاركة العريس في التقليل من أعباء العرس المادية عن طريق ما يعرف بلغة البكارة العامية(بالشوباش) وهو مبلغ مالي يدفع من كل فرد من أفراد القبيلة في حفلة العرس ويُعطى للعريس أو أهله.
وفي أثناء نشوب أي مشكلة بين أفراد القبيلة كان وجهاؤها يجتمعون على وجه السرعة في مضافة زعيم أو شيخ القبيلة من أجل حلها وتنتهي بتصالح الأفراد المتنازعين، وفي حال إهدار الدم يُفرض مبلغ مالي يُعرف بـ(الدية) على الشخص المُعتدي26.
أما عن علاقة قبيلة السادة البكارة مع القبائل الأخرى في القرى المجاورة فقد كانت قائمة على الود والسلام والمحبة، وأبرز هذه القبائل قبيلة السادة النعيم وبني جميل والحديديين وعشيرة العساسنة. وأبرز مظاهر الود والمحبة التي كانت تتشاركها قبيلة السادة البكارة مع القبائل الأخرى في القرى المجاورة لها هي الزواج من بنات وجهاء وشيوخ القبائل الأخرى وتزويج بناتهم لأفراد القبائل الأخرى، وخاصة قبيلة السادة النعيم، وهذا إن دل على شيء فإنه يدل على مدى انفتاح قبيلة السادة البكارة ورغبتها في توسيع علاقات المصاهرة مع القبائل الأخرى، ولا يخفى على أي باحث في التاريخ ما تؤدي إليه هذه العلاقات من توثيق أواصر المحبة بين القبائل المختلفة27.
ومن أبرز مظاهر العلاقات بين قبيلة السادة البكارة والقبائل الأخرى هي الزيارات الودية، وخاصةً إرسال وجاهات من القبيلة نفسها للتعزية في أوقات الحزن، والتهنئة في أوقات الفرح، فبأمر من زعيم القبيلة يتم إرسال عدد من وجهائها البارزين إلى القبائل الأخرى للتهنئة أو التعزية بعد أن يزودهم الزعيم بمؤون تساعد أهل المتوفى، أو أهل العريس في الأعباء المادية الملقاة على عاتقهم أمام وفود المعزين أو المهنئين، والتي كانت تتألف في أغلب الأحيان من عدد من رؤوس الماشية، وأكياس كبيرة من الطحين أو الرز أو السكر، وفي حال كان أهل المتوفى أو العريس من الطبقات الفقيرة فكانت قبيلة السادة البكَّارة تساهم في دفع مبالغ مالية كنوع من المساعدة المادية.
وعلى الرغم من أن الجو العام السائد بين قبيلة السادة البكارة والقبائل الأخرى في المناطق المجاورة هو جو مسالم هادئ، لكن ذلك لا يعني خلو هذا الجو من المشاكل التي كانت تنشب بين فرد أو أفراد من قبيلة السادة البكَّارة مع فرد أو أفراد من القبائل الأخرى. وعند نشوب أي مشكلة كان الوجهاء يسارعون إلى حلها فوراً حتى لا تتوسع ويصبح لها نتائج كارثية وأبعاد خطيرة.
وبعد أن يتبادل الوجهاء أطراف الحديث لحل المشكلة الحاصلة وهما يحتسيان القهوة العربية يتفقان على جلب الأفراد المتنازعين لتتم الصلحة عن طريق العناق وتقبيل رؤوس المتخاصمين لبعضهما البعض أمام ووجهاء القبيلة وتعهد الأفراد المتنازعين بعدم إثارة المشاكل مرة أخرى، وفي حال كان هناك قتلى في المشكلة يتم الاتفاق على دفع مبلغ مالي يعطى لأهل القتيل، ويقال له (دية) في اللغة العامية لقبيلة البكارة، وأخذ عهد من أهل المقتول بعدم أخذ الثأر من أي فرد من أفراد القاتل، لأنَّ من عادة القبيلة اذا قُتل أحد أفرادها أن تشترك كلها في المطالبة بدمه، ومن ثم يقوم أهل المقتول بإسقاط حقهم عن القاتل، وقبول مبلغ الدية الذي يُعطى لهم للتخفيف من مصابهم وحزنهم، وفي أغلب الأحيان كان زعيم قبيلة السادة البكَّارة يدفع القسم الأكبر من مال الدية، وفي حال كان أهل القاتل من الفقراء المعدمين يدفع الزعيم والوجهاء المبلغ المالي كاملاً، وإذا أبدى أفراد القبيلة رغبتهم بالمشاركة بدفع الدية كان يسمح لهم بذلك28.
إذاً فإنَّ أهم ما يميز وجهاء قبيلة السادة البكارة أنهم يسعون للدخول في الصلح لحل المشاكل داخل قبيلة السادة البكَّارة وخارجها، لأنهم من نسل المصطفى وأخلاقهم تأمرهم بالسعي للصلح بين الناس.
خاتمة
ومما سبق يُستنتج أنَّ قبيلة السادة البكَّارة تعتبر من القبائل الرئيسية في محافظة حلب، امتلكت هذه القبيلة مجموعة من العادات والتقاليد بعضها نابع من الدين الإسلامي، وبعضها الآخر من الموروث الثقافي الذي تناقله أفراد هذه القبيلة عبر الأجيال، وقد حافظ أبناؤها على هذه العادات والتقاليد بشكل أفضل في القرى منه في المدن، نتيجة لاختلاط أفرادها مع أبناء مدينة حلب وميلهم إلى حياة التمدن، والركون إلى عادات وتقاليد أبنائها، مما شكل خطرا على الموروث الشعبي الثقافي لهذه القبيلة فكان لابد من الحفاظ عليه بطريقة ما وذلك عن طريق تدوين المعلومات الثقافية والشعبية الخاصة بهذه القبيلة.