من التراث الشعبي في المشرق الثابت والمتغير في تقاليد الزواج
العدد 62 - عادات وتقاليد
من المهم التأكيد أولاً على أن تقاليد الزواج ذات أساس مركزي في كل الحضارات الانسانية، وفي كل العصور. ولا يمكن البحث في أي معتقدات أو تقاليد إنسانية بمعزل عنها. ذلك أن هذه الظاهرة، وما يرافقها من معتقدات وطقوس متلازمة مع وجود البشر. واستمرار الحياة البشرية منوط بالزواج. ولا بشر بدون التزاوج بين الذكر والأنثى. هذا الفعل لا يقتصر على الإنسان فحسب، بل يطول أيضاً كل أنواع الحيوان، وإن اختلفت طريقة التوالد.
ما يهمنا في هذا الأمر هو ما يتعلق بزواج الانسان، أي اتخاذ إمرأة من قبل رجل زوجة له لهدف أساسي، واضح ومحدّد، هو الإنسال والتكاثر، لأن لا وسيلة أخرى خارج هذا الإطار. وعليه، فإن البحث في مسألة الزواج يتناول كيفية النظر إليه وتقنينه ليصير مشروعاً من قبل المجتمع، مهما كان شأن تطوره، أو شأن النظر إلى الرجل باعتباره رجلاً، وإلى المرأة باعتبارها إمرأة. ولأن الزواج سنّة طبيعية في البشر، على قدر اعتباره سنّة وسلوكاً مجتمعيين في أي زمان ومكان، فإن دراسته تستوجب النظر في جذوره البيّنة في بدايات التدوين البشري، إن كان على شكل كتابات أو رسوم، أو ما شاكل، مما يمكن أن يشي بكيفية السلوك في إجراء طقوس الزواج واحتفالاته1.
لا بدّ في هذا المقام من النظر إلى بنى الأساطير المشرقية القديمة التي لم تبخل علينا بإظهار ما كان للطقوس الزواجية من قدسيّة في أزمنة مغرقة في القدم، وإن كانت هذه الطقوس جاءت لتبيّن كيف كان آلهة ذلك الزمان وملوكهم يمارسون تقاليد الزواج، ويصفون دقائق الاحتفالات فيها، باعتبارها من الطقوس المقدسة التي على كل الناس، من أرفع مقاماتهم إلى أدناها، أن يقدّسوها ويجلّوها، لأنها وحدها الحافظة للنوع البشري، أو حتى للنوع الإلهي في أساطير الشرق القديم، من أجل الاستمرار.
ولأن لا مجتمع بدون عمليات التزاوج، فإن بحثنا هذا يتناول تقاليد الزواج في المشرق، المنبثقة من تاريخ قديم يعود إلى ما قبل الأديان التوحيدية، بالإضافة إلى ما أدخلته هذه عليه، وما آل إليه الأمر من خلال تغيّر بطيء في التقاليد، وسريع في العادات، تجاوزا أحياناً كثيرة ما أضفاه عليه التشريع الديني.
الزواج في المشرق القديم:
من نافل القول التأكيد على أن المشرقيين من بلاد ما بين النهرين إلى بلاد الشام عرفوا طقوساً متعددة للزواج قبل تقنينه من قبل الأديان التوحيدية. كما كان لليهود في ذلك الزمان طقوسهم وتقاليدهم الدينية المتعلقة بالزواج؛ وللمسيحيين قوانينهم وطقوسهم المتعلقة به أيضاً. بل كان الزواج في المسيحية، ومنذ بداياتها، من الأسرار المقدسة السبعة في اللاهوت المسيحي2. ذلك أن الزواج بالنسبة إلى المسيحيين، يعني أن «يترك الرجل أباه وأمه ويلتصق بامرأته، ويكون الإثنان جسداً واحداً. هذا السر عظيم.. من نحو المسيح والكنيسة»3. وهو السرّ الذي يجعل المرأة والرجل جسداً واحداً لا يفرّقهما إلا الموت، وإن كان الرجل يتقدم على المرأة باعتباره رأسها، كما المسيح رأس الكنيسة.
بالاضافة إلى اليهودية والمسيحية؛ الديانتين اللتين كان لهما وجود في الجزيرة العربية عشية ظهور الوحي على النبي العربي محمد، وتبشيره بالإسلام ومن ثم نشره، في الجزيرة العربية وخارجها، كان لدى العرب الذين لم يدركوا إحدى هاتين الديانتين تقاليد خاصة بهم في ما يتعلق الزواج.
مفهوم الزواج وتطور المعنى :
يشكل الزواج رابطة شرعية بين رجل وإمرأة يقرّها المجتمع ويعترف بها، برضى الزوجين أو بتدبير من غيرهما. والغاية منه تأسيس أسرة، أو زيادة عزوة العائلة التي ينتمي إليها الزوج، إن كان من خلال إدخال إمرأة غريبة إلى منزل الأهل، أو من خلال استيلادها لتزيد في ذلك من قوة العائلة ومن سلطتها، اقتصادياً واجتماعياً. ذلك كله، قبل تغيّر النظرة إلى الزواج، وإلى تأسيس الأسرة النواتية التي ورثت في وجودها العائلة الممتدة ذات النظام الأبوي الصارم، والسلطة التي تطول الزوجة والأبناء، العازبين والمتزوجين منهم مع زوجاتهم وأبنائهم، كما مع إخوة الأب، حتى المتزوجين منهم، وأخواته العازبات.
لم يظهر تعبير الزواج في التراث المشرقي، والعربي في شكل عام، إلا باعتباره النسب الذي يتأتّى بعقد الزواج. يقول إبن منظور في هذا المجال: « زوّج الشيء بالشيء أي قرنه»، ومن هنا جاء تعبير عقد القران في الإسلام. وبهذا المعنى يصير كل شيئين اقترن أحدهما بالآخر، زوجين. و«عندي من هذا أزواج أي أمثال؛ وكذلك زوجان من الخفاف، أي كل واحد نظير صاحبه، وكذلك الزوج المرأة، والزوج المرء، وقد تناسبا بعقد النكاح»4.
لم يخرج مفهوم الزواج عند المشرقيين، على اختلاف أجناسهم ومذاهبهم عن مفهومه لدى الشعوب الأخرى، في كل زمان ومكان، وإن اختلفت آليات التطلع إليه، أو التعامل معه، حسب تغيّر الظروف والأحوال، وحسب التطور الاجتماعي التاريخي لكل مجتمع، وما يتيحه من إمكانيات متأتّية من عاداته وتقاليده، وأحواله المادية، وطرق تعامله مع «حدث الزواج». فالحدث مرتبط بأصحابه ومنتجيه. والتعامل معه انعكاس لأحوال المجتمع المحلي الذي يجري فيه، إن كان على صعيد التمسك بآداب التعامل في مثل هذه الحالة، أو على صعيد عدم الإخلال بأصول الشرع والدين. ذلك أن الزواج كان، ولا يزال في جوانب كثيرة منه، طقساً دينياً قبل أي شيء آخر. ولأنه كذلك، حافظ هذا التقليد على عناصره الدينية، حتى وإن كانت في جانبها الطقسي. وتزامنت معه احتفالات «دنيوية» تتغير حسب الإمكانيات والظروف. فتتمظهر في سلوكيات تعمل على الابتعاد عن الطقوس المنضوية تحت العباءة الدينية والشرعية، إما بالبطء المرافق لتطور الحياة المجتمعية ومستلزماتها، أو بالسرعة المتجاوزة للحركة المجتمعية نفسها. وتتحول، نتيجة لذلك، إلى احتفال تفاخري يتناسب مع المقدرة المادية، وبما يدعم المكانة الاجتماعية لصاحبي الاحتفال.
ولأن تقاليد الزواج مرتبطة بالوضع الاجتماعي العام، فإن هذا الوضع هو الذي يعطي للتقليد إمكانية البروز والفعل ليكونا تابعين لهذا الوضع وخاضعين له. ففي المجتمع التقليدي القائم على الزراعة في وسائلها البدائية تستلزم سلوكاً متناغماً معها، إن كان في تكوين العائلة وفي السلطة الممارسة فيها، وفي عدد أفرادها، وفي طريقة التعامل فيما بينهم؛ أو في ممارسة الأعمال البيتية والزراعية، إن كان في أساليب التعامل والتربية، أو في طريقة تزويج الأبناء والبنات. ذلك أن نمط الحياة هذا، يفرض على كبير العائلة ممارسة سلطته بصرامة وحزم، وعلى بقية أفراد العائلة الطاعة والخضوع، دون نقاش أو معارضة. وإذا كان ذلك يشي بممارسة سلطة قهرية، فإنه ما كان ليظهر على هذا الشكل إلا لأن متطلبات الطاعة والخضوع تفرض على صاحب السلطة تأمين استقرار العائلة المادي والحياتي، وإظهارها بالمظهر اللائق الذي تستحقة بهمّة أبي العائلة وكبيرها. ولأنه كذلك، فهو المعني بكل شؤونها، وبكل ما يتطلّبه أفرادها، وإن كان هؤلاء يساهمون في تأمين معيشة العائلة بموجب تقسيم العمل الذي على الجميع القيام بما يتوجب على كل منهم. ومع ذلك تبقى السلطة الأبوية المعنيّة الوحيدة بشؤون العائلة، وخصوصاً ما يتعلق منها بأمور التنشئة والتربية والزواج.
ومن المهم القول في هذا المجال، إن تكوين العائلة ونمط انتاجها وعلاقاتها الداخلية، كما علاقاتها مع الخارج، مرتبط بالواقع الإجتماعي الذي ينتجها. من هنا، جاءت تسميتها بالعائلة الممتدة المحتوية على إخوة وأبناء متزوجين وعازبين، وعلى أخوات وبنات عازبات، وعلى أحفاد وحفيدات تحت سلطة الأب الأكبر الذي عليه أن يدير شؤون العائلة، أو الإبن البكر في حال وفاته.
هذا الواقع أنتج سلطة لا تقاوَم داخل العائلة، وبيد واحد أحد فيها. ومن مفاعيل هذه السلطة، تزويج الأبناء والبنات، والإخوة والأخوات من قبل الأخ البكر، في حال فقدان الأب الأكبر. هذا على صعيد الداخل في العائلة الممتدة. أما على صعيد الخارج، فالأمر في الزواج يبقى محصوراً في إطار القرابة الدموية من الأقرب إلى الأبعد، قبل الخروج إلى محيط العائلات الأخرى ذات الأنساب المخصوصة بها، أو إلى خارج المحيط القروي أو القبلي الذي غالباً ما تنبني فيه علاقات زواج لأسباب متعددة تفرض تبادلاً فيما بينها قائماً على العلاقات القرابية المستحدثة من زواجات سابقة.
لقد ثبت لدينا من أبحاث سابقة أن علاقات الزواج تتعدى كونها علاقات ثنائية بين زوجين، لتصل إلى وسيلة أساسية لترسيخ علاقات القرابة وزيادة تماسكها، ولبناء علاقات قرابية وسياسية واجتماعية تطول عائلتين من نسبين مختلفين في تحالفات محلية ترمي إلى تثبيت الموقع والدور لكل منهما، ومن ثم تمتين هذه العلاقات بعمليات التبادل التي ترسّخ ما انبنى وتعمل على تثبيته وتماسكه، وخصوصاً تجاه العائلات المقابلة في المتحد الاجتماعي أينما كان، وفي الزمن الذي يستدعي التماسك العائلي، والتحالفات بين العائلات في العلاقات الإجتماعية والسياسية المحلية5.
من نافل القول التأكيد على أن آليات الفعل في الحدث الزواجي تتغير بتغير الظروف والأحوال. ولكن من المهم التأكيد على أن هذه الدراسة تقوم على ما كان يشكّل أسس التقاليد الراسخة، ومن ضمنها تقاليد الزواج. والغاية من ذلك، إظهارها كما كانت عليه، والمساهمة في حفظها، باعتبارها من العناصر المهمة في الثقافة الشعبية العربية، قبل تعرّضها لرياح التغيير. وهو التغيير المتأتّي من مصادر مُحدثَنة قلبت تقاليد الزواج المنبنية على أسس منسوجة من مجريات الحياة اليومية. فكان أن فعلت عناصر التثاقف فعلها، ونقلتنا إلى مواقع أخرى فصلتنا عما ورثناه من السلف. وما بقي هو ما كان عصيّاً على التغيير، وإن إلتصقت به عادات وسلوكيات مغايرة لا تربطنا بها أي صلة، إلا صلة التأثر بالآخر والنسج على منواله. فظهر التقليد، لذلك، ممزوجاً بما هو وافد، في مشاهد بعيدة كل البعد عن التراث التليد، ودون أي رابط معه، وفي حالة أقرب ما تكون من الانفصام.
سن الزواج:
ولأن الزواج لا بد منه في أي مجتمع، ولأن البنت منذ لحظة ولادتها يُنظر إليها على أنها عبء على والدها، وعتبة البيت «تحزن على وجودها أربعين يوماً»، ولأن «همّ البنات إلى الممات»، كانت نيّة التخلص منها، رمزياً، مرافقة لولادتها، بواسطة الزواج. وعليه، ظهر في التراث المشرقي وحتى فترة قريبة ما يدلّ على خطبة الفتاة منذ الولادة، وفي لحظة التهنئة بولادتها من باب إلقاء تبعة تربيتها على من يخطبها لابنه في ما يسمّى بـ«إعطيّة الجورة»6.
إعطية إلجورة:
ولأهمية هذه الظاهرة لا بد من شرحها لما لها من دلالة على تخفيف العبء عن الوالد، من ناحية، ولتأمين مستقبل البنت لحظة ولادتها، من ناحية ثانية. تقول غرانكفست عن حالات الزواج في قرية أرطاس الفلسطينية، عمّا يتم تداوله في هذا الشأن: «مبارك العروس. هذا يقال إذا كان المولود الجديد أنثى.. ماذا أعطاك الله؟ يسأل رجلٌ رجلاً أصبح للتو أباً لبنت، فتكون الإجابة: رزقنا للتوّ بعروس، مباركة مباركة [يرد السائل]. وإذا ما ردّ الأب: هي لك (عَ حبل إيدك)، وأجاب الآخر: وأنا قبلتها (وأنا قبّالها)، تكون البنت قد خُطبت يوم مولدها، فيقرّر الأب بتلفّظه بهذه العبارة مصير ابنته أحياناً، وتسمّى هذه العروس «إعطية إلجورة»، وهي تعني حرفياً أعطية الحفرة، أي حفرة الولادة»7. ولهذا النوع من الخطبة اعتبارات وأصول يدركها جيداً أبناء المدن والريف في فلسطين، وفي أماكن كثيرة في المشرق والعالم العربي، وإن كان ثمة اختلاف في طرائق التعبير عنها وتطبيقها. وقد بقيت هذه العادة متّبعة حتى بدايات القرن العشرين. ومن جملة ما لها من اعتبارات، أنها تعفي الخاطب مستقبلاً من المهر، على أن يقوم هذا، أو الخطيب نفسه، بتقديم ما يلزم من هدايا لحظة الخطبة، وفي المناسبات الدينية المهمة، وإن كان الأب الخاطب يرفض هذا الإعفاء، ويقول بالصراحة الواضحة أمام الشهود، «أشكرك كثيراً، وأنا قبلتها، وسأقدم لك ما هو حق لها (جزا) بحسب العادة بين الناس»8.
زواج الأطفال:
من نافل القول التأكيد على أن مسألة الزواج تحوز على المساحة الكبرى من تفكير الوالدين، وخصوصاً في المجتمع الريفي الزراعي. وعادة ما يعبَّر عن هذا الاهتمام بالمجاملات التي يتبادلها أهالي الريف في شكل عام، وهي التي تتداول المفردات المخصوصة المتعلقة بالزواج والولادة والفرح، وعمران الديار بتسلسل النسل واستمراريته. فالمولود لحظة ولادته هو عريس أو عروس. وعند تناول الضيافة تكون عبارة بالأفراح في حال قبولها، أو عدمه. ونفرح لك من عريس في حال الاختيار لجملة مناسبة تقال للمتزوج حديثاً. وعقبالك (العقبى لك) تقال للعازب الذي لم يتزوج بعد، أو للعازبة. ونفرح منكَ أو منكِ تقال أيضاً للذي لم يتزوج بعد. وتزوّجهم كلهم على حياتك هي الكلمة الحلوة التي يسمعها الأب للتدليل على التمنّي بأن يطول عمره ليزوج أبناءه جميعاً وأحفاده أيضاً.
وغالباً ما يحصل الزواج بين أبناء العم. وتبقى العروس، في كل حال، رهينة إرادة أحد أبناء عمومتها، أو جميع من يمكن أن يكونوا من مزاويجها، أي الأكبر سناً منها. ولا تستطيع الزواج من خارج هذه الدائرة إلا في حال سمح هؤلاء بذلك، حتى ولو كان المتقدم للزواج يرتبط برباط قرابة المرأة ( قربة نسوان) كأن يكون مثلاً إبن عمتها أو ابن خالها أو إبن خالتها، فإن الأولوية تبقى لإبن العم. وبعد ذلك يأتي دور الأقرباء الآخرين، وإن كان لا يُنظر إلى هذه القرابة المؤدّية إلى الزواج بإستحسان كبير9. ولكن يبقى أن الأقرباء من طرف الأم يمكنهم المطالبة بالعروس لأحد أبناء خالها أو عمتها أو خالتها، إذا كان العريس، من القرية ومن غير عائلتها. وكذلك يمكن لإبن قريتها أن يطالب بها إذا كان العريس من خارج القرية، لأنه أولى بها من الغريب10. وهنا تظهر هذه المقولة في انسجامها التام مع قولة العرب المشهورة والراسخة: «أنا وأخي على ابن عمي وأنا وإبن عمي على الغريب».
الزواج من بنت العم سمة رئيسة من سمات تقاليد الزواج في المشرق وعند العرب جميعاً. وهذه السمة تعطي لبنت العم حماية من الضرّة على الغالب، إذ يندر أن يتزوج رجل من إمرأة ثانية إذا كانت زوجته الأولى إبنة عمه اللزم. هذا، على الأقل، ما ظهر لي إثر دراسة علاقات الزواج في قرية لبنانية مسلمة سنّية، لم يتزوج فيها أحدٌ إبنة عمه، إلا بعد وفاة زوجته الأولى، أو تزوج ثانية بعد وفاة زوجته التي هي إبنة عمه اللزم11.
والزواج من بنت العم تدفع للإطمئنان على البنت المتزوجة لأنها بين أهلها وأقاربها، قبل أن تكون زوجة لأحد أبنائها، وإن كان عمرها صغيراً. ذلك أنها في عمرها الصغير هذا، تكون مطواعة بين يدي زوجة عمها بالنسب، قبل أن تكون زوجة لإبنها، فتتربّى على يديها وتتكيّف مع نمط حياة العائلة الجديدة، وتصير واحدة منها قبل بلوغها حالة الوعي بكونها زوجة وأماً لأولادها. «لم نعطك لأي كان، بل أعطيناك لأناس يمكننا أن نركن إليهم»12. فالزواج على هذه الحال ليس من شأن الزوج نفسه، فهو زواج من العائلة، وعلى الزوجة العتيدة أن تتكيّف مع الوضع الجديد الذي يعطي للعائلة الأولوية على الآراء الشخصية أو الحرية الفردية13. قالت إمرأة معنيّة لدى سؤالها عن الكيفيّة التي تمّ فيها زواجها، «ربّتني حماتي»، ما يعني أنها عاشت سنواتها المبكرة بإشراف حماتها التي شكّلتها كما تريد14.
اختيار العروس والخطبة:
تعتبر خطوة اختيار العروس الأهم في آلية الزواج. ذلك أن كل الأمور المستقبلية المتعلقة بالزواج مرتبطة بها. وكان من الصعب اختيار العروس من قبل العريس، في الوقت الذي كان الانفصال بين الجنسين صارماً، بحيث من شبه المستحيل أن يلتقي شاب بفتاة ويتعرف إليها أو يتحدث، بما يفضي إلى علاقة يمكن أن توصل إلى الزواج. لذلك كان الاعتماد في هذه الحالة على الأم أو الأخت أو العمة في اختيار العروس، بإشراف الوالد وعلمه، وخصوصاً في المدينة. وعند الاختيار، توصف العروس العتيدة بالتفاصيل إلى العريس، فيكتفي بذلك، أو يصرّ على رؤيتها. في هذه الحال، تدبّر والدتا الفتاة والشاب حيلة لرؤية العروس دون معرفتها. ونادراً ما يحصل ذلك15. وقد أنتج نظام الفصل هذا ما يُعرف بالخاطب أو الخاطبة. وهما تعبيران عن مهنة يقوم بها رجل أو إمرأة لتعريف أهل الشاب أو العكس على من يمكن أن يكون خطيباً أو خطيبة، لقاء بدل مادي يؤخذ من الطرفين. وهؤلاء يطلق عليهم اسم سماسرة الزواج. هذه المهنة كانت بمثابة المتنفّس للمجتمع الذي يفصل بين الجنسين، ولا يتيح إمكانية التعارف. وهي وإن خف تأثيرها، لا تزال موجودة، وخصوصاً في المدن.
مهر العروس:
للمهر أشكال متعدّدة في تقاليد الزواج عند أهل المشرق والعرب جميعاً. وهو معروف بمفهومه وإجراءاته لدى المسلمين، يقوم على ما هو عينيّ، وما هو نقدي، كما يمكن أن يكون بديلاً لخدمة. أما عند المسيحيين فهو معروف بالجهاز الذي على العريس تقديمه للعروس بمشاركة أهل العروس في تجهيز منزل الزوجية الجديد. وغالباً ما يكون قدر المهر أو قيمة الجهاز متناسبة مع مقدرة أهل الزوج والزوجة. وللفرق بين المهر والجهاز اعتبارات لها علاقة بمفاعيل الزواج ذاتها المختصة بكل من الإسلام والمسيحية. وليس هنا مجال المقارنة.
يدفع المهر عادة بالمال، ومفاوضات تحديده وكيفية دفعه تسمّى في الجزيرة السورية بالسياق. ويكون المقدّم، بموجبه، بالنقد بعد تحديد القيمة، والمؤجّل بالذهب بعد تحديد قيمته أيضاً. وغالباً ما تذاع قيمة المهر على الملأ للتباهي، حتى أن إحداهن بطل التداول باسمها واستُعيض عنه «بأم عشرة جمال» لأن مهرها كان عشرة جمال16. وإذا ثبت المهر على قيمته النقدية، فإن هذا ما حصل حديثاً. أما قديماً فكان يُدفع المهر على شكل مواش أو قطع أرض أو محصول. وبثبات المهر على قيمته النقدية، كان من اليسير المقارنة بين أعلاها وأدناها، وتعليل ذلك وربطه بالموقع الاجتماعي لكل من العروسين. وكذلك للمقارنة بين مهر البكر ومهر الأرملة. إذ إن «مهر الأرملة أقل بعض الشيء، إذا ما تذكرنا المكانة الكبيرة للعروس البكر عند الناس، كما أن الاحتفالات في عرس الأرملة أكثر بساطة»17.
ولأن قيمة المهور تتغيّر بتغيّر المكان الذي تنتمي إليه العروس، وبدرجة قربها أو بعدها من عائلة العريس، فقد اختلفت قيمة المهر بين أن تكون العروس ابنة العائلة والعشيرة، أو ابنة القرية، أو من خارجها. والمهر في هذه الحالة يسمى فيداً. ففيد العشيرة متعارف عليه، ويبلغ في حدّه الأقصى 50 جنيهاً استرلينياً، وهو الخاص بالزواج من بنت العم. وإذا كان لأحد أن يتزوجها من أقربائها الأبعدين، فعليه أن يدفع لواحد من أبناء عمها اللزم، أو أكثر، مبلغاً إضافياً يمكن أن يصل إلى 10 جنيهات. وإذا تزوجت من عريس من قريتها ومن خارج عائلتها، فعلى أهل العريس أن يدفعوا مهراً أكبر بالإضافة إلى مبلغ لابن عمها حتى يسمح لها بالانتقال. أما إذا تزوجت من غير قريتها، فيكون مهرها أغلى والغرامة أكبر، إذ على العريس أن يدفع مبلغاً لإبن عمها، ومبلغاً آخر لشباب القرية لشراء شاة للذبح والأكل. وتسمى هذه الغرامة شاة الشباب، تعويضاً عن حرمان شباب القرية من عروس يمكن أن تكون لأي واحد منهم. أما المبلغ الثالث فيذهب على شكل هدية تقدّم إلى الخادم الذي يمسك بخطم جمل العروس عند الانتقال.
عقد القران والعرس:
بعد وليمة الخطبة التي تقوم بمهمة تكريس المصاهرة بين العائلتين18، أو ترسيخ القرابة وزيادة تماسكها بين أقرباء العائلة الواحدة، تبدأ احتفالات عقد القران والعرس. ومن المهم هنا القول إن عقد القران شيء، والعرس شيء آخر. إلا أن لا عرس بدون عقد قران، بينما يمكن عقد القران بدون عرس. فمن المعروف أن عقد القران يقوم بسرية تامة، ويقتصر على المقرّبين من العروسين. ويعزو الكثيرون السرّية هذه إلى تجنب ما يمكن أن يعكّر صفو العروسين من إمكانيات السحر والحسد والغيرة والشر، وما يمكن أن يبطله19. أما العرس فهو للجميع، يدعى إليه أهالي القرية ومعارف أهل العروسين من القرى المجاورة.
يفضّل عقد القران المترافق مع إقامة العرس في أيام بعينها، وفي فصول محددة أيضاً. من هذه الأيام الأعياد الدينية وأيام الخميس والجمعة، بالإضافة إلى الليالي المقمرة والصافية التي تكون عادة في فصلي الصيف وبدايات الخريف، لوفرة الغلال وجفاف الطقس. أما إذا عقد القران مع تأجيل العرس، فيمكن إتمامه في أي يوم، على أن يتحدّد موعد العرس لاحقاً، وهو عادة ما يكون في أيام الصحو والليالي المقمرة لتحلو الاحتفالات، ويصخب الجو بالرقص والدبكة والغناء. وعادة ما تسبق موعد العرس سهريات يحييها أهل العريس في بيتهم، وأهل العروس في بيتهم أيضاً. ويمكن أن تدوم هذه الليليّات طيلة أسبوع بكامله حيث يسود الغناء والرقص وقول الشعر الشعبي المرسل والمغنّى، بالإضافة إلى حلقات الدبكة على صوت المزمار والطبلة، أو المطاليع التي تُنشد إكراماّ للعروسين ولمشكّلي حلقات الدبكة والراقصين والراقصات، مع كل ما يرافق ذلك من صنوف الضيافة التي يقدّمها أهل العريس للساهرين. كما يمكن للعريس نفسه أن يقوم بهذا الواجب بتقديمه القهوة المرّة للرجال، حسب مقامات الساهرين. وكذلك الأمر في بيت العروس. وكانت تقام هذه السهريات بما لا يسمح بالاختلاط، بحيث تكون مجالس النساء خلف مجالس الرجال، ولا مانع من اختلاط الأصوات والأهازيج.
المؤتلف والمختلف:
لا يختلف الأمر في إقامة العرس بين مناطق من العراق ومناطق من فلسطين أو لبنان وسورية، وحتى مناطق من الخليج العربي والمغرب. فالسيناريو مشابه وإن اختلفت بعض التفاصيل. ففي لبنان الجبل كانت تقام على الأقل حفلتان في ليلية واحدة للعروسين، حفلة للرجال في بيت العريس ومثلها للنساء في بيت العروس. يتخللهما الأغاني والرقص والأهازيج والزغاريد والدبكة على صوت الناي والمجوز. وتقام وليمة الطعام والشراب. وكان حفل الحناء معروفاً تحنّى فيه يد العريس اليمنى، ويدا وقدما العروس. سهرة العروس تسمى «جلوة» حيث تُحمم وتجمّل لتصير على أبهى صورة عند خروجها من بيت أهلها. وتُجلس على منصة عالية ليراها الجميع، وهي مطرقة الرأس دامعة، تأثراً بترك منزل أهلها، أو هذا ما عليها أن تظهر فيه إكراماً لهم. فتظهر في شكلها هذا، وسط الغناء والرقص والضجيج، وكأنها في مكان، والاحتفال في مكان آخر20. وتنتهي الليلية بانصراف المحتفلات بعد تقديم الضيافة لهن، والدعاء لهن بالأفراح.
يبدأ العرس فعلاً في اليوم التالي بطقوس افتقدتها أعراس اليوم. إذ يبدأ الاحتفال ببرزة العروس في بيت أهلها، بعد إظهارها بأبهى حلّة. وتبدأ حفلة الحلاقة للعريس وسط الأغاني والأهازيج والرقص بثياب العريس، وهم يدورون حوله، وهو مطرق الرأس ومستسلم لمقص الحلاق ومشطه. ولا أزال أذكر تلك اللحظات التي يظهر فيها حماس أقرباء العريس في الهز والرهز، وهم يرفعون بأياديهم أمتعةً من لباس العريس، بحيث لم يوفّروا الألبسة الداخلية والجوارب والحذاء بالإضافة إلى الحزام والمنديل وربطة العنق. كما لا أزال أذكر، بناء على ما ترسّخ في ذاكرتي من متعة المنظر، بالإضافة إلى إطلاق الرصاص بغزارة، ورمي الليرات الورقية على العريس والراقصين، انصراف الحلاق إلى عمله بالكامل، وكأن لا شيء يحدث حوله، وكذلك الحال بالنسبة للعريس الذي عليه أن لا يتحرك، إلا بإشارة من يد الحلاق21.
عادة ما يكون هذا اليوم الأحد، وهو اليوم المفضّل والمحبب لإقامة الإكليل (عقد القران) عند المشرقيين المسيحيين. عند وصول العريس إلى باحة الكنيسة على رأس موكب من أقاربه وأصدقائه وعارفيه، يتوجّه بعضهم، وعلى رأسهم والد العريس أو أخوه البكر في حال وفاته، أو عمه، إلى دار العروس لمرافقتها إلى الكنيسة. في لحظة انتقال العروس تستيقظ الحساسية المتأتية من إعطاء فتاة من الأقرباء إلى رجل غريب، ويتمظهر ذلك من خلال معارضة أحد أقربائها للانتقال دون البرهان على أن أهل العريس جديرون بأخذ عروسهم. والبرهان هو رفع أثقال معروفة. وتحصل المشادة المماثلة للمعرقَلات التي ترافق انتقال العروس في البلدان المشرقية التي رأينا أمثلة منها في ما سبق. وبعد النجاح في الامتحان، تنتقل العروس على ظهر حصان مزيّن أو بغل إلى الكنيسة حيث ينتظرها العريس. وعلى طول طريق موكب العروس، تُستقبل بنثر الأرز والورد وقِطع السكاكر على جسدها وأجساد المشاركين في الموكب22.
بعد الإكليل يعود موكب العروسين من طريق أخرى23 إلى منزل العريس، وسط الرقص والأهازيج ونثر الورود والأرز والسكاكر إلى أن يصل. هنا، تستقبل أم العريس كنّتها وابنها والحاضرين بماء الزهر والورد، وأخرى بالبخور. وتقدم أم العريس للعروس طبقاً تناولها إياه ابنتها أو شقيقتها يحتوي على خميرة عليها أن تلصقها على عتبة الباب. ولطريقة لصقها أهمية، لأن عليها أن تثبّت على العتبة للتدليل على الفأل بثبات الزواج. وتنثر ما هو موجود على الطبق من حبّات التفاح أو الرمان والنقود، بعد تصليبها على الخميرة ونثرها يمنة ويساراً وإلى الخلف وإلى الأمام لمن ينتظرها داخل البيت، وسط الزغاريد والهرج والمرج لالتقاط ما نثرته، لأن في ذلك ما يدلّ على إمكانية قرب فرح مَن حصل على بعض المنثور. ومن أجمل ما كان يحصل قبيل نزول العروس عن الفرس الذي يحملها، أن تطلب شخصاً ليُنزلها. وهذا الشخص يكون إما على خصومة مع أهل العريس أو العروس، ولا يكون حاضراً، وبالتالي لا يستجيب. فتقول إنها لن تنزل إلا على يده. فيصل إليه الخبر، فيأتي مسرعاً ليُنزل العروس. وتكون، بذلك، نهاية الخصومة، ويعود الوئام بين الجميع24.
في المغرب، يدعو أهل العريس أهل العروس إلى وليمة بعد الانتهاء من القطوع. والوليمة تدعى الأسبوعية. وفي ليلة الحنّاء يُفتح باب الغرامات لتنقيط العروس واستقبال الهدايا برفقة الوزيرة25. وغالباً ما تستقبل العروس النقوط والهدايا في أي عرس عربي. أما في البحرين فثمة تقليد يقوم على هدية العريس لأم العروس، وهي عبارة عن كميات من السمك والخبز يوزّع على الحاضرين من أهل العروس. ينضمّ ذلك إلى الطقوس المميزة المرافقة لعملية شراء الملابس وعلاقتها بالانتماء المذهبي. هذا بالاضافة إلى أن أكثر خطوات العرس والأغاني المرافقة لها ذات علاقة بآل البيت الشيعة، بينما يكاد يختفي كل ما له علاقة بالارتباط الديني لدى المسلمين السنّة، إلا ما له علاقة بإجراءات العقد وما يستلزمه شرعاً26.
أما ما يشتريه أبو العريس من الذهب، فهو على قدّ الحال في البحرين. ومن المعتاد، في حال نقصان الذهب في يدي العروس، أن تستعير من أقاربها أو جيرانها لإكمال النقص، كما يجري تماماً في قريتنا في شمالي لبنان. وقد حدث أنني استرجعت بيدي أسوارة كانت أن استعارتها قريبتي العروس من جارتها. ومن المهم ذكر الضيافة في بيت العروس، فهي على نفقة العريس. كما أن الملابس وأدوات الزينة لها أهميتها، وهي ترمز إلى علوّ قدر العروس والعريس معاً. أما الأطعمة، فهي الدليل الأبرز على تأثير البيئة، إذ تزخر الموائد بالسمك واللحم، ويندر وجود لحم الدجاج لندرة وجوده في الجزيرة. وإذا وُجد يقدّم إلى كبار القوم. ومن التقاليد المعبّرة في البحرين أن ثمة طعاماً مخصوصاً يوضع تحت سرير العروسين في بيت أهل العروس لإشغال الجن، فيلتهي بالأكل ولا يلتفت إليهما. ومن الطريف أن يرمى هذا الطعام في الصباح، على دسامته، ولا يؤكل.
من تقاليد الزواج في هذه القرى أن يبقى العريس في بيت أهل عروسه، وتكون ليلة الدخلة فيه بإشراف الداية وتوجيهها، وذلك حرصاً على العروس التي عليها أن تتعوّد على زوجها، وعلى حياتها الجديدة، قبل الانتقال إلى بيت أهله، بعد إثني عشر يوماً من زفافها. ومن الطريف، أيضاً، أن لا تكشف العروس عن وجهها إلا بعد أن ينقدها العريس مالاً، تأخذه الداية عن طيب خاطر لقاء أتعابها. وفي صبحية اليوم التالي يستقبل العروسان المهنّئين، ويتلقّون النقوط والهدايا منهم. كل ذلك، والعريس لا يزال في بيت أهل عروسه. وفي يوم الدواس، تقوم العروس وأمها بزيارة بيت أهل العريس للإطّلاع على أحوال البيت الذي سيضمّها مع زوجها، تمهيداً للانتقال النهائي. وفي هذا اليوم، توصي الأم ابنتها أن تكون مطيعة لزوجها وأهله، وأن تبرهن في سيرتها عن صلاح تربيتها، بالاضافة إلى إفهامها بشتّى الطرق أن بيتها هو بيت زوجها وليس بيت أبويها، وعليها أن تعيش حياتها على هذا الأساس27.
أما ما عدا ذلك فهو يشبه تقاليد الأعراس في مناطق العالم العربي، على اختلافها. إلا أن ثمة ما يبقى القاسم المشترك الكبير الذي يحدّد أصول العلاقة بين العروسين وبين أهلهما، بما يحفظ كرامتهما وكرامتهم. وهذا في كل حال، ما تحافظ عليه تقاليد الزواج والأفراح في كل مكان.
ما بعد العرس :
لا بد من انتهاء يوم العرس. وانتهاؤه يأذن بلقاء العروسين اللذين عليهما هنا أن يرتاحا من عناء يوم طويل. إلا أن نقوط العروس محطّة هامة في العرس الفلسطيني. إذ على العريس وأهل العروس والعريس والأقرباء أن يقدّموا لها النقوط ( الهدايا النقدية). ويبدأ الطقس بمجيء العريس حاملاً سيفه ليمرّره ثلاث مرات على وجه العروس، ثم يكشف به النقاب عن وجهها. وإذا كان في الطقس ما يبيّن رمزية سلطة العريس، فإنه بعد ذلك، لا يتوانى عن دفع المال بطريقة طقسية أيضاً؛ إذ يضغط بقطعة منها على جبينها، وأخرى على خدها اليمين ومن ثم الخد الشمال. وعلى أم العروس في هذا المقام أن تلتقط النقود، وكذلك كل المال الذي تنقّط به ابنتها. وبعد الانتهاء من التهاني، يخلو البيت من الزوار، ويتناول العروسان عشاءهما المخصوص بمفردهما، أو مع من تبقى من أهل العروس وأهل العريس. وبعد ذلك تبدأ الخلوة.
للخلوة أهميتها الكبرى لأهل العروسين في أي مكان من المشرق والبلدان العربية الأخرى. فهي غاية كل ما سبق. وبداية حياة زوجية لهما بدأت بعد حياة طويلة بالدعاء لكل منهما بفرحته. وها هي تحققت. إنها ليلة الدخلة للعريس على عروسه. وهي الدالّة على رجولة العريس، وعفة وطهارة العروس. ذلك أنها هامة لأهل العروسين بقدر أهميتها للعروسين نفسيهما. ومن طقوس الخلوة أنها تبقى سبعة أيام، لا يرى أحدٌ العروسَ خلالها، وخصوصاً في الليل. فالعروسان في خلوة. وتبدأ بطلب العريس من عروسه أن تفك حذاءها (الوطا)، فلا تستجيب لخجلها، «فيلقي لها بعشرة قروش، فلا تستجيب، فيلقي لها بعشرة قروش أخرى فلا تستجيب، وهكذا يفعل حتى ترضى»28.
وفي اليوم التالي، «الصباحية»، ينحصر الهمّ في معرفة ما آلت إليه الحال بين العروسين في ليلة الدخلة. وثمة دلائل كثيرة تُظهر ذلك، منها وجه العريس وابتسامته، أو خجله أمام المهنئين في مجلس الرجال، وذهاب العروس إلى النبع لجلب الماء، ولقاء النساء هناك لمعرفة أحوالها، أو نشر الغسيل الأبيض على سطح منزل العريس للتدليل على فض عذريتها، وغير ذلك من الإشارات. ذلك أن نتيجة هذه الخلوة لا بد لها أن تظهر، لأنها الدليل الذي يعطي صك الطهارة للعروس، وصك الرجولة للعريس وفحولته29. ومن المعلوم أن هذه الأخبار تنتشر بسرعة في القرية، وبإيعاز من أهل العروسين، لأن في نشرها ما يدلّل على حسن التربية ووفرة الكرامة. وبعد ذلك يستقبل العروسان المهنئين طيلة الأسبوع، قبل أن تعود العروس إلى ممارسة حياتها العادية في بيت زوجها، كما كانت تمارسها في بيت أهلها قبل زواجها. ولكن هذه المرة، باعتبارها فرداً من عائلة زوجها، أو سيدة منزلها الجديد.
الثابت والمتغير في تقاليد الزواج:
من نافل القول التأكيد على أن تقاليد الزواج في المشرق، وكذا لدى بقية العرب ليست متماثلة بالمطلق. فالتفاصيل بطبيعة الحال، مختلفة باختلاف نمط حياة المجتمعات التي تحصل فيها، وخاضعة لمعطيات هذه المجتمعات، ولظروف معاشها ولطرق تعاملها مع بيئتها ومع ناسها. ولكن يبقى ما هو مشترك، باعتباره خاضعاً لنمط المعاش وتشكيل العائلة، وسلطة الأب، ولما يقوله الشرع الديني في هذا الخصوص.
وما يمكن ملاحظته هنا، أن تأثير العامل الشرعي لم يظهر إلا في تحديد المهر وإجراء العقد في القرى السنّية. أما في القرى الشيعية فقد ظهر، بالاضافة إلى ذلك، ولاءها لأهل البيت وللأئمة الإثني عشر في مراحل متعددة من طقوس الزواج30. كما لم يظهر في تحديد المهر إلا الصداق المعجّل الذي يهون التعامل معه، إن كان في تحديده وتغيّره، بناء لعوامل قرابية واجتماعية، أو لإلغائه بناء على ما يقرّه زواج البدل، باعتبار أن مهر العروس هو من حق أهلها، بدلاً من أن يكون من حقها هي. وفي هذا المجال يستعمل أهلها «المهر العيني»، وهو العروس التي تدخل إلى بيت زوجها كبدل عن العروس التي خرجت. وفي هذه الحالة تخسر العروسان، الخارجة والداخلة، مهريهما، وهو ما لا يقرّه الشرع ولا يعمل به. وإذا لم يكن الزواج بالبدل، يستعمل والد العروس مهر ابنته ليدفعه مهراً لزوجة إبنه المستقبلية، وربما لزوجته الثانية. هذا على صعيد المهر. أما على صعيد العقد، فغالباً ما يتم الزواج من قاصرات بالمعنى الحقوقي لهذه الكلمة، وإن كنّ بلغن من الناحية الجنسية. ولا فرق هنا بين الزواج الكنسي والزواج الشرعي. ما يعني أن حق تقرير مصيرها في يد أبيها. فبمجرد موافقته، لا مجال للرفض من قبلها، علماً أن الشرع أكّد على ضرورة موافقة العروس الصريحة على زواجها. والموافقة هنا لا معنى لها إذا لم تكن واعية لتداعيات خطوتها، ومدركة لأهمية ما تقوم به، وهو تقرير مصير حياتها.
أما في الزواجات الحديثة، فإن الاهتمام بالعقد وتحديد الصداق صارا أكثر وضوحاً بما يقرّه الشرع الديني، بالإضافة إلى أخذ موافقة العروس من قبل المأذون بإجراء العقد، أو الكاهن في الكنيسة الذي يسأل علناً العروس إذا كانت قابلة بالعريس، «هل تقبلين بفلان زوجاً لك؟ وعليها أن تجيب بنعم، وكذلك يسأل العريس ليجيب بالإيجاب، وبعد ذلك يبدأ الاحتفال بالإكليل.
هذا على صعيد الشرع الديني، وعلاقته بمسألة الزواج. أما على الصعيد الاجتماعي، فإن صعوبة تعرّف الشاب على الفتاة الذي يمكن أن يوصل إلى الاتفاق على الزواج، أفسح في المجال لتدبير الزواج من قبل الأهل. والشأن الاجتماعي نفسه أعطى للأب سلطة إدارة بيته في كل شيء. وكان من المنطقي أن تشمل هذه السلطة تزويج أبنائه من دون التفكير حتى في استمزاج آرائهم. ذلك أن كل شيء في هذا الإطار مطلوب من الاب نفسه، بدءاً من تدبير العروس.. إلى السكن والاستهلاك. فتصير الأمور كلها، مرتبطة فيما بينها في تماسك بنيوي لا ينفصم. وفي إمكانية الانفصام وحصوله، تنفرط البنية بكاملها لتتشكل عناصرها من جديد في بنية مغايرة، أو تبقى سابحة في فضاء جديد تجد من العسير عليها تشكيل بنية متماسكة وبديلة.
تغيُّر نمط الحياة، وانتقاله من بنية تقليدية، إلى بنية مستحدثة يأخذ أجزاء من كل عنصر من بنية قديمة مادة له، للتعبير عما تستحدثه من عناصر تُدخلها على تقاليد الزواج؛ منها ما يغلّف بعضاً من التقاليد القديمة بغلاف مستحدث؛ ومنها ما يستبدل تقاليد راسخة بسلوكيات جديدة تعمل على ترسيخ عادات جديدة ما كانت معروفة من قبل؛ ومنها ما تستغني عن تقاليد راسخة دون معرفة ما يمكن أن يحلّ محلها31. فتضيع بذلك، طقوس واحتفالات ودلالات، وتحلّ محلّها طقوس سينمائية مبنية على الإخراج والتمثيل الخفيّ والمعلن، مترافقة مع ميول استهلاكية بذخيّة تدلّل على مقدرة المعنيين الإنفاقية، وتضيّع كا ما يمتّ إلى ما يعنيه الزواج، باعتباره تعبيراً عن التواصل الاجتماعي وتجديداً لعلاقات القرابة، أو مناسبة لإيجادها. وتُميّع كل ما يعنيه العرس بمحطاته كافة، والمذكورة بتفاصيلها سابقاً، وتحوّله إلى احتفال مرقّم في مكان غريب، وإلى موائد لا يظهر فيها ما يمتّ بصلة إلى العروسين وإلى أهلهما؛ وإلى رقص وفقش غالباً ما يقوم بهما أهل العروسين والمقربون منهما، دون أن يعني ذلك للمدعوين شيئاً، إلا التعبير بالحضور للمشاركة، وكأنهم في مكان آخر، ومدعوون إلى وليمة لا علاقة لهم بها، إلا ما بما فيها من ألوان الطعام والشراب.
صحيح أن العروسين اختارا نفسيهما بمعزل عن الأهل، إلا أن الخطوات التقليدية لا بد من فعلها. فعلى أهل العريس أن يطلبوا يد العروس، ولا بد لأهلها أن يوافقوا، وإن كان الأمر مدبّراً مسبقاً. ما يعني أن العريس قرّر الزواج واختار عروسه، ومن ثم علم الأهل بذلك ووافقوا. وهنا يكمن الفرق بين أن يزوّج الأب ابنه، وبين أن يتزوج الإبن وعلى الأب أن يوافق، ذلك أن له المشورة، وليس بالضرورة الرضى، وإن فضّل العريس رضا أبيه وأمه على عدمه. ولا بدّ من الخطبة العلنية ليصير من المتاح أن ترافق الخطيبة خطيبها، وإن كان لا بد من محرم مرافق في أماكن كثيرة من المشرق العربي. وإذا كان القطوع قد خفّ تأثيره، فإن مرافقة الخطيبة للخطيب في تدبير حاجات العرس، بدل الجهاز، صارت شائعة. وتبدأ من تدبير المصاغ مروراً بشراء ما يلزم للعريس والعروس معاً، وصولاً إلى انتقاء مفروشات المنزل وأدواته، بالتشارك والتضامن والموافقة. كما أن تحديد موعد العرس وتفاصيله منوط بهما، وإن شاركهم في ذلك الأهل والأصحاب.
ودخلت على خط سيناريو العرس، تدبير القاعة وتفاصيل لائحة الطعام، والمصوّر وتحديد المدعوين بالعدد على بطاقات الدعوة، وإن كان العريس والعروس من القرية نفسها. فحلّت، بذلك، البطاقة محل الوفد من أهل العروسين الذي يدور على منازل القرية بيتاً بيتاً على صوت قرع الطبل أو زغاريد النساء. وعلى الأطفال أن يبقوا في البيت. ومن يرغب في تقديم الهدية، عليه أن يدفع ما باستطاعته نقداً في الحساب رقم كذا، في البنك الفلاني وفي جميع فروعه، ليوفروا على مقدّميها مشقة الانتقال إلى مكان بعيد. وبانتهاء السهرة ولمعان المفرقعات، يعود الجميع إلى منازلهم، والعروسان إلى فندقهما، ومن ثم إلى شهر عسلهما، ولا مَن رأى أو سمع.
ما كان لكل ذلك أن يحصل لولا تغيّر نمط المعاش، وتحلّل العائلة الممتدة، واضمحلال سلطة الأب، وامتلاك زمام الأمور من قبل الإبن، منها ما هو متأتٍّ من العمل والإنتاج، ومن الاستقلال بشخصيته، ومن قدرته على تأسيس منزل الزوجية. فكان أن تأسّست الأسرة النواتية باعتبارها النتيجة الحتمية لهذا التغيير، وإن بقيت عائلات أخرى تعيش الحالة التقليدية التي تأخذ من عناصرها القديمة، ومن هذه العناصر الجديدة، ما يجعلها تسلك سلوكاً مختلطاً بين هذه وتلك، في حالات توفيقية لا تخفى على صاحب النظر.
هذه الطقوس المستحدثة في عمليات الزواج عملت على تقريب الممارسات في التقاليد الناشئة عنها، لدرجة أن المتشابهات فيها أصبحت أكثر بكثير من التباينات. إلا أن هذا التشابه جاء نتيجة نمط الاستهلاك الحديث الذي فرضته العصرنة والثقافة المعولمة التي تعمل على نشر ما هو متشابه، بما يعزّز توجّهها، وبما يخفّف من تأثير الثقافة الوطنية والهوية المحلية. ولا تتوانى، إذا استفحلت، عن القضاء على كل ما هو متميّز، وفي أي مجتمع، من أجل نشر أنماط سلوك وعادات وطقوس لا لون لها ولا طعم، إلا نزعة التفاخر والمحاكاة، والإيغال في شهوة الاستهلاك. ويتحوّل العرس، بذلك، وبكل ما سبقه من خطوات للوصول إليه، من أداة مشغولة بما تيسّره ظروف الحياة، ونمط المعاش، لاستمرارية الحياة بالتناسل، وتجديد علاقات القرابة، وترسيخ التواصل الاجتماعي؛ إلى أداة لإظهار الوجاهة الاجتماعية والتباهي التفاخري بالقدرة على الاستهلاك، وتثبيت الموقع، في متحد اجتماعي ينظر إلى صاحب المال، والقادر على إظهار الكرم والبذخ في الاستهلاك، النظرة المقدِّرة والمعتبِرة التي يمكن أن ترفعه إلى الموقع الذي يطمح إليه.