المسدار مرآة الطبيعة
العدد 61 - أدب شعبي
سنحاول في بداية هذه الدراسة شرح أو تقعيد مصطلحات هذا المحور لكي نكون على بينة من الأمر، ففي العنوان إشارة إلى البيئة التي هي منظومة متكاملة تحوي الأرض التي يعيش عليها الإنسان وما فيها من طبيعة تزخر بحيوانها وشجرها وحجرها، والإنسان يعيش في هذه الطبيعة ويصنع منها مأكله وملبسه ومسكنه، أضف لذلك السديم، وهو الفضاء الخارجي والسماء بنجومها وأفلاكها.
أما شعر الرحلة فهو يعني الشعر الذي يصف الرحلة من مكان إلى آخر، دائمًا على ظهر دابة كما هو الحال في المعلقات كما سنوضح، ومن أهم الأنماط الشعرية في وصف الرحلة هو المسدار، وهو بإيجاز قصيدة مطولة تصف الرحلة إلى ديار المحبوبة، وقد ذهب الباحثون مذاهب شتى في تعريف هذا المسدار، وعليه فإن المحور يدعو إلى دراسة تأثير البيئة أو الطبيعة على الشعر الشعبي بالتركيز على قصيدة المسدار. وللمسدار عدد من التعريفات، منها تعريف إبراهيم الحاردلو الذي جمع وحقق ديوان الحاردلو (الحاردلو: 1978). يقول إبراهيم الحاردلو: «وأغلب الظن أن لفظ مسدار معناه المنظومة الطويلة، ولفظ سدر بمعنى نظم موجود في اللغات السامية الأخرى، ولعل هذا اللفظ من تلك الألفاظ القديمة المشتركة، ولم نعرفها إلا حديثًا في هذا الشعر البدوي»(نفسه: 9).
وفي جانب آخر نجد الطيب محمد الطيب ينتبه للمسدار في دراسته عن الدوبيت أو بالأحرى الدوباي (الطيب: 2013). يقول الطيب عن المسدار إنه: «فن قائم بذاته، ووحدته هي القصيدة ذات النفس الطويل التي تحكي تجربة متكاملة، وهو يتضمن وصف الطبيعة والغزل في أغلب الأحيان، وهو تطور للشعر المربع، لأن الهيكل البنائي للمسدار يتكون من تلك المربعات التي نتحدث عنها»(نفسه: 172).
ونجد كذلك أحمد إبراهيم عبدالله أبوسن يتناول المسدار من خلال دراسة له عن تاريخ الشكرية، (أبوسن: 2012) ونجده يعرف المسدار قائلًا إن المسدار: «وهو يحكي قصة أو رحلة تبدأ بالاستعداد للرحلة وتجهيز الراحلة، وهي عادة جمل أصهب أو بشاري يحتمل السفر الطويل، ثم يبدأ الشاعر في وصف معالم الطريق وما فيه من وديان ووهاد وجبال وحفائر ومزارع وقرى، في هذه الأثناء يخاطب جمله ويشجعه على تحمل السفر وعلى المزيد من السرعة، والجمل يرد عليه في أنس جميل بأنه أهل لهذه الرحلة التي تنتهي بهم إلى موطن المحبوبة»(نفسه: 186).
وقد انتبه أبوسن إلى وصف المسدار للرحلة لديار المحبوبة وحاول تتبع الرحلة مكانًا إثر آخر، وذلك من خلال قراءة لمسدار (الصيد) للحاردلو، ومن المعروف أن هذا المسدار واحد من أشهر مسادير الحاردلو، بل من المسادير الأخرى، وهو يبدأ بالمربوعة المشهورة:
«الشم خوخت بردن ليالي الحرة
والبراق برق من منَّا جاب القِرَّة
شوف عيني الصقير بي جناحو كفت الفِرَّة
تلقاها ام خدود الليلة مرقت برة» (نفسه: 187).
وقد أكد أبوسن من خلال تتبعه الدقيق ومعرفته بجغرافيا المنطقة أكد أن شاعر المسدار يحرص على وصف المكان والمعالم الجغرافية التي يمر بها في رحلته وصفًا دقيقًا لا يترك شاردة ولا واردة، فنجد أبوسن يقول: «رحلة سفر طويلة يتابع فيها الشاعر الحاردلو رحيل الصيد من أقاصي الصعيد مع بداية فصل الخريف، حينما (مرقت) أم خدود، وهي الصيدة لتبدأ رحلتها شمالًا»(نفسه: 187) وقد ساعدت المعرفة العميقة للباحث أبوسن بالمكان والعادات والتقاليد، ساعد كل ذلك في قراءة المسدار قراءة متعمقة على درجة من الذكاء، فالباحث يعرف أين تضع الظباء أجنتها، نلمس هذا في قوله: «وخلال هذه الرحلة الطويلة من الجنوب إلى الشمال تحمل الظباء ويضعن حملهن في مكان آمن من بنات النال الغزير الذي يتخذنه ساترًا عن أعين الإنس، ثم يقفلن راجعات من شمال البطانة إلى صعيد البطانة بعد زوال الخريف»(نفسه: 189) وقد خلص أبوسن إلى وصف المسدار بأنه سجل حافل بالمكان، وذلك في قوله: «قلنا إن المسدار في الشعر القومي سجل حافل بالأماكن التي يمر عليها الشاعر، حتى يكاد يكون مرشدًا لطريق الرحلة لمن أراد أن يسافر، وفي خلال هذا الوصف يتحدث الشعر إلى جمله ويحثه على المسير، لأن الطريق شاق وطويل»(نفسه: 190) ولعل أهم ما في قراءة أبوسن هو تتبع الشاعر للظباء، الأمر الذي يبدو واضحًا، إذ أن لهذه الظباء والناقة كذلك رمزية ثرة، الأمر الذي أشار إليه كذلك سعد العاقيب في دراسته عن الدوبيت (العاقب: 2009)، وقد خلص العاقب إلى أن شاعر المسدار يستغل الظبي كرمزية للنساء، يقول العاقب: «فإذا نظرنا في معلقة لبيد وعينية أبي ذؤيب الهذلي وجدناهما يصفان حمار الوحش وأتنه، بصورة تشبه وصف الحاردلو لظبائه، وإذا تأملنا قول الحاردلو(الدوف فوق حقايبهن كترتو جمال) كدنا أن نكشف ما في نفس الشاعر من رمزية الظباء للنساء»(نفسه: 110).
وكذلك نجد سعد العاقب ينحو منحى تأصيليًّا في شرح المصطلح، وذلك في دراسة العاقب عن الدوبيت (العاقب: 2009) يقول العاقب: «جاء في لسان العرب سدل الرجل في البلاد، وسدر إذ ذهب فيها ولم يثنه شيء، وسدر يسدر البعير سدرًا تحير من شدة الحر» (نفسه: 12). ويخلص العاقب للقول: «ومن هذا الأصل الفصيح جاءت كلمة مسدار، لأن الشعر عندهم إنما يكون للخيال البعيد، وينسبه بعضهم إلى الضلال، كما عند ابن الرومي ولأن أكثر الدوبيت المسمى بالمسدار شعر يقال في الرحلات والتطواف في البلاد . فجعلوا الكلمة معنى للشعر الذي يقال في الرحلات على ظهور الإبل،» (نفسه: 12).
أما تعريف سيد حامد حريز للمسدار فهو يركز على أن المسدار جنس فولكلوري في الأساس، وبهذا الفهم يعرف حريز المسدار وهو يقول: «فالمسدار وجمعه مسادير يمثل نوعًا معينًا من القصائد الشعبية التي تسير على الرجز الرباعي، وتعنى بسرد ومتابعة رحلة الشاعر إلى ديار محبوبته أو إحدى صديقاته من الغواني»(نفسه: 14). وقد ورد تعريف حريز في سياق دراسته الرائدة عن المسدار،
وقد صدرت في كتاب بعنوان فن المسدار (حريز: 1992) وكنا في دراسة سابقة قدمنا إضاءة لمساهمة حريز التي لم تترك شاردة ولا واردة عن المسدار. ونرى أن تعريف حريز هو الأكثر دقة وهو يناسب دراستنا هذه خاصة ونحن ندرس شعر المسدار الذي سبقنا حريز في الاهتمام به.
على كل يقصد بالمسدار شعر الرحلة عمومًا، مثل هذا الضرب من الشعر نجده في أغلب أجناس الشعر الشعبي، مثل المديح النبوي، إذ درج شعراء المديح النبوي على وصف الرحلة إلى الأراضي المقدسة، ووصف كل ما يمر به الشاعر في طريق الرحلة، ومثال لما نقول قصيدة حاج الماحي (شوقك شوى الضمير) وقد أوردها عمر الحسين في ديوان حاج الماحي الذي جمعه وحققه(الحسين: د.ت) وفي هذه القصيدة يذكر حاج الماحي المكان الذي يمر به في طريقه من قريته الكاسنجر من قرى كريمة في شمال السودان إلى مكة المكرمة، يقول حاج الماحي:
«سقادي البقاقير الدامر والعشير
الباوقة والسنقير مقرات مع اب شدير
لي دار المناصير جيراني الكجاجير
عريب الكواوير جريف الحواجنير» (نفسه: 355)
فالباقير والدامر والعشير وأب شدير وغيرها أسماء لأماكن كما هو واضح.
ونضيف كذلك أن المسدار شكل غالب في أشعار بعض الجماعات السودانية، وليس في البطانة وحدها، فمثلًا عند الكبابيش نجد بعض شعرائهم يبدعون في هذا القالب الشعري واصفين ترحالهم من مكان إلى آخر، فقد أورد الفاضل طه عثمان وعبد الحميد محمد أحمد في مؤلفهما شعراء الكبابيش نموذجًا من هذا الشعر(عثمان وعبدالحميد محمد أحمد: د.ت) وكالعادة يبدأ الشاعر بوصف الجمل الذي يسافر على ظهره، قائلًا:
«الماريق علوقو وأكلو
والدرب البتهابو الجمال شركلو
بذر البركة ما بتلملمو وتضحكلو
على المتبورة ما بِرتالو ينعل شكلو» (نفسه: 1)
وهذا المسدار إذا جاز لنا القول يختلف عن مسادير البطانة في الطول، ذلك أن هذا المسدار تبلغ مرباعته العشرين مربوعة، بينما تبلغ مربعات مسادير البطانة في الحالات مائتي مربع.
ولاحظنا كذلك أن قالب المسدار قد يوجد لدى بعض الجماعات السودانية خارج السودان، كما هو الأمر عند بعض الجماعات في الصحراء في الجزائر، فقد أشار عبدالحميد بورايو في مؤلفه الأدب الشعبي الجزائري(بورايو: 2008) وقد تحدث عن جنس إبداعي يسمى «القُطَّاعَة» ويعرفها بورايو بأنها: «هي أغنية الطريق، ترتجل دائمًا يحب العرب ترديدها في السفر للتسلي من طول مسافات الطريق، موضوعها ذاته قصة سفر، يتم خلالها تعداد أسماء مختلف المحال التي يمرون بها في الانتقال من مكان إلى آخر»(نفسه: 41–42).
يمكن القول إن وصف الطبيعة هو الموضوع المركزي أو الجوهري في المسدار، ذلك أن الشاعر أو المحب يغادر موطنه إلى دار المحبوبة مارًّا بفضاء يحتشد بجمال الطبيعة، ولم يكن من بد لهذا الشاعر من أن يتوقف ليستجلي كل هذا الجمال وليصفه في إبداء الذاتي أو الشعري. لهذا قلنا إن وصف الطبيعة أمر جوهري في هذا الشعر، لكن هذا لا ينفي وجود شعر مسادير لا يتوقف كثيرًا أمام هذه الطبيعة، ونضرب مثالًا لما نقول مسدار واحد من أعمدة الهمباتة، وهو محمد أحمد محمد ود الشلهمة، الذي أورد له الطيب محمد الطيب نماذج من شعره(الطيب: 2016)، وقد أورد الطيب مسدارًا لود الشلهمة يستهله قائلًا:
«سديتو الضهر بعد الطوارف هيِّن
قارح الدون هدمي البروق الصَّيِّن
الحلى الزرافات من محاجرمك كبن
تعب الليهو عايل الساحة ما بِنَبَّنْ» (نفسه: 286) وثمة إشارة لابد منها أن مسدار الهمباتة كما هو الأمر في شعر ود الشلهمة، هذا المسدار، لا يقوم على المربوعة كما هو الحال في شعر المسدار عادة، فالشاعر هنا لا يلتزم المربوعة بل نجد استخدامه للقافية النونية التي نراها في الأبيات المقتبسة من القصيدة، هذه القافية تستمر في ثمانية أبيات، ثم يبدأ الشاعر في قافية جديدة، الأمر الذي يحتاج إلى دراسة وتأمل.
أما عن تأثير الطبيعة على هذا المسدار فنقول إن الشاعر الذي يسافر على ظهر دابته في البادية أو في السهل يتمثل هذه الطبيعة بكل ما تحتوي من جمال أخاذ، وهذا التمثل هو ما يحفز الشاعر للإبداع أو محاكاة جمال الطبيعة أو قل إعادة إنتاج هذا الجمال في شعره، وليس هذا بالأمر السهل، وليس بمقدور أي فرد أن يتمثل الجمال في أي صورة جاء، فهذا التمثل أو الإعجاب يحتاج إلى إيحاء أو إلى ذائقة جمالية تعرف كيف تستكشف الجمال وتعب منه، فالشاعر هنا هو المكتشف لهذا الجمال، وقد أشار عالم الجمال بنديتو كروتشه إلى شيء كهذا في كتابه علم الجمال (الحكيم: 1963) يقول كروتشه: «ولقد لوحظ أن المتعة الجمالية لأغراض الطبيعة تسلتزم تجريدها من واقعها الخارجي والتاريخي»(نفسه: 127). ويضيف كروتشه أن هذا الجمال عادة ما يكتشف، وذلك في قوله: «إن علماء الحيوان والنبات لا يعرفون الحيوان الجميل، والبيئة الجميلة، وإن الجمال الطبيعي يكتشف اكتشافًا، ومثال ذلك المشاهد التي يدل عليها ذوو الذوق والجمال، فيحج إليها الناس من بعد، إذ يحصل في هذا الحال قدر من الإيحاء الجماعي» (نفسه: 127 - 128).
غني عن القول إن علاقة الإبداع بالطبيعة معروفة في الأدب العربي، الأمر الذي نلمسه في أغلب أجناس الشعر العربي خاصة المعلقات. ومن المعروف أن أغلب المعلقات إن لم يكن كلها تبدأ بالوقوف أمام الطبيعة أو المكان، والأثر الذي يخلقه المكان في وجدان الشاعر، فنجد معلقة عنترة مطلعها هو:
هل غادر الشعراء من متردم
أم هل عرفت الدار بعد توهم
يادار عبلة بالجواء تكلمي
وعمي صباحًا دار عبلة واسلمي
أما معلقة لبيد فيقول في مطلعها
عفت الديار محلها فمقامها
بمنى تأبد غورها فرجامها
فمدافع الريان عري رسمها
خلقا كما ضمن الوُحي سِلامها
أما امرؤ القيس فله مطلع قصيدته المعروف:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
بسقط اللوى بين الدَّخول فحومل
فتوضح فالمقرات لم يعف رسمها
لما نسجتها من جنوب وشمْأل
في واقع الأمر أن المسدار يرتبط بوشائج قوية بالشعر العربي خاصة المعلقات، وهذا ما أشار إليه أكثر من باحث وفي مقدمتهم بروفيسور سيد حامد حريز، الذي أفرد دراسة للمسدار، وهي دراسة وافية ورائدة فتحت الطريق للدراسة المنهجية للمسدار كما ذكرنا.
وقد انتبه عبدالله الطيب إلى العلاقة القوية التي ربطت بين الشاعر الفحل أبوالطيب المتنبي والطبيعة، وذلك في مؤلفه الطبيعة عند المتنبي.
ويعرف عبد الله الطيب الطبيعة قائلًا: «صفات الأمكنة والأزمنة من أجواء وفصول وشمس وأصيل وقمر وليل ونجوم والحيوان بريه وبحريه وجويه»(نفسه: 5) وقد سرد عبدالله الطيب الكثير من أوصاف المتنبي للطبيعة، ويقول: «ولأبي الطيب في الصيد والكلاب والطرد قطع وأراجيز لا تخلو من إحساس بالطبيعة وإحسان وصفها»(نفسه: 43).
ومما يجدر ذكره أن العلاقة بين الطبيعة والشاعر تفاعلية، وليست من جانب واحد، مما يعني أن التأثير متبادل، وكلاهما يؤثر في الآخر. فالطبيعة أو البيئة تثير في وجدان الشاعر دفقة شعورية تحفزه للإبداع، وكلما احتشدت هذه الطبيعة بالجمال كان هذا الأمر الشرارة التي توقد شاعرية الشاعر.
أماعن المؤثرات البيئية فمما لا شك فيه ذلك التأثير القوي للبيئة عامة، والطبيعة على وجه الخصوص على المبدع، خاصة شاعر المسادير الذي تشكل له هذه الطبيعة فضاء هامًّا وهو يعبرها على ظهر الجمل دائمًا، حيث تشكل هذه الطبيعة بكل ما تحويه من شجر وحجر وحيوان عالمًا يحتوي على كنوز من الجمال والمتعة، إذ تعطي هذه الطبيعة الباعث القوي أو الحافز الذي يفجر شرارة الإبداع، ومما يجدر ذكره أن هذا الحافز يفجر مختلف الأحاسيس النفسية مثل الفرح والسرور، والحزن واللوعة، فالمكان أو النبات الذي يمر به الشاعر قد يستدعي لديه إحساسًا ما، سرورًا كان هذا الإحساس أو حزنًا، ونخلص للقول إن الطبيعة هي بلا شك واحد من أقوى محفزات الإبداع عند الشاعر خاصة شاعر المسادير، لهذا كانت هذه العلاقة القوية التي تصل درجة الحميمية بين الشاعر والطبيعة.
وسنخصص الجزء التالي من الدراسة لإضاءة إبداع المسدار لدى أشهر شعراء هذا الضرب من الشعر، وسنحاول رصد هذا الأمر منذ البدايات الباكرة للمسدار إلى يومنا هذا، لابد من الوقوف أمام شعراء المسادير خاصة أولئك الذين أبدعوا قصائد هي بمثابة الخرائد في شعر المسادير، ولا شك أن إبراهيم الفراش المعروف ب ود الفراش (1847 – 1983) يأتي في المقدمة من هؤلاء الشعراء، وقد جمع محمد علي الفراش ديوان ود الفراش وقدم له(الفراش: د.ت) وكان الشاعر بحكم مهنته في جمع الضرائب كثير الأسفار خاصة في شرق السودان، يقول محمد الفراش: «قضى ود الفراش نحو عشرين عامًا مترددًا بين البدو والحضر، وكانت مهنته توجب عليه ذلك. وكان موكولًا بجمع الضرائب من قبائل البجة» (نفسه: 17) ويذهب حريز إلى أن ود الفراش هو أول من كتب مسدارًا (حريز: 1976)،
ويذهب حريز إلى أن مسادير ودالفراش تسجل: «الكثير من التيارات الحضارية، والتي تركت آثار أقدامها على مدينة بربر إبان الحكم التركي»(نفسه: 28).
ومن أشهر مسادير ودالفراش المسدار الذي يصف فيه الرحلة من بربر إلى سواكن.
والشاعر الثاني الذي سنتوقف عنده هو عبدالله حمد أبوسن(1907 – 1987)، وهو شاعر ذو صيت كبير وسط شعراء المسادير الذين ولدوا وترعرعوا في البطانة، وقد توقف حريز أمام تجربة أبوسن (حريز: 1992)، يقول حريز: «ولقد نظم الشيخ أحمد عوض الكريم الشعر في أغراض مختلفة منها الغزل والحماسة والوصف والرثاء، واشتهر بالمسادير التي ضمنها أروع أبياته. وله ستة مسادير هي «مسدار المفازة» و«مسدار رفاعة» و «مسدار الصباغ» و«مسدار القضارف» و«مسدار البقر» و«مسدار الصيد» الذي يجاري فيه أمير الشعر الشعبي(حريز: 25) .
هذا وقد توفي عام 1987 عن ثمانين عامًا، وكذلك أعد وقدم حسان أبوعاقلة ديوان أبوسن في كتاب بعنوان: سياحة في عالم الشاعر أحمد عوض الكريم أبوسن. يقول الشاعر أبوسن في مسدار رفاعة:
«رفاعة الرُّبَّة قافاها البليب طربان
ناطح المنو ميثاق قلبي مو خربان
فوسيب السواقي اللي دوب شربان
بلودو بعيدة فوق في بادية العربان» (حرير: 77) هذا وقد أورد حريز لأبي سن ثلاثة من أهم مساديره وهي (مسدار الصباغ) و(مسدار رفاعة) و(مسدار القضارف) و(مسدار سيتيت)، ويلاحظ أن عنوان جميع هذه المسادير الأربعة يقوم على المكان.
ومن أهم شعراء المسادير كذلك عبدالله ود حمد المعروف بود شوراني (1923 – 1989)، وقد صدرت عدة دراسات عالجت تجربته الشعرية، وأهم هذه الإصدارات مسادير ورباعيات الشاعر عبدالله حمد ود شوراني الذي جمعه وقدم له وشرحه سليمان ود دوقة(ود دوقة: 2006)، يقول ود دوقة إن ود شوراني يأتي في المقدمة من شعراء المسادير ، ويعلل ود دوقة ذلك قائلا إن ود شوراني: «ألف ثمانية مسادير، وهذا لم يتأت لأي شاعر آخر في البطانة قديمًا أو حديثًا، وشاعر له قدرة فائقة ومنفردة في وصف الإبل»(نفسه: 8) ومن المعروف أن ود شوراني ألف واحدًا من أطول المسادير، إذ يتكون من واحد وتسعين رباعية، وتبلغ أبياتها ثلاثمائة أربعة وستين بيتًا، وتكاد الطبيعة تكون الموضوع الرئيس في مسادير ود شوراني، بل نجده يخصص مسدارًا لظاهرة النشوق، وهو الرحلة إلى مصادر المياه في الخريف، وهو (مسدار النشوق)، يقول ود دوقة عن هذا المسدار: «اعتادت قبائل البطانة أن تنشق في فصل الخريف، وذلك بعد نزول المطر وتنبت الحشائش وتمتلئ الحفائر والخيران» (نفسه: 225) وقد عبر ود دوقة عن إعجابه بهذا المسدار قائلًا: «وقد وصف شاعرنا تلك الرحلة وصفًا دقيقًا تجعلك(هكذا) تنتقل معه من واد إلى واد، بين السهول المخضرة والجبال والشجيرات.(نفسه: 225) أما ود شوراني فهو عادة ما يجعل من اسم الجمل عنوانًا للمسدار، فنجد مسدار الشراد و(مسدار السكران) و(مسدار الطربان)، وكلها أسماء للجمل. وهذا الولع بالإبل خاصة الجمل ليس بالأمر الغريب، ذلك أن الجمل هو الوسيلة الوحيدة التي يستغلها الشاعر في ترحاله، لهذا كان من البديهي أن يكون وصف الجمل واحدًا من أهم أجزاء المسدار، أو طليعة القصيدة، وقد انتبه الدكتور محمد الفاتح أبوعاقلة لهذا الأمر في مؤلفه عن الشعر الشعبي (أبوعاقلة: 2008)، فنجده يقول: «وللبهائم عمومًا عند أهل البادية قيمة كبيرة، فيها يتعاون الناس في مكانتهم في المجتمع المعين، ولقد عرفت الإبل بأنها المال قبل أن يعرف الناس المال، ولهذا يهتم البدوي كثيرًا بإبله وبقية ماشيته» (نفسه: 115) وقد دأب الشعراء جريًا على عادتهم على استخدام الجمل في السفر وليس الناقة، الأمر الذي لاحظه سعد العاقب حيث يقول: «كان أكثر وصف الإبل في الرحلات التي يقطع فيها الشعراء البوادي والمروج، كما في بادية البطانة وكردفان، وهذا الوصف يشبه وصف الناقة في الشعر الجاهلي، لكن شعراء الدوبيت يصفون الجمل، ولا أذكر واحدًا منهم وصف الناقة إلا إبراهيم ود علي ود سليمان المرغمابي الذي سمي بشاعر الناقة» (نفسه: 88).
ومما يجدر ذكره أن وصف الطبيعة لا يتوفر في المسدار فحسب بل إن هذا الوصف يكاد يكون أمراً شائعاً في أغلب الشعر الشعبي إن لم يكن كله، فمثلاً نجد هذا الوصف أو هذا الضرب من الشعر في شعر واحد من الشعراء المعاصرين ألا وهو عثمان ود جماع وقد أشار فرح عيسى محمد في دراسته عن ود جماع إلى ما أسماه بشعر الطبيعة (محمد: 2003). يقول فرح محمد «وصف الطبيعة أو «غنا النعم» يحتل المرتبة الثانية من اهتمام ود جماع، وليس في ذلك أدنى غرابة فالشاعر ابن بيئته»(نفسه: 134). ويورد الكاتب نموذجاً لهذا الوصف في مربعة لود جماع يصف فيها المطر قائلاً:
«اتقلدن ضللتك يا المريّة نهار
واتاكل سحابك وجابلو عرفة كبار
جبتي دعاش بعد نفسك لهايب نار
واتضللتي بي الغيم وانكسيتي خدار» (نفسه: 134)
ونجد الاهتمام واضحاً في شعر الكردوسي الأمر الذي لاحظه الباحث الطيب عبد الله الطيب الذي يذهب إلى أن وصف الطبيعة من أهم موضوعات شعر الكردوسي (الطيب: 2010).
ونجد وصف الطبيعة لدي الشعراء الهمباته أو المهاجرية كما أشار إلى ذلك الباحث الدؤوب الطيب محمد الطيب في كتابه التراث الشعبي لقبيلة البطاحين (الطيب: 2016). وهؤلاء المهاجرية لهم شعر معروف يصف أسلوب حياتهم، يقول الطيب «وناحية ثالثة مهمة أيضاً تكشف عن حياة هؤلاء القوم، وهو في مجموعه يعطي صورة كاملة لهذا السلوك»(نفسه: 214). ومن المعروف أن حياة المهاجرية على سلب إبل الغير، يقول الطيب واصفاً المهاجرية خاصة الذين ينتمون إلى قبيلة البطاحين «بأنهم من أوائل القبائل التي مارست هذه الصنعة (السرقة )، وأقول صنعة بأن البطاحين جوّدوها وحذقوها حتى أصبحت عندهم بمثابة الصنعة من كثرة الممارسة، وقدم عهدهم بها»(نفسه: 213). ويورد الطيب نموذجاً لهذا الشعر قول شاعرهم:
«واحدين في البيوت مكبّرين عمّامُن
قطعوا التبّة والزول أب عوارض لامُن
انعقدوا الصناديد والضرير قدامُن
نوَّوا العودة للماسكات عداد أيامن» (نفسه: 215).
وبرغم فظاظة الحياة عند المهاجرية الأمر الذي يبدو واضحاً في أشعارهم إلا أنهم يتوقفون أمام الطبيعة الخلابة التي تأسرهم بجمالها وتستفزّ شاعريتهم فلا يملكون إلا أن يتغنّوا بها مثلهم مثل غيرهم من شعراء المسادير
وعلى الرغم من عراقة المسدار والوقت الباكر الذي نشأ فيه ، إلا أن المسدار استمر إلى يومنا هذا، أي قرابة أكثر من قرن ونصف، يقول حريز في هذا الصدد: «وأقدم المسادير التي بين أيدينا هي مسادير الحاردلو ومسادير لإبراهيم الفراش ومسادير سيتيت لعبدالله أبوسن، وترجع لفترة زمنية تمتد من التركية وحتى أوائل الفتح والحكم الثنائي»(حريز: 31) والطيب محمد الطيب يتفق كذلك مع حريز في هذاالأمر، وهو البدايات الباكرة لفن المسدار، يقول الطيب: «وأعتقد أن المسدار أتى مؤخرًا بعد الاستقرار شبه الكامل، لأننا لا نجد أثرًا واضحًا في شعر القدماء، وأغلب المنظومات نجدها في عهد الأتراك وما قبله بقليل» (نفسه: 173).
وهناك من الشعراء من حرص على الحفاظ على روح المسدار التي تتمثل في البداوة، من هؤلاء الشاعر المعاصر ميرغني الكردوسي، وله عدد من المسادير تؤكد ما ذهبنا إليه، وقد توفر الباحث الطيب أحمد الطيب عبدالله على دراسة جيدة عالجت تجربة الكردوسي، كما ذكرنا (عبدالله: 2005). وهو يصف شاعرية الكردوسي قائلًا: «لم تضن قريحة الشاعر ميرغني الكردوسي بالنغم في أي من موضوعات الشعر الشعبي، (الدوبيت) فقد تناولها جميعًا، بل زاد على ذلك بأن ألف مسدارًا عن الزمن في محاولة لتوضيح مدى التغيير والتحول في أصالة الحياة البدوية». وكما هو متوقع فإن الكردوسي توقف طويلًا أمام الطبيعة التي يعيشها في البادية، يقول عبد الله في هذا الصدد: «تمتاز تلك المنطقة – البطانة والقضارف – في الخريف تحديدًا بجمال أرضها، حيث تكتسي بالخضرة والجمال، كما تمتاز بأنها أرض سهلية واسعة وممتدة، وهذا ما جعلها ملهمة للشعراء»(نفسه: 67). ونلاحظ أن الطبيعة أو شعر الطبيعة هو جنس شعري قائم بذاته يسمى «غنا الطبيعة»، وهذا مما يوضح أهمية وصف الطبيعة في شعر الكردوسي، ونضرب مثلًا لهذا الشعر قول الشاعر في إحدى قصائده يصف الخريف والمطر قائلا:
«باكر فك هرعا في الأفق حتليبا
ودفق الصافي وخرف قالب ام تسيبة
كب اسقي القضارف والبطانة صبيبا
عمت رحمة المولى ونسايم طيبا»(نفسه: 68)
ومن أهم مسادير الكردوسي (مسدار العاصي)، الذي يقول في مطلعه:
«جبَدْ عاصي الجُمال بسم الله ناقصَ السرجْ
أمج وبرك واجوجة حس بالدرجْ
أذكر مجال أنسًا دقاق مو هرجْ
عن غالي النفيس الذوقه ما قال حَرجْ» (نفسه 125)
ويقول عن الطبيعة:
«ليهو ايام مشامش القرنو خلقة مفتَّلْ
شاف لمعي البروق ورُزَمِي الصبيب الهطَّل
بلدو الفيهو جاب قراص وهوَّش وقتَّلْ
نيتو إدور الوادي اب نباتًا نتَّلْ» (نفسه: 145)
أضف لهذا إن أجيالًا من شعراء البطانة الشباب مازالت تجد في المسدار وعاء مناسبًا لإبداعها الشعري، ومن هؤلاء مثلًا سليمان علي محمد علي عجيمي، المولود في عام 1984م، وقد صدر ديوانه اقتفاء الأثر الذي شرحه وقدم له أسعد العباسي، (العباسي: 2008). ومن الطريف أن هذا الكتاب صدر والشاعر في بداية عقده الثالث، وللعجيمي عدد من المسادير منها: مسدار القلب، ومسدار كوبر، يقول العباسي: «عندما ولج شاعرنا العجيمي أرضية المسادير والقصائد طواها دون عثار، وعندما حط على قمم جبالها استقر عليها دون وعثاء أو تعب، ثم أسبغ عليها من وجدانياته وأنينه وعشقه وحكاياته وتجاربه ثوبًا مطرزًا بالحنين والجمال» (نفسه: 19) ولم يقف الأمر عند إبداع الشعراء قصائد على نمط المسدار، بل إن بعض الشعراء من غير الشعراء التقليديين الذين عرفوا بإبداع القصيدة الثورية أو النضالية عمدوا إلى استيحاء أو توظيف نمط المسدار في بعض قصائدهم، وقد لاحظ سعد العاقب هذا الأمر في حديثه عن الدوبيت، ودرس العاقب تجربتين هامتين؛ الأولى للشاعر الفحل صلاح أحمد إبراهيم، والذي رثا صهره الشفيع أحمد الشفيع في قصيدة على نمط الدوبيت، يقول فيها:
قدل أب رسوة للموت الكلح بتضرع
خاتي العيبة ما ختات عيون في مطمع
أب احمد تقيل وكت التقيل بتسرع
أب احمد وراك الحق نشوفو مشلع»(نفسه: 126)
وكذلك توقف العاقب أمام قصيدة معاصرة للشاعر المعروف الراحل محمد طه القدال، وهي قصيدته ذائعة الصيت(مسدار أبو السرة لليانكي) وأشار العاقب إلى ما أسماه بالرمزية في القصيدة قائلًا: «ولكن المعاني الظاهرة في هذا المسدار تحمل مدرسة شعرية تقوم على الترميز وعدم المباشرة في طرق المعاني(العاقب: 121). ويذهب العاقب إلى أن القدال برغم حداثة قصيدته، إلا أنه نجح في الحفاظ على روح البداوة التي كانت تسم المسدار منذ ظهوره» ويضيف العاقب إلى أن عددًا من شعراء الحداثة عملوا على استيحاء المسدار في أشعارهم.
وظل المسدار يواكب الحداثة لكن مع تخلي الشاعر عن قالب أو روي المسدار، وكنا قد لاحظنا في دراسة سابقة وجود جنس فولكلوري شعري عند الشايقية يسمى الترحال، وهو قريب الشبه بالمسدار في المضمون، (بشرى: 2008) فالشاعر خلف الله حميدان أبدع قصيدة من هذا النمط يصف فيها الرحلة بالقطار من قريته في شمال السودان إلى ملكال، يقول الشاعر في مطلع القصيدة:
«قام بينا القطار من شندي إتحدر
والأخوان جميع بفراقنا تتكدر
قطرنا السريع رياحو ترمي شدر»(نفسه: 96)
ونلاحظ هنا أن الشاعر لا يلتزم القالب المعروف للمسدار، وهو المربوعات، حيث تقوم كل مربوعة على قافية واحدة، لكن الشاعر هنا يبدع أي عدد من القافية الواحدة، وقد تكون ثلاثة أبيات، وقد تصل إلى ستة أبيات ، فالشاعرهنا يستوحي فكرة ومضمون المسدار، ولكنه لا يلتزم بالقالب.
نخلص للقول إن المسدار مرآة للطبيعة، بل هو مرآة صادقة، وآية ذلك الوصف الدقيق المدهش والممتع للطبيعة في المسدار، خاصة مسدار البطانة كما هو الأمر عند أحمد عوض الكريم أبوسن وود شوراني والكردوسي وغيرهم من الشعراء. ذلك أن حضور الطبيعة في شعر المسدار واضح لا تخطئه العين، ولا شك أن من أهم مؤهلات شاعر المسادير المعرفة العميقة للطبيعة من حوله وكل ما يقع في ناظريه، وهو في طريقه إلى دار المحبوبة، فالمسدار ليس للمتعة فحسب، بل هو أداة تعليمية وتربوية للمتلقي في البيئة التقليدية، الأمر الذي انتبه له حريز في دراسته عن المسدار(حريز: 1992) وأشار إلى أن المسدار «أداة تثقيفية لا غنى عنها للرجل البدوي، وللقارئ الذي ينشد المعرفة» (نفسه: 23) وضرب مثلًا هنا بمسدار النجوم لعبدالله ود شوراني، يقول حريز: «فمثلًا المعلومات الفلكية والمناخية المتضمنة في مسدار النجوم لعبدالله ود حمد ود شوراني توجه إلى مواعيد الزرع والحصاد وخلاف ذلك مما يرتبط بحياة الناس»(نفسه: 22). وقد انتبه سعد عبدالقادر العاقب لبراعة شعراء المسادير في وصف الطبيعة، وذلك في دراسة العاقب عن الدوبيت (العاقب: 2009)، يقول العاقب: «اشتهر بوصف الطبيعة شعراء البطانة لاكتمال عناصرها عندهم، أعني الأرض والحيوان، فقد عرفت البطانة بسحرها في فصل الخريف، حيث تخضر الأرض وتكتسي المروج بالأعشاب...»(وأكثر وصف الطبيعة عند شعراء البطانة ينصب عن الخريف» (نفسه: 106).
وفي جانب آخر نجد الشاعر الشعبي الرشيد عبدالله البري يبدع مسدارًا بعنوان: (مسدار بوكسي) إذ يسافر من الخرطوم بحري إلى منطقة شندي على ظهر عربة حديثة (بوكسي) أي أنه يستبدل الدابة بالبوكسي، وذلك في ديوان البري فرسان خوة (البري: 2029) ونجده يقول:
«قال البوكسي جاهز يلا قوموا نعدي
مو قاسي الطريق ظلطو المسمى تحدي
يا البادراب عموم يا شيوخ أبوي وجدي
من العين ومن العارض المتسدي»(نفسه: 65)
فالشاعر يسير على نمط شعراء المسادير ويذكر الأماكن التي يمر بها البوكسي مثل البسابير والعوتيب وشندي التي يقول عنها:
«سلام يا شندي بلد العز شموخ وأصالة
فيك السجلو التاريخ كتال وبسالة
لي حبيبة فيك بالله كيف أحوالها
خدها ضاوي زي قمر السبوع يتلالا»(نفسه: 70)
وللشاعر كذلك مسدار آخر باسم (مسدار حافلة) ويمضي فيها على ذات منوال المسدار السابق، متوجهًا إلى مناطق البادراب، لكن هذه المرة الشاعر لايقود العربة ولكنه يسافر في حافلة من حافلات الطريق.
ونشير كذلك إلى مسدار آخر، وهذه المرة يتم السفر فيه على ظهر عربة لاندكروزر تستغلها الشاعرة خنساء بت المك من الخرطوم بحري إلى البطانة(بت المك: د.ت) وتقول الشاعرة في مسدارها:
«العربية لاندي عشان وطاتنا رشاش
مرقت بي تمام وفحوص من القراش
نسام الصباح فكالا هيف ودعاش
طلعت للسفر بي سرعة الحراش» (نفسه)
ونلاحظ أن الشاعرة تسير على خطى شاعر المسادير التقليدي، فهي تقف أمام الطبيعة بشجرها وحيوانها، ونجدها تصف الوادي في مربوعة قائلة:
«دخلنا الوادي في الخيران ملسن ماهو
مقيمل أرضو مطران والسحب في سماهو
أدى اللاندي ترسي والوحل احماهو
جدع الترس قوة وفات وما هماهو» (نفسه: 3)
وفي إشارة لطيفة تصف الشاعرة المطر وهي داخل العربة، أو (اللاندي) كما تقول، وكأنها الشاعر على ظهر ناقته، تقول الشاعرة:
«وقفنا المكيف والمطر جبجاب
ونزلنا القزاز لي نسمة الهباب
حلاة ريحة الدعاش بتريح الأعصاب
وعدينا الصباح من حلة الصابراب» (نفسه: 3)
وفي ختام المسدار تقول الشاعرة تصف (الصِّفَيَّة) أي المكان المقصود وهو نهاية الرحلة:
«وفي استقبالنا كان كل الصفية حضور
ود اب ناجمة قال الليلة زادت نور
بشوف الناس مقابلانا وملانا سرور
نزلنا طرابة لا حاسين تعب لا فتور»(نفسه)
على كل لابد للشاعر الشعبي من أن يكون عارفًا بأدق تفاصيل بيئته، والطبيعة من حوله، ودون ذلك لا يتأتى له أن يصير شاعرًا تزكيه القبيلة وتضعه في الصدارة. فحضور الطبيعة في المسادير يبدو واضحًا في عنوان المسدار، فهذا العنوان قد يرمز للمكان، فمثلًا نجد في مسادير أحمد عوض الكريم أبوسن (مسدار خشم القربة) و(مسدار أتبرة)، وخشم القربة وأتبرة أماكن في شرق السودان.
حاولنا في هذه الدراسة النظر في علاقة البيئة أو الطبيعة بالشاعر، متخذين من المسدار ذلك الجنس الفولكلوري الذائع الصيت نموذجًا، وحاولنا رصد العلاقة القوية والحميمة بين الطبيعة والشعر، الأمر الذي يتجلى واضحًا في أغلب إن لم يكن كل قصائد المسدار، وأوضحنا أن وصف الطبيعة جزء رئيس في هذه القصيدة، وأن الشاعر ينطلق في وصف هذه الطبيعة معتمدًا على أمرين؛ شاعريته ومعرفته وإلمامه بالطبيعة من حوله بأدق تفاصيلها وبنباتها وبشجرها وسهولها ووديانها، هذه المعرفة أهلته وجعلت منه شاعرًا معروفًا عند جماعته.
كذلك تمت الإشارة في هذه الدراسة إلى استمرارية المسدار فولكلوري لزمان طويل منذ ودالفراش الذي توفي في العهد التركي إلى يومنا هذا، أي قرابة القرنين من الزمان، ليس هذا فحسب، بل إن المسدار ظل يستوعب كل أشكال الحداثة، وظل شكلًا جاذبًا حتى للشعراء غير التقليديين أي الذين يبدعون أشعارهم كتابة ولا يؤدونها شفاهة، كما أشرنا لذلك، لذا يمكن القول إن المسدار جنس فولكلوري لا يموت.
المراجع:
1. أبو عاقلة، محمدالفاتح "من خصائص الشعر الشعبي السوداني" 2008م. الخرطوم – جامعة السودان المفتوحة.
2. أبو سن، حسان أبو عاقلة سياحة في عالم الشاعر أحمد عوض الكريم أبو سن، 2001م – سلسلة التراث الأدبي كسلا: شركة كسلا للطباعة والنشر .
3. أبوسن – أحمد إبراهيم عبدالله أبوسن – تاريخ الشكرية ونماذج من شعر البطانة، 2012م. الخرطوم: شركة مطابع السودان للعملة المحدودة (ط2).
4. حكيم(ال) قرية – علم الجمال. القاهرة. المجلس الأعلى. لرعاية الفنون، تعريب 1963م. والآداب والعلوم الاجتماعية.
5. بشرى، محمد المهدي- "الفولكلور والحياة الشعبية في منطقة أمري"، 2008م. دمشق: دار الصالحاني
6. بشرى، محمد المهدي "المسدار عمدة دراسات الشعر الشعبي" ، 2017م. في خمسون عامًا في الحقل: دراسات في الفولكلور السوداني. الخرطوم: مطبعة جامعة الخرطوم.
7. بورايو، عبدالحميد "الأدب الشعبي الجزائري". 2007م. الجزائر: دار القضية.
8. حسين(ال) عمر."ديوان حاج الماحي. الخرطوم". جمع وتحقيق د.ت. سودان بوكشوب
9. حاردلو(ال)إبراهيم -" ديوان حسن محمد عدلان" (شرح وتعليق) د.ت. (التوم) شاعر الحب المستحيل.
10. حريز، سيد حامد ،"فن المسدار"– الخرطوم – دار المأمون. 1992م.
11. طيب(ال) الطيب محمد ،"دوباي – سلسلة الأعمال الكاملة(4)"، 2001م. الخرطوم: هيئة الخرطوم للصحافة والنشر.
12. طيب(ال) الطيب محمد، "التراث الشعبي لقبيلة البطاحين"، 2016م. الخرطوم: معهدالدراسات الإفريقية والآسيوية، وهيئة الخرطوم للصحافة والنشر.
13. طيب(ال) عبدالله، "الطبيعة عند المتنبي". مؤسسة عبدالله الطيب. 2019م.
14. عاقب(ال) سعد عبدالقادر مع الدوبيت. 2009م. "دراسة فنية أكاديمية ومسادير مختارة"، الخرطوم: دار عزة للنشر والتوزيع.
15. عبدالله الطيب أحمد الطيب."موضوعات الشعر الشعبي في ولاية القضارف: الاستمرارية والتغيير". جامعة الخرطوم. معهد الدراسات الإفريقية والآسيوية. قسم الفولكلور – أطروحة ماجستير(غير منشورة).
16. علي، مصطفى عوض الكريم، "تحقيق ديوان ود شوراني" - ج 2. 2000م. الخرطوم: الخندق للطباعة والنشر.
17. عثمان، الفاضل طه، وعبدالحميد محمد أحمد، "شعراء الكبابيش" جمع وإعداد د.ت. الخرطوم: وزارة الثقافة والإعلام مصلحة الثقافة.
18. محمد، فرح عيسى، "من تراث البطانة". 2017م. الخرطوم: وزارة الثقافة الاتحادية. مركز تسجيل وتوثيق الحياة السودانية.
19. ود دوقة، حسن سليمان. "مسادير ورباعيات الشاعر عبدالله حمد ود شوراني"، 2006م. سلسلة أدب البطانة. الخرطوم: مطبعة أرو.
الصور :
1. https://i.pinimg.com/originals/05/e3/85/05e38524facb3298a221aacdc1bc8c4d.jpg
2. https://www.ich-sudan.com/ar/national-inventory/inventory/al-misdar-traditional-poetry
3. https://www.ich-sudan.com/ar/national-inventory/inventory/al-misdar-traditional-poetry
4. https://twitter.com/SudaneseCulture/status/1621913670354714624/photo/3