المليحة في الخمار «الأبيضِ»
العدد 61 - لوحة الغلاف
يحكى بأن بائع أخمرةٍ وأقمشةٍ جوال، كان يبيع ما لديه من ألوانٍ عدا الأسود، فلما شكا كساد الأسود إلى شاعر، كتب لهُ الأبيات الدعائية الشهيرة: «قل للمليحة في الخمار الأسودِ»، حيث شاعت، وأخذت النسوة يقبلن بكثافةٍ على ابتياع هذا اللون، ليُظن بأن الواحدة منهن هي «المليحة» المقصودة. ومذ ذاك، تعودت النسوة في منطقة الخليج والجزيرة العربية والعراق لبس العباءة السوداء، التي امتدت لعدد من المناطق الإسلامية.
أصاب هذه الحكاية ما أصابها من تغيرات تصيب الحكاية الشعبية. ويُعلل بها سبب اتّخاذ اللون الأسود لوناً للعباءة. وهي من حيث الأصل، مرويةٌ في كتاب «الأغاني»، وشاعر الأبيات (مسكين الدارمي). وعلى عكس «الخمار الأسود»، جاء غلافنا الخلفي لهذا العدد، محتفياً بـ «الخمار الأبيض» للمرأة المغاربية، والذي يسمى في تونس بـ «السفساري»، ويطلق عليه في الجزائر والمغرب «حايك»، إلى جانب تسميات أخرى من قبيل «الإزار»، و«الكسا»، و«التلبيسة»، و«التلحيفة»، والذي يناقض لون مقابله في الخليج العربي. الأمر الذي دعانا للتساؤل عن سبب كون عباءة المرأة الخليجية سوداء، رغم عدم اتساق هذا اللون مع الظروف المناخية، فيما اتخذت المرأة المغاربية عباءةً بيضاء، رغم كون المناخ أقل شدة في منطقتها.
يرتدي الرجل في الخليج الثياب البيضاء المنسجمة مع البيئة. ومعروفٌ بأن الأبيض أقل امتصاصاً للضوء، مقارنة بالأسود الذي يمتاز بخصيصة امتصاص الضوء، فكيف فرضت «الميمات» -الوحدات الأولية للثقافة- نفسها على فسيولوجيا الجسد؟ الجواب مفهومُ في عصرنا هذا، حيثُ التقدم التكنولوجي والتسهيلات الحياتية التي تيسر تجاوز التواؤم بين الثقافة والطبيعة، بيد أن ارتداء المرأة للأسود قبل عصر النفط، يمثل تحدّيا كبيرا لاستمرارية وبقاء خيار هذا اللون عوض الألوان الأخرى.
ربما اختار الرجل اللون الأبيض لنفسه امتيازاً، وشكلاً من أشكال تفضيل نفسه على المرأة! واختارت المرأة الأسود، أو اختير لها، كشكل من أشكال التحيز الذي مورس تجاهها؟ وربما جاءت دلالات اللون لتكون عاملاً في التفريق بين ملابس الجنسين. أم ترى أن هذا التقسيم اللوني، جاء بناءً على فكرةٍ مقاربةٍ لتلك التي شاعت في الثقافة الصينية عبر تقسيم الـ «اليين واليانغ»، والتداخل بينهما، وكيف أن هذا التداخل يشكل تكاملية رغم تناقضاته؟!
إن العباءة و«السفساري» يشتركان في ذات الوظائف ويحققان نفس الغايات، ويُصنعان، أحياناً، من نفس الخامات. إلا أن الاختلاف البارز بينهما هو اللونان المتناقضان. فلماذا استمرت المرأة الخليجية في ارتداء الأسود؟ يرى بعض الباحثين بأن الأسود أكثر تحملاً للعوامل الخارجية، وأقل عرضة للأوساخ، إلى جانب كونهُ أكثر حشمة وستراً، أوأقل لفتاً للنظر. ورغم أن مسألة تبيانه للأوساخ صحيحة مقارنةً بالأبيض، إلا أن جزئية الحشمة ولفت النظر لا يكمن التسليم بها، حيثُ أن الإنسان يعيد ضبط مزاجه بما يتواءم مع المثيرات الخارجية؛ فإن كانت العباءة السوداء دلالة على المرأة، فيمكن أن يكون اللون بحد ذاته مصدر إثارة!
ربما جاء التمييز بين لوني ملبس الجنسين لأغراض التفريق كما أشرنا، لكن لماذا اختارت المرأة أو أُملي عليها اللون الأقل اتساقاً، فيما فضل الرجل اللون الأكثر اتساقاً مع المعطى البيئي؟ أهي الهيمنة الذكورية؟ ربما... وربما هي عفوية ليس من ورائها غايات أو مقاصد!