فصلية علمية متخصصة
رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم
العدد
67

العربية لغة العلم والمعرفة

العدد 61 - عطف نسق
العربية لغة العلم والمعرفة

 

لاحظت بحكم مسؤوليتي العلمية في «مجلة الثقافة الشعبية» استهانة عدد من كتابنا الشبان على وجه الخصوص بالجانب اللغوي من دراساتهم. فهم يركزون عنايتهم على الجانب المعرفي ولا يعيرون اهتماما لنسيجهم النصي في مختلف نواحيه اللغوية. وهم يقدرون أن المهم هو ما حظي بعنايتهم. أما الجوانب الأخرى التي يعتبرونها هينة فسيوكل الاهتمام بها إلى غيرهم.

اللافت أن الظاهرة تتأكد يوما بعد آخر في مجال الكتابة العلمية عند تناول الثقافة الشعبية. والغريب أن جيل الرواد من طراز عبد الحميد يونس، وأحمد مرسي وعلياء شكري، ومحمد الجوهري وغيرهم كانوا حريصين الحرص كله على سلامة لغتهم تماما كحرصهم على استقامة فكرتهم. فالأمر مستجد. والحمد لله أن الأمر ليس عاماً. لكنه في تزايد. وأخشى ما أخشاه أن بعض الدعوات المريبة التي تزعم أن العربية تكثر فيها الأخطاء عند اتخاذها أداة في البحث والكتابة لأنها لصعوبتها لم تعد تصلح أداة في البحث، أخذت تجد طريقها إلى عدد من باحثينا الشبان.

شاهدت على بعض القنوات التلفزيونية دعوات من هذا القبيل تزعم أن العربية ليست لغة بحث ولا وسيلة معرفة لتحجر بناها وصعوبة نحوها. جاء ذلك في سياق تلميع اللهجات وإبراز ثرائها وقربها من عواطف الجمهور وقابليتها للتعبير عن أفكارهم. فلماذا لا تكون هي لغة الفكر والمعرفة؟! هذه في تقديري أفكار مريبة وخطيرة تعود بنا إلى جدل قديم وعقيم. والقول بأن اللغة العربية ليس في وسعها أن تحتمل الفكرة العلمية كلام لا قيمة له في رأيي. ولعلنا نحتاج إلى مساحة واسعة لنستعرض ما احتملته العربية قديما وحديثاً من كتابات علمية في غاية الدقة والضبط. كانت ولازالت مشهوداً بقيمتها في مجالات اختصاصها.

يكفي أن نذكر من القدامى الخوارزمي (تـ 232ه)، وابن الياسمين (تـ 601 ه) وأبو الحسن القلصادي (تـ 891ه)، وابن غازي المكناسي (تـ 919ه) في الرياضيات، وابن الجزار القيرواني (تـ369هـ)، وابن سينا ( تـ 427هـ ) في الطب، وابن البيطار( تـ 646هـ) في الصيدلة، وقد بقيت موسوعته «الجامع لمفردات الأدوية والأغذية»  إلى أمد ليس ببعيد مرجع أهل العلم في أوروبا، وكان يمكنني أن نذكر كثيراً غيرهم.

أما في العصر الحديث فإن المنجزات الأكاديمية المشرقية والمغاربية تبرز إلى أي حد أمكن للغة العربية أن تستجيب إلى هواجس البحث ومشاغله لدى طيف واسع من الباحثين الشيوخ والشباب. فقد جاءت أعمال غير قليلة في غاية التماسك المنهجي والضبط اللغوي. وهي جميعاً تبرز إلى أي حد يمكن للعربية أن تستوعب الإشكالات النظرية والإجرائية لمجالات علمية متعددة، أمكن لها أن تؤدي الفكرة عنها، تجلي عن مفاهيمها وتفصح عن قضاياها. ولولا الخشية من أن نثير حفيظة بعض زملائنا لنسيان ذكرهم، لعددنا نماذج منها دليلاً على أن العربية كانت وستبقى لغة العلم والمعرفة.

صحيح أن العربية ليست بدعاً من اللغات في سائر بقاع الدنيا. فالكفاءة اللغوية في مستواها الأدبي أو العلمي الدقيق تشهد تراجعاً؛ المدرّسون في شتى أنحاء العالم يشكون ذلك. وإن صادفك استجلاء حال الدرس اللغوي من مدرّس للعربية أو الفرنسيّة أو الإنجليزية أو غيرها فسيجيبك في شيء من الحزن واليأس: المستوى ضعيف.

وبصرف النظر عن المشاكل البيداغوجية التي تصحب تعليم اللغات عموماً، وهي كثيرة ليس هذا مقام إثارتها، فإن تسارع إيقاع الحياة وما تشهده المجتمعات من تغيرات في المشهدين الإعلامي والتواصلي ساهم في ذلك، من حيث أضعف العلاقة بالمطالعة والكتاب. فاللغة ملكة، إن تعهدتها وصقلتها ودأبت على التوسل بها، فإنها تنصاع لك. وإن تركتها واكتفيت بالعودة إليها في أوقات متباعدة، فإنك ستقف على تراجع تمكنك منها قبل أن يكتشف الناس ذلك. 

   وكثيرا ما يعبر وهن الأداة اللغوية عن حدود التمكن المعرفي من مجال الدرس. لذلك نلاحظ أنه كلما زادت معرفة الباحث بحقل دراسته ، اتضحت له حدود الفكرة وأمكن له العبارة عنها في وضوح. فليس مطلوبا من شبابنا أن يصبحوا جهابذة في نحو العربية ولا صرفها؛ ولا أن يصرفوا عنايتهم عن بلورة أفكارهم إلى تنميق اللغة وزخرفتها. فالكتابة العلمية لا تحتاج إلا البساطة والوضوح وتجنب التعقيد والمجاز وكل ما من شأنه أن يحول دون وصول الأفكار من أيسر سبيل. ومن هذه الناحية فأنا لا أرى خطابا ينطبق عليه قول أبي عثمان الجاحظ رحمه الله «أحسن الكلام ما كان قليله يغنيك عن كثيره، ومعناه في ظاهر لفظه» كالخطاب العلمي. ولا شك أن التمرس بالمجال المدروس والتشبع بما كتبه السابقون فيه وتوخي الأمانة في الاستناد إليهم، من شأنه أن ييسّر أمر الكتابة على الباحث المستجد، باعتباره يسير في طريق بذل الرواد جهدا كبيرا في تمهيدها، ومساءلة إشكالياتها وضبط مفاهيمها وإرساء اصطلاحيتها. 

فالباحث في الثقافة الشعبية، شأنه شأن الباحث في أي مجال معرفي آخر، يتحرك داخل جماعة ضبطت غايتها وحددت منهجها وتراءت لها أدوات البحث فيها. فحتى يفهموا عنه ويتقبلوا ما يصدر عنه عليه أن يلتزم بنهجهم ومصطلحهم ليكون لما ينجز صدى بينهم . وليس معنى ذلك أن يلتزم بما يقولون دون أن يكون له الحق في رأي مغاير أو استنتاج مختلف. فالباحث ليس فردا من قطيع. وإنما هو عنصر فاعل داخل جماعة. والفعل يعني المبادرة واستكشاف آفاق أخرى ودروب مغايرة لكن في كنف الالتزام بشرائط البحث الموضوعية وأولها أن تكون اللغة جامعة مشتركة بين الجميع.  

فالعربية شأنها شأن سائر اللغات مرآة عاكسة للمستوى الثقافي والفكري لأهلها. كلما كانت الأوساط العلمية أكثر تمكناً من وسائل البحث العلمي كانت لغتهم أكثر قدرة على التعبير عن حقيقة العلم مفهوماً ومصطلحاً وصياغة فكرية. وهي من هذه الناحية ليست دون بقية اللغات ولا أفضل منها. فلا معنى للغض منها أو تمجيدها. فهي تتساوى مع غيرها من اللغات، من حيث احتمال أن تكون أداة للفكر ووسيلة في البحث. والفرق بين لغة وأخرى في هذا السياق لا ينتج إلا مما يمكن أن يوليه أهلها من عناية بها وحرص على ألا يقصروا في الاستجابة إلى مقتضيات البحث وشرائط الإنتاج المعرفي . 

 

أعداد المجلة