نظمته «هيئة البحرين للثقافة والآثار» دعوات لتوثيق التراث منهجياً في «الملتقى الوطني للتراث»
العدد 60 - أصداء
دعا مختصون ومهتمون بالتراث ومخرجات الثقافة الشعبية، للعمل على التوثيق المنهجي والعلمي للتراث الثقافي، مؤكدين على أن الموجات المتوالية من العولمة، تشكل تهديداً لهذا الإرث الهوياتي، لافتين بأن العالم اليوم ليس بمقدوره أن يصد هذه الموجات، الأمر الذي يحتم توثيق التراث توثيقاً منهجياً وفق الأساليب العلمية المتبعة، وأرشفتهُ لدمجه مع الأرشيف العالمي لتراثات الأمم، منوهين بأن عدم القيام بذلك في القريب، يهدد باندثار الكثير من ملامح وممارسات هذا التراث.
جاء ذلك في النسخة الرابعة من «الملتقى الوطني للتراث غير المادي»، الذي نظمته «هيئة البحرين للثقافة والآثار»، على مدى يومين (20، 21 سبتمبر 2022)، في «المسرح المرن» بمسرح البحرين الوطني، حيثُ عَقد الملتقى أربع جلسات تناولت الفنون الغنائية والأدائية كفن المراداة، وفنون واحتفالات الزواج، بالإضافة لفن الصوت، وفنون واحتفالات الأطفال، مستضيفاً عدداً من الخبراء والأكاديميين الذين درسوا هذه الفنون الشعبية، وتناولوا مختلف جوانبها.
وخلال جلسات الملتقى تطرق المشاركون لأهمية صون التراث الثقافي وحمايته، وتعزيز التفاعل مع الجمهور فيما يتعلق بهذا الإرث، وذلك بهدف «إبراز دور التراث الثقافي غير المادي في المجتمع البحريني، والدفع نحو إثراء البحث العلمي المتصل به وفقهاً للتعريفات والالتزامات التي ذكرتها اليونسكو في (الاتفاقية بشأن حماية التراث الثقافي غير المادي)، إلى جانب تسليط الضوء على ما تقوم به (هيئة البحرين للثقافة والآثار) من جهود للحفاظ على استمرارية هذا التراث»، كما جاء في بيان إطلاق الملتقى.
تعرف اتفاقية حماية التراث الثقافي غير المادي هذا التراث بكونه «الممارسات والتصورات وأشكال التعبير والمعارف والمهارات، وما يرتبط بها من آلات وقطع ومصنوعات وأماكن ثقافية، والتي تعتبرها الجماعات والمجموعات، وأحياناً الأفراد، جزءاً من تراثها الثقافي»، ويضيف التعريف بأن هذا التراث «متوارث جيلاً عن جيل، تبدعه الجماعات والمجموعات من جديد بصورة مستمرة بما يتفق مع بيئتها وتفاعلاتها مع الطبيعة وتاريخها، وهو ينمي لديها الإحساس بهويتها والشعور باستمراريتها، ويعزز من ثم احترام التنوع الثقافي والقدرة الإبداعية البشرية».
وفي سياق ذلك، انطلق «الملتقى الوطني للتراث»، منذُ العام 2019، فيما نظمت نسخته الثانية في العام 2020 متناولةً أربع عناصر تراثية هي: الخط العربي، وفن العرضة، والنسيج، والأزياء التقليدية. وفي النسخة الثالثة التي نظمت في العام 2021، تناول الملتقى أربع عناصر أخرى، هي: النخلة، صناعة الفخار، صياغة الذهب، واللؤلؤ، فيما خصصت نسخة هذا العام للفنون الشعبية، التي سنعرضُ لما جاء في الحديث عنها من قبل الخبراء المشاركين في الملتقى.
المراداة.. فن نسائي أرخ لجوانب من المجتمع البحريني:
في أولى جلسات الملتقى، التي أدارها الإعلامي يوسف محمد، وتخللتها نماذج أدائية قدمتها «فرقة بنات البديع»، شاركت الباحثة والفوتوغرافية الشيخة حنان بنت حسن آل خليفة، والباحث جاسم الحربان، في تناول «فن المرادة» الذي يعد «من الفنون الغنائية الراقصة، التي تؤدى بواسطة النساء فقط في المناسبات الاجتماعية كالأعياد، وإنزال السفن الجديدة إلى البحر، وعند شفاء المريض، ورجوع المسافر، وغيرها من الأحداث ذات الطابع السعيد».
تشترك في أداء «المرادة»، والتي سنتعرف على أصل كلمتها كما يذهب الباحثون، من عشرين إلى ثلاثين امرأة، يقفن في صفين متقابلين بالتوازي، ممسكات بأيدي بعضهن البعض، ويبدأ صف من النساء في غناء شطر من قصيدة مع أرجحة اليدين جيئةً وذهاباً، وضرب أرجلهن بالأرض وهن يتقدمن إلى الصف الثاني المقابل، حتى يدنين مسافة قليلة، ثم يعدن القهقرى، ليبدأ الصف الثاني من النساء بعمل ذات الشيء، ويتكرر هذا الأداء مع الانتقال من شطر إلى آخر حتى تنتهي القصيدة المغناة.
في مستهل حديثه عن هذا الفن، بين الباحث الحربان، بأن هذا الفن يعود في جذوره إلى البداوة، إذ «بدأ مع دخول القبائل العربية إلى البحرين، وعلى رأسهم عائلة آل خليفة الكرام»، موضحاً بأن هذا الفن «هو فنٌ يتطرق لمختلف الموضوعات الاجتماعية، التي توظفها النسوة في القصائد المغناة لتسلط الضوء على تلك الموضوعات».
وفي محاولةٍ للبحث في جذور الكلمة وأصلها لغوياً، يذهب الحربان إلى أن «مراداة» من أصل كلمة راود؛ أقبل وأدبر، وهناك ما يشير إلى أن أصل كلمة مراده هو التمايل، إلى جانب المعنى اللغوي الذي يعيد الكلمة إلى رادّ، ورادد، وراده في الكلام بمعنى أرجعه إياه. هذا إلى جانب عدداً من الاجتهادات التي أشار إليها الحربان، والتي يرجح عدم صحتها.
من جانبها تطرقت الشيخة حنان آل خليفة لخصوصية هذا الفن، وقد استعرضت، في سياق ذلك، جانبا من هذه الخصوصية التي جعلتها تتعلق بهذا الفن من بين كل الفنون، حتى أخذها شغفها به إلى فصحنة أغانيه؛ تحويلها من اللهجة المحكية إلى اللغة العربية الفصحى، بالإضافة إلى ترجمتها للغة الإنجليزية. ولفتت الشيخة حنان بأن البدايات الأولى لفن «المراداة» تمثلت في قصره على المؤديات من الفتيات الصغيرات فقط، ثم أضحى فناً ممارساً من قبل النسوة في البيوت خلال المناسبات الاجتماعية كالأعياد، والنذور، وعودة البحارة...
وفي هذا السياق، ينوه الحربان، بأن هذا الفن وما قدم فيه «يهتم بكل جزئيات المجتمع، ومواضيعه المختلفة: السياسية، والاجتماعية، والدينية...»، مضيفاً «عبر هذا الفن، أرخت النسوة لأحداث مختلفة وأزمات متعددة، وألمحت لتاريخ المجتمع البحريني خلال الحقب الماضية»، مؤكداً بأن هذا الفن «فنٌ حصري بالبحرين، ويرتبط بحكاياتها وقصصها، وقد انتقل منها إلى دول الخليج العربي الأخرى»، مشيراً بأن مؤلفي قصائد هذا الفن، هن النسوة أنفسهن، معرجاً على الدور الاجتماعي لهذا الفن في خلق تعريف بالفتيات المقبلات على الزواج، وجوانبه الاقتصادية من خلال استقطاب الميسورين للنساء اللواتي يقدمن هذا الفن، لتقديمه في مناسباتهن.
وعن السبب في انحسار هذه الفنون الشعبية التراثية، بين الحربان «هذه الفنون بحاجة إلى رعاية رسمية وأهلية»، مؤكداً مسؤولية الجهات المعنية بالثقافة والسياحة في الحفاظ على هذا الموروث، خاصة في ظل «عدم منح القدر الكافِي من الاهتمام للمعنين بأداء هذا الفن»، مشدداً على أهمية أن تكون هناك رعاية للإبقاء على هذا الفن وتوثيق نصوص كلماته وأشكال أدائه، «ففي ظل عدم الاهتمام بالمؤدين، وإهمال أدائهم، لن يهتم أحد بأداء هذا الفن وتقديمه، ولن يجتهد أحد لنقل هذه الفنون للأجيال القادمة، ما يعني نسيانها واندثارها!»، لافتاً بأن دور المؤرخين لهذه الفنون، لا ينبغي أن يقتصر على الأفراد «بل يتوجب أن يكون دوراً مؤسسياً، إذ أن المبادرات الفردية ليست كافية لتوثيق هذه الفنون والإبقاء عليها».
وفي ردها على مداخلة الدكتور محمد النويري، رئيس الهيئة العلمية لـ «مجلة الثقافة الشعبية»، ومدير تحريرها حول كون «فن المرادة» هو الرديف لـ «فن العرضة» المقتصر على الرجال، بينت الشيخة حنان آل خليفة، بأن الأمر كذلك، بيد أن «لفن المرادة خصوصية تختلف من حيث السياق؛ ففي الوقت الذي يشكل فن العرضة تحفيزاً على الحرب وإعداداً لها، يشكل فن المراداة احتفاءً بالفوز، وتعبيراً عن الفرح وتقديم الامتنان لمختلف القضايا الاجتماعية التي يتعرض لها الناس في حياتهم».
فنون واحتفالات الزواج.. وفرة الأداء لتجليات الفرح
تناولت الجلسة الثانية «فنون واحتفالات الزواج»، مستضيفةً الباحث جاسم الحربان، والموسيقار الدكتور مبارك نجم، وأدارها الإعلامي يوسف محمد، حيث تطرقت الجلسة إلى الفنون المختلفة المتعلقة بالزواج، كليلة العرس وما يرتبط بها من أداء فني يعبر من خلاله عن الفرح والسرور، كـ «فن العاشوري» و«فن الدزة»، إلى جانب التعريج على بعض الممارسات الاحتفالية وارتباطها بمختلف أشكال الفنون المقدمة في هذه المناسبة.
وبالعودة لأبرز الفنون المرتبطة باحتفالات الزواج، فإن «فن العاشوري» يتصدرُ المشهد الفني في هذه الأماسي السعيدة، وهو فن إيقاعي غنائي، يمتاز بإيقاعاته المركبة، وبكونه فنٌ يحظى بحظوةٍ كبيرة بين الفنون الاحتفالية في البحرين والخليج العربي. أما «فن الدزة»، والذي لقب بذلك، كونهُ يؤدى أثناء تقديم العروس إلى العريس، فهو نمط موسيقي سريع، يمارس أثناء مراسم الزفاف وينتهي بانتهائها، مؤدياً وظيفة إشهارية، يعلنُ من خلالها عن زواج هذا الفتى على تلك الفتاة، حيثُ يسير الجموع الذين يتقدمهم العريس وأهله إلى بيت العروس في خطواتٍ منضبطة على وقع الأهازيج والأغاني، فيما تقدم خلالها زخارف إيقاعية يقدمها عازف الطار (الصاقول)، إلى جانب الدق على الطبل.
وفي بادئ الحديث، توقف مبارك نجم على الدور الذي لعبه الفن الشعبي في احتفالات الزواج، وكيف شكلت هذه الفنون الذائقة الموسيقية لهُ كموسيقار، ولعموم الناس، مبيناً «عندما بدأت التلحين وظفت هذه الفنون بكل أشكالها لتقديمها في قوالب حديثة، خاصة عندما عملت على موسيقى الأعمال الدرامية التراثية»، حيثُ أن فنون الزواج، تمتاز بالآلات الموسيقية المستخدمة، والتي «تخلق نسيجاً إيقاعياً في منتهى الجمال».
ويلفت نجم، بإن إعادة هذه الفنون إلى ما اقترنت به من ممارسات وطقوس أثناء الزواج صعب في العصر الحالي، «وذلك بسبب التغيرات التي شهدتها الحياة المعاصرة»، لكنهُ يؤكد على ضرورة المحافظة على ما تبقى منها، وتوثيقه فنون الزواج كافة عبر التسجيل والدراسة، والممارسة في الدور المخصصة، إلى جانب «ضرورة إنشاء مركز للفنون الشعبية، يعنى بتوثيق هذه الفنون والحفاظ عليها ودراستها وتدريسها»، مشيراً للدور الذي تلعبه «مجلة الثقافة الشعبية» في هذا السياق.
من جانبه شرح الحربان آلية الاحتفال بالزواج، وتراتبية أداء الفنون الشعبية المرتبطة به، مبيناً «تتنوع الفنون الشعبية المرتبطة بالزواج بالأغراض المتعددة للاحتفال، فهناك فنون خاصة بالنساء، كفن الدزة التي تقدمه النساء أثناء دخول العريس إلى غرفة العروس أو بيتها، فيما يؤدي الرجال فن العاشوري خارج البيت، وبعد الإنتهاء من الزفاف، تقوم النساء بـ (الترشيد) وهي أغاني لتهدئة نفس الفتاة».
ويشير الحربان، بأن الزواج قديماً يمتد من ثلاثة إلى سبعة أيام متتالية، يستخدم فيها مختلف ألوان الفنون الشعبية، والتي قدمت «فرقة بن حربان» نماذجاً حية منها، على صوت جاسم الحربان، لينوه بعدها بأن «كلمات الأغاني المستخدمة في الفنون المرتبطة بالزواج، كغيرها كلمات الأغاني الشعبية، عادةً ما تؤخذ من قصائد الشعراء البارزين في الجزيرة العربية، أو تلك القصائد مجهولة القائل، والتي تم تناقلها مشافهةً، «فيما امتازت أغاني النساء بكون كلماتها من تأليف المرأة البحرينية، والتي يتم ارتجالها عادة، ومن ثم تتم مداولتها وحفظها».
وحول استمرارية هذه الفنون المرتبطة بالزواج، يبين الحربان «بأن استمراريتها الحالية صورية؛ أي أنها غير مرتبطة بالوظيفة الأصل لها، وإنما كشكل من أشكال الفنون الشعبية التي تمارس في المناسبات التراثية والوطنية»، مضيفاً «هذه الاستمرارية الصورية مهمة للمحافظة على هذه الألوان من الفنون الشعبية مع ضرورة دعم تواصلها».
فن الصوت.. تعددية لأصلٍ مشترك:
في اليوم الثاني من «الملتقى الوطني للتراث غير المادي»، عقدت جلستان بإدارة الإعلامي يوسف محمد، تناولت الأولى «فن الصوت»، مستضيفة الباحث مبارك عمرو العماري، و«فرقة محمد بن فارس» لأداء الوصلات الغنائية بهذا الفن الذي اشتهرت به البحرين ومنطقة الخليج العربي، وهو فنٌ «يؤدي فيه الفنان، غناءً وإنشاداً، على أنغام وألحان القصائد الشعرية الفصيحة والعامية، بالمقامات الصوتية اللحنية الغنائية المختلفة».
وقد تطرق العماري في مستهل حديثه إلى أصل هذا الفن، مؤكداً «بأنهُ فنٌ قديم، ورد ذكره في كتاب (الأغاني) لأبي الفرج الأصفهاني»، مشيراً بأن «فن الصوت» هو مصطلحٌ يطلق على عموم الغناء، «الذي توارثته الأجيال منذُ العصور العباسية، ليصل إلى البحرين، وتتم إضافة بعض الإضافات والتغييرات عليه، إلى جانب إدخال بعض الآلات الموسيقية ذات الخصوصية المحلية، كـ (المرواس) المستخدم لضبط الإيقاع، ما جعل لهذا الفن طابعا خاصا بالبحرين، خاصة على صعيد النص الشعري، والإيقاع، والزفن (الرقص المحلي)».
وفصل العماري في أنواع فن الصوت؛ «هناك فن الصوت الشامي، واليماني، والزنجباري، والشحري... وغيرها»، مؤكداً بأن هذه الأسماء لا تشير إلى البلدان، وإنما للجهة التي يؤدى فيها فن الصوت في الجزيرة العربية، أو لأغراض تتعلق باقتباس اللحن «فعندما يقتبس لحنٌ من منطقةٍ ما، يسمى فن الصوت المؤدى وفقه باسم المنطقة التي اقتبس منها اللحن»، أما فن الصوت البحريني، «فهي القصائد الشعرية التي لحنها فنانون بحرينيون وغنوها، فحمل الأداء هذه التسمية، كأغاني الفنان محمد بن فارس، وضاحي بن وليد وغيرهم».
ويلفت العماري بأنهُ وعلى مدى تاريخ فن الصوت، دخلت العديد من الآلات الموسيقية المستخدمة فيه، كالمرواس، والكمان، مشيراً بأن المرة الأولى التي سُجل فيها فن الصوت البحريني، كانت في العام 1929، بصوت الفنان محمد زويد.
وحول مصدر كلمات القصائد التي يغنيها فنانوا الصوت، بين العماري «كان بعض الفنانين يقرأون القصائد الشعرية، ويستلون منها قصائد لتلحينها وغنائها، خاصة الفنان محمد بن فارس، أما غيرهُ من الفنانين الأميين، كالفنان ضاحي بن وليد، فكان يعتمد على الحفظ».
وفيما يتعلق بقبول هذا الفن اجتماعياً، يشير العماري «بأن الفنانين المؤدين لفن الصوت، كانوا منبوذين، رغم حاجة المجتمع لهم»، لافتاً بانهُ وعلى الرغم من هذا النبذ «إلا أن المجتمع كان متآلفاً ومتجانساً، ما شكل نوعا من البيئة الحاضنة للإبداع»، مشيراً إلى ضرورة أن ترعى الدولة هذا الفن وتحفظهُ من الإندثار، مؤكداً أن المبادرات الفردية لا يسعها المحافظة على هذا الفن ما لم تكن تحت ظلال مؤسسي.
فنون واحتفالات الأطفال... عن أهمية التوثيق قبل فوات الأوان:
تناولت الجلسة الثانية من اليوم الثاني، موضوع «فنون واحتفالات الأطفال»، بمشاركة الباحث محمد جمال، والدكتورة ضياء الكعبي، والدكتورة هدى عبد الله، وذلك لعرض الاحتفالات الشعبية والتراثية المتعلقة بالأطفال في البحرين، كـ «القرقاعون» و«الحية بيه» و«الينون»، وأغاني المهد، وغيرها، فأما «القرقاعون» فهو احتفال شعبي يقام في نصف شهر رمضان، حيثُ يرتدي الأطفال ملابسهم التقليدية، إذ ترتدي الفتيات البخنق، وهو اللباس التقليدي للفتاة، والمكون من غطاء أسود مصنوع من قماش شفاف، أو قماش الجورجيت، وتزينه بعض النقوش المنقوشة بخيوط ذهبية اللون، إلى جانب تزيين الفتاة بالحلي، أما الصبية فيرتدون الزي التقليدي (الثوب)، ويعتمرون (القحفية)، ويجوب كلا الجنسين المناطق والأحياء المحيطة بحيهم، لطرق أبواب الجيران، وترديد الأغاني التي يجازون على إثرها بمنحهم الحلويات، والمكسرات، وبعض الأطعمة المغلفة.
أما احتفالات «الحية بيه»، فتقام في وقفة عرفة، قبل يومٍ من عيد الأضحى، حيث يستعد الأطفال لهذا اليوم قبل أسبوع، عبر تحضير وزراعة النباتات ومراقبة نموها لليوم الموعود الذي يرتدون فيه الملابس التقليدية، ويتوجهون إلى الشطآن وهم يرددون الأهازيج المتعلقة بهذا الطقس، الذي يختتم بإلقاء الأضحية (النبتة) في البحر. وبخصوص «الينون»، فهو عادة تراثية يحتفل بها أهل الطفل عند ظهور أسنانه، حيث يقوم الأهل بدعوة أبناء الأقارب والأصدقاء للمشاركة في هذا الاحتفال.
الباحث محمد جمال، الذي بحث بشكلٍ معمق في المناغاة وأغاني المهد، بين، في مستهل حديثه، بأن «أغاني المهد التي غنتها الأمهات والجدات في البحرين، تعود في أصولها لتواريخ ضاربة في القدم»، مشيراً بأنها وعلى الرغم من كونها تغنى للأطفال لتهدئتهم «إلا أنها لا تخلو من الدلالات والحمولات الاجتماعية، والسياسية، والاقتصادية»، مبيناً إن العديد من أغاني المهد، هي عبارة عن لسان حال المرأة وهي تشكو حياتها، وفي توضيحه عن سبب استخدام مثل هذه الأغاني لأطفال غير مدركين لدلالات الكلمات بعد، أوضح جمال «إذا ما نظرنا لظروف المعيشة سابقاً، فسنجد القسوة التي عانتها المرأة في حياتها، فزوجها يهجرها لشهور قاصداً البحر للرزق والغوص على اللؤلؤ، إلى جانب ظروف الحياة القاسية التي تعانيها، والتي جعلتها تنفس عن عاطفتها عبر هذه الأغاني التي تغنيها لصغيرها».
مشيراً بأن هذه الأغاني تناقلتها أجيال من النسوة، ناقلةً معها ما تحمل من دلالات فهذه الأغاني تضمنت مضامين تعكس روح المجتمع وأوجاعه، لافتاً بأن المرأة «ومن خلال أغاني المهد، كانت تبوح بما لا تستطيع البوح به في الحديث المحكي، أو عبر أي شكل من الفنون الأخرى، كحنق المرأة على حماتها، أو زوجها...».
من جانبها تناولت الدكتورة الكعبي التغيرات التي يتعرض لها التاريخ الشفهي، موضحةً «بأن هذا الشكل من التاريخ، لا يثبت على صورة، ودائماً ما تكون رواياته مختلفة من مجتمع لآخر، أو راوٍ لآخر، وهذا ما يتضح جلياً في الحكايات الشعبية، وكلمات الأغاني الموروثة، والأهازيج»، مؤكدةً بأن «هذه الاختلافات تحمل دلالات اجتماعية تتصل بالمجتمع»، ولهذا لا ترى الكعبي بأن هناك رواية صحيحة وأخرى خاطئة، «فما دامت روايات مجهولة المؤلف، فلا يمكنُ تصنيفها ضمن خانتي الصح والخطأ».
الباحثة هدى عبد الله، أكدت بأن أغاني الأطفال «فتحت آفاقاً كثيرةً لدراسة حياة الطفل، ومعاناة الأم، ومختلف جوانب المجتمع، إذ أن هذه الأغاني تعبر عن الكثير مما يعيشه المجتمع آنذاك، ومعاناة وقضايا المرأة على وجه الخصوص، والتي وثقتها من خلال تأليف أغاني المهد والتهويدة».
وقد عملت هدى عبد الله على توثيق هذه الأغاني موسيقياً، مؤكدةً بأن «لدينا كنزٌ كبير من أغاني الأطفال، وينبغي العمل على حفظه وتوثيقه ودراسته وتحليله». وأيدت الدكتورة الكعبي هذا الطرح، مشيرةً لجهود الباحثين الذين وثقوا هذه الأغاني في البحرين والخليج العربي، ودرسوها من نواحٍ مختلفة، كالجوانب السيكولوجية، والاجتماعية، لكنها نوهت بأن «الجمع بحاجة لأن يكون أكثر علمية ومنهجية»، مؤكدةً بأننا في الخليج العربي «ما نزال نفتقر للجمع العلمي الميداني، ولابد أن يكون منطوٍ تحت مظلات مؤسساتية»، إلى جانب ذلك حثت الكعبي على ضرورة توثيق كل أشكال الثقافة الشعبية، وإنشاء المتاحف الخاصة بها، لحفظها ومواصلة توريثها للأجيال القادمة، مؤكدةً بأن الطموح «هو أن يؤرشف التراث الشعبي ويفهرس بشكلٍ عالمي»، مشيرةً بأن ما أُرشف من تراثنا الشعبي الخليجي والعربي، لم يدخل بعد ضمن الأرشفة العالمية للتراثات الشعبية.
في السياق ذاته، يؤكد جمال بأننا «عاجزون عن صد العولمة بكل تياراتها الجارفة التي تتهدد التراثات المختلفة»، مبيناً بأن «على الجهات المسؤولة أن تحافظ على هذا التراث عبر تدوينه وحفظه وأرشفته، إلى جانب توظيفه سواء عبر المدرسة التي تشكل وسيلة مهمة للحفاظ على انتقال هذا التراث إلى الأجيال، ما سينعكس على تعزيز روح المواطنة لديهم»، لافتاً بأن «الموروث جزء من الهوية، وهذا ما يدعو للتأكيد على أهمية حفظه وتوريثه للأجيال».
فيما لفتت هدى عبد الله إلى «أن البحرين تملك من الطاقات التي بوسعها أن توثق الموروث وفق منهجيات علمية تُدرب عليها»، مؤكدةً على ضرورة أن نبدأ في عملية التوثيق والدراسة «قبل فوات الأوان واندثار هذا الموروث مع رحيل الأجيال الأخيرة التي حفظتهُ في صدورها».