فصلية علمية متخصصة
رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم
العدد
67

في الانتحال

العدد 60 - عطف نسق
في الانتحال

 

 الانتحال أسوأ آفة يمكن أن تلحق بحثا علميا. فهو جناية في حق المعرفة العلمية. وهو اعتداء على ملكية الغير. وهو احتقار للذات واعتراف صريح بأن من أتاه ليس من العلم في شيء، وإنما هو يتطاول على مجال ليس من شأنه .

وليس من عيب من عيوب النفس إلا كان الانتحال دالا عليها. أولها صغَار الروح. فالمنتحل قريب الهمة، ضعيف الإرادة،  فاتر العزيمة، لا يرى نفسه قادرا على الشغل والصبر والمثابرة في سبيل غاية لا يمكنها أن تتحقّق من دون ذلك. وهو ضعيف الحيلة لا يملك أن يضع لنفسه هدفا معرفيّا ثم يضع الخطة ويعمل من أجل تحقيقها. والأفدح من ذلك جميعا، قلة مروءته، حيث لا يرى غضاضة من وضع يده على ثمار أفنى فيها غيرُه العمر، ما أفنى وتعب وجدّ واجتهد، حتى تنضج وتستوي ويتيسّر جنيُها. هي لصوصية لا شك فيها. واللص ذميم، لأنه يدوس على كل القيم من أجل أن يحقق كسبا غير مشروع. لكن الفرق بين المنتحل واللص أن هذا يأتي فعلته في جنح الخفاء، يحرص على أن لا ينتبه إليه أحد، وهذا يأتيها على عيون الملأ، لا يبالي بأحد. فجمع إلى قلة الحياء، وقاحة يعجب لها المرء ويوحّد الرحمان ! 

وهم يُعرّفون الانتحال بأنه سطو لأحد الباحثين على عمل غيره ونسبته إلى نفسه دون وجه حق. والسطو في دلالته اللغوية «بطش وقهر» وهما يحتملان دلالات الاعتداء على سلامة الذات بما يمكن أن يفضي إلى ضررها. وهي دلالات تبقى ماثلة مع الانتحال. لكنها بدل أن تتعلق بالجسد فهي تصيب الروح. وقديما قال العرب المسلمون : «إن علمك من روحك، ومالك من بدنك. فضعه منك بمكان الروح وضع مالك بمكان البدن» لذلك لم يكن أشد أذى على الإنسان من أن يرى جهده الذي خصه بعنايته فترة من حياته، يسلب منه. وهو معنى متأصل في الثقافة العربية الإسلامية. فكتاب المرء هو أغلى عنده من كل النعم التي في حوزته. يقول الجاحظ في سياق المفاضلة بين كلام الرجل وكتابه من ناحية وولده، من ناحية أخرى : «فليعلم أن لفظه أقرب نسبا منه من ابنه، وحركته أمس به رحما من ولده، لأن حركته شيء أحدثه من نفسه بذاته، ومن عين جوهره فصلت، ومن نفسه كانت (...) ولذلك تجد فتنة الرجل بشعره وفتنته بكلامه وكتبه، فوق فتنته بجميع نعمته » . ولذلك قلّ عندهم الانتحال في معناه الحديث هذا، حتى لا نكاد نعثر عليه. فالمرء أكرم على نفسه من أن يقع فيه. وغاية ما يمكن أن يصدر عن بعض علماء الأدب  أن ينشئوا أشعارا ينسبونها إلى غيرهم . في هذا المعنى ذكر طه حسين ظاهرة الانتحال في الشعر الجاهلي. وهو يتمثل في إقدام بعض كبار الرواة كخلف الأحمر وحماد الراوية على إنشاء قصائد يدعيان نسبتها إلى شعراء جاهليين. أما أن يسطو أحدهم على كلام غيره، ليدّعيه لنفسه، فذاك عار لم يكونوا يرضونه لأنفسهم.  

ويبقى الانتحال انتحالا مهما كان مداه. فقد يتعلّق بالنصّ والمعنى كاملا ويكون بمثابة السرقة الموصوفة التي اكتملت عناصرها. وهذا أفضعها. وقد يتعلق بالمعنى حيث ينسب الباحث أفكار غيره إلى نفسه ويصوغ العبارة عنها صياغة أخرى دون أدنى إحالة على مصدرها . وقد يكون جزئيا يتعلق بأجزاء من البحث يؤسس لها الباحث تأسيسا ينسبه إلى نفسه متجاهلا الأصل الذي استمدها منه. 

والقاعدة التي يحتكم إليها الباحثون واللجان العلمية في الصنفين الثاني والثالث تنطلق من مبدإ التوثيق. فإن وثّق الباحث مصادره توثيقا علميا كاملا لم يكن منتحلا. أما إذا غاب ذلك فقد أتى فعلا فاحشا في حق البحث العلمي وحق غيره من الباحثين. 

أما صاحب الصنف الأول ذاك الذي يضع يده على عمل غيره كاملا فهو لص لا يمكن له أن يداري عن فعلته بأي وجه من الوجوه. ويصنّف ما قام به باعتباره فضيحة علمية وسقوطا أخلاقيا. 

  والمؤسسات الأكاديمية تتعامل مع هذا الضرب من السلوك باعتباره جريمة علمية من أفدح الجرائم التي يمكن أن يقع فيها الباحث فإن كان منتميا إليها فهي تدعوه إلى المثول أمام لجانها التأديبية وقد تحرمه من الشهادة العلمية إن كان حصل عليها قبل الانتباه إلى الانتحال. أما إن كان حصل على درجة أكاديمية فإن المؤسسة يمكن أن ترفع الأمر إلى المحكمة الإدارية بغية سحب الدرجة منه وقد يصل الأمر في ذلك إلى فصله نهائيا عن المؤسسة.  

فالأمر يتعلق بجريمة يعاقب عليها من يأتيها جزائيا. ولكن الأفدح من الجريمة السقوط الأخلاقي والفضيحة العلمية التي ستظل تلاحق الفاعل مدى حياته وربما بعد مماته  

اللافت أن الظاهرة استشرت في أوساط عديدة حتى نظمت حولها الملتقيات العلمية لبحث أسبابها ودراسة سبل التصدّي لها. ولا شك أن دور المؤسسات في حماية رسائل طلابها التي لم يقع نشرها ؛ ودورها في التثبت من الرسائل التي تقدم إليها، يبقى دورا أساسيا. وفي هذا السياق تعمد عدد من المؤسسات الأكاديمية إلى عرض الرسالة الجديدة المعروضة على الامتحان على كاشف الانتحال ليحدد النسبة المئوية للتداخل النصي. وتمنع الرسالة من المناقشة والامتحان إذا تجاوزت النسبة المئوية حدا معينا.

بعض المؤسسات والمجلات تعتمد عل نزاهة كتابها. ولكن للأسف بعض الناس لا يكونون في مستوى هذه النزاهة. ولكن حبل الباطل قصير حيث أنهم ينكشفون ولو بعد حين. في هذا السياق نبهنا أحد القراء من تركيا إلى أنا نشرنا بحثين لشخص واحد نسبة الانتحال تصل إلى 85 % بالنسبة إلى الأول و75 % بالنسبة إلى الثاني. كذلك نبهنا باحث عربي إلى أن بحثا منشورا في العدد59منتحل بنسبة 100 %. 

بعض المجلات العلمية تعمد عند الانتباه إلى حصول الظاهرة لديها إلى مراسلة المؤسسة التي ينتسب إليها الباحث وبعضها يراسل المجلات التي تهتم بنفس الاختصاص حتى يحصل الاتفاق بعدم النشر لصاحب الفعلة مستقبلا. والبعض الآخر يكتفي بالتشهير على أعمدة المجلة نفسها .

لم نعمد في «الثقافة الشعبية» إلى أي شكل من الأشكال العقابية التي ذكرناها واكتفينا بإدراج الفاعل ضمن القائمة السوداء التّي لن ينشر لها مستقبلا .

كنت أودّ لو أنّي بسطت القول في تعامل تشريعاتنا مع هذه الظواهر الغريبة عن أخلاق العلم وأهله. وكنت أودّ لو أنّي شرحت لماذا ينبغي أن يكون عقاب المنتحل من جنس عقاب اللصوص. لكني عدلت عن ذلك. فما عاقب به المنتحل نفسه هو أشدّ مضَاضَةً من كلّ عقاب. 

 

أعداد المجلة