«العمارة العامية» وتجليات الهويات الثقافية للجماعات
العدد 59 - لوحة الغلاف
تختلف الجماعات البشرية في خصوصياتها الثقافية التي تفصح عن هويتها الواضحة، هذه الخصوصيات وليدة الأسس المشتركة «الكونية» التي تُمثل البنى ذات الأبعاد الطبيعية؛ كالحاجة للطعام، والجنس، والمسكن، والروحانيات.. إذ إنها أمور مرتبطة بالجوانب البيولوجية وبقاء الكائن الحي، إلا أن تمظهراتها تختلف وفقاً للفرد أو الجماعة، بناءً على الاعتبارات البيئية، والثقافية، والاجتماعية.. إلخ، ما يفضي إلى الفرادة والخصوصية.
والعمارة، شكل من أشكال الخصوصية التي تعبر من خلالها الجماعات عن نفسها، وأخص بالذات، ما يطلق عليه «العمارة العامية»، التي على النقيض من العمارة الحديثة، ذات هوية خاصة، سحقتها أحادية العولمة، ضمن أمور أخرى سُحقت أو هي مهددةٌ بالتلاشي، نتاج عصر اتصال مفرط في اتصاليته!
وتمثل «العمارة العامية» نمطاً يعكس البيئة التي تتواجد فيها الجماعة، وسياقها الثقافي، والتاريخي، وهي مرادفٌ للعمارة التقليدية الشعبية، التي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالطبيعة، فبينما تقتحم العمارة الحديثة مختلف البيئات بخرسانيتها، وفولاذها، وزجاجها، دون أي انعكاس للبيئة على طبيعتها، تتشكل التقليدية وفقاً لمعطيات البيئة؛ فبين عمارة الصحراء ومساكنها، بون شاسع عما في عمارة الغابات، وبين عمارة البيئات الحارة، فوارق عما في الباردة، وانعدام هذا الاعتبار للمعطى البيئي، جعلنا نكاد لا نميز بين السير في شوارع (دبي) عنهُ في (نيويورك) مثلاً.
ولهذا تعدُ «العمارة العامية» عمارة صديقة للبيئة، لكونها من سنخها. ففي ظل أزمة المناخ، والمخلفات البيئية الضارة، تشكل هذه العمارة أحد الحلول لمعضلتنا البيئية الراهنة، صحيح بأنها قد لا تستجيب لطبيعة عصرنا، من حيثُ المتانة والديمومة، إلا أنها لا تشكل تهديداً لبيئاتنا.
وبالعودة للجانب الهوياتي، فإن العمارة التقليدية تفصح عن هوية ثقافية تعجزُ الحديثة عن إفصاحها. وقد برز عدد من المعماريين الذين وظفوا هذا الاتجاه في عمارتهم المعاصرة. وبغض النظر عما إذا نجحوا في تحقيق الأغراض الحقيقية لهذه العمارة أم لا، فإنها ولابد، على الصعيد البصري، تشكلُ ثورة على الاتجاهات الحديثة الغارقة في المماثلة، وإن اختلفت بعض تفاصيلها، إلا أنها تنطلق من جوهرٍ واحد، أو لنقل مواد أساسية مستخدمة في كل الأمكنة، بعكس العمارة التقليدية التي تختلف المواد التي تؤسس البناء جوهرياً من بلدٍ لآخر، ومن ثقافة لأخرى.
ولهذا تشكل العمارة التقليدية بعداً أنثروبولوجياً؛ فإذا نظرنا لمساكن قبيلة «اليانومامي» الأمازونية، فسنجدها مؤسسة على أكواخ تحيط بكوخٍ ضخم، هو مجمع القرية، ما يشي بنمط العلاقات الاجتماعية لهذه القبيلة. فيما تمتاز مساكن البدو الرحل بالمرونة وسهولة النقل، وهي خصيصة تشترك فيها الجماعات المرتحلة، من سكان المناطق الباردة كـ «الإنويت» أو «الإسكيمو» وصولاً لبدو الصحاري الحارة.
وفي صورة غلافنا الخلفي، جانبٌ من العمارة التقليدية البحرينية، نطل عليها من بابٍ مشرعٍ على الفناء، وهي من حقبة العمارة الحديثة المبكرة، التي يحقب لها الباحث سلمان المحاري، منذُ نهاية القرن الـ 18م، وحتى مطلع القرن 20م. ونرى جزءاً من فناء المنزل، الذي يُطلق عليه محلياً اسم «الحوش، الحوي، الصحن»، وهو فضاء مفتوح، غير مسقوف، يزرع بالنخل ويضم بئر الماء، ويستخدم «كمتنفس خاص للعائلة وكساحة خدمة محجوبة عن أعين الجيران بواسطة الغرف المحيطة به، كما يعتبر المتنفس والرئة لكل مرافق السكن»، وفقاً للمحاري.