الثقافة الشعبية: جدلية الخصوصية والكونية
العدد 59 - عطف نسق
تتسم بعض الممارسات الفولكلورية في بلادنا العربية بضرب من الانتصار المبالغ فيه للجهة أو الجماعة أو المعتقد والحال أن كل لون من ألوان التعصب يتنافى مع فلسفة الفولكلور وما تقوم عليه من قيم إنسانية، تحرص على الجمع ونبذ الخلاف والفرقة. ويتأكد الأمر عند تعلّقه بالوطن الواحد والشعب الواحد حيث يبدو الفولكلور خيط السدى الذي تدور عليه فكرة الأمة في نسجها المتماسك. صحيح أن الخصوصية هي السّمة الأبرز التي تجعل من ظاهرة ثقافية شعبية فولكلورا خاصا بشعب من الشعوب. ولكن ينبغي ألا ننسى في السياق نفسه، أن الوعي بالظاهرة الفولكلورية ارتبط في بوادر نشأته الأولى بظهور فكرة الأمة، وتنامي الحس الوطني وتجذر النهج الرومنطيقي في الأدب والفكر، في أوروبا على وجه الخصوص. في ذاك المخاض الجيوسياسي والفلسفي، كان الغرب سباقا إلى العناية بتراث الأجداد جمعا ودرسا. ولقد كان للجهود التي بذلها كبار الفلاسفة والمفكرين أثر واضح في الوصول بهذا المنحى في الاهتمام بالفولكلور إلى غايته . وكان الحرص واضحا على تغيير نظرة النخبة إلى عامة الناس في كل فئاتهم ومختلف بيئاتهم. فالشعب في محصّلة النظر هو مستودع الحكمة ومعدن الخلق النبيل ومستقر القيم الإنسانية الخالدة، وليس جماعة من الرعاع لا يمتلكون من صفات الثقافة أدناها كما وقر في الأذهان طويلا. في هذا الاتجاه، ذهب فون هردر Johann Gottfried Von Herder إلى أن الطّبقات الشعبيّة، الريفية على وجه الخصوص ، حافظة وناقلة وحارسة لما يسمّيه عبقريّة الشعب « Le génie du peuple» التي تنشأ عن العلاقة بين الإنسان والأرض والمناخ . من هذا المعين نهل الروّاد الأوائل الذين اهتمّوا بثقافة الشعوب التي ينتسبون إليها أواسط القرن التاسع عشر باعتبارها مواضيع فكر لا تختلف عن سائر الموضوعات التي تستأثر باهتمام النظر المعرفي. ولم يكن التعدّد الثقافي داخل مكوّنات الشعب الواحد عندهم إلا مدخلا للتأكيد على الوحدة والنخوة وفخر الانتماء، باعتبار ذلك مظهرا من مظاهر الغنى الحضاري وشكلا من أشكال العمق الإنساني.
ولم يكن تصوّر المثقف العربي الحصيف بعيدا عن هذا المنحى في التقدير الذي يعدّ الفولكلور عاملا جامعا بين مكوّنات المجتمع الواحد، من حيث كان في رأيهم ، عنوان وحدة بين شعوب أمّة امتدّت أطرافها وتعدّدت وجوه تعبيراتها. فالتنوّع دليل غنى والاختلاف شاهد على الامتداد الحضاريّ والعمق الثّقافي والتجذّر الإنساني . ولقد كانت مهمّة عالم الفلكلور الكشف عن ذلك وشرحه وإقامة الأدلّة المعرفية عليه. في هذا المنحى كان دور عبد الحميد يونس ( 1910 - 1988) رائدا في العناية بالفلكلور المصري والعربي والإنساني على حد سواء. وكانت مؤلّفاته ونشاطه الفكري والمدني وقوة شخصيته الأكاديميّة من العوامل الحاسمة التي وجهت الاهتمامات الفولكلورية لجيل كامل الوجهة الإنسانية التي اتجهت إليها . وفي السياق نفسه يمكن أن نذكر الجهود والمواقف التي بذلها رائد آخر من صقع آخر هو الأستاذ عثمان الكعاك1 الذي لم تحل عنايته بالفلكلور في بلده دون السعي إلى الإحاطة بعناصره في سائر البلاد العربية . وليس اهتمامه بمختلف عناصر الفولكلور العراقي في كتابه «المدخل إلى علم الفلكلور» إلا دليلا على نظرته إلى الثقافة الشعبية باعتبارها عنصرا مؤلفا بين سائر البلاد العربية وأن التنوّع الفلكلوري ليس إلا واجهة تبرز السعة والثراء والعمق الإنساني.
ومن حسن حظ الفولكلور العربي أن ظهرت مؤسّسات اشتغلت على جمع التراث العربي وحفظه وصيانته ضمن رؤية تتمسك بالمبادئ التي تقوم عليها فلسفة الفولكلور. ولا يمكن في هذا السياق ألا نذكر مؤسّستين كان لهما دور بارز في التأكيد على السمة الجامعة للتراث الشعبي. أولاهما «مركز التراث الشعبي لدول الخليج العربية» الذي ظهر في الدوحة سنة 1982 وأصدر مجلة «المأثورات الشعبية». أما الثانية فهي «الثقافة الشعبية للدراسات والبحوث والنشر» التي بعثت سنة 2007 في مملكة البحرين حيث تصدر مجلة «الثقافة الشعبية» . وليس من العسير أن نتبيّن وضوح الوجهة الإنسانية الجامعة التي تسم سياسة المسألة لدى القائمين على التجربتين: رحابة في التناول وسعة في الفكر وبعدا كونيا عميقا ، قد يمنعنا حياء المجايلة من التبسط في ذكر خصائصها وشمائل الساهرين عليها مما لا يمكن للتاريخ أن يغفله . ولعل ما نلاحظه اليوم من حرص عدد من الدول العربية على التسجيل المشترك لبعض عناصر فولكلورها إلا ثمرة من ثمار هذا الجهد المتواصل. من ذلك ما أقدمت عليه مجموعة من الدول العربية من تسجيل «نخيل التمر، المعارف والمهارات والتقاليد والممارسات» وكذلك الشأن بالنسبة إلى الخط العربي أو أكلة «الكسكسي» بالنسبة إلى عدد من البلدان المغاربية أو بعض الفنون الغنائية الشعبية لدى عدد من الأقطار الخليجية . وتأكيدا على البعد الإنساني للفولكلور، لم يكن غريبا أن يتم تسجيل بعض ألوان التراث مشتركا بين عدد من الدول العربية وأخرى غربية كما حدث في موضوع الصقارة.
ومع كل ذلك، ينبغي ألا يحجب عنا القول بالأبعاد الثقافية والحضارية والإنسانية الجامعة للفولكلور، أنه في جوهره يقوم على الخصوصية التي تتحدّد معالمها ضمن سياق من الامتداد والانفتاح. فالظاهرة الفولكلورية تستمد مقومات وجودها من البيئة الطبيعية والثقافية التي يسرت لها أسباب نشأتها. لكن ظهورها على نحو ما لا ينفي إمكان تشكلها على نحو آخر في ظروف طبيعيّة أو بشريّة مغايرة. وهي في كل أحوال خصوصيتها شاهدة على الوحدة المنفتحة على السعة والتنوع. هي شبيهة بالنخلة من حيث كانت واحدة حيثما كانت. ولكن ثمرتها عديدة متنوعة. تتباين أشكالها. وتتعدد خصائصها ويختلف مذاقها. وما تجده منها في بلد قد لا تجده في بلد آخر . كذلك الشأن بالنسبة إلى الخط العربي فهو واحد حيثما ظهر . ولكن رسوم حروفه تختلف بين المشرق والمغرب وتتعدد من بلد إلى آخر وتتميز من خطاط إلى آخر. ويبلغ الأمر فيه من الخصوصية حتى يستحيل ضربا من ضروب الفن الذي ينسب إلى علم بعينه يشار إليه بالبنان وتطير شهرته في الآفاق. ومع ذلك يبقى في كل أحواله خطا عربيا. وقل مثل ذلك في كل فنون التراث. فخصوصية الظاهرة لا تنفي امتدادها وتعدد أشكالها. لا يسع كونيّتها أن تستقيم إلا على أساس من الخصوصية والمحلية. المتميز فيها والمختلف والمعبر عن الهوية هو الذي يمدها بنسغ كيانها ويمنحها روح وجودها. فلا كونية من دون خصوصية ولا خصوصية من دون إنسانية جامعة. وكما أن الخصوصية عنوان هوية قائمة فإن البعد الإنساني فيها يبرز ما بين البشر من قدر مشترك ومصير واحد. في هذا المعنى نحرص على التمسك بمأثورنا الفلكلوري ليس فقط باعتباره نتاج جدلية بين الخصوصية والكونية، وإنما باعتبار أن خصوصيته التي تمثل عنوان هويّتنا هي طريقنا إلى الكونية.
1. عثمان الكعاك (1903 - 1976) أديب وإعلامي ومثقف تونسي. درس بتونس ثم بجامعة الصربون. ساهم في تأسيس الإذاعة التونسية. وشغل خطة حافظ لدار الكتب الوطنية. كانت له اهتمامات واسعة بالتاريخ والأدب والثقافة. وكان رائدا في العناية بالفولكلور التونسي والعربي . من مؤلفاته : «التقاليد والعادات التونسية» و«المدخل إلى علم الفولكلور» نشر ببغداد س.1964 و«مراكز الثقافة في المغرب» نشر بالقاهرة سز1958. وغيرها من مصنفات عنيت بالمسرح والموسيقى وسائر ألوان الثقافة والفكر.