الخطاب الجسدي والتعبيرات الدلالية لدى مجموعات «الڤُوڤُو» بالجنوب الشرقي التّونسي
العدد 58 - موسيقى وأداء حركي
تتولّد عن الدلالات والإشارات اللغويّة والجسديّة إشكالياتٌ عدّة تتعلق بالمفاهيم والتأويلات التي تتخّذ في أغلب الأحيان أسلوبا اعتباطيّا ويمكن أن نستدلّ باللغة التي يستخدمها الجسد كعلامة من منطلق الدّال والمدلول. فالدّال الواحد يمكن أن يحتوي على أكثر من مدلول واحد، وهذا التعدّد في المدلول «يفهم الإنسان بالفطرة قسما كبيرا منه، وهو لذلك يستثمره في مآرب كثيرة منها: حال الشحاذ الذي يختار، بكل ما تحمله هذه المفردة من تعمّد، لباساً رثّاً أو ممزقاً لأنه يريد توصيل رسالة تثير حالات عطف معيّنة لدى الرائي» (1). وبصفة عامة فإنّ المفهوم العام للدلالة يتجاوز المعطى اللّغوي واللّساني ليشمل جميع أنماط الرموز الثقافيّة في تجلّياتها المتباينة.
وقد طالت السيميائيات إشكالية الجسد وأخذت فيه مجرى الاستفهام عن فاعليته وعن أثره في صياغة دلالة الأشياء وفي تشكيل دلالة الخطاب. كما تناولت علوم عدّة هذه الإشكالية باعتبارها مادة درس وتمحيص، واختلفت النظريات والمدارس من تجريبيين وعقلانيين حول ماهيته رغم إجماع مختلف الأديان السماويّة حول إتقان الخالق لهذا الجسد «عَلَى أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ».
الرقص ودلالاته:
يعتبر الرقص من أهمّ التعبيرات الإيمائيّة فهو يقوم على التشكيل الجسماني الذي لازم الإنسان منذ عهود بعيدة. تؤكّد أغلب المصادر والمراجع التاريخيّة والاجتماعية والأنثروبولوجيّة أنّ الحضارة الفرعونية كانت من الحضارات الأوّلى حيث عمد الفراعنة إلى هذه الممارسة الفنيّة الاحتفالية التي تُعدّ لديهم «طقسا مقدّسا يأمر به الكهنة وتجلّه التقاليد وله أرفع منزلة وأجلّ مقام في تلك العصور، فكانوا يغرقون في اتقان حركاته العجيبة التي لم تصل أمّة من الأمم إلى ما وصلت إليه الأمّة المصرية من الاعتناء بالرقص وتقديسه وتقديمه على كلّ طقوس عباداته»(2).
وما استمرار مجموعات «الصطمبالي» بتونس وبانتشارها على مختلف الزوايا («سيدي سعد» بتونس وبجزيرة جربة- «سيدي منصور» بصفاقس و«سيدي مرزوڤ العجمي» بقابس وبقبلي) إلّا دليلٌ على ما تحتلّه هذه «البسيكودراما» العلاجيّة من مكانة لدى الثقافة الشعبيّة «الميكرواجتماعية» حيث وجدت الفضاء الملائم لتشكيل عناصر علاجيّة مشتركة
( التخميرةالنشوة الشفاء).
كما كانت هذه التعبيرات الجسديّة تعكس الذاكرة الجماعيّة والمكنونات الداخليّة لهذه الشعوب الغابرة من خلال «اللاّوعي» لتظهره جميعا إلى «الوعي» من خلال هذا التعبير الفنّي الذي يستخدم فيه الجسد الإنساني تقنياته المفصليّة والعضليّة والعصبيّة والتي تخلق حين تجتمع، نظاما من الحركات والإشارات والإيماءات ذا دلالات ومعان لفك رموز هذا الجسد، ومن خلاله يعبّر هذا الجسدُ عن الحبّ والفرح والسعادة أحيانا وعن الألم والحزن أحيانا أخرى. وبصفة عامة تتحدّث الباحثة في الأنثروبولوجيا جوديث حنّا Judth lynne Hanna عن الرقص باعتماد تقارير أبحاث ميدانيّة لأحد أكبر الباحثين الأنثروموسيقيولوجين هيغو زامب(3) Hugo Zemp مؤكّدة أنه يمكن تناول هذه الممارسة الجسديّة ودراستها من خلال زوايا مختلفة التي تتمثّل في العناصر التالية:
- الناحية الفيزيائية: يصدر الجسم البشري طاقة نتيجة لتجاوب القوة العضلية الديناميكيّة لأوامر العقل فينتج بالتالي الطاقة المنتظمة مع الحركات المتناسقة لأعضاء الجسد.
- الناحية الثقافية: يمثل الرقص مجموع القيم والمواقف والمفاهيم الخاصة التي من شأنها تحديد الهوية الثقافية لمجتمع ما إلى جانب تحديد جزئي لتصورات الرقص وإنتاجاته الجسدية وأسلوبه وبنيته وأساليب تنفيذه.
- الناحية الاجتماعية: تمثّل الأشكال التعبيريّة في فنّ الرقص المرآة العاكسة والمؤثرة في التنظيم الاجتماعي والعلاقة الداخليّة بين الأفراد في المجموعة وبين المجموعات في ما بينها.
- الناحية النفسية: يعتبر الرقص نتاجا للتجارب المعرفية وتعبيرا لمجموعة المشاعر والعواطف الذاتية التي يعيشها الفرد عبر مراحل حياته.
- الناحية الاقتصادية: كما يمثّل هذا الفنّ في الجانب المادي لدى عدد من المجموعات المحترفة مصدرا للدخل من خلال نشاطهم الموسمي (مقابل إحيائهم للعروض الثقافيّة الموسميّة) أو من خلال تعليمهم لهذا الفنّ لروّاده بمقابل.
- الناحية السياسيّة: يمكن أن يمثّل الرقص وسيلة للتعبير عن المواقف والقيم السياسية ووسيلة للاحتجاج وطلب التغيير (يمكن الإستشهاد هنا بالعديد من الإحتجاجات لدى عدد من المجتمعات الإفريقية من خلال التعابير الجسديّة المصاحبة لهتافاتهم الصوتيّة).
- الناحية التعبيرية والتواصلية: من خلال «لغة» الجسد التي يرمز الراقص من خلالها للتعبير عن مشاعره وأفكاره عبر حركات ورموز جسدية يمكن أن يفهم معانيها ويفكّ رموزها أفراد مجتمعه.
التعبيرات الدلاليّة من خلال رقصة «الزڤارة»
لدى مجموعات «الڤُوڤُو»:
تعتبر مجموعات «الڤُوڤُو» من أهمّ المجموعات الفنيّة بالجنوب الشرقيّ والتي ينتمي كامل عناصرها إلى أفراد من الأقليات السوداء بالجهة والذين هم يتميّزون بمواهب فنيّة إن كانت على مستوى العزف على الآلات الشعبيّة أو أولائك الذين يظهرون براعة في التعبيرات الجسدية لاسيما في أصناف مميّزة من الرقص التي تتطلّب مجهودا جسديّا كبيرا خاصة وأنّ هذه الممارسات الفنيّة تحتلّ حيزا كبيرا من مدوّنتهم الموسيقيّة. كما يجدر لنا أن نشير بأنّ هذه المجموعات لاتزال تزاول نشاطها الفنّي لتحافظ من خلاله على ديمومتهم وعلى أصالتهم وتقاليدهم. فمنذ تاريخ تأسيسها منذ ما يزيد على نصف قرن استقرّت مجموعتان منهم بمنطقتين متجاورتين جغرافيّا وسيطلق عليهما تسمية: «ڤُوڤُو» جربة و«ڤُوڤُو» جرجيس.
1) أصل تسمية «ڤُوڤُو» ودلالاتها:
فبادئ ذي بدء أطلقت تسمية «ڤُوڤُو» على هاتين المجموعتين دون معرفة دقيقة لأصول هذه التسمية باستثناء الفرضيّة الوحيدة التي أتّفق عليها كلّ عناصر «الڤُوڤُو» والتي أسندت إلى شخص يدعى «قدور بوشحمة» الذي كان يشتغل في ميدان التنشيط السياحي والذي أطلق عليهم هذه التسمية لسهولة حفظها والتلفّظ بها للتعريف بهم لدى روّاد السياحة من الأجانب آنذاك عوضا عن التسميات الأخرى التي اشتهروا بها آنذاك لدى سكّان المنطقة «كنوبة العبيد» أو «التخميرة». كما تحدّث أحد الروّاة(4) المنتمين لهذه المجموعة بقوله أنّ هذه التسمية هي تحريف للفظ «ڤِيڤُو» ثمّ «ڤُوڤِي» بمعنى التسمية الإفريقيّة لآلة «الڤمبري» التي كانت تستعملها المجموعة. غير أنّ هذه الروايات تبدو متناقضة مع الواقع إذ أنّ هذه التسمية متعارف عليها منذ بداية تواجد المجموعات السوداء بالجنوب الشرقي والتي تزامنت مع ذروة الحركة التجاريّة للعبيد مع أوخر القرن التاسع عشر بين عدد من مدن القارة الإفريقيّة ومدن شمال هذه القارة.
ففي هذا الإطار فقد توصلّنا بعد بحث مستفيض من التعرّف إلى فرضيّة ربّما الأقرب للتعرّف على أصل تسميّة «ڤُوڤُو» التي تنسب لسكّان إحدى القبائل السودانيّة تحدّث عنهم الرحّالة أبو حامد الغرناطي في الباب الأوّل (الذي جاء عنوانه «في صفة الدنيا وسكّانها إنسها وجانها») من كتابه رحلة الغرناطي: تحفة الألباب ونخبة الأعجاب ورحلة إلى أوروبة وآسية بقوله:
«وأهل غانة أحسن السودان سيرة وأجملهم صورا. سبط الشعور، لهم عقول وفهم. ويحجوّن إلى مكّة. وأمّا فَاوَةَ، وقُوقُو، وملي، وتكرور، وغدامس، قوم لهم بأس وليس في أرضهم بركة، ولا خير في أرضهم، ولا دين لهم، ولا عقول. وأشرّهم قوقو، قصار الأعناق، فطس الأنوف، حمر العيون، وكأنّ شعورهم حبّ الفلفل، وروائحهم كريهة كالقرون المحروقة. يرمون بنبل مسمومة بدماء حيّات صفر لا تلبث ساعة واحدة حتّى يسقط لحم من أصابه ذلك السهم عن عظمه، ولو كان فيلا أو غيره من الحيوانات والأفاعي. وهم شر نوع في السودان وسائر السودان ينتفع بهم في الخدمة والعمل إلاّ قُوقُو فلا خير فيهم إلاّ في الحرب»(5).
وفي هذا الإطار ما أسلفنا ذكره بأنّ أصول هذه الأقليات المستقرّة بجهة الجنوب الشرقي والتي أصبحت من العناصر المميّزة لسكّان هذه الجهة تنحدر أساسا من «شرق السودان عن طريق فزان وغدامس وطرابلس واستوطنوا بمدنين وقابس والجنوب للقطر التونسي (أمّا الذين جاؤوا من غرب السودان وغينيا توجّهوا عبر واحات توزر وغرب شط الجريد إلى الشمال)»(6).
كما لا يمكن التغافل عن الحديث بوجود آلة إيقاعية تقليدية يطلق عليها تسمية «ڤُوڤُو» تستعمل في الموسيقى التقليديّة لدى إحدى القبائل المتواجدة بجنوب السودان تسمّى قبيلة«الزَّانِدِي».
2) وقد وصفت بأنّها:
«عبارة عن جذع شجرة يتم نحته علي شكل حيوان له رأس وذيل وأربعة أرجل يتم تجويفه من خلال فتحة صغيرة بطول الظهر للحصول علي صندوق للرنين يختلف سمك جوانبه ليعطي أصوات مختلفة عند طرقها يعتلي العازف القوقو ويمدّ إحدى ساقيه فوق فتحة الصوت استعدادا لحبسه عند الحاجة ولانّ آلة القوقو عبارة عن طبل مضبوط فصوتها يختلف وفقاً لسمك الجانب المطروق»(7).
وكانت هذه الآلة قديما تستخدم كوسيلة تواصليّة من خلال إرسال إشارات إيقاعية معيّنة للدلالة عن ضرورة الاستعداد لمجابهة الحروب أو للإعلام بهجوم مباغت للعدوّ أو للتبليغ عن المآتم. إضافة إلى أنّها تستعمل لدعوة الأقارب للأفراح والمناسبات السعيدة من خلال بثّ إشارات رمزية خاصة متعارف عليها لدى سكّان المنطقة.
أنواع التعبيرات الجسديّة لدى «الڤُوڤُو»:
تعتبر التعبيرات الجسديّة من خلال فنون الرقص في أغلب الحالات انعكاسا صادقا للظروف والأحاسيس التي عاشها الإنسان في بيئته الاجتماعية، فازدواجيّة الحركة المقترنة مع الحالة النفسيّة تظهر حتما شخصيّة الفرد. فقد بيّن العالم النفسي وليام جيمس William James «أنّ كلّ بذرة إحساس في مشاعرنا لها ردّ فعل حسّاس على جسدنا، هذه التغييرات التي تطرأ على الجسد لا تأتي في شكل سبب ونتيجة ولكن مع بعضها بتداول كلّي»(8). كما تؤكّد ذلك الباحثة الاجتماعية سلوى حفيط التي اهتمّت بهذه الإشكاليّة من خلال دراستها للجسد من خلال فنّ الرقص في الثقافة الإسلاميّة ومقاربتها السوسيولوجيّة والبسيكولوجيّة والأنثروبولوجيّة بقولها:
«أصبح الجسد هدفا في حدّ ذاته فهو المنظور إليه والمرغوب فيه والمتجه إليه بدرجة أولى لتفريغ الإحباطات والشحنات السلبية الفورية كالقلق وغيره من التوترات.إنّ هدف الجسد اليوم هو اختزال الكوامن والتعبير عن الأفكار جسديا وقد أصبح هذا ممكنا نسبيا في لغة الصم والبكم وفي كلّ حالات النفس اللاشعوريّة مثل الحلم والعصاب والإستيهام..الخ إنّ العضويّ هو الوجه الآخر للنفسي وٕ انّ هذا يعوّض ذلك والجسد هو الوسيلة التعبيرية الوحيدة لكل أحوال النفس»(9).
وفي عمق هذا المزيج الثنائي حركي-شعوري وُلدت رقصات «الڤُوڤُو» التي كانت في البداية في شكل حركات جسديّة تعبّر عن أحاسيسهم المفعمة بالظلم والقهر وليدة العديد من الممارسات العنصرية القصريّة المسلّطة عليهم في السنين الماضية من قبل البعض من السكّان البيض الأوائل بالمنطقة. فقد عاشت هذه الأقليّة على طوال تلك الحقب الزمنيّة السابقة ظروفا اجتماعية قاسية نتيجة لسوء معاملتهم، واحتلالهم أسفل السلّم الاجتماعي وتوجيه إليهم تلك النظرة الدونيّة داخل مجتمع اعتقدوا بأنّ اندماجهم داخله سيكون طبيعيّا لاعتبارات إنسانيّة وأخلاقيّة. فأولدت هذه المعاملة العنصريّة التمييزيّة لدى هذه الفئة ردة فعل معاكسة تمثلت بادئ الأمر في تنظيم أنشطة وممارسات جماعيّة تعبيريّة فيستقدمون أكثر من ضارب للطبل لقرع هذه الآلات في إيقاعات غير منتظمة وفي شكل متواصل والتي تتّسم ضرباتها بالشدّة حتّى تساهم في إثارة غضب واستفزاز أفراد هذه المجموعة (التي يكون عددهم يتراوح بين ستّة إلى إثنى عشر فردا بشكل زوجي) والذين يحملون في أيديهم عصيّا من شجرة الزيتون (يطلق عليه محليّا تسمية «المَطْرَڤْ») إضافة إلى تخليهم على ما ينتعلون في أقدامهم (حفاة). وشيئا فشيئا تولّد هذه الضربات المتعاقبة حالات من الغضب والهيجان الهستيريّ لديهم يترجم في التشابك بالعصي في ما بينهم من خلال ضربها بعضها ببعض بعد دخولهم إلى مرحلة «الجَّذِبْ» باستحضارهم للألم المعاش. وتترجم هذه المرحلة السيكولوجية- الحركيّة «الصلة التي تتمّ بين الدماغ والمحيط الخارجي بواسطة الحواس. إذ أنّ كلّ الإحساسات لا تنشأ إلاّ عن طريق إثارات عصبية ناجمة عن إهاجة هذا المحيط لتلك الحواس وبالتالي، فمصدر الحس هو الوسط الماديّ»(10). وتحيلنا هذه الصورة المؤلمة لتاريخ أقليّة عاشت مظاهر الظلم والاستعباد في فترات زمنيّة خلت، إلى الظروف التي صاحبت نشأة موسيقى الجاز بالولايات المتّحدة حين عبّرت التآلفات الموسيقية الزنجيّة عن صرخات العبوديّة ومطالبهم بالحريّة والإنعتاق.
تتعدّد وتتنوّع الرقصات والتعبيرات الجسديّة لدى مجموعتي «الڤُوڤُو» بجربة وجرجيس فتتشابه أحيانا وتختلف أحيانا أخرى. فأهمّ الرقصات التي اشتهرت بها «ڤُوڤُو» جربة منذ نشأتها تتلخّص في:
- رقصة «الطَبَّالَة»: حيث يصطفّ عازفو «الطَبَّالَة الجِرْبِية»(11) و«الزُكْرَة» واحدا تلو الآخر يعزفون ويرقصون مع مسايرتهم للإيقاعات المستعملة في هذه المناسبة الاحتفالية.
- رقصة «الجُّزُرْ»: تنفّذ هذه الرقصة التي تستمدّ تسميتها من جزيرة جربة بلباس مميّز وموحّد لكلّ عناصر المجموعة الذين يؤدّون هذه الرقصة بحركات متناسقة داخل الفضاء الاحتفالي.
في حين تشترك كلا المجموعتين في تنفيذ العديد من الرقصات المتشابهة مثل:
- رقصة «الڤِلَّال»: وهي تعتبر من أشهر الرقصات الفرجويّة ذات النمط الفنّى الفلكلوري والتي تمتزج فيها عناصر شاملة منها الفنّي من خلال التنوّعات الإيقاعيّة وتغييرات سرعة النبض داخله لتحيلنا إلى تأثيراتها النفسيّة على الراقص وتزيد في قدراته في التركيز وبالتالي السيطرة على كلّ حركاته. إضافة إلى العامل الفزيولوجي الجسدي الذي يجب أن يتمتّع به هذا الراقص القادر على حمل إثنى عشر «الڤِلَّة» («الجِرَارْ») مثلما جسّده راقص «ڤُوڤُو» جرجيس عبد المجيد جرتيلة في عروضه التنشيطيّة في السنوات الماضية.
- رقصة «البوسعديّة»: هي تلك الرقصة التي اشتهرت لدى مجموعات «الصطمبالي» والمرتبطة بالطقوس العلاجيّة لروّاد الزوايا الخاصة بهذه الممارسات والتي أسلفنا ذكرها. أمّا بالنسبة لمجموعتى «الڤُوڤُو» فإنّها بعيدة عن هذه الأغراض الطقوسيّة ويكون أداؤها مقتصرا على الجانب المشهدي الاستعراضي. ويؤدّي هذه الرقصة أحد عناصر المجموعة المنتمي للأقليات السوداء بالجهة بعد أن يرتدي لباسا طريفا ومميّزا تتكوّن أجزاؤه من جلود أو عظام الحيوانات ويضع قناعا أسود على وجهه ويغطّي رأسه غطاء مذبّبا ويكسو جسده بغطاء جلديّ وخرقا من الأقمشة الملوّنة والأصداف البحريّة. ويقوم بتنفيذ رقصته مصحوبا بعزفه على «الصُّنُوجْ» المصاحبة لإيقاع ثنائيّ ذي نفس إفريقي وهو كالآتي:
و قد جعلت منه هذه الرقصة شخصيّة فنيّة فريدة من نوعها. وهي ترتبط تاريخيّا « بقصّة رجل أسود له حمار وطبل ينتقل من بيت إلى آخر طالبا الصدقة صحبة ابنته سعدية ويتغنى بالغناء الأعجمي فينال من عطايا المارّة شيئا من الدراهم والأكل مقابل ما يرتجله من أغاني سودانية ورقص في شكل دورات»(12). كما تحتفظ الذاكرة الشعبيّة بارتباط هذه الشخصيّة بأسطورة «مجنون سعديّة» التي تروي بأنّ أحد ملوك إفريقيا الذي اختطفت ابنته المسمّاة سعدية وبيعت في سوق العبيد. فهام في المدن البعيدة بحثا عنها ومرتدياً قناعا حتى لا يكشف أمره، وأخذ في البحث عنها مرددا لأغانيها علّها تتعرف إليه من خلالها. ومن جهة الأخرى يتمثّل دور هذا الراقص الذي يتمحور المناسبة الاحتفالية في التعبير عبر حركاته الجسديّة عن تاريخيّة معاناة هذه الأقليات التي ينتمي إليها فالأصداف البحريّة جعلها كشاهد عيان للرحلات البحريّة التي عبرت المحيط خلال مراحل العبوديّة أو ما أطلق عليها تسمية التجارة المثلّثة. كما شكّلت جلود وعظام الحيوانات التي وضعها على جسده كرمزيّة لعالم الصحاري والفيافي تلك الحاضنة التاريخيّة للعبوديّة وما يعيش داخلها من حيوانات كاسرة والتي نهشت الآلاف من العبيد العابرين لهذه المسالك أثناء الرحلات التجاريّة المسيّرة من قبل تجّار القوافل الصحراويّة لبيعهم ومقايضتهم . فما يمكن أن نستشفّه من خلال هذه التعبيرات الجسديّة أنّها لم تشكّل بعدا فنّيا فرجويا فحسب بل تجاوزته لتتحوّل إلى دلالات نفسيّة عميقة ووسيلة لإفراغ الانفعالات الباطنيّة المستقرّة في اللاوعي.
- رقصة «الزڤارة»: تعتبر هذه الرقصة من أهمّ الرقصات الرمزيّة التي تحوّلت من لعبة للعصي إلى تعبير جسدي ذي دلالات. وتختلف اختلافا جوهريّا عن مثيلها المتداول في مختلف مناطق البلاد التونسيّة والتي تتجسّد لديهم في ازدواجية فنيّة تتمثّل في تسمية إيقاع ورقصة في آن واحد. وتستمدّ هذه الأخيرة صفتها من خلال الإيقاع المستعمل لديها. ففي توزر مثلا «يرتبط الإيقاع برقصة شعبيّة تسمّى بنفس الاسم، يقدّمها «البَّارْدِيَّة»(13) بـ«القَارَابِيلاَ»(14) أمام جموع المشاركين في مراسم «المحفل». وينسب الممارسون هذه الصيغة الإيقاعيّة إلى جهة توزر»(15). ويدوّن هذا الإيقاع «الزَّڤَايِرِي الجِرِيدِي» لديهم كالآتي:
أمّا رقصة «الزڤارة» لدى مجموعتي «الڤُوڤُو» أو ما سمّيت سابقا بلعبة العصي فهي ذات أصول تاريخيّة قديمة وقد وجد لها أثر مشابه لدى بعض القبائل الصحراويّة اللّيبية المجاورة والذين يطلقون عليها رقصة «الكَاسْكَا»، وهي إحدى التعبيرات المجسّدة للصراع الأزلي بين ثنائيّة الحياة والموت من خلال المعارك التي تندلع كلّ مرّة بين القبائل الرحّل في الصحراء وتستعمل فيها العصي للسيطرة على آبار المياه درءا للعطش وبحثا عن الارتواء.
ومن ناحيّة التسمية «فـالزِّڤَارَة» لدى مجموعتي «الڤُوڤُو» تعني أيضا المبارزة بالعصي والقدرة على تنفيذ حركات استعراضية تعبيرية بخفّة وسرعة مع التركيز على تجسيد لوحة فنيّة مثيرة.
وباعتبار أنّ مجموعة «الڤُوڤُو» بجزيرة جربة قد حضيت باهتمام عدد من الباحثين(16) في هذا المجال وقاموا بدراسة خصوصياتها الأثنوموسيقيّة، فإنّنا خيرنا تناول هذه الرقصة كإحدى التعبيرات الجسديّة لدى مجموعة «الڤُوڤُو» بجرجيس ومحاولة تحليل ما تحتويه من إشارات ورموز والبحث عن مقاربة سيميائيّة لها ومدى علاقتها بمنظومة الخطاب الإشاري والدلالي والتي لم يقع دراستها أو الغوص فيها.
تتركّب هذه المجموعة من أفراد يتراوح عددهم في كلّ مرّة ما بين ستّة إلى إثنى عشر فردا ويرتبط ذلك حسب نوعيّة ومكان المناسبة الاحتفالية والقيمة الماديّة لها. وتكون المجموعة تحت قيادة عنصر منسّق لهم يطلقون عليه صفة «الرَّايِسْ» وعلى بقيّة العناصر صفة «البحريّة» (وهي التركيبة المشابهة لما تعرضنا له مع عناصر الطوائف)، وهو ذلك العنصر الذي يتولّى بالجوانب التنظيميّة والترتيبيّة لإحياء العروض من جهة والتنسيق الداخلي للرقصات من خلال إصدار الإشارات قبل تغيير المشاهد التعبيريّة أو ضبط الخطوات والسرعة الخاصة بكلّ رقصة من بينها رقصة «الزڤارة» التي تسير حركات الراقصين فيها على ضربات وزن ذي تركيبة ثنائية يتكرّر كلّ مرّة دون إدراج تنويعات إيقاعية عليه بخلاف التنويعات الجسديّة التي تتدرّج سرعة الحركة فيها شيئا فشيئا نحو السرعة. ويدوّن هذا الإيقاع لدى مجموعة «ڤُوڤُو» جرجيس كما يلي:
ولم تعتمد هذه الرقصة على الإيقاع فحسب بل اعتمدت أيضا على مصاحبة لحنية لآلة «الزُكْرَة» التي يقوم النغم فيها على جملة مقاميّة متكرّرة طوال الرقصة وهي تنفّذ كالشكل (1).
أمّا من ناحية التوزيع الداخلي لمجموعة الراقصين لعناصر «الڤُوڤُو» خلال هذه الرقصة فهم ينقسمون في ما بينهم إلى كل فردين على حدة ضمن حلقة رقص داخل الفضاء تكون في البداية على شكل دائريّ، فتنطلق حركاتهم الجسديّة من اليمين إلى اليسار (عكس اتجاه حركة عقارب الساعة) بسرعة تدريجيّة نحو الأسرع، ومعها تبدأ ضربات عصيّ بين كلّ عنصرين بعضهما ببعض تزامنا مع بداية الدورة الإيقاعيّة المذكورة تارة أو بالتداول بين دورتين إيقاعيتين حينا آخر. ويرتبط ذلك مباشرة بالإشارات التي يحدّدها العنصر المنسّق للمجموعة («الرَّايِسْ»). فجاءت هذه الحركات المجسّدة بضربات العصي وبالتناوب على هذه النحو: الشكل (2).
● = ضربة العصي في بداية كلّ دورتين إيقاعيتين.
●●= ضربة العصي في بداية كلّ دورة إيقاعية.
وتنقسم هذه الرقصة إلى ثلاثة مراحل وتسمّى محليّا «الطُّرُوحْ» (جمع «طُرَحْ») وهي كالتّالي:
- المرحلة الأوّلى: وهي المرحلة التمهيدية التي تنطلق في شكل حركات إحمائية بطيئة تتجسّد في ضرب العصي بين كلّ فردين من عناصر المجموعة في بداية كلّ دورتين إيقاعيتين ثمّ تتطوّر إلى ضربة في بداية كلّ دورة إيقاعيّة فخلقت علاقة ارتباط إيقاعيّ متكرّر.
رسم بياني: المشهد الراقص الأوّل لـ «الزڤارة»
= علاقة الارتباط الإيقاعي الدوري بين كلّ عناصر مجموعة «الڤُوڤُو».
- المرحلة الثّانية: تتمثّل في إنفراد «الرَّايِسْ» بوسط الفضاء دون غيره ويتواصل مع عنصر من البحريّة طوال هذه المرحلة بضرب متواصل بالعصي بعضهما ببعض وفي وضعيّة وقوف تارة وجلوس تارة أخرى. في حين يعتمد بقيّة «البحريّة» على منوال المرحلة الأوّلى بمواصلة كلّ عنصرين مقابلة بعضهما البعض من خلال تبادل ضربات العصي التي تنقسم فيها إلى مجموعتين:
- مجموعة أولى: تتولّى مواكبة ضربات الطبل القويّة بضربات العصي مع بداية كلّ دورة إيقاعيّة بالتداول مع المجموعة الثّانية.
- مجموعة ثانية: تتناوب في ضرب العصي بعضها ببعض في بداية كلّ دورتين إيقاعيتين بالتداول مع المجموعة الأوّلى.
رسم بياني: المشهد الراقص الثّاني لـ «الزڤارة»
= علاقة الارتباط الإيقاعي الدوري بين كلّ عنصرين من البحرية.
= علاقة الارتباط الإيقاعي الدوري بين «الرَّايِسْ» والعنصر الأوّل من «البحريّة».
● = ضربة العصي في بداية كلّ دورة إيقاعية.
●● = ضربة العصي في بداية كلّ دورتين إيقاعيتين.
المرحلة الثّالثة: وهي المرحلة الحاسمة من هذه الرقصة تتوزّع عناصر «ڤُوڤُو» جرجيس إلى ثلاثة مجموعات:
- المجموعة الأوّلى: تتكوّن من «الرَّايِسْ» صحبة عنصرين من «البحريّة».
- المجموعة الثّانية: تتركّب من ثلاثة عناصر من «البحريّة».
- المجموعة الثّالثة: تتكوّن من عنصرين من «البحريّة».
تتلخّص هذه المرحلة دخول عناصر «ڤُوڤُو» جرجيس إلى مرحلة «التخميرة» بارتفاع نسق هذه التعبيرات الجسديّة إلى درجة السرعة القصوى للحركة، إذ تتشابك الأيادي الممسكة بالعصي بأقصى درجات التركيز فكلّ هفوة تكون نتائجها وخيمة على جسد أحد العناصر. وتتقاسم كلّ مجموعة من هذه المجموعات الثلاثة الضربات بالتداول في ما بينها وبكلّ حذر باستثناء المجموعة الثّالثة التي تواصل على نفس وتيرة المرحلتين السابقتين. ومن الملاحظ أيضا أنّ هذه المرحلة لا تستغرق مدّة تنفيذها طويلا نظرا لما تتطلبه من مجهود بدني وذهني مهمّين.
رسم بياني عدد16: المشهد الراقص الثّالث لـ «الزڤارة»
= علاقة الارتباط الإيقاعي الدوري بين كلّ عناصر مجموعة «الڤُوڤُو».
التعبيرات الدلاليّة وسيميائيّة
الجسد لدى «الڤُوڤُو»:
ارتبطت التعبيرات الجسديّة لدى مجموعة «ڤُوڤُو» بجهة جرجيس بعدّة دلالات ومعاني لا يمكن أن تستشفّ إلّا من خلال التمعّن والدراسة والمتابعة لهذه المجموعة . فمن أهمّ الملاحظات التي يمكن أن نقف عليها بأنّ هذه التعبيرات قد احتوت على لغة الثنائيات بمختلف تنوّعاتها أهمّها ثنائية الجسد-الهويّة التي عبّر فيها عناصر المجموعة عن ذات كلّ فرد منهم ووعيه بفكره وإلمامه بتراثه
واستحضار ذكريات أسلافهم، فجسّدوا برموزهم وإشاراتهم إبداعات وتعبيرات فنيّة على غاية من الأهميّة وشكّلوا هويتهم الثقافية المعبّرة عن خصوصياتهم التاريخيّة وما عاشته الأقلية الإثنية التي ينتمون إليها من حيف اجتماعي ومظاهر من التمييز السلبي الذي سلّط عليهم خلال حقب زمنية ماضية. فولّدت هذه التراكمات جسدا وفكرا رافضين للتهميش والنسيان والوعي بالتذكّر الدائم
وعدم النسيان والتناسي. فجاءت حركاتهم خلال تعبيراتهم هذه في شكل حركتين:
- حركات مقصودة: يرمى من ورائها إبلاغ الحاضرين من خلال التعبيرات الجسديّة التي بصدد عرضها عن غضبهم ورفض ذاكرتهم لماضيهم الذي اتّسم بالظلم والتسلّط والاستبداد ولما عاشوه من تمييز وإقصاء وتهميش، فيتجلّى ذلك في اتخاذهم وضعية اقتراب وإنكماش(17) والتي تتصف بتقليص دائرة الحركة لديهم وبرمزية الالتفاف لجميع عناصر المجموعة ويرمون من خلالها إلى إبراز قدراتهم الدفاعيّة واستعدادهم ويقظتهم لصدّ كلّ من يعتدي عليهم أو يؤذيهم. «فعندما يكون الجسد مطويّا مع تقلّص الأطراف أو انكماشها، يتمّ نقل إحساس خاص بالبؤس والقمع والخضوع. ولكن مع تطوّر الثقة النفسيّة والابتهاج الإنساني تصبح الإيماءات أكثر انفتاحا ويتزايد المكان أو الحيز الخاص بالجسد» (18).
- حركات لا إرادية: وهي عموما تلك التي تصدر من اللاّوعي الذي يزداد نشاطه فيمنح إشارات في اللاّوعي الجماعي الذي تتجاوب مع شعورهم لتتداعى مع ذكريات المتلقّي لتضيف لمضامين حركاتهم معاني ودلالات متعدّدة. وهي لذلك تتوافق مع «النظريات التحليلية النفسية وتأثيرها الواضح في تفسير لغة الجسد التي تعتمد على أسس من الحدس أكثر من اعتماداها على شواهد امبيريقية (عملية) جاهدة من أجل ارجاع أو عزو الوضع الجسمي الخارجي إلى صراعات داخلية مفترضة»(19). وتتجلّى هذه الحركات لدى أفراد هذه المجموعة في هزّات الرأس المتتالية اللاّ إرادية أثناء دورانهم المتسارع في فضاء الرقص وتجسيد انفعالاتهم من خلالها.
وقد تناسبت هذه الحركات والإنفعالات خاصة الإراديّة منها مع ما تحدّث عنه علم النفس الحديث ومدى الارتباط بين وضعيّة الجسد ومع ما يعيشه المرء من انفعالات وأحاسيس نتيجة عوامل وترسّبات نفسية مؤثّرة فوضّح ذلك عدد من الباحثين المختصين في علم النفس على غرار سوزانا بلوكس Bloch Suzana وبيدرو أرثوس Orthous pedro وڤي سنتيبانيس في دراستهم حول مناهج التعبير لدى الفنّانين و مدى علاقتها بأهمّ العوامل النفسيّة والجسديّة والاجتماعية المؤثرة فيهم. فصنّفوا الوضع الجسدي في حالتين: حالة التوتّر والغضب ورمزوا إليها ب(ت أو T) وحالة الاسترخاء (ر أو R)، كما صنّفوا اتجاهات الحركة على أساس أنّها تكون في اتجاهين: الاقتراب (Approach (Apأو الإبتعاد أو التحاشي«(Avoidance(Av»،
كما مثّل الوجه إحدى التعبيرات الانفعاليّة المميزة لدى هذه المجموعة لما يمثّله من أهميّة كواجهة دلاليّة عن المكنونات النفسية والباطنيّة، فإضافة إلى وضعيّة الانكماش والتنفّس المرتفع من خلال إغلاق الفم بإحكام أثناء الرقص وهي الدلالات الحاضرة أثناء اللوحات التعبيريةّ «لڤُوڤُو» جرجيس حيث أنّ اتجاه حركات عناصرها داخل الحلقة الدائريّة للرقص تكون في جميع الأحوال وفي كلّ المناسبات من اليمين إلى اليسار (عكس عقارب الساعة) وذلك بصفة غير اعتباطيّة بل لها ما يفسّرها علميّا، إذ يعتبر الجانب الأيسر من الوجه الإنساني أكثر تعبيرية من مثيله الأيمن
«والتفسير المحتمل لهذه النتيجة هو أنّ النصف شبه الكروي الأيمن من المخ «يشعر» أكثر بالإنفعالات، مقارنة بالجانب أو النصف الأيسر، البارد والمنطقي، وأنّ الانفعال يتم نقله إلى العضلات الموجودة في الجانب المقابل (الأيسر) من الوجه التي يتحكّم فيها الجانب الأيمن من المخ. وأن التعبير الذي يبدأ على نحو متعمد هو فقط ما يكون قويا في الجانب الأيسر من الوجه»(21).
وهو أيضا ما اتّفقت عليه العديد من الأبحاث والدراسات العلميّة لاسيما تلك التي اهتمّت بالبحث في العلاقات المباشرة بين الجوانب الفزيولوجية الدماغيّة والمعارف الفنيّة الإبداعية، منها دراسة على غاية من الأهميّة للباحث الأمريكي كارل ألتريش سميث Smith, Karl Ulrich والتي تحدّث عن تصنيف وجه الإنسان على ضوء ما أطلق عليها صفة «السيادة الوجهية» facial dominance وبيّن أنّ أغلبية النّاس (حسب تقديراته) وفي حدود 80 % هم من أصحاب الوجه الأيمن Right faced بينما الأقلية الباقية هم من أصحاب الوجه الأيسر Left faced ومن ضمنهم تحدّث عن الفنانين والموسيقيين بصفة خاصة لكونهم « يميلون على نحو خاص إلى أن يكونوا من أصحاب الوجه الأيسر وبشكل واضح السيادة لهذا الجانب من الوجه الكلي. لأن هذا الجانب من الوجه لديهم يعكس الحالة الراقية أو المتطورة من نصف المخ الأيمن الخاص بهم»(22).
كما يؤكّد الباحث في علم النفس الفسيولوجي عبد الوهاب محمّد كامل من خلال دراسات سيكوفسيولوجية ونيورولوجيّة لسلوك الإنسان أنّ النمط الإدراكي المعرفي لمحتوى المعلومات المرتبط بهذا الجانب الأيمن والذي توصّل من خلال الأبحاث التجريبية في هذا الصدد
«ليتصف بأنّه يقوم على المحاكاة Analogical (في شكل كميات فيزيقية) كذلك نصف الكرة الأيمن يغلب في عملياته طابع التخليق Synthesis ومن جهة أخرى يظهر ارتباطه بجانب الأداء غير اللفظي وإذا تناولنا المعلومات البصرية المكانية spatial- visuo لوجدنا أن نشاط نصف الكرة اليمين يتصف بنمط التأثير الماسح scaning للصيغ الجشطالتية التي تشترك في الدلالات الرمزية و التحورية. وبالنسبة للتفكير يتصف بأنه حدسي intuitive .وأخيرا يرتبط نصف الكرة اليمين بعمل الصورة making-Image من جانب وبالنمط الموسيقي made-Musical من جانب آخر»(23).
ويسير على نفس المنهج عالم النفس أحمد محمّد عبد الخالق بالتأكيد على تخصّص نصف الكرة المخيّة الأيمن بالنظر إلى الأشياء ككلّ ويأخذ بعين الاعتبار جوانب إدراكيّة متعدّدة في الآن نفسه إذ يذكر بأنّه «عليه يتوقّف في إعداد أنواع عدّة من المعلومات البصريّة وعلى الأخصّ الشكل والمكان والموسيقى والأصوات الأخرى التي لا ترتبط باللغة»(24) .
وقد شكّلت البعض من هذه العناصر الحركيّة والتعبيرية حضورها لدى رقصات «الڤُوڤُو» فما يمكن ملاحظته لديهم من خلال رقصتهم «للزڤارة» تتلخّص في ما يلي:
- تميّزهم بنشاط فائق وبمهارات رياضية واضحة في أدائهم.
- الاعتماد على قوة الساقين واستعمالهما السريع وبسطهما على الأرض حافيتين لغاية الشعور بامتداد حرارة الأرض لتزيد من حماستهم ونشاطهم.
- الاستعمال المتكرّر للدفع القوي لمنطقة الحوض وهذا التحريك يساهم في سرعة الحركة بإنجاز تعبيراتهم الجسدية على أحسن وجه.
- الاعتماد على قبضة اليد كعضو أساسي لتنفيذ رقصة «للزڤارة» باستعمال العصي وإبراز قوّة قبضتهم اليدويّة.
- مكانة «السيادة الوجهيّة » والاختيار اللاإرادي للجانب الأيمن من المخّ ذلك العنصر المحدّد في اتباع اتجاه حركاتهم داخل الفضاء.
- مكانة التعبيرات والإيماءات المرتبطة بالوجه كتقطيب الجبهة واحمرار العينين وما تمثّله من تأثيرات على العلامات السلوكيّة المعبّرة عن سمات الغضب والزمجرة.
وعموما فما يمكن استنتاجه من هذه الممارسات الجسديّة التعبيرية لمجموعتي «الڤُوڤُو» المذكورة سالفا وارتباطها بالجوانب المتعدّدة التي ذكرها الباحث هيغو زامب Hugo Zemp والتي تعرضنا إليها في تعريفاتها العامة تتلخّص في العناصر التالية:
- الناحية الفيزيائية: تتجاوب القوة العضلية الديناميكيّة للجسد مع إشارات العقل لاسيما تلك الصادرة من الجانب الأيمن من الدماغ لتنتج وتصدر الطاقة المنتظمة المحرّكة لأعضاء الجسد بتناسق وانسجام.
- الناحية الثقافية: تترجم في تأكيد هويّة هذه المجموعات الفنيّة من خلال تنفيذ أسلوب فنّي مميّز والإنفراد بعرضه وتقديمه دون سواهم لما يتطلّبه من حرفيّة ومقدرة وبنية جسديّة خصوصيّة.
- الناحية الاجتماعية: تزيد هذه التعبيرات الجسديّة لمجموعة «الڤُوڤُو» في توطيد العلاقات الاجتماعية بين عناصرها الذين ينتمون جميعا إلى عائلة موسّعة واحدة يمثّلون بها «كتلة فنيّة موحّدة» لا يمكن اختراقها.
- الناحية النفسية: اعتبرت هذه التعبيرات لاسيما من خلال رقصتي «بوسعديّة» و«الزڤارة» انعكاسا لجملة المشاعر الحزينة التي عاشتها الجذور والأصول الأولى أفراد هذه المجموعة خلال الحقب الزمنيّة الماضية أثناء عهود العبوديّة وما صاحبتها من ظلم وإستبداد والتي لازالت حاضرة في ذاكرتهم الجماعية.
- الناحية الاقتصادية: تعتمد عناصر المجموعتين كليّا على نشاطها الفنّي هذا من أجل الإسترزاق منه، فهو يمثّل المصدر الأساسي لدخلهم المادي ولا يمتهن أغلب العناصر مهنا أخرى سواها. وبذلك فهم يقبلون على إحياء جميع المناسبات الاحتفالية الخاصة والتظاهرات الثقافية العامة بما في ذلك تنشيط العروض السياحية داخل الفنادق والنزل بالجهة.
- الناحية التعبيرية والتواصلية: احتل الجسد في هذه الناحية اللغة التي عبّرت عناصر هذه المجموعة من خلالها عن مشاعرهم وأفكارهم الرافضة لممارسات الماضي القريب الذي سلّط عليهم قصرا فاستحضروه بحركات متتالية ومتسارعة لإبراز قدراتهم الجسديّة وبضربات عصيّهم القويّة وبرموز جسدية تعرض أمام حضور قادر على فهم معانيها وفكّ رموزها. إضافة إلى ما يحمله هؤلاء العناصر من رمزيّة في اختيار ألوان لباسهم الذي يتكوّن من :
«الجَّلْوَالِي»: وهو ذلك اللّباس السفلي الذي يتخذ لون الأحمر رمز الحرارة، الخطر، الغضب، الإثارة والنشاط.
«الفرملة»: تلبس من الأعلى فوق الجمازة وتكون مفتوحة من الأمام ويختارون لها ما بين اللون الوردي والأحمر (عند تغيير لون «الجَّلْوَالِي» إلى الأبيض) أو لون الأخضر كرمزية للأمن والطمأنينة والهدوء.
«الجمازة»: التي تكون دائما في لون الأبيض رمز النقاء والصفاء والفضل.
كما يجدر بنا في آخر هذا المحور أن نذكر بعض الاستنتاجات الإضافيّة التي لا يمكن التغاضي عنها لما تمثّله من أهميّة :
لا ترتبط التعبيرات الجسديّة لدى «الڤُوڤُو» بالجانب الطقوسي-الدينيّ أو الطقوسي- العلاجي، ولا يمكن أن نجد تقاطعات مع مجموعات «الصطمبالي» بمختلف تفرّعاتها باستثناء مشهديّة «بوسعديّة» التي لم تستعملها مجموعة «ڤُوڤُو» جرجيس إلّا من أجل إثراء عروضها التنشيطيّة واستغلال هذه الصفة لرقصتها من أجل إبراز المخزون الثقافي اللاّمادي للممارسات الاحتفالية لدى الأقليّة السوداء بالبلاد التونسيّة، ولم تكن استعارة هذه الرقصة لغرض طقوسي علاجي أو لتشكيل عناصر علاجية لذلك.
جاءت الممارسات الموسيقيّة والتعبيرات الجسديّة لمجموعة «ڤُوڤُو» جرجيس من حيث بعدها الإفريقي من خلال استعمال التراكيب والخلايا الإيقاعيّة المستعملة لديها وبالاعتماد على الإيقاع أساسا كمصدر للحركة الجسديّة. والاحتفاظ ببعض التقاليد للرقص الإفريقي المتجسّدة في الرقص بأقدام حافية مهما تنوّعت الفضاءات لعروضهم وباستعمال العصي التي غالبا ما تكون حاضرة ومألوفة أثناء العديد من الرقصات الإفريقية أو ذات الأصول الإفريقية.
ترتكز هذه التعبيرات الجسديّة على الجانب الإيقاعي من خلال توظيف عدد غير محدّد لآلة «الطَبَّالَة» من أجل هدف حسّي وبثّ الإثارة والتحفيز لبلوغ مراحل من «الجَذِبْ» الخاص بهذه الأقليّة (الذي يعرف محليّا «ببُورِي الوِصْفَانْ» ومنه تتجسّد حركات العناصر «الهستيريّة» المنظّمة والبلوغ بها إلى مشهديّة إبداعيّة وفريدة( كرقصة «الزڤارة» ورقصة «الڤُلَّة» وما تتطلّبه من تركيز وبنية جسديّة على حد سواء). وهو ما يفسّر عدم إيلاء الجانب اللّحني أهميّة في ممارساتهم، فهو لم يمثّل سوى إثراء للجانب الجرسي (باستعمال آلتي «الزُكْرَة» أحيانا أو «المِزْوِدْ» أحيانا أخرى) إلى درجة أنّ إحدى هذه الآلات («الزُكْرَة») لا تتوانى في تكرار نفس الجملة اللّحنية على طوال رقصة «الزڤارة». فقدت الرقصات التعبيريّة في الفترة المعاصرة بعدها الدلالي والرّمزي وتحوّلت إلى مجرّد مشهد فرجويّ وترفيهيّ وتنشيطيّ يرمى من ورائها غاية ماديّة وأصبحت بمثابة منتوج ثقافيّ اقتصاديّ فتحوّل بذلك من موروث شعبيّ لثقافة محليّة إلى ظاهرة فلكلوريّة مناسباتية.
الهوامش
1. بلال (عبد الهادي)، "دلالات التعبير لجسد صائم عن الكلام"، جريدة الشرق الأوسط، العدد 10627، 2 جانفي 2008.
2. الأشقر (إكرام)، الرقص لغة الجسد، ط.1، دار الفرات، لبنان، 2003، ص.61.
3. ZEMP (Hugo), livres-disques présentés et édités par la collection CNRS/Musée de l'Homme : "les danses du monde" (CNR 574 1106.07), "instruments de musique du monde" (CNR 274 675) et "les voix du monde" (CMX 374 1010.12).
4. لقاء إذاعي مع الحسين جرتيلة في برنامج تراثي "البرنوس" من تقديم الطاهر الراجح على موجة فم بتاريخ 26 فيفيري 2016.
5. الغرناطي (أبو حامد محمد)، رحلة الغرناطي: تحفة الألباب ونخبة الأعجاب ورحلة إلى أوروبة وآسية، ط.1، حر. قاسم وهب، بيروت، المؤسسة العربيّة للدراسات والنشر، 2003، ص.30 - 31.
6. قطاط (محمود)، "من ملامح التراث الموسيقى بجزيرة جربة"، دراسات حول جزيرة جربة، جمعية صيانة جزيرة جربة، 1995، ص.190.
7. https://sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=print&board=5&msg=1021326470&rn=2.
8. WILLIAM (James), Le pragmatisme, Flammarion, Paris, 1979.
9. حفيظ (سلوى)، حفيّظ (سلوى)، الرقص في الثقافة الإسلاميّة، جذوره وأبعاده وتمثّلاته، تونس، مركز النشر الجامعي،2012، ص.243.
10. حفيظ (سلوى)، العنوان السابق، ص.188.
11. وهو طبل كبير له شكل برميلي خشبي يتراوح قطره بين 60 و80 صم، لا يوجد بكثرة في البلاد التونسيّة تكاد جربة تنفرد باستعماله فالطبل الجربي أكبر من بقيّة الطبول المستعملة والمنتشرة في بقيّة المناطق التونسيّة.
12. حفيظ (سلوى)، العنوان السابق، ص.139.
13. مستعملو البارود في سلاحهم المصاحب لرقصاتهم.
14. نوع من البنادق صغيرة الحجم مخروطية الفوهة، يتمثّل دورها إطلاق البارود أثناء الرقصات.
15. المصمودي (محمد)، أنثروبولوجيا الإيقاع في المجال الواحيّ، منشورات سوتيميديا للنشر والتوزيع، مركز تونس للمنشورات الجامعية في العلوم الموسيقية، مخبر البحوث في الثقافة والتكنولوجيا الحديثة والتنمية، تونس، 2016، ص.155.
16. على غرار الباحث زهير قوجة الذي قام بإعداد أطروحة دكتوراه والتي تناول في إحدى محاورها مجموعة "الڤوڤو" لجزيرة جربة.
17. جاء هذا التصنيف للأوضاع الجسميّة حسب الباحث جيلين ويلسون على أربعة أنواع: الاقتراب أو الإقبال- الانسحاب- الامتداد- التقلّص أو الانكماش.
18. ويلسون (جيلين)، سيكولوجية فنون الأداء، تر. شاكر عبد الحميد، مر. محمد عناني، عامل المعرفة، العدد218، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، ماي 2000، ص. 225.
19. ويلسون (جيلين)، المصدر نفسه، ص. 202.
20. BLOCH (Suzana), ORTHOS (Pedro). SANTIBANEZ (Guy), " Effector patterns of basic emotions: a psychophysiological method for training actors ", Journal of Social and Biological Structure , 10,1987 , p.12.
21. ويلسون (جيلين)، العنوان السابق، ص. 183.
22. SMITH, (Karl Ulrich), " Facedness and its relation to musical talent", Journal of the Acoustical Society of America, New york, 1984, p.1906.
23. كامل (عبد الوهاب محّمد)، علم النفس الفزيولوجي: مقدمة في الأسس السيكوفسيولوجية والنيورولوجية للسلوك الإنساني، ط.3، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، 1997، ص.162.
24. عبد الخالق (أحمد محمّد)، أسس علم النفس، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية، 2005، ص.143.
الصور
- من الكاتب.