فصلية علمية متخصصة
رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم
العدد
67

البـلاص حامل مياه النيل

العدد 9 - حرف وصناعات
البـلاص حامل مياه النيل
كاتبة من مصر

كان لوجود نهر النيل في مصر والاستقرار الانساني على ضفافه أعظم الأثر في ازدهار صناعات وفنون عديدة منها فن الفخار،  وهو فن له خصوصيته وطرزه المختلف ، فالمنتج الفخاري منتج نفعي له شكل جمالي ، يحمل قيم التشكيل من خلال شكله و الرموزالمنقوشة والمحفورة عليه  ، والتي تمثل فكرالجماعة الشعبية وقيمها في بساطة ، وهو ما يمثل انعكاسا للتراكمات الحضارية المرتبطة بالمكان على مر العصور.

لقد ارتبط الفخار بالحياة اليومية حيث ساير طقوس الزواج والإنجاب والحمل والوضع واحتفالية الميلاد (السبوع)، كما أن طقوس الموت شاركت فيها المنتجات الفخارية، فقد تواجدت في الحوش والقبر والجبانة،كما ارتبط الفخار بالسحر والكتابة على سطحه الطينى قبل تعرضه للحريق، وعندما يحرق على حالته هذه لا يستطيع أحد محو تلك الكتابة التي غالباٌٌما تستهدف الضرر1.

وفي قنا بصعيد مصر يوجد أكبر تجمع لتصنيع الفخار، والتي أجرينا دراسة ميدانية  عليها2، ومن أشهر هذه الأشكال «البلاص»، حيث كان لهذا الشكل الفخاري المتميز مكانته في مصر على مر العصور.

لقد ساعد موقع قنا في توفر خامات التصنيع لوجودها على ضفاف نهر النيل حيث توافر الطمية السوداء، كما ساهم وجود الجبل الغربي على حدود قنا على توفير الطفلة التي تعتبر أساس عملية التصنيع، وقد ساهمت الوديان وممرات السيول التي تشق محافظة قنا والقادمة من جبال البحر الأحمرعلى إمدادها بطينة السيل التي تسمى (بالحيبة الصفراء)3.

كما ساهم مناخ قنا الجاف في إتمام عملية جفاف الأشكال الفخارية بالشكل المطلوب، ولأن محافظة قنا محافظة زراعية فقد ساهم ذلك في تنوع الوقود المستعمل في حرق الفخار سواء كان بوص ذرة أومخلفات قصب السكر وخلافه وهو ما انعكس بشكل كبيرعلى جودة الحريق.     

هذا وقد وجدت آثار فخارية كثيرة في منطقة تسمى «نقادة» بقنا، وهي ذاتها منطقة حضارة نقادة الأولى والثانية والتى عرفت في عصر ما قبل الأسرات (منذ أكثر من عشرة آلاف سنة)، وتشمل هذه الحضارة جبانات أرمنت، وخزام،ونقادة،وبلدة البلاص. كما اكتشف «كيوبيل» العالم الأنجليزي «جبانة البلاص» الموجودة في مركز المحروسة  (البلاص سابقا)، وبها محتويات تسعمائة مقبرة  كاملة ومن بينها الفخار4.

والبلاص ينتشر في شتى ربوع  مصر غير أنه لا يصنع إلا بقنا حيث تركزت صناعته في مركز المحروسة  وهي البلدة التي تعتمد على البلاص فقط في دخلها الرئيسي..، وكان في السابق يصدر للسودان ولكن بعد دخول المياه للمنازل قلت الحاجة إليه ليعتمد الناس على الثلاجات وزجاجات السوائل والأواني المختلفة في خاماتها وأحجامها، التي تصنع من البلاستيك وخلافه ..

ويتم العمل داخل ورش تصنيع البلاص بطريقة منظمة تعتمد على عدد من الحرفيين المهرة، حيث يتم تجهيز الطينة بداية من غربلة الخامة وتنقيتها من الشوائب ثم نقعها ودوسها (أي دهسها بالأرجل) وضربها مرة أخرى كى تصبح جاهزة للعمل.

ويقوم الصبي بإمداد الفخراني بالطينة اللازمة للتشكيل على عجلة الفخار التي تسمى(بالحجر)، حيث يقوم بتقطيع الطينة بأحجام متساوية دون الاستعانة بميزان، وينجح فــي إخراج قطع طينية بأحجام وأوزان تناسب حجم البلاص المراد تشكيله.

وبعد تجفيف الشكل، يتم رص البلاص في الفرن عن طريق شخص متخصص، يساعده صبي يناوله الأشكال من مكان جفافها، كما يناوله المكسور من الفخار لتغطية الفرن، وغالباً لا يعمل المسؤول على رص الفرن في ورشة واحدة بل يمر على الورش التي تحتاج لرص أفرانها  أيضاٌ، وتستغرق هذه العملية حوالي ساعة ونصف تقريباً حسب عدد الأشكال المراد حرقها ونوعها وحجم الفرن الذي ترص فيه البلاليص.

 

ألقاب العاملين في الفاخورة:

هناك ألقاب للعاملين في الورشة تختلف باختلاف تخصصاتهم5،  وهذه الألقاب هي:

كبير الفخرانية: وهـو شيــخ المهنـة الأكبر سناً والأكثر منزلة بينهم.

المعلم: صاحب الـورشة المسـؤول عـن إدارتها ومالياتها ويكون غالباً فخرانيا.

صنايعي: وهـو الفخـراني المسـؤول عـن عملية تشكيل الطين داخل الورشة.

المناول: الصبي الذى يقوم  بمناولة الطين للفخراني.

العمال: وهم المساعدون في كل مراحل العمل.

 

أما الأدوات التي يستخدمها الفخراني في تشكيل منتجاته الطينية فهي:

الشاطوف: أداة معدنية لها شكل هندسي ولها عدة أحجام حسب المنتج الفخاري الذي تستعمل فيه..

الخيطة: خيط من البلاستيك الغليظ مربوط في نهايتها قطعة خشبة تستعمل في فصل الشكل الفخاري عن قرص التشكيل.

السادف: قطعة معدنية مربعة الشكل لها فتحة في المنتصف يدخل منها إصبع الفخراني، حيث يتم بها التشكيل على عجلة الفخار.

الجارودي: قطعة معدنية عل هيئة حرف (L) طولها 20 سم تستخدم في عملية الجرد وحذف الزائد عن الشكل الطيني.

العجلة الدوارة (الحجر): تتكون من قرص حديدي وقرص خشبي  مثبتين على عمود رأسي حديدي يدور على رمان بلى بواسطة  الأرجل عن طريق تحكم الفخراني بقدمه الموضوعة على القرص الخشبي وتدويرها،حيث  تقوم بتحريك القرص العلوي الحديدي الذي يحمل عليه الشكل الطيني.

الغربال: إطار خشبي مساحته مترفي متر ، مثبت عليه سلك معدني يستخدم في فصل الشوائب عن الطين المنقوع.

المحفار: قطعة حديدية تستخدم في حفر قاعدة الشكل الطيني.

الخامة: تستخدم الطفلة فقط في تشكيل طينة البلاص وذلك لانها خامة خفيفة وجيدة الرشح بعد حرقها واكتسابها صلابة.  كما تعتمد الطفلة في مكوناتها على معادن الطين من سلكيات الألمنيوم المائية، التي عندما تخلط بالمياه تصبح سهلة التشكيل.

فالخامة متوفرة في منطقة البحث ويتم استخراجها بشكل تقليدي حيث تُكسر وتنقل بالسيارات في زمن قصير (حوالي عشر دقائق). وكانت في السابق منذ حوالي خمسة عشر عاما تقريباٌ،  تنقل على ظهور الجمال في حدود ساعة ونصف الساعة .

 

التحليل التشكيلي للبلاص

   كان للبلاص أشكال عديدة في السابق و تتكون من نفس الأجزاء التي يتكون منها البلاص الحالي مع بعض الاختلافات البسيطة، كما كانت تتفق تقريباً في نسب هذه الأجزاء  مع بعضها البعض. وقد كان لجماله وتناسق أجزائه ما زاده من جمال على جمال عند حمل المرأة له . كما نلاحظ أن جماله قد ارتبط بالمرأة الجميلة «حاملة البلاص» والتي تناولها العديد من الفنانين التشكيليين وأشهرهم النحات محمود  مختار,  الذي استلهم البلاص والمرأة حاملة  البلاص في الكثيرمن منحوتاته و جدارياته خاصة الموجودة في قاعدة تمثال سعد زغلول في القاهرة..كما كانت المرأة حاملة البلاص ملهمة للعديد من المصورين الذين تناولوها في أعمالهم .

وعلى مر التاريخ الحديث رسمت لوحات عن مصر سجلت مظاهر الحياة اليومية، فقد سجل المستشرقون وعلماء الحملة الفرنسية العديد من النساء حاملات الجرار لتظهر روعة الرداء وطريقة شد الثوب بيد ورفع الأخرى على (البلاص) لتحدث التوازن في مشيتها، وهو ما اشتهر عن المرأة المصرية التى تسير ممشوقة القوام تحمل بلاصا على رأسها في شكل انسيابي، ليتم تكامل الجمال وتبادله بين السيدة وشكل البلاص، وبين نسب البلاص وعلاقة كل جزء بالآخر، لتحقيق الانسجام الموجود بين  وزنه بعد ملئه بالمياه وشكله حين يتم حمله، وهذا ما أثر بشكل كبيرعلى استمراريته  واستخدامه في الحياة اليومية حتى اليوم، رغم كل ما يحدث من انسحاب لموروثات شعبية كثيرة .

 

أجزاء البلاص

يتكون  البلاص من عدة أجزاء على النحو التالي :

عنق : يشبه عنق الإنسان . قصير نسبياً عن جسمه المخروطي وذلك للتحكم في المياه المنسابة منه.

فوهة : ضيقة نسبياً ولكنها تحافظ على ما بداخل البلاص من السوائل حتى لا تنسكب.

بدن : يشبه القمع ينتهي بقاعدة متسعة نسبياً عن بدايات الجسم.

مقبض : مقبضان متقابلان ليساعدا في حمل البلاص وتحريكه من مكان لآخر.

قاعدة : محدبة الشكل تسمح للبلاص بالارتكاز عليها كما تسمح بلفه وتدويره عند الحاجة إلى سكب  السوائل الموجودة بداخله . كما أن ارتكاز البلاص على القاعدة بميل لا يسمح بدخول الشوائب  إليه ، وقد ساهم اتساع أسفله في حمل كمية كبيرة من المياه.

وقد انحصرت أنواع البلاليص في شكل واحد متعدد الأحجام على النحو التالي:

- بلاص حجري ويحمل (70رطلا) وارتفاعه 70 سم.

- بلاص خماسي ويحمل (45رطلا) وارتفاعه55 سم.

- بلاص جنطار ويحمل (30رطلا) وارتفاعه 50 سم.

- بلاص زراوية ويحمل (20رطلا) وارتفاعه 50 سم.

- بلاص ستات ويحمل (6رطلا) وارتفاعه 30  سم.

- بلاص عسالي ويحمل (3رطلا) وارتفاعه 45 سم.

- بلاص تمن ويحمل (1,5رطلا) وارتفاعه 30 سم.

كما  تركزت استخدامات هذه الأشكال في حفظ السوائل والأطعمة السائلة وتخزينها، كما استخدمها (المعماري الشعبي) في بناء المنازل والأسوار وأبراج الحمام وغيرها من البنايات..

 

وظيفة البلاص

عرف عن البلاص منذ القدم أنه خفيف الوزن، ولذا ظل محتفظاً بإمكانياته في تخزين المياه وسهولة استخدام السيدات له وخاصة في الأماكن التي لا تصلها مواسير مياه صحية.. وإن كانت الأواني البلاستيكية والمعدنية قد حلت بعض الشيء مكان البلاص في منطقة البحث، إلا أنه مازال يقع عليه العبء الأكبر في عملية تخزين ونقل المياه..

ونلاحظ في العديد من المنازل وفي الشوارع الموجودة بقرية المحروسة والقرى المجاورة لها، وجود البلاليص في الأركان بدلاً من الزير ليشرب منه المارة، حتى أن المنازل لا تخلو من بلاص لشرب المياه مثبت على قاعدة حجرية، وقد استحدثت عادة فتح البلاليص من أسفل وتركيب صنبور معدني بالجبس. كما ان هناك علاقة ألفة بين البلاص وكافة الأماكن في قرية الدير، حيث يوجد في الحقول وفي المناطق غير الآهلة بالسكان كالمقابر وغيرها ليشرب منه عابرو السبيل..

ويستخدم البلاص ضمن أدوات الطعام حيث يتم تخزين العسل الأسود الذي يحافظ بدوره على عدم تغير طعم العسل ورائحته لفترة زمنية طويلة.

كما يخزن به الجبن القديم، وهوجبن يضاف له قشر البرتقال وقشر الخيار وشرش الجبن ليستعمل على المدى البعيد، كما يحافظ على تخزين المقبلات من المخللات، ويحافظ عليها من الفساد وبقائها لمدة طويلة.

 

استخدام البلاص في التشكيل المعماري

هناك منازل عديدة في المحروسة تعتمد على البلاص في بنائها بشكل رئيسي، بل أن هناك منازل قديمة صنعت من البلاليص تعدت عشرات السنين وما زالت قائمة تقاوم الزمن. حيث يتم توظيف البلاليص التي لا تصلح للاستخدام في وظيفتها الأساسية لبناء الجدران والمنازل والأسطح العليا وسد الفتحات وغيرها، وتقوم فكرة إعادة توظيف البلاص على الاستفادة من:

- توفرالبلاليص بشكل دائم في الأسواق بما يضمن بيعه بأسعار رخيصة في متناول أهالي القرية..

- إعتام الشكل الفخاري حيث لا يكشف عن الأشياء التي تقع خلفه.

- إمكانية الاستفادة من فراغ الشكل الداخلي بجعله بديلاً للدرج توضع  فيه أشياء وروافع .

- الترميم وإعادة البناء ليس مكلفاً لهذه المنازل المشيدة بالبلاليص ، وهو ما يسمح بانتشارها وتعدد طرق الاستفادة منها فضلا عن تكلفتها البسيطة.

- تعود السكان على المنازل المبنية من البلاليص وتآلفها  مع نشأتهم.

- تأثر البلاليص بأي صوت بما ينذر أهل المنزل بما يحدث في الخارج.

- ملاءمة البلاص للبيئة الجنوبية حيث يقوم بترطيب وحجز درجات الحرارة المرتفعة.

عيوب البناء بالأشكال الفخارية

يعتمد التشييد بهذه الأشكال الفخارية على البناء الأفقي، ولا يصلح الاعتماد عليها في البناء الرأسي،  وهو ما يعني استحالة تحمل الأحمال القوية. كما يلزم  الصيانة المستمرة لهذه المنازل نظراً لتأثرها بالأمطار وتهدمها في حال تعرضها للسيول.

البلاص والسحر

اقترن الفخار بالسحر فالاعتقاد السائد هو أن أي شكل طيني يُمكن استعماله في السحر لو تم التدوين عليه بما يريده صاحبه، وبالتالي ظل هذا الاعتقاد السائد لدى الفخرانية، حيث أنهم يعتقدون أنه في حال بيعهم لأي قطعة طينية تم تشكيلها ولم تحرق سيتم الكتابة بالسحر عليها . وهو ما ينعكس بالضرر على الفخراني الذى شكل  تلك القطعة إما بالمرض أوبالعجز الكامل (الشلل) أو (النحس) بغلق فاخورته، ويرجع هذا الاعتقاد إلى المصري القديم حين كان السحر يتم بتدوين المرغوب فيه على قطعة طينية ثم تحرق لتصبح فخارا ويتم إلقاؤها في النهر، وهي بذلك لا تبلى ولاتمحى، وتصيب صاحبها طوال الحياة.

 

البلاص والزواج

هناك نوع من البلاليص يطلق عليه بطة العروسة وهو أحد أنواع البلاليص الذي يصنع خصيصاٌ للعروس، له أربعة مقابض أوأكثر كانت العروس تشتريه ضمن حاجاتها قبل زفافها لتستخدمه في الصباحية عند زيارة الأم والأصدقاء.  ويعتبر رمزاً من رموز الخير والسعادة. تحكي زوجة لمزارع في الدير الغربي «كل واحدة ليها بطتها تشيلها طول العمر، وهى بلاصة تَّشرب ضيوفها منها يوم الصباحية، بعد ما تكون خشت.. عشان تضمن تعيش سعيدة والناس تقول لها إسجينا من بطتك».

 

البلاص وصدقة المياه الجارية

في مجتمع فقير كالمحروسة تتجلى صور صدقة المياه الجارية وذلك في الحوش والقبر والجبانة، حيث ينتشر البلاص المضاف له صنبور عند مؤخرته في محاولة ليصبح سهلاً في استعماله وحتى لا يحركه من يريد الشرب حيث يثبت على حامل معدني.

بعد قراءتنا لجماليات البلاص ووظيفته نطرح تساؤلا :

هل سيتراجع البلاص ويختفي؟ أم سيصمد ويستبدل وظيفته التى انتفت؟ أم سيحافظ على هويته أمام المنتجات الأخرى؟ هل سنعيد توظيف البلاص بما يناسب الحياة الحديثة ليعيش الشكل وتتبدل الوظيفة، حتى لا يندثر شكل آخر من منتجاتنا الشعبية ؟

 

الهوامش

(1) عبد الغني الشال. الفخار الشعبي في مصر، مجلة عالم الفكر العدد الرابع – المجلد السادس، يناير/ فبراير / مارس، 1976م.

(2) ايمان مهران. الفخار الشعبي – دراسة ميدانية في مدينة قنا بصعيد مصر، أطروحة ماجستير، المعهد العالى للفنون الشعبية، أكاديمية الفنون بالقاهرة، 2005م .

(3) المجلس القومى للإنتاج والشؤون الاقتصادية، الثروة السياحية في قنا والأقصر، القاهرة، 1987م.

(4) رمضان السيد. تاريخ مصر القديمة، الجزء الأول، القاهرة، هيئة الآثار المصرية، 1988م.

(5) أسعد نديم.  فنون وحرف تقليدية من القاهرة، القاهرة: العلاقات الثقافية الخارجية، وزارة الثقافة، 1998م.

أعداد المجلة