المختلف والمؤتلف: تعدّدت البحور السلامية والنغم واحد. الجزء الثاني
العدد 58 - أدب شعبي
لعلّه من المفيد أن نورد مفردة نغمية واحدة متجسّمة في ثلاثة نماذج مختلفة ومن الصالح أن نتناول بالتحليل معانيها ومغانيها.
يتمثّل الأنموذج الأوّل في مدحة مشتركة بين منشدي السلامية وعنوانها «صلاة الله على ابن مريم».
أمّا الأنموذج الثاني فيتجّسم في ما يسمّى «بحرا» من بحور السلامية وهو بدوره شائع بين المنشدين، وأمّا الأنموذج الثالث فتجسّده مدحة:
يا سيّد يا صاحب الجاه يا صاحب رسول الله
والجدير بالملاحظة في هذا الشأن أنّ كلماتها من شعر الشيخ عبد المجيد بن سعد، وأنّ ألحانها وأوزانها من صنعته و صياغته كذلك.
وهذه المفردات الثلاث –كما يبدو- هي في الآن نفسه مختلفة مؤتلفة، مختلفة في مناسباتها وموضوعاتها وأغراضها وأجناسها وألحانها وبعض أوزانها، ففي حين تنسب كلمات الأولى إلى شيخ(1) من شيوخ التدريس بجامع الزيتونة(2) يعزى تلحينها إلى أحد أعلام السلامية وهو الشيخ العروسي بن خميس(3) تعتبر قصيدة «يا بن مراد» قسما من أقسام(4) بعض البحور السلامية(5) بينما تعود القصيدة التالية «مجيدية»(6) صرفا من حيث الإنشاء والتلحين والأداء وسائر مراحلها، فهي من صنعته دون غيره ومطلعها كالآتي:
يا سيّد يا صاحب الجاه يا صاحب رسول الله
وهي من أكثر القصائد تردّدا على ألسنة الناس إذ يتغنّى بها جميعهم في المناسبات الدينية وخاصّة بمناسبة المولد النبوي الشريف، هذا الموعد السنوي الذي يُحتفى به رسميا وشعبيا في مدينة القيروان باعتبارها عاصمة من العواصم الإسلامية.
ولعلّه يحسن لمزيد التعريف والتوضيح استعراض العيّنات الثلاث بنصوصها، ونبدأ بالقصيدة التي مطلعها:
ســلام الله علــى ابــن مـــريـم(7)
عيــــسى روح الله بـــه عـلــــم
وهذه بقيّة متنها:
سبحــان اللّـــي صــوّره وانشــاه(8)
في بَطــن امّـه بنـت بكر فــداه
لا حــدّ يعلــم أيــن هــو بَــابــاه
كـان الله الــواحــــدِ الــدايــم
يـا الإخــوان حـين ظـهـر واشــتد
وتحـــرّك في بطنـــها ورشــــد
قالـت يـا مـولاي منـك الجُـهد
يا خالقي فوّضت إليك الحكم
حـــين بــرز الســيد(9) المــولــود
ونــزل بــإذن الـــدايـــم المعــبود
سبحـان العـاطـي محــلّ الجــود
نطــق لامّــه بـــالحـــقّ وتكلّــم
قــال لـهـا لا تحـزنــي(10) بـأحـزان
يحــقّ الحـــقّ ويبــطـل البهــتان
هــزّي النخـلة واطلـبي الـرحـمان
يسقـط ليِـك منـها رُطـب نعَـم(11)
هـــزّت ذاك الجـــذع بهــزّات
بحـول الله سقطــوا لـهـا رطـبات
اكـلاتهـم وتحمّـدت ومشــات
وهـي بـالمـــولـــود تـــتـــــنـعّم
طلّـــت عمّتــها مـــع النســوان
حلّــفتهـــا بجمــلة الأيـمــــــان
يــا مــريم مـــا أنت مـن عمــران(12)
ولا أنــت يــا مــريــــم مــن آدم
يـــا مريـــــم بــالله آش نبــاك
عيـد لـنا القصّة علـى مـرضــاك(13)
دنسّـتِ عـرضـك مع بـابــاك
وخوك وجميع قبـــيلتك والأمّ
قالـت اســألــوه(14) يعـيد أخـبار
قـالـوا لــه مــن بـوك ذا النـهار
قــــال أنـــا مــــن روح الجـــبّار
نـــا عيــــسى للّـــي بقــى يعـلم
قـالـوا هـا المـولـود مـن هــو بــوه
قــالت لهــم دونكـم واسـألـوه
قـالـوا لهـا كيـفاش نخــاطــبوه(15)
قــــال أنــــا صغـــير ونتكـلّم
قـالــوا لــه يـا طفل تـسحـــرنــا
بكــلامـك ذا الـوقـت تفـتنّــا
ومـــا تمـشي حــــتّى تجـــادلـــنا
وتشــرّكـنا في ديننـا بـالـوهــم
قــال لهــم أنــا مــا علـيّ في حـدّ
ولا نيــشي جـــباّر(16) ولا مفــسد
نـا عيسى مـن روح اللّـي مـا نِجحـِـد
رازقـني ربّـي الكــريــم الــفهـم
رحلــت بيه أمّــه لــبلاد أخـــرى
علـى عيـسى خـافـت من الكَفره
حطّــته عــند الـــفقيـــه يَقـــرا
صـــار يعلِّــم في الفقــيه العِــلم
قــال لـهـــا مــن علّــمـه وقَـــرّاه
قالـت لـه ربـّـي الكريـم أعطـاه
فهّـمـــه في العـــلــــم ونجّـــــاه
وفـوّض عـنه مــن بحــور العـلــم
حطّـــته أمّــــه عـــند الصـــبّاغ
يصبغ في النيـله(17) وكـلّ دبــاغ
أخضـر وأحمـر وكـل مـا يصــبغ
وجـمعهــم في خــابيــة وبـاللّــم
قـــالوا لـــه آش الـــذي تــفعــل
يـا ولـدي فـسّـدت لـينـا الـشغـل
مـن سحـرك مـا عـادشـي نـقبـل
روّح لامّـك مـا بـقيتــش تخــدم
قـال لـه هـا يـا جـاهـل بــلا حـمد
لا عــندي كــــذب ولا أســـد(18)
صـبغ اليـوم خـير مـن صـبع أمـين
وإذا نمــشي علـيك عــم تنـــدم
عند هذا الحدّ ينتهي متن القصيدة، وهي على وزن «بورجيلة» وحينئذ يضيف إليها منشدها ما يسمّى بالتهليلة، وهي في هذا المقام عبارة عن ثلاثة أبيات مقتضبة، وهذا نصّها:
الله الله الله لا إلــــه إلاّ الله
قاصد فضل الستّار ليس عندي غَيره
حنين وكريم وغفّار يطعمنا من خَيره
وليست هذه التهليلة سوى القسم الأخير من البنية الثلاثية التي تندرج فيها هذه القصيدة التي يفتتحها الشيخ عبد المجيد بن سعد بمقطّعة شعرية منظومة باللغة الفصحى، وهذا نصّها:
يـا نــبيّ الـهــدى تحــيّة قـلـــب
مستهـام إلــى لقـائـك صــادي
أيّ خــــير ورحـمـــــة ورشــــاد
ولــدت معـــك ليـلة المـــيلاد
حفّـك الله بالكمـال وصــافـا
كـ بخـــير الآبــــــاء والأجــداد
وبطـون بـرئـن مـن لـوثــة الـعــا
ر وعيـب الهــوى عـلــى الآمــاد
حـلّ فيـك الـعفـاف والشـرف
المحض محـلّ الأرواح في الأجساد
وليس إيراد الأبيات السابقة بالسمة الوحيدة التي تميّز مثل هذه البنية الثلاثية التي لا تخلو من إحكام، فقد تضمّنت هذه المقطّعة الشعرية ظاهرة معيّنة تسمّى «الرابط»، و«الرابط» عبارة عن صلة معنوية تربط المقدّمة بالمتن وتشير من طرْف خفيّ إلى ما يتضمّنه البيتان الرابع والخامس من عفاف مريم العذراء ونقاوة عرضها وشرف محتدها.
وبالعودة إلى متن القصيدة يتبيّن الدارس أنّ موضوعها عبارة عن قصّة شيّقة الأسلوب مبسّطة المنحى لمعجزة السيّد المسيح عليه السلام وأمّه مريم البتول. وقد صيغت تفاصيل القصّة بظروفها وشخوصها وأبطالها ومراحلها وسائر أحوالها (بما فيها العقدة وحلّ العقدة) بلهجة سهلة يتداولها النّاس ويستوعبون مضامينها وأحداثها من غير عنت ولا مشقّة. ويزيد من تحبيبها إلى عامّة النّاس وزنها(19) الشعبي الأليف وهو «مدوّر حوزي» الذي تسيغه الذائقة الشعبية وتستحسنه لتوازنه واعتداله وقابلية إيقاعه المتردّد لاستعداد الراقصين للرقص على نقرات «البندير»(20)، نقرات تناسب تأوّد الجسوم وتمايل الأبدان على الأيمان والشمائل أو إلى الأمام وإلى الخلف زيادة على الصوت الأخير الذي ينتهي به الغصن الأخير (المسمّى بالمكبّ). والصوت الأخير هو صوت «الميم» ذو المقطع الطويل المنغلق الذي يجمع في الآن نفسه بين طابع الشدّة ذات الرجّة والضجّة من ناحية وطابع اللين والنغم الذي يشتمل عليه صوت الميم باعتباره –حسب علماء الصوتيات-من «الوقفيات نصف الرنّانة»(21) ذات التنغيم المعلوم والوضع الخاصّ باعتبار أنّ القافية(22) هي آخر ما يقرع الأسماع.
أمّا الأنموذج الثاني الذي نرى من الصالح إثبات نصّه بهذا المبحث فهو بعنوان «يا بن مراد» إذ يخاطب فيه الشاعر طرفا من الأطراف مخاطبه المفرد. غير أنّ بعض الروايات تعتبر أنّ صاحب القصيدة يخاطب «بني مراد»، وهم –حسب المتداول عند الناس-أخوال الوليّ الصالح المعروف باسم «سيدي عبد السلام الأسمر».
ويبدو أنّ مبعث القصيدة مردود إلى خلاف نجم بينه وبين أخواله من «بني مراد» الذين يعتبر أنّهم نقضوا العهد وخالفوا متطلّبات الخؤولة وخانوا ابن أختهم الذي حاول أن يعيدهم إلى جادّة الطريق عسى أن يتوبوا رجوعا إلى الله. لكنّهم تجاهلوا مساعيه وأنكروا محاولاته وعاندوا مكابرة وجهلا وغيّا. عند ذلك لم يكن من الشيخ عبد السلام بن سليم إلّا أن غضب وعزم على أن يتوجّه إلى الله بهذه القصيدة العامرة بالتهديد الزاخرة بالوعيد. يقول منشئ القصيدة في مستهلّها:
إن قــدّر الله يـا بـن مـراد نركب جواد(23)
نجيك منين اشتهيت العناد
إن قدّر الله نركب عتيد(24) ونلبس جديد
ونجيك سكران راسي يميد
نفزّع(25) لسي عبد الحميد(26) وتربة زياد(27)
على الله ما عادش تستفاد
إن قدّر الله نركب رباع(28) متين الذراع
نجيك منين اشتهيت النزاع
نرميك في بير لا لوش قاع تغدي رماد
عظم مكسّر ما له من ضماد
بابا وغوثي نعم الحبيب
نراكم نفرح ويطفى لهيبي
بيك شفاي وأنت طبيبي
والقلب [يغلي] بناري قويّة
إن قدّر الله نركب حصان نجي بالبيان
ننقل سيفي كما عود زان(29)
نحـــن نـهــــار الـــبـلا(30) [يا فلان] نحلّوا العقاد
نجلو الكرب على هذي البلاد
إن قدّر الله نركب أغرّ(31) ونجي مشتهر(32)
ننزل كما الرعد إذا رزم(33)
تندم وما لك عندي ندم وما لك تلاد
دفعوك بدفوع ما له رداد
كيف آش المغيبه والهجر واعر
حاجه صعيبة والشيخ ينغر
يحمي قريبه ويشيل ولـده
نهار النوايب يا بو السراير(34)
إن قدّر الله نركب نجيم(35) مثل النسيم
حبّي موتّر ورمحي ظليم
ما لك منجى من بن سليم(36) والخبر شاد(37)
دفعوك بدفوع ما له رداد
إن قدّر الله نركب نحيف ونلبس نظيف
ونجي كالواد عامل زفيف(38)
ننقل في يدي حربة وسيف نحصد حصاد
للمتعرّض باغي الفساد
ناديت عليك ماني وليدك
منسوب إليك ماك المدلّل(39)
ربّي عاطيك بين الفحولة
والدّمع بديد(40) يا بو السراير
إن قدّر الله نركب أغرّ وعندي مشتهر(41)
حبّي موتّر ورمحي مضرّ
ننقل سيفي رقيق الشفر يحصد حصاد
للمتعرّض وباغي الفساد
عندما يستعرض الدارس مقوّمات القصيدة، (وهي على وزن المسدّس) ومجمل مراحلها وسائر أحوالها يتبيّن بيسر أنّ الكون الذي تتنزّل فيه عبارة عن كون مانوي، طرفاه إرادة الخير المستندة إلى مشيئة الله من ناحية وإرادة المتعرّضين الذين يعيثون في الأرض فسادا من ناحية أخرى كما يتبيّن أنّ الإطار العامّ إطار خلافي فيه سجال وجلاد بين الشيخ وأخواله، وهو إطار يحتدم فيه العناد والنزاع ويلتحم فيه الخصام والصراع. إنّها الحرب وقد اشتدّ أوارها واشتعل سعيرها وأرسلت حرّها توهّجا وتلهّبا وصلِيّا.
أمّا الأسلحة فمتعدّدة، منها الحربة المنقولة والقوس «الموتّر» والرمح «الظليم» حينا «المضرّ» حينا آخر إلى جانب السيف «المشتهر» «رقيق الشفر» الذي لا يضاهيه في الاستقامة والانتصاب والطول إلّا عود «الزان».
ومن الطبيعي في هذا المجال أن يحتلّ الجواد مكانة مركزية بصفته عماد الكرّات وقوام الهجومات. يبرز الجواد بذاته الواحدة باعتباره «حصانا» كما يظهر بصفاته المتعدّدة التي تحيط بها أوصافه من حيث العمر والبنية والشكل واللون المميّز، فهو الرباع (ذو السنوات الثلاث والأسنان الأربع) وقد اكتملت بنيته واكتهل هيكله صحّة بدن وصلابة قوائم إذ هو قويّ الذراعين. وهو النحيف الخفيف ذو الأداء القتالي الناجز، وهو الجواد الكريم الأصل الوافر العطاء، وهو الجميل صاحب الغرّة الناصعة بياضا وألقا وإشراقا وبهجة تجعل الفرسان يهشّون لها ويتفاءلون بها باعتبار أنّ الخيل في المتمثّل العامّ «معقود بناصيتها الخير»(42).
أمّا صاحب الجواد فهو الفارس المُعْلِم الذي يسم «نفسه بسيما الحرب» (43) ويعلم مكانه بها(44) ويجعل «لنفسه علامة الشجعان»(45) على وجه التحدّي وطلب المبارزة، ينادي خصمه ويدعوه - كيفما شاء- إلى «العناد» كما يدعو قِرنه – كيفما أراد – إلى «النزاع».
على أنّ صاحب الحصان لا يظهر وكأنّه مجرّد فارس من الفرسان بل يلتحم بأقوى عناصر الطبيعة، «فهو الوادي «الحامل»(46) المتحدّر المصوّت كالريح شدّة وسرعة هبوب، وهو النازل من السماء نزول الرعد المزمزم إذا «رزم» صادق الهجمة شديد الصولة، فإذا بالطرف المقابل مكسور العظم لا يرجو جبورا فلا ينفعه مرهم ولا يفيده «ضماد»، ذلك أنّ العظم قد دقّ دقا وأنّ الجسم قد سحق سحقا فتحوّل إلى رماد تذروه الرياح أو ألقي به في بئر سحيقة لا قاع لها ولا قرار. وربّما عنّ للفارس «المعلوم» أن يدفع عدوّه دفعا ويدحره دحرا جزاء وفاقا لما اجترح من آثام واقترف من ذنوب.
ومن العجيب أنّ فارسنا– إذ يقدم على مختلف المعارك الجارية وما تشتمل عليه من مصاعب ومفاجآت وأهوال – يقبل على كلّ ذلك غير نادم بل هانئ البال مرتاح الضمير يعمره يقين الإيمان وتغمره نشوة المعتقد من أعلى رأسه إلى أسفل قدميه، وذلك لتأكّده أنّه إنّما يتصدّى لأهل الفساد ويجلو الكرب عن هذه البلاد بعدما حلّ بها من جاثوم الغمّ وجثا عليها من كابوس الهمّ، فهو المردّد في مفتتح كلّ فرع لازمة «إن قدّر الله» في مطلع كلّ غصن. لذلك تراه لا يلبس إلّا نظيفا ولا يرتدي إلّا جديدا وكأنّه – في احتفائه بالحرب – مقبل على نزهة رائقة أو حفل بهيج. ولا غرابة فهو يحصد بسيفه الأعداء حصدا لا يبقي ولا يذر بعد أن يملأ قلوبهم رعبا ويخلع أفئدتهم رهَبا.
وعلى هذا النحو يكون العالم المانوي قد اكتمل والإطار السجالي قد ارتسمت معالمه بأفعال مثيرة وأعمال هائلة سمتها الكبرى التكبير والتضخيم والتفخيم والتعظيم بما يضفي على القصيدة طابعا ملحميا مشهودا. ويكفي للتدليل على هذا التعظيم وذلك التضخيم أن نشير إلى ما شبّه به السيف وهو عود الزان الذي قد يصل طوله إلى ثلاثين مترا وما من شكّ في أنّ هذا السيف الموغل في الطول لا يقدر على حمله إلّا عملاق من العمالقة.
ولم يفت واضع الألحان أن يرسم الإطار الإيقاعي المناسب لروح القصيدة الملحمية، فقد انتقى لها من الأوزان وزن «السعداوي» الشعبي الذي يؤدّي –كأحسن ما يكون الأداء– مختلف الحركات القتالية ورقصات المناورات الحربية والألعاب البهلوانية نزولا وصعودا بين أرض وسماء.
وقد تفطّن أستاذ الموسيقى ومتفقّد مادّتها المدرّسة في المعاهد الثانوية الفنّان حاتم دربال صاحب فرقة «نوى» تفطّن لهذا اللون الحربي والمتّجه القتالي الذي يوحي جوّ الملحمة فركّز في عرضه الموسيقي الموسوم بــــ «أسمعان» على الإيقاع (خاصّة على الدُمْ) ليكثّف الطابع الملحمي ويبرزه كأحسن ما يكون الإبراز حتّى إنّه أحرز الجائزة الأولى في مهرجان مدينة «تستور»(47) وانتقلت الفرقة من وزن»السعداوي» إلى وزن «البوحلّة» (وهو أكثر سرعة ليفيد احتدام القتال ومروره إلى سرعته القصوى).
وممّا تجدر الإشارة إليه أنّ فرقة «نوى» بقيادة أستاذ الموسيقى حاتم دربال قد تناولت مختارات من المالوف التونسي ومن بحور الطريقة السلامية في إطار رؤية جديدة تضمّنت خصوصية في النغمات والإيقاعات على السواء، وهو ما يتجلّى في بحر «يا بن مراد»، هذا البحر الذي يكرّس مقام «العرضاوي القيراوني» وإيقاعي «السعدواي»(48) و«البوحلّة»(49) ذي الطابع المحلّي. ويندرج عمل الفرقة المذكورة في إطار التعريف بخصوصية الشيخ ابن سعد في الأداء بصفة عامّة وفي أداء الطابع المحلّي بصفة خاصّة.
وعندما يستعرض المرء أداء عدد من مشايخ السلامية لبحر «إن قدّر الله يا بن مراد» على غرار الشيخ عمر يدعس(50) ومن لحق به من المنشدين وكذلك الشيخ عمر بن محمود(51) وغيرهما من اللاحقين يجد أنّ الوحيد الذي خصّ بحر «إن قدّر الله» بما يصطلح عليه أهل التخصّص بـ«التطريز» إنّما هو- حسب ما وصل إلينا أو ما توصّلنا إليه- الشيخ عبد المجيد بن سعد. ويظهر هذا النوع من التزيين في ثلاثة فروع (52)، يبدأ أوّلها بالقول:
بابا وغوثي نعم الحبيب
ويستهلّ الثاني بالقول:
آش المغيبة والهجر واعر
ويفتتح الفرع الثالث بقول الشاعر:
ناديت عليك ماني وليدك
يبرز هذا اللون من الزخرف في ثلاثة مواطن موزّعة على المتن توزيعا متوازنا يأتي بعد كلّ فرعين اثنين حتّى يُجنَّب السامع أيّ إمكانية للملال والسآمة.
ويمكن تقريب التطريز(53) من التطريس(54) والترميل(55) والوضن(56) و«التصدير»(57) ويجمع مثل هذه الأصول الثلاثية إجمالا معنى ما تزيّن به الصحف أو ما يدخل على البرانيس والجباب والقمصان والقشبان من زخرف يضاف إلى مختلف الأقمشة والأنسجة بما يضفي على المادّة الأوّلية قيمة إضافية قوامها شكل فنّي جيّد يزين البزّ والهيئة فيزيدها نفاسة وقيمة، وتعود بعض هذه الأنشطة إلى أعمال الطرّازين والصدّارين والوشّائين ومن إليهم من مطرّزي الأقمشة من الدرّ والجوهر ونحوهما.
والمحصّلة الحاصلة هي أنّ التطريز الذي اعتمده شيخنا السلامي في هذا المقام هو عبارة عن مؤالفة عجيبة بين درر الكَلِمِ وغُرَرِ النغم، فعلى صعيد الإنشائية الشعرية يعود الشيخ عبد السلام الأسمر إلى شيخه أحمد بن عروس عودة الصغير إلى حضن والده والتلميذ إلى مجلس معلّمه وأستاذه والمريد إلى حلقة شيخه وملهمه. فكأنّما يقلع عن الحاضر ويقبل على ماضيه حين كان يتدرّج في سلّم التقوى والفضل، وقد حملته «ذاكرته الانفعالية» على طريقة الأديب الفرنسي (مارسال بروست) Marcel Proust معتدّا بعلاقته بشيخ الجماعة وصداقته له في نوع من الافتخار والجذل والنشوة.
يستدعي التلميذ حضور أستاذه في لون من الإكبار ونوع من التبجيل وضرب من التحنّن ورجاء الوقوف إلى جانبه معنويا بــ«نغرة» من نغراته المشهودة حميّة ونجدة وإنصافا.
وعلى هذا النحو يعود المريد إلى شيخه عودة تذكّر برجوع الفلاّح إلى أرضه والملّاح إلى بحره في سكينة واطمئنان وهناء.
أمّا على مستوى النغم فيرجع «طبع العرضاوي» إلى مقام «راست الذيل» رجوع الفرع المتفرّع إلى أصله الأصيل والغصن إلى شجرته مثلما يعود النحل إلى نَورِه والفراش إلى زهره والطائر إلى وكره.
وعند هذا الحدّ يخيّل إلى المستمع المنصت أنّ القول الشعري والإبداع الموسيقي يسيران سوّيا في نوع من التوازي والتساوق والتكامل ليستوي كلّ ذلك لوحة فنّية متكاملة العناصر متآلفة المكوّنات تخاطب الحواس وتحرّك المشاعر فتلذّها الأسماع وتهشّ لها الأذواق.
وأمّا القصيدة الثالثة فمطلعها هو الآتي:
يا سيّد(58) يا صاحب الجاه(59)
يـــا صــاحـب رســول الله
يـــا ســيّــد (60)
تجـيــــك الــزيّــار(61)
بطـول المسـافـة وبعـد الدار
للبركة ونيل الأنـوار
يـا مجـاهد(62) في سبيل الله
رفـيقـي السـيّد(63)
ســاكـن القــيروان
واللّـــي يــزورك في أمــان
بالقدرة يـروّح مطمـان
ويـبلــــغ مــــا يتــمنّـــاه
تجـيـــك الــولـــيّة(64)
بـمـحبّـة وعـقــدان الـنيـة
جابت لك في يديها هدية
زربيّـة(65) نقيشها مــا أبهـاه
قصــــدت ثـــواب
زربـيّــه وفـيهـــا محــراب
وصلت ودقّـت الباب
ونادت عليك يا صاحب الجاه
عيــــني همـــلاجـــه(66)
ودمـوعي تجري عجعاجه(67)
جيتك يا قضّاي(68) الحاجه
نتــوسّـل بيــك إلـــى الله
جــيتــك في زيــاره
بحـالـي في أمـري مـحــتـاره
على مقامك نعطي البشاره
انـغــــر(69) واحمـــني بـالله
نـبـكــي بــالــدمـعــه
جيت لمقامك ليلة جمعه
نـاديتــك يـا أبــا زمـعـه
بــك نتـــوسـّـــل لله
بــــالعـــبرات
دموعي تجري على الشفرات
ناديتك يا صاحب الشعرات(70)
شعـــرات رســول الله
انّــــادي الـــحطّــــابـــة(71)
صاحب الجاه(72) مع بولبابة(73)
وأهـل الحضـرة(74) المهابـة
وكــلّ المــنســوبــين لله
يــا ســـاكـــن صـــبره(75)
داونــي مــن الـعلّـه نــبرى
هذا مقامك شايد(76) خبره
علـيه حـلّه مـن نور الله
آســــاكـــــن صـــبره
داوي قليبي من العلايل(77) يبرا
أنا دخيل عليك بعالي القدره
على ولد صبره(78) أُبَيْ نغرة يا بابا لله
وجـهــــك مـــــتروف(79)
ومقامك باهي(80) موصوف
بـإجابة الـدعـوة معـروف
والعـاقـبة خـير مـن الله
هـــــذيّ بـــــــلادكــ
والسّكان الكلّ أولادك
والبلاد أشهـرهـا جهادك
وموتك(81) في سبيل الله
رانـــــــــا أولادكـــ
جملـة جـينـا في ميعادك
بجاه الصالحين أجدادك
ونـــبراسـهـم رســول الله
بجــــاه الصــــدّيــــق(82)
وأهـل الـبركة والتحقـيق
اسقنا كـاس من رحيق(83)
رحـيــــق مـحـبّــــة الله
بــجــــــاه عـمــــــر(84)
خـليـفة النـبي الأغـــرّ(85)
من بــالعــدل مـشتـهر
انـغـــر واحمـــني بــــالله
بجـــــاه عـــثـمـــــان(86)
خليفة النـبيّ عظيم الشان
اللـي رتّـب سـور القرآن
مـشهـــور بـطـاعــة الله
بجــــاه الـسبـطــــين(87)
ووالــــد الــحــسنــــين
الإمام عليّ(88) قرّة العين
المــسمّـــى ســيـف الله
جـيتــك لمــقـامك
نبغـي البركة وسلامك
وتغطّيت بالباهي أعلامك
فـيه ريحة العنـبر مـا أذكاه
مقــامــك مــزيـــان
هـو للصـالحـين ديوان(89)
فـيه آيـات مـن القـرآن
فـيـهـا مـــن أسـمــاء الله
آيــــــــات ألــــــــوان
فـيهـا تـذكـير للـجنـان
فيها تـرهيـب من النـيران
والـجنّـة لمـن خـاف الله
بــــلادك مــسمــــيّه
وجيرانك أهل الحطبية(90)
وسحنون(91) مـع المنوبيه(92)
والدهمـانـي(93) ولـيّ الله
جــارك الــدهمــانــي
الحـايـز للـسرّ الـربـانـي
مع الأسمر سعد شوشـان(94)
انـغــــر واحـمــــني لله
المـــولـــى الـقــــديـــر
يخـتـم لـي ختــام الخـير
بجــــاه النـــبيّ البـشــير
مـحـــمّــد رســـول الله
يستهلّ صاحب القصيدة كلامه بأسلوب إنشائي قوامه النداء المتكرّر في حيّز نصّي محدود جدّا(95) وكأنّه يحدّد منذ الانطلاق متّجه القصيدة التعبيري الذي يحمل نبضا من الأحاسيس ملحوظا ودفقا من الوجدان مشهودا ترجمة للخلجات المعتملة بالوجدان.
وليس النداء المظهر الوحيد للأسلوب الإنشائي، فهو مدعوم بالطلب(96) المكثّف الموجّه إلى صاحب «المقام» عن طريق أفعال في صيغة الأمر. وما من شكّ في أنّ النداءات المتكرّرة والطلبات المتردّدة تدلّ على الاستصراخ وطلب النجدة باعتبارهما نداء ملهوف ودعاء محتاج.
يضاف إلى ذلك أنّ الأسلوب التقريري لا يرد ليقرّر أشياء أو ليثبّت أحداثا بقدر ما يحطب في حبل الأسلوب الإنشائي ليسنده ويدعمه ويؤكّده. وعلى هذا النحو يبدو الأسلوب الخبري – حسب السياق – غير مستقلّ ولا منصرف إلى وظيفته الأصلية بل تابعا للأسلوب الإنشائي مكمّلا لوظيفته التأثيرية مكثفا لها.
ومن أساليب التأثير الأخرى أن اختار الشاعر عددا من اللوحات الدقيقة والمشاهد المؤثّرة التي تتدفّق حيويّة لتحيط بمظاهر بعض الأبطال وتصوّر ما يعتلج في نفوسهم من أحاسيس مضطرمة ومشاعر متلجلجة. فبعد أن تحدّث الشيخ عبد المجيد عن الزوّار وهم يقطعون طويل المسافات ويتجشّمون متاعب السفر يخصّص عددا من «الفروع» لوصف حالة «الوليّة» الزائرة، هذه المرأة المهمومة الحيرى وقد أخلصت النيّة وجاءت بهديّة من أنفس ما صنعت يداها ونقشت وزيّنت ببديع الصور ولطيف الأشكال المناسبة للمقام، هذا المقام الذي تطرق بابه على سبيل الاستئذان وتنادي صاحبه في ترفّق وتحدّب وتودّد وتوسّل والدموع تنثال من عينيها مندفعة متدفّقة مسرعة مصوّتة وهي تنشر الحديث وتفصّل القول في مآثر الصحابي الجليل العظيمة ومناقبه الخالدة فضلا عن المكانة الخاصّة التي يحتلّها في قلوب القيروانيين خاصّة والتونسيين عامّة وفي ضمائرهم وذاكرتهم الجماعية ولا سيّما أنّه أعلى من شأن البلاد وأذاع صيتها بجسيم تضحياته.
وممّا يلاحظ أنّ الشاعر يزداد من الوليّ الشهيد قربا وزلفى بخطاب حميمي قوامه «تاء المخاطبة وكاف المواجهة» اللتين تحلّانه محلّ المخاطَب المباشر الحاضر حضورا مشهودا.
وما هي إلاّ أن ينتقل صاحب القصيدة في نوع من التلطّف من حديث عن حالة المرأة المذكورة إلى حاله هو ويتحوّل من رجائها إلى رجائه الذاتي، فهو بدوره مصاب معنّى قد أرهقه المرض وأصاب قلبه الحسّاس، فبعد أن نادت المرأة في المقطع الأوّل «ساكن صبره» مستعملة أداة النداء «يا» نادى الشيخ ابن سعد «ساكن صبرة» بقوله «آ» الدالة على النداء والتألّم راجيا الشفاء من علله التي كدّته وأرهقته، ويفرد هذا المقطع بـ«عروبي»(97) مؤثّر تأثّره الذاتي وينعت نفسه بـ«ولد صبره» على سبيل التقرّب نسبة إلى ذلك المكان الذي يرقد فيه «صاحب رسول الله»، وكأنّه يتوسّل لوالده العطوف. ولا يظهر ذلك في عبارات السجّل اللغوي المكثّف المستعمل فحسب، بل يبرز في الانتقال إلى «طبع» من الطبوع المعلومة التي تؤدّي أكثر من غيرها تحنّن «العبد»(98) المملوك لمولاه المالك على سبيل التكثيف والتأثير، وذلك بقوله «أُبَيْ» وهي تصغير للأب « تربيجي» تضاف إلى عبارتي «يا سيدي» و«يا بابا».
وهنا يتآلف السجل اللغوي و«الطبع» المقامي وهو «الراست عبيدي» (القادم من جنوب الصحراء حيث العبيد المماليك بأنغامهم الخاصّة التي تستجلب العطف وتستدرّ الشفقة) ليؤدّيا أخلص أداء ذلك الشعور الصادق الصادر من أعماق النفس الإنسانية المكلومة المشدودة إلى أبسط بارق من بوارق الآمال.
ومن بين وسائل التأثير التي توخّاها الشاعر ذلك النوع من التبئير الذي تركّز على مقام الصحابي الجليل «ساكن القيروان» التي أضحت بلاده وأهلها الذين أصبحوا أولاده، هذا المقام الذي صار بمثابة همزة الوصل التي تربط في الآن نفسه بين العالم الدنيوي بأحداثه وتآريخه وسائر شخوصه وأبطاله والعالم الأخروي بغيوبه وأسراره. وقد اجتهد مقصّد القصيدة في حشد الشخصيات وفضائلها والأبطال ومآثرهم واستثارة وقائع التاريخ من سديم مكامنها وبعث الموارد الثقافية والحضارية والرمزية لحمل المتلقّي على الإقبال بمهجته ووجدانه ومجمل كيانه على الانتشاء بما يشبه الخمرة الصوفية التي تجعله يلتحم بمختلف الأعلام كالصحابة والخلفاء الراشدين والتابعين والصالحين وعلى رأس الجميع نبراسهم المنير رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى درجة أنّ القصيدة تستحيل «موسوعة صغيرة» لعظماء الأمّة وديوانا جامعا بالمعنى العامّ وبالمعنى الاصطلاحي حسب أدبيات الصوفية.
ولا يفوت المرء أن ينبّه على أنّ عبارة «الله» هي أوّل كلمة ترد في قافية المطلع، وهي إلى ذلك آخر كلمة تأتي في قافية البيت الأخير من القصيدة. وهي آخر عبارة تتعلّق بها القصيدة وآخر ما يقرع السمع ويبقى في الذهن. ولا غرو فهي هنا ممّا يسمّى «بالكلمات الخواتم»، زيادة على أنّ لفظة «الله» غالبا ما ترد في تركيب إضافي، فكلّ ما يرد قبلها مضاف، وهي في سائر السياقات «مضاف إليه»، فالرسول رسوله والسبيل سبيله والنور نوره والخير خيره والمحبّة محبّته والطاعة طاعته والآيات آياته والأسماء أسماؤه والأولياء أولياؤه والسرّ سرّه(99). ومن شأن ذلك التكرار وذلك الموقع المميّز لعبارة «الله» أن يضفيا على القصيدة بمضامينها وطرق إنشادها جوّا من السكينة والاطمئنان والخشوع.
والحاصل إجمالا بعد عرض مختلف المعطيات المتّصلة بالشيخ عبد المجيد بن سعد واستعراض جملة العناصر المتوفّرة التي حدّدت شخصيته سواء من حيث الاستعدادات الأوّلية أو من جهة التكوين والمتّجه والنشاط، وبعد استقراء العيّنات الثلاث التي أشرنا إليها في عباراتها الشعرية وفي ألحانها الموسيقية في مجملها ومفصّلها وقد جمع بينها «طبع» «العرضاوي العزيبي» الذي يؤالف مؤالفة في غاية الدقّة والتوازن والانسجام بين قوّة الطبيعة وعنفوانها ولين الحضارة ورقّتها، يمكن للمرء أن يقول إنّ للشيخ عبد المجيد بن سعد شخصية متعدّدة الأبعاد تستجيب لخصائص مشرقنا ولمميّزات مغربنا التي تغني ثقافتنا الشعبية المشتركة وتضفي عليها جوانب من التنوّع والثراء لا تخطئهما عين الملاحظ.
تلك بعض الجوانب التي أمكن استقراؤها بالاستناد إلى مدوّنة في غاية القصر والاقتضاب، ذلك أنّ الأبحر المتناولة بالتحليل مقصورة على ثلاثة وأنّ «الطبع» محصور في واحد لا يتعدّاه، إنّه «طبع العرضاوي» القيرواني المصطلح عليه بـ« العرضاوي العزيبي»، وهو طبع محلّي خاصّ بعاصمة الأغالبة وجهة «جلاص»(100) والذي كان محلّ إعجاب من عميد الموسيقيين التونسيين وأستاذ الأستاذين الفنّان محمّد التريكي. فقد كان كلّما سنحت فرص للإرشاد نصح المتدرّبين وحتّى المحترفين بالرجوع إلى «سي عبد المجيد» كلّما أشكل عليهم مقام من المقامات الشرقية أو التبس عليهم طبع من الطبوع التونسية، فقد كان يوجّههم باستمرار قائلا:«عليكم بسي عبد المجيد».
أمّا شيخ المالوف الأستاذ الطاهر غرسة(101) فقد كان يقدّر الرجل كبير تقدير وكان عندما يحضر تسجيل حصص المدائح والأذكار بالإذاعة التونسية عوضا عن الفنّان عبد الحميد بنعلجية(102) يباشر ذلك بغاية التواضع واللياقة بالنظر إلى قدرات ابن سعد الفنّية عامّة وإلمامه بعلم القراءات خاصّة ويوحي إلى شيخ السلامية القيرواني أنّه إنّما يحضر حصص التسجيل لمزيد الاستفادة. ولا غرابة في ذلك لأنّ الشيخ الطاهر غرسة هو نفسه من المنتسبين إلى بعض فرق السلامية(103).
وكان شيخنا علاوة على ذلك يحظى باحترام أهل الفنّ عموما ومن بينهم الدكتور صالح المهدي(104) الذي أسّس بقرية «تركي»(105) فرقة سلامية نسوية عهد بتدريبها إلى الشيخ عبد المجيد، فكان يأتي من القيروان مرّة في الأسبوع ليسهر على تدريب الفتيات وتلقينهنّ أصول السلامية وفنّياتها(106).
وممّا يذكر أيضا أنّ نشاط الشيخ ابن سعد كان متعدّد الأوجه، ذلك أنّه ما اجتاز مسابقة أو شارك في مناظرة إلّا كان أوّل الفائزين لسنوات على التوالي، الأمر الذي أهّله لأن يكون عضوا قارّا من الأعضاء الذين تتألّف منهم لجنة التحكيم إلى جانب الدكتور صالح المهدي وحميدة عجاج والشيخ محمّد القابوسي(107) قبل أن يلتحق بهم الشيخ محمود بن محمود.
والجدير بالملاحظة كذلك أنّ الشيخ عبد المجيد بن سعد قد ساهم مساهمة فعّالة في إغناء مكتبة الإنشاد الصوفي المحفوظ بالإذاعة التونسية في مدّة وجيزة(108) من الوقت بما يقارب 250 ساعة من التسجيلات المسموعة والمرئية، هذه التسجيلات التي تؤلّف مدوّنة معتبرة في غاية التنوّع والثراء تستحقّ أن يستثمرها المستثمرون إيجابيا في الدراسات الفنّية ويستغلّها المستغلّون الاستغلال الحلال في مجال البحوث الثقافية.
الهوامش
1. هو محمد النجّار القيرواني حسب رواية المربّي الفاضل السيّد صلاح الدين بن سعد (ابن الشيخ عبد المجيد بن سعد).
2. جامع الزيتونة أو جامع الزيتونة المعمور أو الجامع الأعظم هو المسجد الجامع الرئيسي في مدينة تونس العتيقة (بتونس العاصمة) وأكبرها وأقدمها، ويرجع للسنّة على المذهب المالكي، تأسّس سنة 698 (للميلاد) بأمر من حسّان بن النعمان وأتمّه عبيد الله بن الحبحاب سنة 732 للميلاد. ويعتبر ثاني أقدم مسجد في تونس بعد جامع عقبة بن نافع. ويعدّ جامع الزيتونة أوّل جامعة إسلامية كان لها دور علمي وحضاري. وقد قامت بدور طليعي في نشر الثقافة العربية الإسلامية في بلاد المغرب. من أبرز رموزها علي بن زياد وأسد بن الفرات والإمام سحنون صاحب "المدوّنة" وابن خلدون مؤسّس علم الاجتماع.
3. الشيخ العروسي بن خميس التركي، من أبرز شيوخ السلامية في تونس. لحّن العديد من القطع الشهيرة مثل "صلاة الله على ابن مريم" حسب بعض الروايات، وهذا العلم موضوع رسالة أستاذية أعدّها الطالب وليد الزواغي تحت إشراف الأستاذ الأسعد قويعة. والرسالة موجودة بمكتبة المعهد العالي للموسيقى بتونس. على أنّ الشيخ محمّد شقرون رئيس الفرقة السلامية برأس الجبل ينفي أن يكون ملحّنها الشيخ العروسي بن خميس ويقول إنّها من التراث لا يعرف صاحبها.
4. يمكن أن نذكر من بين الأقسام قسما خاليا من الإنشاد ومن الموسيقى، ويبدأ بتلاوة سورة الفاتحة من القرآن الكريم تليها قراءة لأحد أحزاب مؤسّس الطريقة السلامية في تونس الشيخ عبد السلام الأسمر وخاصة منها حزب "الفلاح" الأكثر تداولا إلى جانب قسم يؤدي إنشادا مرفقا أو غير مرفق بآلات الإيقاع مثل "البندير".
5. البحور" جمع مفردة بحر، وهو مصطلح خاص بالطريقة السلامية يطلق على أشعار باللهجة [المتداولة] يتضمن معاني الوعظ وتحقير ملذات الدنيا كما يتضمّن مدح الرسول محمّد صلى الله عليه وسلّم وشيوخ الطريقة وغيرها من المعاني الصوفية. ويشتمل تراث السلامية على عدد وافر من البحور جُمع أغلبها في "سفائن" (مفردها سفينة)، وهي مخطوطات يحتفظ بها عادة شيوخ الطريقة، ويتولّى شيخ الحضرة أداء البحور بارتجال ألحان لها يعيدها المنشدون على إيقاعات بطيئة تضرب على آلة "البندير" "كالسعداوي" و"المدوّر حوزي" و"المربّع تونسي". أمّا الألحان فترتجل في الطبوع التقليدية التونسية المستعملة في "المالوف" كراست الذيل والحسين والأصبعين أو المستعملة في الموسيقى الشعبية الحضرية ومنها "العرضاوي" و"المحيّر عراق" و"المحيّر سيكة" (ويكيبيديا، الإنشاد في الطريقة السلامية).
6. المقصود "بمجيدية" أنّها تنسب إلى الشيخ عبد المجيد بن سعد.
7. المقصود هو عيسى بن مريم عليه السلام.
8. ونشاه (تنطق مخفّفة من الهمزتين) وأصلها : أنشأُه.
9. المقصود بالسيّد هو السيّد المسيح عليه السلام.
10. في قول الشاعر "لا بأحزان" إشارة إلى الآية الكريمة "لا تخافي ولا تحزني وقرّي عينا" سورة مريم، الآية 24 .
11. في هذين الغصنين إشارة إلى قوله تعالى :"وهزّي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيّا"، سورة مريم، الآية 25.
12. مرضاك: ابتداء من هذين الغصنين يتغيّر الوزن فيصبح "برولا" ويشار إليه موسيقيا بـــ:2 4
13. تلك إشارة إلى قوله تعالى: "يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمّك بغيّا". سورة مريم، الآية 28.
14. في هذا الغصن إيماءة إلى قوله عزّ وجلّ:"فأشارت إليه". سورة مريم، الآية 29.
15. هذا الغصن فيه إلماع إلى الآية الكريمة: "قالوا كيف نكلّم من كان في المهد صبيّا" سورة مريم، الآية 29.
16. هذه العبارة وردت بنصّها في الآية: " ولم يجعلن جبّارا". سورة مريم، الآية 32.
17. النيلة: واسمها العلمي Indigofera هي جنس من النبات يتبع فصيلة البقولية من رتبة الفوليات، والمقصود بالنيلة في هذا المقام هو تلك الأقراص الزرقاء المصنّعة انطلاقا من هذه النبتة. يغطس القرص (أو الأقراص حسب الحاجة) في ماء الغسيل ويذاب ويغمس فيه الثوب الأبيض ليصبح بياضه ناصعا أكثر، ومن الصفات المحمودة للملابس البيضاء أن تمرّ بهذه المرحلة من الصباغة حتى يخرج الثوب "مُنَيَّلا" أي ذا لون أبيض مائل إلى زرقه خفيفة جدا تعتبر من مقوّمات الأناقة.
18. أُسُد بمعنى مفسد. "وقيل أسد عليه سفه" وآسد بين القوم : أفسد" (ابن منظور، لسان العرب، مادة أسد).
19. هذا الوزن هو "المدوّر حوزي" ورمزه الموسيقي 6 8
20. البندير: آلة موسيقية إيقاعية تستعمل في المغرب العربي خاصّة في الإنشاد الصوفي والأمداح، وتصنع في غالب الأحيان من الخشب وجلد الماعز، ويتركّب البندير من إطار خشبي مستدير يكسوه جلد ماعز يمتد تحته وتران وأحيانا ثلاثة أوتار من معيّ أو مصران الحيوان بشكل متقابل على طول القطر بغرض إحداث اهتزازات صوتية عند النقر، وعلى حاشيته يولج فيه الناقر إبهام يده اليسرى. ويختلف حجم البندير باختلاف المناطق، ففي القبائل مثلا يساوي قطره أربعين سنتمترا وفي الجنوب من ستين إلى خمسة وستين ويزيّن الجلد في كثير من الأحيان بزخارف ورموز من خضاب الحنّاء.
21. سعد مصلوح، دراسة السمع والكلام، 204 .
22. القافية في الشعر الشعبي هي بصفة عامّة الكلمة الأخيرة من البيت بالتركيز كلّه على الرويّ أو الحرف الصامت الأخير من القافية.
23. جواد: صفة للحصان السريع الجيّد (ابن منظور، لسان العرب، مادّة جود).
24. عتيد: قويّ متين، صفة للحصان صارت تقوم مقام الاسم. ومن الأدلّة على ذلك قول الشاعر في بعض "أغاني المحفل" الشعبية:
جـوف العتــيد *** قروي على جنبه ضوى
مركوب الجاويد *** لاحق مرحولها قسى
(نعيمة الغانمي وأحمد الخصخوصي، أغاني النساء في برّ الهمامّة"، الدار الأطلسية للنشر، أريانة، 2007.
25. نفزّع : أفزّع فلانا بمعنى استصرخه واستنجد به على سبيل الإغاثة والنصرة.
26. سيدي عبد الحميد الصائغ: أبو محمّد عبد الحميد بن محمّد القيرواني، ولد سنة 1015 للميلاد في مدينة القيروان، وتوفّي سنة 1093 للميلاد بمدينة سوسة.
درس سيدي عبد الحميد الصائغ على يدي أبي فحص العطّار وابن محرز وأبي اسحاق التونسي والشيخ السيوري وغيرهم. من تلاميذه أبو بكر بن عطيّة وأبو عليّ حسّان البربري والإمام المازري. وعبد الحميد الصائغ هو أحد أكبر علماء المالكية بإفريقية، جمع بين التدريس والتأليف والفتوى.
وتقع زاوية سيدي عبد الحميد الصائغ على بعد حوالي أربعة كيلومترات من مدينة سوسة حذو البحر وتبعد حوالي مائة متر جنوب "قصر الطوب" الموجود بمنطقة سيدي عبد الحميد. هذه المنطقة المسمّاة باسم هذا الوليّ الصالح.
27. تربة زياد: يبدو أنّ المقصود هو أبو الحسن عليّ بن زياد التونسي العبسي: سمع من مالك وسفيان الثوري والليث وسعد وأبي لهيعة وغيرهم. ولد بطرابلس ولم تحدّد سنة ميلاده. أمّا وفاته فكانت في سنة 183 للهجرة، وهي السنة التي توفّي فيها تلميذه وقريبه البهلول بن راشد. يوجد قبر عليّ بن زياد بتونس قرب "سوق الترك" (القصبة).
28. رباع: فرس فتيّ عمره ثلاث سنوات.
29. الزان، واسمه العلمي Fagus، جنس من الأشجار يتبع الفصيلة الزانيّة التي تشتمل أيضا على أنواع البلّوط المختلفة، يستعمل خشبه القاسي لصناعة الأثاث الفاخر وكذلك في رياضة القفز بالزانة( Saut à la perche).
30. البلا: أصلها البلاء بمعنى الاختبار والامتحان، ويوم البلاء هو يوم الحرب حيث تعرف مقامات المقاتلين ومدى صبرهم على الصمود وثباتهم في المواجهة.
31. أغرّ: صفة الفرس الذي في جبينه غرّة وهي البياض في جبهته.
32. مشتهر: مُعْلِمٌ بمعنى جاعل إشارة تدلّ على شخص الفارس وتعلن مكانته في الحرب.
33. رزم : وأرزم الرعد: اشتدّ صوته (ابن منظور، لسان العرب، مادّة رزم).
34. بو السراير: أصلها أبو السراير وهي كنية سيدي أحمد بن عروس، والسرائر تعني الخفايا أو الأسرار. وقيل كذلك في كنيته "أبو الصرائر" كنّي بذلك لحمله صررا من التراب على كتفيه يمينا وشمالا على سبيل الاختبار لطاقة التحمّل والمكابدة.
35. نجيم: عبارة نجيم المقصود بها نجيب وتدلّ على الحصان النجيب "ابن سيدة : النجيب من الرجال الكريم الحسيب، وكذلك البعير والفرس إذا كانا كريمين عتيقين" (ابن منظور، لسان العرب، مادة نجب). والعرب تبدل الباء ميما، وهذه العملية تسمّى في اللغة الإبدال، ومثال ذلك قولهم مكّة وبكّة، انظر سورة آل عمران، الآية 96 وسورة الفتح، الآية 24.
36. ابن سليم أو بن سليم المقصود به الشيخ عبد السلام الأسمر بن سليم الفيتوري الإدريسي الحسني. ولد بزليتن (ليبيا) سنة 1455 للميلاد وتوفّي سنة 1575 للميلاد بمقبرة بقيع الفرقد بالمدينة المنوّرة.
37. شاد الخبر : شاع وانتشر وذاع واشتهر (ابن منظور، لسان العرب، مادّة شيد).
38. زفيف: تصويت الريح وإرنانها (ابن منظور الإفريقي، لسان العرب، مادّة زفف).
39. المدلّل: اسم مفعول من فعل دلّل وهو في الأصل ذو الحظوة والعيش في النعمة. والمقصود هنا الشهم ذو السخاء والمروءة والفضل.
40. بديد: صفة مشبّهة باسم المفعول (على وزن فعيل) وتدلّ على المتفرّق الكثير المبذّر.
41. مشتهر: المقصود به السيف المُشهَر بعد أن يُخرج من غمده.
42. هذا نصّ حديث رواه البخاري (2852) ومسلم (1873) عن عروة بن الجعد رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلّم قال : " الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة : الأجر والغنم".
43. ابن منظور، لسان العرب، مادّة علم.
44. ابن منظور، لسان العرب، مادّة علم.
45. ابن منظور، لسان العرب، مادّة علم.
46. الحامل عبارة مستعملة في اللغة المتداولة وتفيد أنّ الوادي مملوء ماء وكأنّه في حالة هجوم.
47. تستور: تقع على بعد 80 كيلومترا غرب تونس العاصمة في اتّجاه تبرسق والكريب والكاف وساقية سيدي يوسف على الحدود التونسية الجزائرية وهي مدينة أنشأها الأندلسيون عندهم هجرتهم من الأندلس ويلتئم بها سنويا مهرجان دولي للموسيقى التقليدية (وفي مقدّمتها المالوف المعروف بليبيا وتونس والجزائر والمغرب) ومن أشهر المطربات اللاتي كنّ يقمن في مدينة تستور الفنّانة حبيبة مسيكة (ولدت سنة 1903 وتوفّيت في 21 فيفري 1930 من أبرز مغنّيات النصف الأوّل من القرن العشرين وممثّلاته واسمها الأصلي مرغريت).
48. السعداوي: يرمز إليه في الترقيم الموسيقي بـ:6
49. البوحلّة: يرمز إليه في الترقيم الموسيقي بـ: 12
50. عمر يدعس: الشيخ عمر يدعس من أعلام السلامية بالبلاد التونسية ولد سنة 1895 وتوفّي سنة 1977. يذكر أنّ ابنه الأستاذ رشيد يدعس من الخبيرين في دراسة السلامية.
51. عمر بن محمود من أبرز العناصر لفرقة الشيخ محمود عزيز للسلامية.
52. الفروع: جمع مفرده فرع والمقصود به ما يتفرّع عن الشجرة ويحتوي على أربعة أغصان ويقابله في الشعر الشعبي العُرفُ وجمعه أعراف.
53. التطريز: ابن منظور الافريقي، لسان العرب، مادّة طرز.
54. التطريس: ابن منظور الافريقي، لسان العرب، مادّة طرس.
55. الترميل: ابن منظور الافريقي، لسان العرب، مادّة رمل.
56. الوضن: ابن منظور الافريقي، لسان العرب، مادّة وضن.
57. التصدير: ابن منظور الافريقي، لسان العرب، مادّة صدر.
58. عبارة سيّد تُجمع على أسياد وسادات وتعني في اللغة المتداولة الصحابة عموما.
59. صاحب الجاه هو الوجيه، والجاه هو علوّ المكانة (ابن منظور، لسان العرب، مادّة وجه) والمقصود "بصاحب الجاه" عند أهل القيروان خاصّة هو أبو زمعة البلوي، ويقال له كذلك "سيدي الصحبي".
60. هاتان العبارتان اقتضاهما اللحن منذ البدء، ذلك أن المنشد يبدأ إنشاده بقوله: "يا صاحب الجاه"، ويأتي بعد ذلك مباشرة قوله: "يا سيّد". وهذه الطريقة في الأداء تعود في منتهى كلّ فرع وتسمّى بـــ "الرابط الموسيقي" وسنجد هذه الظاهرة تتردّد بعد نهاية كلّ فرع استعدادا للانتقال إلى الفرع الموالي، وذلك حين يرفع المنشد صوته بالقول "رفيقي السيّد" أو "يا بابا السيّد" أو "يا خليلي السيّد". وعندما تتصاعد وتيرة الوزن الموسيقي وتنتقل من "المدوّر حوزي" إلى "البرول" (المرموز إليه موسيقيا بـــ 2 4 وهو أسرع نسقا) يتغيّر مقطع الرابط ويصبح مقتصرا (على قول صاحبه) "يا سيّد".
61. الزيّار: الزوّار مثلما يقال سيّاح وسوّاح.
62. شهد أبو زمعة البلوي فتح مصر مع عمرو بن العاص ودخل إفريقية في جيش بن حديج زمن خلافة عثمان ابن عفّان ومعه جماعة من أعيان الصحابة منهم عبد الله بن عمر بن الخطاب وعبد الله بن الزبير.
63. هاتان العبارتان "رفيقي السيّد" غير مثبتتين في متن القصيدة، ولكن اقتضتهما ضرورة "الرابط الموسيقي". وستتردّد هاتان العبارتان أو ما يعادلهما (يا بابا السيّد مثلا أو يا خليلي السيّد) أثناء الأداء المنغّم بعد نهاية كلّ فرع.
64. الوليّة : هي المرأة المسكينة التي لا سند لها والتي تكون في مجرى العادة مهمومة متحيّرة.
65. تعتبر مدينة القيروان من حيث الصناعات التقليدية عاصمة الزربية، وهي من أنفس ما يقدّم ويستعمل بساطا من أفخر ما يفرش.
66. هملاجة: سريعة، والدموع الهملاجة هي التي تكون سريعة التدفّق (ابن منظور، لسان العرب، مادّة هملج).
67. عجعاجة : مصوّتة هتّانة كتهتان المطر (ابن منظور، لسان العرب، مادّة عجج).
68. قضّاي: صيغة مبالغة (على وزن فعّال) من فعل قضى يقضي قضاء، وأصلها قضّاء، غير أنّ الهمزة أُبدلت ياء لخفّتها ولينها. وكثيرا ما يستبدل العرب الهمزة هاء أو واوا أو ياء، وذلك عامّة وفي اللغة المتداولة خاصّة.
69. انغر: فعل أمر من نغِر (بالكسر) عليه نغرا: غلى جوفه من الغيظ وغضب. والمعنى هو اغضب لفائدتي على سبيل الإغاثة والنصرة (ابن منظور، لسان العرب، مادّة نغر).
70. صاحب الشعرات هو أبو زمعة البلوي. يُروى أنّه كان محتفظا بثلاث شعرات من لحية رسول الله صلى الله عليه وسلّم. وأبو زمعة يسمّيّه أهل القيروان بالسيّد (ومعناه الصحابي) أو "سيدي الصحبي".
71. الحطّابة: جمع مفرده حطّاب، وهم الجماعة المدفونون بالحطبية وهي مقبرة تقع غرب مقام أبي زمعة البلوي.
72. "صاحب الجاه" هو أبو زمعة البلوي.
73. بولبابة: هو أبو لبابة الأنصاري، بشير بن عبد المنذر بن رفاعة بن زبير بن أميّة، من بني عمرو بن مالك بن الأوس بن الخزرج الأكبر بن حارثة بن ثعلبة. توفّي في خلافة عليّ بن أبي طالب سنة 40 للهجرة / 660-661 للميلاد. قدم إلى إفريقية (تونس) في خلافة عثمان بن عفّان، وقد وافته المنية في مكان يسمّى وادي الغيران قرب مارث (محافظة قابس) ونقل جثمانه إلى ربوة أبي لبابة في مدينة قابس حيث يوجد مقامه الحالي.
74. الحضرة: مصطلح إسلامي صوفي يطلق على مجالس الذكر الجماعية والتي يؤمّها المسلمون المنتمون إلى الطرق الصوفية السنّية بشكل خاصّ، ويكون على رأسها شيخ عارف بالطريقة ينبّه على ما من شأنه أن يشوّش إمكان الوصول إلى لحظة الصفاء.
75. المنصورية وصبرة المنصورية (وقع التعريف بها في موضع سابق).
76. شايد: أصلها شائد، ومعناها ذائع الصيت مشهور (ابن منظور، لسان العرب، مادّة شيد).
77. العلايل أو العلائل : جمع مفرده علّة وهي الداء أو المرض.
78. ولد صبرة أي ابن صبرة، ويقصد الشاعر نفسه إذ كان يرجو الشفاء من مرض القلب الذي ألمّ به.
79. متروف بمعنى مترف أي وجهك متروّ قد بدت عليه آثار النعمة (ابن منظور، لسان العرب، مادّة ترف).
80. باه: صفة مشبّهة باسم الفاعل من البهاء، وهو"المنظر الحسن الرائع المالئ للعين" (ابن منظور، لسان العرب، مادّة بها).
81. دخل أبو زمعة البلوي أفريقية فاتحا وقد فقد عينه ببلاد السودان. استشهد بعين جلولاء (أو عين جلولة كما تنطق) غرب القيروان على بعد 30 كيليومترا.
82. الصدّيق: هو أبو بكر أوّل الخلفاء الراشدين.
83. الخمرة في الشعر الصوفي هي الخمرة التي لا يتذوّق ويستمتع لملذّاتها إلّا من توحّد مع الإله.
84. هو عمر بن الخطاب: ثاني الخلفاء الراشدين.
85. عند هذين الغصنين الأوّل والثاني يتغيّر الوزن ليتّخذ نسقا أسرع فينتقل من "المدوّر حوزي" إلى وزن "البرول"
86. هو عثمان بن عفان: ثالث الخلفاء الراشدين.
87. السبطان مثنّى سبط "والسبط" واحد الأسباط، "وهو ولد الولد، ابن سيده : السبط ولد الابن والابنة، وفي الحديث: الحسن والحسين سبطا رسول الله صلى الله عليه وسلّم ورضي عنهما" (ابن منظور، لسان العرب، مادّة سبط)، فالسبطان حينئذ هما الحسن والحسين ابنا عليّ بن أبي طالب.
88. الإمام عليّ بن أبي طالب، رابع الخلفاء الراشدين.
89. لعلّ المقصود هو الديوان الباطني الصوفي.
90. الحطبية : هي المقبرة المجاورة لمقام أبي زمعة البلوي من جهة الغرب.
91. الإمام سحنون هو أبو سعيد عبد السلام سحنون بن سعيد بن حبيب التنوخي، من أشهر فقهاء المالكية بالمغرب العربي. ولد بمدينة القيروان سنة 160 للهجرة وتتلمذ لأكبر علمائها. تولّى القضاء سنة 234 للهجرة /848 للميلاد حتّى وفاته في رجب سنة 240 للهجرة ودفن بالقيروان. من أشهر مؤلفاته "المدوّنة"، وهي مجموعة من الأسئلة والأجوبة عن مسائل الفقه وردت للإمام ورواها عبد السلام بن سعيد التنوخي الملقّب بسحنون الذي جمعها وصنّفها، وتعتبر المدوّنة الكبرى ثاني أهمّ المصادر في الفقه المالكي بعد كتاب الموطّأ.
92. عائشة المنّوبية، واشتهرت بالسيّدة المنّوبية (1190-1266 للهجرة)، واحدة من أشهر نساء تونس، تميّزت بتصوّفها وأعمالها الخيرية، تتلمذت لأبي سعيد الباجي وأبي الحسن الشاذلي وتلقّت دعما من والدها لمواصلة تعلّمها، قام أهالي منطقتها منّوبة (وهي ضاحية من ضواحي تونس العاصمة) ببناء زاوية تكريما لها حملت اسم "زاوية السيّدة المنّوبية"، ونالت هذه الزاوية مكانة هامّة في التراث والتاريخ التونسيين.
93. هو أبو يوسف يعقوب الدهماني، أحد رموز صوفية القرنين السادس عشر والسابع عشر للهجرة. ولد بقرية "المسروقين" بمركز سيدي الهاني بالقيروان سنة 541 للهجرة / 1154 للميلاد. ارتحل إلى بجاية حيث أقام أستاذه أبو شعيب مدين، وذلك سنة 570 للهجرة /1174 للميلاد. توفّي بالقيروان سنة621 للهجرة ودفن بها قرب نزل القارّي (الكونتينانتال).
94. سعد شوشان أو سيدي سعد الشوشاني. يبدو أنّ أصله الأصيل من بورنو الواقعة شمال شرق نيجيريا، جاء من اسطنبول بعد أن اشتراه أحد من حاشية الباي التونسي. وعبارة "الشوشان" تفيد العبد المملوك وعلى وجه التحديد من كان والده "حرّا" كما يقال وأمّه زنجية إفريقية.
وقد اشتهرت طريقة سعد شوشان في القرن التاسع عشر وشهدت رواجا واسعا في تونس، واقترنت هذه الطريقة على نحو من الأنحاء بموسيقى السطنبالي المعروفة بطقوسها المخصوصة وآلاتها المميّزة.
من المتابعين من يرجع نسبة عبارة "السطنبولي" إلى مدينة "اسطنبول" التركية، وعلى خلاف ذلك يرجعها بعضهم إلى ما يسمّيه الفرنسيون Cymbale وهي الصنج ويعني تلك الصفيحة المدوّرة من نحاس أصفر يضرب بها على أخرى، وعادة ما تصاحب الصنجين آلة القمبري، وهي الكمبري أو الهجهوج أو السنتير، وهي آلة موسيقية وترية تقليدية تصنع أساسا من الحطب يغطّى من جهة العزف بجلد الإبل.
وتتميّز موسيقى السطنبالي بإيقاعاتها وآلاتها ومنها الشقاشق (القراقب) وهي صفائح معدنية ذات جرس نحاسي. وإلى ذلك توجد آلة البنقة. وهي آلة وترية يتكوّن جسمها من طبلة صغيرة مصنوعة من جلد حيواني رقيق مشدود حول إطار دائري أشبه بالدفّ، وغالبا ما يكون معدنيا متّصلا برقبة أو زند على شكل ضلع طويل تمرّ فوقها أوتار موصلة بمفاتيح شدّ داخل علبة الملاوي.
تستعمل هذه الآلات في نُوَب (مفردها نوبة). ولكلّ نوبة طابعها الخاصّ بها، وهي لا تصنّف حسب مقام موسيقي معيّن مثل المالوف بل تنسب النوبة إلى الوليّ الصالح كنوبة "سعد الشوشان".
95. هذا الحيز المحدود جدا عبارة عن جزء من غصن مع العلم أنّ الغصن يناسب شطر بيت وهو في هذه الحالة عجز البيت.
96. طلب "النغرة" أي الانتصار له في حميّة واندفاع.
97. عروبي: هو صوت أو غناء في الأصل خال من الوزن ويقابله في المشرق "الموّال".
98. يتعلّق الأمر هنا بــ"الراست عبيدي" هذا "الطبع" الأليف لدى الزنوج القادمين من جنوب الصحراء.
99. لعلّ في ذلك إشارة إلى معنى من المعاني الصوفية على غرار ما جاء في بيت من أبيات الشاعر عبد الغني النابلسي إذ يقول:
يا خالق الخلق بالسرّ العظيم ويا
من أمره الحقّ بين الكاف والنون
100. الجلاص أو "الزّلاص" وتنطق بمصر (إجلاص) من أهمّ القبائل التونسية التي تتّخذ من ولاية القيروان مركزا لها وتتفرّع إلى فروع كما تشتهر بواديها بالفروسية وحضرها بالصناعات التقليدية.
101. الطاهر غرسة: هو موسيقار وملحّن ومطرب تونسي ولد بالعاصمة في 16 مارس 1933 وتوفّي بها في 10 جويلية 2003. قام خلال مسيرته المهنية والفنّية بالتدريس في مدرسة ترشيح المعلّمين بتونس (الكائنة ببطحاء الخيل قبالة ثكنة القرجاني) خلقا للأستاذ محمّد التريكي ثمّ تولّى الأستاذ الطاهر غرسة التدريس بالمدرسة الرشيدية التي رأس إدارتها خلال تسعينات القرن العشرين.
102. عبد الحميد بنعلجية: ملحّن وأستاذ موسيقى تونسي، ولد بتونس العاصمة في 8 سبتمبر 1931 وتوفّي بها في سبتمبر 2006. زاول تعلّمه الثانوي بالمعهد الصادقي وورث الموسيقى عن عائلة عريقة في هذا الفنّ، فجدّه الطيّب بنعلجية ووالده محمّد كانا من المتّصلين ببعض أوساط الطرق الصوفية وبعدد من شيوخ المالوف في العاصمة وفي مقدّمتهم شيخ المالوف البارز أحمد الوافي (ولد في 1850 في تونس العاصمة وتوفّي سنة 1921 وهو شخصية موسيقية وأدبية معروفة يعود أصله إلى أسرة أندلسية عريقة وهو مطرب ومغنّ ومؤلّف للمالوف التونسي تلقّى أصول الموسيقى عن والده الشيخ حميدة الوافي).
103. في حين حافظ الشيخ عبد المجيد بن سعد على ما يسمّى "مالوف الجدّ" المتعلّق بالمدائح والأذكار تخصّص الفنّان الطاهر غرسة في ما يسمّى بـــ"مالوف الهزل" المعروف اختصارا بالمالوف ويعني التراث الغنائي التقليدي الدنيوي.
104. صالح المهدي: هو صالح بن عبد الرحمان بن محمّد المهدي الشريف الملقّب بزرياب. ولد بالعاصمة في 09 فيفري سنة 1925 وتوفّي بها في 12 سبتمبر 2014. نشأ في عائلة فنّية إذ كان لوالده مجلس من بين من كان يرتاده الفنّان خميّس الترنان.
تولّى عدّة مسؤوليات إدارية وفنّية في مجال الثقافة فقد شغل لمدّة طويلة رئاسة مصلحة الموسيقى بوزارة الثقافة. درّس المالوف لفرقة الرشيدية وفي إذاعة تونس وهو مؤسّس فرقة الفنون الشعبية إلى جانب الغرفة الفنّية العالمية التونسية، ويذكر كذلك أنّه كان أحد الثلاثة من الذين لحّنوا للمطربة الفذّة صليحة إلى جانب خميّس الترنان ومحمّد التريكي.
105. تركي: تجمّع حضري يبعد أربعة كيلومترات عن مدينة قرمبالية في اتّجاه الجنوب على الطريق الوطنية رقم واحد (وكلاهما تابع لولاية نابل).
106. من الأساسيات الضرورية لأداء المدائح والأذكار أن يكون صاحبها ملّما بعلم القراءات متقنا له على أحسن وجه ويفترض ذلك معرفة مقوّمات الغنّة والتنوين والإخفاء والإطهار والإضمام والإشمام والإقلاب والقلقة والمدود وغير ذلك ممّا يشترط لأداء القصائد باللغة العربية الفصحى.
107. محمّد القابوسي: غاية ما ظفرنا به بخصوص ترجمة حياته هو ما أوردته بعض الصحف من صوره إلى جانب الدكتور صالح المهدي والشيخ عبد المجيد بن سعد والصحافي خالد التلاتلي والشيخ حميدة عجاج والشيخ محمّد بن محمود.
108. دخل الشيخ عبد المجيد بن سعد الإذاعة التونسية سنة 1958 وتوفّي سنة 1972 تعتبر هذه المدّة قصيرة للغاية ( حوالي أربعة عشر عامّا) خاصّة إذا قارناه ببعض زملائه الذين امتدّ نشاطهم حوالي 67 عاما مثلما هو حال الشيخ محمّد شقرون رئيس فرقة السلامية بــ"رأس الجبل" ومع ذلك ترك بن سعد تراثا فنّيا هائلا من حيث الكمّ ومن جهة الكيف.
الصور
- من الكاتب.