فصلية علمية متخصصة
رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم
العدد
67

التَرْ بَــــله .. النسق الحركي لدى العبابدة

العدد 9 - موسيقى وأداء حركي
التَرْ بَــــله .. النسق الحركي لدى العبابدة
كاتب من مصر

خلال العقدين الماضيين ظهر لنا  نحن الدارسون والباحثون في مجال الفنون الحركية الشعبية، تعبير علمي جديد وهو «الرقص الاثنولوجيDance Ethnology .

وهذا التعبير يطلق بصورة عامة على جميع أشكال الرقص الشعبي التي تقوم بها أجناس وسلالات شعوب العالم، أو هو دراسة الأجناس والسلالات البشرية عن طريق دراسة رقصاتها الشعبية.

وجميعنا يعلم أن «أسلوب الرقص Style يختلف من سلالة إلى أخرى، ومن شعب إلى آخر، فأسلوب الرقص يتكيف وفقاً لعوامل عديدة منها المناخ، والبيئة المحيطة، ومن ثم الأزياء التى يرتدونها، وطريقة ارتدائها، ونوع  الأرض التي يمشون عليها (صخرية – عشبية – رملية) وطريقة الجلوس والتحية والانحناء والعبادة.

فالرقصات الشعبية بكل أساليبها هي من نتاج البيئة المحيطة، بكل تعدداتها، وهي في الوقت نفسه ضرورة للتعبير العاطفي والنفسي والروحي لمجتمعاتها وممارسيها.

وبالعودة إلى «الاثنولوجيا والرقص» نعود مع الاثنولوجيين إلى المملكة الحيوانية قبل ظهور الإنسان، حيث كانت هناك العديد من الحركات والأصوات والإيماءات التى لا حصر لها، وجاء الإنسان ليرث كل هذه الحركات والإيماءات والأصوات، ولم يكتف بهذا الميراث بل قام بتطويره مع إضافة المعنى لكل  إيماءة وكل حركة حتى صار لديه شبه  أبجدية حركية.

ولما لم تكن هناك كلمات بعد، لجأ هذا الإنسان إلى  الأبجدية الحركية ليصف ما يريد وصفه من مغامرة صيد، أو هروب من مفترس، أو غزوة خطرة . وربما كان يصاحب هذه الأبجدية الحركية بعض الصيحات والنغمات الصوتية . ومع دبيب القدمين على الأرض، وبين الوثبات هنا وهناك ومع حماس المشاركين بضرب الكفين... ولد التعبير  بالحركة كاحتياج.

من هنا..، يمكننا أن نلمح بدايات الإنسان المعبرّ بالحركة، القادر على أدائها وتوصيل معانيها إلى الآخر، فهو في هذه المشاهد يحكي قصة موقعة ومنغمة، لها مستمعون    ومشاهدون ومشاركون. 

الرقص الشعبي ظاهرة ثقافية مركبة:

إن الفكر الإنساني الذي يسود جماعة من الجماعات قد يتشابه أو يختلف عن الفكر الذي يسود جماعة أخرى، هذا الفكر الإنساني هو الذي يشكل أنماط السلوك ويطبعها بطابع معين.

فسلوك الجماعة تجاه ظواهر الحياة المختلفة كالموت والزواج والميلاد لابد وأن تتم من خلال ممارسات تتبناها الجماعة وتتوارثها، وهذه الممارسات تأخذ أشكالا عديدة، فالعادة والتقليد، والتحية والملبس والحركة والإيقاع ..إلخ كلها أنماط من السلوك.

والأنساق الاحتفالية الخاصة بالمناسبات المختلفة لكل جماعة – ومنها الفنون الحركية – هي سلوك تولد أصلاً عن فكر وقيم هذه الجماعة.

وتعد الفنون الحركية - كالرقص - ظاهرة ثقافية مركبة، تتفاعل في تركيبها العناصر المختلفة من مكونات البناء الاجتماعي بما يشمله من بيئة ايكولوجية وعادات وتقاليد، ومعتقدات وأنساق احتفالية، وإيقاعات وأغان وملابس .. إلخ، والتي تؤثر بالضرورة في صياغة أشكال ومضامين الرقصات الشعبية لهذه الجماعات.

فالممارسات الحركية، والأنساق الاحتفالية لكل جماعة، لابد وأن تحمل في تفاصيلها ومجملها مضامين ومعاني كامنة بفكر هذه الجماعة.

فالرقصة الشعبية الخاصة بمناسبة «الحنّة» – مثلاً – تعني الفرحة. بينما الحركات التطويحية فى «الذِكر» تعنى تخفيف الذنوب، وتؤدي إلى مرحلة التوازن النفسي والروحي والجسدي معاً.

الفنون الحركية كضرورة :

إن نظرة الباحثين إلى المادة الفولكورية – بكل تعدداتها – تختلف عن نظرة الممارس نفسه إلى ما يبدعه من فنون.

وإذا درسنا نحن الباحثين هذه الإبداعات كثقافة أو كفنون سنلحظ أن الممارس يظل دائماً ينظر إلى إبداعاته كضرورة حياتية، فهو مثلاً لم يستخدم جريد النخل في صنع الأقفاص المختلفة من أجلنا نحن الباحثين، بل نحن فى الواقع لم ندخل في حساباته على الإطلاق.

فهو يفكر، ويتخيل، ويبدع، ثم ينفّذ من أجل ضرورة، سواء كانت هذه الضرورة اقتصادية أو اجتماعية أو نفسية أو تربوية...إلخ.

والفنون الحركية هي إحدى إبداعات البشر في كل الدنيا، أبدعوها – في البدء - من أجل ضرورة.

الموتيف والهوية الحركية :

الموتيف الحركي لا ينفصل عن النسق العام للاحتفالية الشعبية وما يصلح منه لاحتفالية قد لا يصلح لاحتفالية أخرى.

فالمعتقد له موتيفاته الحركية (الدورانات التطويحية بالذكر) والحرب لها موتيفاتها الحركية التي لا تصلح لغير الحرب (اللعب بالسيف والدرقة لدى العبابده).

فالموتيف(1) Motive  الحركي الشعبي هو الإبن الشرعي للبيئة المحيطة وإن كان هذا الموتيف من إبداع الإنسان أينما كان، يظل الإنسان نفسه – مبدع كل الفنون – هو ذاته إبن البيئة المحيطة.

وما نقصده بالبيئة ليس فقط البيئة الجغرافية المناخية – وإن كان لها دور بارز في نمط الحركة – وإنما أيضاً البيئة المحيطة بكل أبعادها الاجتماعية والعقائدية والاقتصادية والنفسية.

فالبيئة تشكلنا نحن البشر، ونشكل نحن بالتالي فنونا تتواءم وتتناغم مع هذه البيئة، ولا يوجد أي مجال للخروج عنها، لأن أي إبداع يتنافر معها هو إبداع مرفوض، والبيئة دائماً تلفظ المرفوض.

وكل مجتمع من مجتمعات البحث يتميز بسلسلة من الموتيفات الحركية التي تعلن بوضوح عن النمط، وتفصح عن الأسلوب.

فإذا كانت النغمة أو الزي أو الآلة الموسيقية تعلن عن هويتها، كذلك أيضاً تعلن الحركة، فالفنون الحركية الشعبية هي مثل بصمة الإنسان لا تتشابه ولا تتطابق، فكما أن البصمة تعلن عن صاحبها، كذلك أيضاً الفنون الحركية تعلن عن مجتمعاتها.

العبابدة ودور التربلة:

قبائل العبابده(2) هي قبائل عربية انتشرت في كل من مصر والسودان. ففي مصر احتلت مواطنهم الصحراء الشرقية جنوب الخط الذي يصل بين سفاجة وقنا شمالاً، والبحر الأحمر شرقاً، ووادي النيل غرباً، وحتى الحدود الإدارية جنوباً.

وقد استقر العبابدة في قنا وقوص والأقصر وأرمنت شرق النيل وفي إسنا وإدفو وكوم امبو شرق النيل، وفي أسوان وبلاد النوبة، كان تركزهم شرق النيل، وقد خلط أكثر الباحثين بين قبائل العبابدة وقبائل البشارية الذين هم فرع من «البيجاه» ، نظراً لتجاور مناطقهم واختلاطها أحياناً كثيرة في الصحراء الشرقية (انظر الخريطة).

ينقسم العبابده إلى أربع مجموعات قبلية هي:

(1) العشاباب.

(2) الفقرا.

(3) المليكاب.

(4) الشناطير والعبوديين.

والعبابدة الذين يسكنون شمال أسوان (منطقة البحث) أغلبهم من العشاباب، والجدير بالذكر أنه لا توجد مناطق خاصة لقبيلة بعينها، لأنه حسب طبيعة معيشتهم فإنهم غالباً ما ينزحون إلى مناطق سبقهم إليها عبابدة آخرون أياً كانت تبعيتهم القبلية.

لقد فضّل العبادي الاستقرار والعمل بالزراعة، وهذه الحياة المستقرة أتاحت لهم فرصة التعليم، كما شغل بعضهم مناصب إدارية وحكومية، ومنهم من فضّل الزراعة نجده قد سكن في حضن الجبل شرق النيل. (انظر الصورة رقم1)

من عادات العبابدة وتقاليدهم الاحتفالية بولادة طفل، وكذلك الاحتفال بالزواج35 ، نجدهم يذبحون الذبائح، كما يحتفلون أيضاً بختان الولد، فهم بعد تناول العشاء يبدأ السامر بآلة الطنبورة فقط، فهم لا يستخدمون آلات إيقاعية (انظر الصورة رقم 2)  بل بدق الكف والرزم بالقدم على الأرض يؤدون إيقاعهم الذى يلعبون عليه بالسيف والدرق في دور «التربلة».

والسيف والدرق لدى العبادي هما مجرد أدوات يستخدمها فقط في الاحتفالية الشعبية بشكل فردي أمام الصف الذي يغني ويدق الكف على أنغام الطنبورة (انظر الصورة رقم 3)

النميم والتربلة لدى العبابدة :

«النميم» و«التربلة» و«الهوسيب»، هي ثلاثة أنواع من الفنون المختلفة، وهذه الفنون نجدها لدى العبابدة والبشارية على حد سواء، غير أن الفروق في أداء هذه الفنون يمكن ملاحظتها.

فالنميم – مثلاً – هو نوع من الفنون الغنائية، أو هو نوع من فنون الموال، وعادة ما تحكي كلماتها عن الغزل في أغلب الأحيان، هذا اللون من الغناء يؤديه البشاري باللغة «التوبداويه»(3) ، بينما يؤديه العبادي باللغة العربية.

مثال:

تتطوحّ تجول زي فرعة الحناّيا

أم شعرٍ طويلٍ نازلٍ تنـايا تنـايا

رمانها استوى ما لاجى ليه ﭽناّيا

رحت أنا أﭽنى فيه لبسونى ﭽنايه.

أبشر .. أبشر .. (يرد الجميع)

جمالك نمره واحد والبلد عرفيكي

وعنيكى بتبص الناس ولا مكيّفيكي

سنه واتننين تلاته عيونى ما شايفيكي

مدام اسمك حنان وين الحنان آل فيكي.

أبشر .. أبشر .. (يرد الجميع)

وعادة ما يؤدى النميم في بداية الاحتفالية أثناء عمل القهوة التقليدية لديهم، حيث يجلسون حول عازف الطنبورة ، ويتناوب أكثر من فرد أداء النميم، وعند انتهاء أي فرد من إتمام النميم يتبعه الجالسون «بنطر» أصبع السبابة مع رفع الذراع عالياً في اتجاه المؤدي قائلين «أبشر أبشر....» ، وقد يصل حماس بعضهم إلى القيام من مكانه متجهاً ناحية المغني ليبشر فوق رأسه إعجاباً بما قال، ثم يعود لمكانه.

وقد تدوم جلسات السمر هذه إلى أوقات طويلة، فهي بمثابة التجمع للاحتفال سواء لميلاد مولود أو ختان أو زواج أو استقبال ضيف. (انظر الصورة رقم4)

يبدأون بعد ذلك  في الدخول إلى المرحلة الثانية من الغناء الموقعّ بالكف وقيادة عازف الطنبورة.

مثال:

أه ياليل ياليل لانهّ

وتأنى ليل ياليل لانهّ

يا أصيل الخال والجدود

إللى يمشى ع الحدود

باب الجنة ليه مردود

آه ياليل ياليل لانهّ

بعد فترة من الغناء ودق الكف والرد على المغني وعازف الطنبورة يكون الجميع قد تهيأ واحتشد لأداء المرحلة الأولى من الاحتفالية الحركية وهي التربلة الجماعية، حيث يصطف الشباب، ثم يقف المغني والعازف على يمين الصف ومع رد الشباب في الصف على المغني وأدائهم بدق الكف بإيقاع «Noir» بينما يدقون أقدامهم على الأرض بإيقاع «Blanche بلونش».

والموتيفات الحركية التي يؤدونها في التربلة الجماعية عبارة عن دق الكف مع رزم القدم على الأرض من الثبات، أو دق القدم مع دق الكف مع الوثب الخفيف وبالتناوب (مرة يمين ثم مرة أخرى يسار)، أو دق الكف مع دق القدمين على الأرض بحيث تصدر صوتاً عن طريق وثبة بالقدمين     معاً.

والجدير بالذكر هو أن هذه التوليفة من الموتيفات الحركية الإيقاعية لابد أن تلتزم بالإيقاع العام وهو .(انظر الصورة رقم 5)

أمثلة:

عزنا يا عزنا

يا أحلى سهره تلمنا (تكرر)

ياللا يا نورا تعالي لي

سمحة الصورة  تعالي لي (تكُرر)

الله يا خفيف الروح يا منجى

يا بيت الجلب مجروح يا منجى

وقد تطول التربلة الجماعية لفترة طويلة، فيستريحون قليلاً لسماع الطنبورة منفردة، يتخللها بعض النميم وشرب القهوة التقليدية، وفي هذه الاستراحة يكون قد تم تحضير السيف والدرقة لبدء دور التربله الفردية، وهي اللعب بهما لإظهار المهارة في استخدامهما.

يتم وضع السيف والدرقة أمام منتصف صف الشباب الذين يدقون الكف والرزم بالقدم، ومع عزف الطنبورة (دون غناء)، يخرج أحدهم من الصف ويمسك السيف والدرقة مؤدياً حركة الوثب الخفيف أو الحجل بالقدمين ويمر أمام الصف ذهاباً وإيابا بهذه الحركة شبه الواثبة وفي نفس الوقت يلعب بالدرقة والسيف عن طريق نطر السيف لأعلى فارداً الذراع تتلوها حركة أخرى عن طريق نطر الدرقة لأعلى فارداً ذراعه، وهما حركتان متشابهتان. (انظر الصورة رقم 6)

وعند انتهاء كل مشارك من دوره يقوم بضرب السيف على الدرقة معلناً اكتفاءه باللعب ثم يضعهما على الأرض ليخرج آخر ليأخذ دوره في اللعب.

والجدير بالذكر أنه في حفل العرس يتم دعوة العريس للّعب والمشاركة بالتربلة الفردية، وتكون هذه اللحظة هى ذروة الحماس ودق القدم والكف وزغاريد السيدات.

 

الحواشي

1)مصطلح موتيف Motive هو أصغر وحدة حركية يتم تكرارها خلال الاحتفالية الشعبية.

2)مناطق البحث: ، جمهورية مصر العربية ، محافظة أسوان : بهاريف – كسر الحجر – أبو الريس قبلي وبحري – نجع العجيبات الخطاره – خور الشيخ عمران – نجع المودره.

3)اللغة التوبداوية Tobedawi  هى لهجة أو رطانة يعرفها كل من البشارية والهدندوه.

المراجع

1)سمير جابر.  الرقص الشعبي والتدوين .- القاهرة ، 1991.- أطروحة (ماجستير) - أكاديمية الفنون ، المعهد العالي للفنون الشعبية .

2)سمير جابر . أطلس الرقصات الشعبية المصرية القاهرة  : المركز القومي للمسرح والموسيقى والفنون الشعبية ، 2007. – 2 مج

3)Curt szaks. The history of the word dance, U.S.A: Laundrok, 1962

4)Ronaldo rivaira. Seeking life, Cord; The third conference on research in dance, Arizona; P.213

 

أعداد المجلة