الثقافة الشعبية والمشاريع الأكاديمية
العدد 57 - التصدير
ظلت أبواب الجامعات العربية لفترات طويلة موصدة أمام البحوث المتعلقة بالثقافة الشعبية والمشاريع العلمية المرتبطة بهذا المجال لسنوات عديدة ينظر إليها الأكاديميون نظرة استعلاء ويرفض العديد منهم تسجيل مواضيع دكتورا أو بحوث ماجستير عن هذه الحقول المعرفية الهامة التي سبقتنا إليها جامعات غربية عدة وقدمت فيها الكثير من البحوث التي صارت اليوم مرجعا لا غنى عنه لكل باحث جاد في هذا المجال وغيره.وكانت المقارنة بين «الثقافة الشعبية» و«الثقافة العالمة» عنصرا ثابتا لا يغيب عن الكثير ممن يرون في هذه المجالات علوما من درجة ثانية ليست الجامعة مجالا لتناولها والبحث فيها والتعمق في مواضيعها. فكانت أقسام العربية في الجامعة التونسية موصدة بعض الشيء عن هذا الضرب من البحوث وحتى عند الحديث عنها وتناولها في بعض المحافل الثقافية يكون ذلك باحتشام وفي معارض أو في مهرجانات للفروسية أو للفن الشعبي عموما في شكل مساهمات لبعض الأكاديميين يكاد يعدّون على الأصابع. ولكن منذ سنوات قليلة بدأت هذه الأقسام تنفتح شيئا فشيئا على هذه الدراسات سواء ما تعلق منها بالشعر الشعبي أو الحكاية أو غيرها من أشكال التراث الشفوي الهام الذي هو في حاجة للتعهد والتدوين والبحث والدراسة والتقصي حرصا على اكتشافه وخشية من ضياع مدوناته المنقولة غالبا مشافهة ولذلك شعرنا هذه الأيام بسعادة غامرة ونحن نسجّل مواضيع في شهادة الدكتورا أو في بحوث الماجستير تحت إشرافنا أو إشراف زملائنا بكليتنا وداخل القسم الذي ننتمي إليه قسم اللغة العربية بكليّة العلوم الإنسانية والاجتماعية بتونس. وكنت باعتبار مسؤولياتي ضمن لجان الدراسات العليا في جامعتنا، أسجل بارتياح كبير تواتر إقبال الباحثين على هذا المجال من تونس ومن عدة بلدان عربية شقيقة. وأستبشر بالإقدام المتواصل على دراسة الشعر الشفوي والحكايات الشعبية وأشكال التراث المتعددة على ضوء النظريات الأدبية واللسانية والدلالية الجديدة للاستفادة منها وإثراء البحث في هذه القضايا. فلم يعد هذا النوع من البحوث مقتصرا على بعض أقسام علم الاجتماع والاثروبولوجيا ومعاهد التراث في العالم العربي وغيره وإنما صارت أقسام اللغات منفتحة بدورها على هذا الميدان الثري الذي مازال خصبا بكرا في حاجة لمزيد من البحث والتقصي والدراسة.ولم تقتصر الإنجازات التي شهدها قسمنا على تسجيل المواضيع المتعلقة بالتراث والثقافة الشعبية وإنما صرنا نشهد ندوات وأياما دراسية تعنى بهذه القضايا في نطاق المخابر العلمية وفرق البحث يساهم فيها أكاديميون من اختصاصات شتى في الموسيقى والمسرح والأدب والتاريخ والبلاغة وغيرها وبمساهمة فرق للإنشاد ورواة مهمّين حضروا الجلسات العلمية وشاركوا في اللقاءات الأكاديميّة في الجامعة وبحضور الأساتذة والطلبة فكان حدثا جليلا حقا وشعر هؤلاء المنشدون والفنانون وهم يدخلون رحاب الجامعة بسعادة لا توصف وأثنوا كثيرا على الأساتذة الذين رحّبوا بهم أخيرا وفتحوا لهم أبواب الجامعة لمصافحة علمية مع الطلبة ورأوا في ذلك اعترافا بدورهم في الثقافة ونظرة تقوم على الندّية والاكتشاف والتقدير. ويمكن أن نذكّر باليوم الدراسي الذي انتظمت أشغاله يوم 30 أكتوبر 2021 والذي أنجز بكليتنا وضمن أشغال مخبر بحوث في الأبنية والتصميم والجماليات وفريق البحث في البلاغة والدلالة والخطاب الذي أشرف عليه.وهو يوم دراسي عن الإنشاد الصوفي في البلاد التونسية ،الشيخ عبد المجيد بن سعد أنموذجا (استعدادا للذكرى الخمسين لوفاته) بمشاركة أساتذة من المعهد العالي للموسيقى نذكر منهم الأستاذ هشام بن عمر وأساتذة من أقسام العربية ومن اختصاصات تبدو بعيدة عن هذه المجالات كاختصاص الرياضيات لكن أصحابها يحملون عشقا في قلوبهم للشعر الصوفي العامي، حاتم دربال ومحمد رياض القهواجي وأحمد الخصخوصي وسامية الدريدي وغيرهم ومبدعين نذكر الأستاذ فتحي زغندة كما كان لبعض المنشدين في فرقة السلامية المشهورة في تونس حضور لافت بين الطلبة .فكان هذا التواشج حقا بين البحث الأكاديمي العلمي والإنشاد الصوفي والتأريخ لكبار أعلام هذا الفن مدعاة للإثناء على أهمية هذا النشاط من قبل الحضور عمادة وطلبة وأساتذة وضيوفا ورحّب الجميع بالمبادرة وألحّوا على تكرارها والحرص على الاستفادة منها بمزيد دعمها وإثرائها.
هذا النشاط الهام الذي ذكرناه والذي سعينا إليه بمعية زملاء أكفاء آمنوا بأهمية هذا الجانب الفكري من حياتنا وضرورة إدماجه في الحياة الأكاديمية وتشجيع الطلبة على البحث فيه وتسجيل المواضيع المختلفة المتعلقة به، ساهمت فيه جهود عدة لعلّ مجلات علمية محكّمة من أمثال مجلة الثقافة الشعبية الصادرة بالبحرين وجهود معهد التراث بالشارقة وغيرهما قد وضعوا لبنات ضرورية وهامة لتشييد هذا الصرح الكبير الذي يحتاج إلى تظافر جهود عدة لتحقيق المزيد من العلم والإشعاع داخل العالم العربي وخارجه.لذلك لا يكفي الإيمان بأهمية الثقافة الشعبية في تحقيق الخصوصية الفكرية والحفاظ على أصالة الشعوب وتقاليدها وإنما نحتاج إلى أن نرفد هذا الإيمان وهذا العشق بمشاريع عملية علميّة أكاديمية تؤسّس للمّ شتات المبعثر منها وتشجيع الأجيال القادمة من الباحثين على المضيّ قدما في هذا المسار الذي نشعر بأهمية احتضانه ورعايته لنجنّبه الضياع بتلاشيه من الذاكرة والنسيان بغياب حافظيه ونقيه مرة أخرى التجاهل والاستنقاص والتهميش.