فصلية علمية متخصصة
رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم
العدد
67

عرض لكتاب : «الأسـس الإثنوتاريخية »

العدد 56 - فضاء النشر
عرض لكتاب : «الأسـس الإثنوتاريخية »

تأليف : أوريلو ريكولى
ترجمة : مالك الواسطى
الناشر : الهيئة المصرية العامة للكتاب 2017

لقد احتل التاريخ منزلة مهمة في حقل الدراسات التاريخية، لاسيما وانه المستودع الرئيسي لجميع الأحداث والتصورات والأفكار التي شهدت ولادتها أحقابا زمنية سبقت زمن التوثيق أو لازمته، إضافة إلى أن التاريخ كان وما يزال الملمح الرئيسي لما يقع في الزمن الحاضر الذي يكون هو الآخر ماضيا لحاضر آت يلبس في الحاضر صفة المستقبل . فالمستقبل بذاته مرتبط، كما تبينه الدراسات، بمستوى العلاقة القائمة بين ما نسميه حاضرا وما يكتنفه الماضي من صراعات وتصورات، تلزم الحاضر في إعادة بنائها وخلقها لتكون حاضراً مستقلا عن الماضي ومولدا لما سيكون عليه المستقبل . من هنا تأتى أهمية كتاب الأسس الاثنوتاريخية للبروفيسور أوريلو ريكولى، والذي نقلة من الإيطالية إلى العربية دكتور مالك الواسطى أستاذ الدراسات الشرقية جامعة نابولي، والصادر ضمن سلسلة الثقافة الشعبية عن الهيئة المصرية العامة للكتاب 2017.

إن الأساطير ومصادر النقل الشفاهى، يمتلكان قدرة هائلة على اعتماد ذات التقنية المحصورة بعنصري النقل الشفاهى والذاكرة، ويمثلان في الواقع وحدة القص القادرة على تحرير مجموعه من الصور التي تبين عبر منهج المنطق التماثلي، ما يمكن أن يكشف عن التضاد والترابط الذي يهدف في النهاية إلى وضع نواة هيكليه لظاهرة الشر كمنطلق في بناء هيكليه ظاهرة الخير وكل هذا لابد من أن يكون نتاج ميكانيكية دقيقة متولدة عن القص نفسه كما يذكرها لنا عبر مفهوم طقوس التحرر من السلب «أن فعل الشر يضم في داخله نواة ولادة اللا شر».

إن الطريق الذي يسلكه الكائن غير الشرير، انطلاقا من اللا كائن، يمكنه بالضرورة إلغاء الكائن الحاضر في زمن الماضي وداخل زمن الحاضر وفى الزمن المستقبلي وهذا يعنى في النهاية إلغاء الفراغ ذاته من خلال إعادة بناء الكائن لهيكليه المستقبل الدائم الوجود . وهذا يعنى بأن التشابه القائم بين الأسطورة ومصادر النقل الشفاهي، تبني، بالضرورة، ذلك البعد التخيلي الذي يكون مصدرا ومنطقيا حقيقيا لإعادة بناء التاريخ والثقافة والهادف إلى عدم الانزواء في قراءة الأحداث لوحدها بل لقاءه ومعرفة الكائن نفسه اي الإنسان من خلال طرحة كعنصر « مبدع» طالما قد وجدت الدراسات الانثروبولوجية المعاصرة والدراسات التاريخية اليوم بعدا جديدا يدعم فكرة الانفتاح نحو بناء استراتيجيات منهجية جديدة تسير في خلق وبناء حالة ترميز جديدة للإنسان ولواقع حياته الكلية.

ما يمكن تسميتها بالتاريخ، قد احتضنها التفكير الشعبي وأصبحت جزءا من التقاليد الشعبية المعروفة في جزيرة صقلية . وهذه القصائد أو الأعمال الشعرية تكون قد بنيت على شكل شعري مغاير ومختلفا في بناء الموسيقى لذلك فإن هذه النصوص تكشف عن بناء جديد في هيكلية البناء القصصي، كما أن الأوزان الشعرية الأكثر انتشارا في بناء مثل هذه النصوص هو ذلك الوزن المعرف باسم «التثمين الصقلي» المبنى على قاعدة، التي تتميز بوجود قافيتين متكررتين لأربع مرات.

وهذه الروايات الشعبية الشعرية، قد تناولت موضوعات عدة منها الدينية وغير الدينية ؛ ففي الموضوعات غير الدينية نقلت لنا هذه الحكايات أحداثاً تاريخية ارتبطت بظواهر طبيعية واجتماعية كالجفاف والأوبئة والغارات العسكرية البربرية والفيضانات والزلازل والثورات وكذلك نقلت هذه النصوص وقائع تعلقت بحياة اللصوص وقطاعي الطرق والصعاليك الذين تتطابق شخصياتهم وشخصية روبن هود الأسطورة الذي أصبح رفيقاً للفقراء والمظلومين والمدافع عنهم وهذا ما يؤكد أيضاً انتقال هذه الشخصيات إلى رموز شعبية كما اهتمت النصوص بتسجيل وقائع وأحداث تركزت على موضوعة الحب المأساوي بينما تلك التي انحصرت في الموضوعات الدينية فقد استلهمت أحداث القص التوراتي كما قامت بنقل سيرة حياة السيد المسيح عبر تصويره بشكل تراجيدي وذلك من خلال الصفتين الأساسيتين اللتين ارتبطتا بهذه الشخصية أي حادثة الصلب وظاهرة الحب المطلق فالنصوص في بنيتها الكلية تبين اعتمادها على نظم تتحكم في بنائها الهيكلي والتصوري للحدث.

فعندما يبدأ الشاعر بصياغة حدث النص يبدأ عادة ببناء مدخل للنص يتضمن بالدرجة الأولى مقدمة استغفار للرب ودعوة لمنال رحمته حيث يجعل من هذا المدخل نقطة جذب واهتمام تثير المستمع الذي يواصل إنصاته إلى ما يود نقله الشاعر عبر غنائه الذي يتحول إلى ساحة لقص الواقعة ولكنه في قصه هذا لا يلتزم بالتتابع الزمني والتاريخي لوقائع الحدث بل يجتهد في عرضه للحادثة كلها أو جزءاً منها ومن ثم ينتقل بقص الجزئيات أو ما يمكن تسميته بالإطار العام الذي يكون ثوب النهائي لحدثه الرئيسي وبهذا الأسلوب يحاول أن يثير اهتمام الجميع حول موضوعه الرئيسي الذي أراد بناءه ضمن الهيكلة الأسطورية التي صاغت حكايته. وفى المقطع الأخير من عمله نجد عادة الحلول النهائية لعقدة الحدث الشعري .

إضافة إلى الشكر الذي يطلقه المؤلف لسامعيه الذين واصلوا الإنصات إليه ومتابعته أثناء قصه الغنائي لحكايته كذلك نتمكن في المقطع الأخير من القص الشعري العثور على اسم المؤلف وإلى بعض صفاته كذلك إلى موقع وزمن القص والمناسبة التي دفعت الشاعر إلى كتابة هذا النص . وعن البناء الداخلي للنص يكتب قائلاً: «هناك ظاهرتان تؤثران تأثيراً واضحاً على بنية الأسطورة أو القص الشعبي الصقلي : الأولى هي الشعور الديني والأخلاقي الذي كان واضحاً ومنتشراً في جميع الموضوعات . وهذا الأثر الواضح والمؤثر على جميع المؤلفين لم يمنع هؤلاء من أن يصفوا بعض رجالات الدين وصفاً سلبياً . فقد كان البعض من رجال الدين يستغلون موقعهم الاجتماعي والديني لتنفيذ ما يرغبون به شخصياً . أما الظاهرة الثانية التي كان لها أثر واضح أيضاً على مؤلفي القص، فهي تلك التي عرفت بالشعور الوطني المتعلق بالوفاء والحب للوطن والرفض الكامل لدكتاتورية الحكم».

هذان العاملان قد ارتبطا معاً وقد أسهما معاً في خلق الكثير من القص الشعري الشعبي الذي تم الاحتفاظ به لسنين طويلة، وبهذا تمكن هذا القص من أن يكون وعاء للتاريخ الشعبي وللذاكرة الجماعية محتفظاً بالكثير من الأحداث التاريخية التي كون شخصيتها الرئيسية أناس عاديون أو لصوص أو ثوريون: فقاطع الطريق الصقلي ( الصعلوك ) الهارب من العيش في المجتمع المدني لخطأ ارتكبه أو لفشله في كثير من الأحيان بالزواج من المرأة التي أحبها أو لابتعاده عن المجتمع لعداوة يصعب مواجهتها من خلال النظم الاجتماعية السائدة لم يتصف بكونه رجلاً شريراً بطبعه وما هو ببخيل أو محب لإسالة الدماء بقدر ما كان شخصية قد خلقت نفسها بما تؤمن به دون الرجوع إلى الأعراف العامة .

فهو قد كان على طريقته الخاصة كريماً وشجاعاً وصاحب قيم إنسانية ومؤمناً بدينه إلا أنه كان عدواً للأغنياء والمتحكمين وحامياً للفقراء والضعفاء من جنسه .. هذه الخصائص التي تمتعت بها شخصية الصعلوك الصقلية جعلت منه شخصية محببة لدى العامة من الناس . ومن الملاحظ فى الأعمال الشعرية التي تقص حياة الصعاليك ومغامراتهم بأن الشاعر لا يذكر اسمه بل تبقى هذه الأعمال لشعراء مجهولين وهذا مما يجعلها تتركب على بنية شعرية خاصة تجعلها سهلة التنقل بين الناس كذلك الحال فى الأعمال الشعرية التي تقص أحداثاً سياسية يصعب على أي سلطة سياسية إيقاف تنقلها وانتشارها وذلك لانتسابها رمزياً إلى جميع من يقص الحدث وما هي إلا وعاء لجميع التصورات المعارضة والرافضة سواء للأعراف أو لطبيعة الحكم السائد وبهذا تكون أيضاً أكثر تأثيراً في الذاكرة الجماعية .

وبعد جمع قام به الباحث مارينو قال : «إن هذه المجموعة من الأساطير التي تم جمعها تمثل «الإرث الشعبي» الحقيقي الذي عاش فى الذاكرة الجماعية». وبعد تأكيده هذا قال أيضاً: «وأنا اليوم أمتلك الكثير من النصوص الشعرية القصصية التي تتميز بفضاء موضوعاتها ودقة وجمال هيكلتها غير أنها لم تتمكن من احتلال موقع مهم فى الذاكرة الجماعية لهذا فقد قمت باستبعادها عما نشر كنماذج شعرية قصصية شعبية أثرت في الذاكرة الجماعية» ويختم هذا الباحث نصه فى القول: إن الأساطير الشعبية التي حصرتها فى اثنين وستين أسطورة شعرية قد قمت بنشرها بعد جمعها مباشرة خلال السنوات المنحصرة بين عام 1865 وعام 1880، وقد التزمت بنقل تلك النصوص حرفيا وحتى وإن كان البعض منها ضعيفا أو خارجا عن منظومة الوزن الشعري، كما التزمت في هذا النقل بالمحافظة الكلية على الاختلاف الظاهر في النطق بين قرية وأخرى أو بين بلد وآخر أي إنني عملت على تصوير النص الشعري القصصي في شكليه الكتابي والنطقي وبهذا استطعت في النهاية من التوثيق الفعلي لما هو قائم في الذاكرة الجماعية وهذا يجعل هذه النصوص مصدرا في الدراسات التاريخية والشعبية واللغوية أيضا .

فالتاريخ بوقائعه يستمد هيكلته من بنية القص وطبيعة الوزن الشعري المختار والنموذج الذي يستخدمه المغنى في قص الأحداث وهذا ما يذكرنا بمغني القرن الرابع عشر والخامس عشر الذين كانوا يملؤون ساحات مدينة فلورنسا ويقومون بقص أحداث عصرهم برفقة الموسيقى . ومن الطبيعي الاستنتاج في القول بأن خلفاء ما سموا بـ ( Histriones). وبالرواة المتجولين (Circulators). الذين انتسبوا إلى العصور الوسطى هم مغنو القص الموسيقي الذين تنسب لهم أول القصص الموسيقية التي تناولت موضوع الفروسية.

هذا القص الذي وجد في شخصية الرواة لاحقا أي أولئك الذين يروون التاريخ في الأماكن العامة دون الاستعانة بالموسيقى وسيطا جديدا في الوصول إلى مسامع العامة . غير أن مغني القص التاريخي قد تخصصوا عبر مهنتهم هذه حتى أصبحوا فيما بعد صحفيي عصرهم فكانوا يقصون أحداثا تتعدد مشاربها منها ما كان موضوعه متعلقا بحروب ومغامرات قاطعي الطرق ومنها ما كان متعلقا بالكوارث والأوبئة التي تحل بالناس كذلك مآسي الطبقات الفقيرة ومآسي العشاق . وقد أصبحوا نتيجة لمهنتهم الصوت المعبر عن أحزان الجميع وغضب الطبقات الفقيرة كالحرفيين وكذلك قد كانوا الصوت الجماعي المعارض والرافض لما يقوم به رجال الدولة كالحسبة الذين كانوا يثقلون بضرائبهم المرتفعة كاهل مزارعي الأرز الذين لم يتمكنوا من تسديد تلك الضرائب الثقيلة .

فالقص الذي يروي أحداثا أسطورية أو أحداثا واقعية سعيدة كانت أم حزينة، شخصية كانت أم جماعية، قد كان المصدر الرئيسي للرواة الذين وجدوا في هذا القص مصدرا لا ينضب لنشاطهم كرواة للأحداث وخاصة بعد ظهور الطباعة . ومع بدايات القرن الرابع عشر أخذ الرواة ينخرطون فى عالم الطباعة والنشر حيث بدؤوا يكتبون على صفحات منفردة قصصهم التي أخذت تتنقل بين القراء بشكل سريع وفعال كما ضمت هذه الصفحات بعض الأعمال الكاريكاتيرية التي كانت جزءا من الموضع ذاته شجع العامة على شرائها . وقد استطاع هذا النشاط الصحفي أن يجد له وسيطا آخر في نشر القص وذلك من خلال بناء صفحات كبيرة تكتب عليها الأحداث وتعلق فى الأماكن العامة . وقد ضمت هذه الصفحات أهم الأحداث كذلك بعض القصص الطويلة مختصره بذكر أحداثها الرئيسية .

فالحكايات التي جمعها الباحث الشعبي تعتبر اليوم من المصادر المهمة التي تمثل (مصادر نصية) أساسية في البناء التاريخي وذلك لوصفها الكلى للحياة اليومية المعاشة من قبل المجتمع فى تلك الأحقاب. ومن هذا المنطق فإن هذه الأساطير أو القصص التاريخية قادرة على منح الدارسين نوعين من الخطوط المعلوماتية: الأولى طريقة معايشه الشعب للأحداث وطبيعة التاريخ المعاش .

أما الخط الثاني فيمتد بالكشف عن طبيعة اختلاف الأساليب التي يحاول الشعب من خلالها رسم «التاريخ» مقارنة بذلك التاريخ الرسمي كما إن هذه المصادر تفضي إلى خلق مسار فكرى نظري يضم الاختلاف والتطابق بين التاريخ الرسمي والتاريخ المنتسب إلى الطبقات المتدنية اجتماعيا والتي استبعدت كليا عن الأحداث المكونة للتاريخ وذلك لاعتبارها أحداثا خالية من دلائل مهمة لهذا فمن الصعب أن يمكن الأخذ بها فالاكتشافات التي جاءت بها الأساطير -القص التاريخي تعتبر بدلائلها «مصادر» تاريخية «مضافة» قد وقفت شامخة أمام الباحث التاريخي الذي لا يمكن له اليوم تجاهلها بل قد جعل منها مادة لإحياء «التاريخ» في بعده الجديد الذي تمكن من جمع كل العناصر المكونة له ومن ضمنها المتخيل الجماعي .

إن كتابة التاريخ السحري الذي اعتمد على تناول ودراسة ما يقع فعلا فى الظواهر الدينية وما يرافق هذه الظواهر من أعمال وحركات تبني الأطر العامة للمشهد الديني الشعبي قد اتسمت حتى نهاية الخمسينيات من القرن الماضي بميولها المثالية . الأدبية، حيث عمل هذا التيار أو الاتجاه البحثي إلى نقل تلك اللحظات الشعبية العامة وصياغتها من جديد عبر أساليب تجعل منها أن ترتقي إلى المستوى الثقافي الأكثر علوا . وهذا مما جعل اي ناقد «موضوعي» يصف هذا النوع من الكتابة التاريخية في كونه ( التاريخ غير الملتزم) وذلك لما اعتمده من أساليب سطحية فى توثيق الحدث التاريخي الاثنوبولوجى لتلك الوقائع .

غير أن كتابة التاريخ السحري المتعلق بالوقائع والأحداث والمراسيم الدينية في السنوات التي لحقت أعوام الخمسينات من القرن الماضي، قد استطاعت أن تتجاوز في توثيقها التاريخي ذلك البعد الرومانتيكى، مما أدى إلى نقل البحث اللغوي الأدبى إلى مستويات وآفاق جديدة تتقاطع والبعد الاجتماعي الاثنوبولوجى . وهذا النوع من البحث لا يغيب عن وجهة نظر الباحث الموضعي من أن يعتبره بحثا ملتزما وذلك لتطابقه ومناهج البحث الاثنوبولوجية التطبيقية التي ترتكز بالدرجة الأولى إلى عنصري الحاجة / الواجب فى تراكم الوثائق من اجل التحقق في واقعية البعد الاجتماعي السياسي.

وهذا الأسلوب في الكتابة التاريخية الذي يعطي أهمية قصوى للبعد التحليلي الاجتماعي الاثنوبولوجى في تناول الأحداث والوقائع المتداخلة قياسا بالأسلوب الأول الذي وصف بعدم الالتزام. يمكن أن يحمل الصفات ذاتها وذلك لعدم خلوه من البعد الأيديولوجي ( هذا البعد الذي يصعب على اي باحث التخلص منه طالما يمثل البعد التصوري المركزي لمكونات ثقافة الباحث . الذي يسهم في بناء هيكلية قراءة أحادية البعد فى تناول وتفسير الظواهر المتعددة إلى درجة الإقناع . إذا كان هذا الإقرار معبرا عنه ضمنيا، لوجود واقع متدن لابد له من أن يعود بمصدرية وجودة إلى تصور أحادى تكشف عنه المعاني الدالة في مكونات اللغة المستخدمة والمعبرة عن تلك الواقعة حيث تكون مختارة من عالم لامتناه من الدلالات والتفسيرات المتعددة للظاهرة ذاتها . هذا النوع من الدراسات يتعرض هو الآخر إلى نقد واضح وذلك لاحتوائه على بعض الثغرات التي تدفعه إلى الفصل بين المنهج الاثنوبولوجي والعالم الشعبي المتدني مما يجعله متقاربا وذلك المنجز المتمثل ببعده التحليلي الذي يهم في تقليل مصادر الظواهر المتعددة وحصرها في مسببات أحادية جامعة تولد في العين المحللة لها صدى لفكرة واحدة ؟

وكل هذا يلزمنا أن نتخذ جانب الرفض لكل «الكتابات التاريخية التي تثير الغثيان والضعف». والمعتمدة على الذوق «التزيين والتأطير» والمدافعة عن رجال الدين الطيبين، كما نلزم أنفسنا باتخاذ الرفض موقفا أمام الكتابات الغثة التي بقيت مغلقة في ذلك القص المجزأ الذي يعود إلى القرن التاسع عشر، ذلك القص الذي ظل بعيدا عن المناهج الحديثة وعن تطورات الأساليب الدراسية الأكثر عصرية في تحليلها للوثائق التاريخية . ولا يمكننا إلا أن نرفض أيضا تلك الدراسات التي نهجت أساليب البحث الحديث الاجتماعي الاثنوبولوجى لكنها بقيت حبيسة التصور الإيديولوجي، ذلك التصور الذي ألزمها التحديد واتخاذ المواقف المسبقة في الاستنتاج .

إن كل ما تم ذكره فيما يتعلق بطبيعة الدراسات والمناهج المعتمدة في هذا الحقل، يدفعنا إلى اقتراح منهج جديد يختص في تناول هذه الظواهر «المعتقدات الشعبية» يتكفل فيه الباحث استبعاد كل ما يمكن أن يمثل مصدرا إيديولوجيا، التي أشار إليها ماريني وتلك التي تمثلت باعتقادها ( اللا دينى)، وذلك في اتخاذ البحث لنفسه منزلة البحث المعاش أو الخبر المعاش والمكون لمنهج الاثنولوجى عبر جمعه لكل دلائل الظاهرة المتناولة فى الدرس ابتداء من الأصوات والاعتبارات والتقديرات موظفا بذلك الأسلوب المنهجي المايوتيكى اى الأسلوب السقراطي الذي ينحصر في دفع البحث داخل موضوعه عبر موضعه أمام أسئلة تلزمه صياغة إجابات تكشف عن حقيقة ما تكنه النفس من معتقدات والقدرة على الكشف عن المعرفة الإيديولوجية للإنسانية من خلال الشخصيات التي تكون أساسيا في ولادة الحدث أو الواقعة .

إن ما نجده ضرورة في اقتراحه، يفترض دون شك أن يكون المراقب «الباحث الاثنوبولوجى»، قادرا على تغييب، حتى وان كان ذلك بشكل افتراضي، كل قناعاته وانطباعاته المسبقة وذلك من خلال وضع مكنونات الثقافة موقع جدل أولي كذلك الحال فيما يتعلق بأساليبه في ترجمة وتفسير الظاهرة بغية الوصول إلى استخلاص مختصر وناضج يتداخل ويكشف عن الماهية الحقيقية والواقعية للحدث نفسه .

الصور:

1. https://mufahras.com/wp-content/uploads/2018/09/mondo-carta-400.jpg

2. http://1.bp.blogspot.com/-XaG5DQ98bR8/Vm3Kdtf2jkI/AAAAAAAAAFU/NcHLeDnt6NY/s1600/974b9884-9bd0-4977-99a0-697adbb8a71e.jpg

أعداد المجلة