إطلالة على أعمال عبد العزيز المُسَلَّم الباحث والمبدع والراوي
العدد 55 - فضاء النشر
كان اتجاهنا في باب فضاء النشر (جديد النشر سابقًا) خلال السنوات الفائتة قد ارتبط بمسارين: الأول موضوعي، مثل ملفات حول الألغاز أو الأدب الشعبي أو العادات والتقاليد أو الحرف الشعبية أو توثيق التراث الشعبي..إلخ، والثاني جغرافي، كأن نعرض لدراسات حول فولكلور الكويت أو البحرين أو سوريا أو السودان أو مصر أو المغرب..إلخ. وفي هذا العدد سنلقي الضوء على مسار آخر في باب فضاء النشر، حيث نسعى إلى التوسع في هذا الفضاء للتعريف بالإنتاج العلمي لبعض الرواد الباحثين والأكاديميين في مجال التراث الشعبي العربي.. ونرى أن هذا الاتجاه في فضاء النشر ربما يفيد بعض الدارسين الذين هم في حاجة للتعرف على الاتجاه المنهجي لعلم من الأعلام. وكنا قد اتخذنا هذا الاتجاه في بعض الأعداد السابقة احتفاء بذكرى عدد من الرواد.. غير أننا سنحاول هنا التعريف بالإنتاج العلمي للرواد والباحثين من منطلق رصد أعمالهم والوقوف على مسيرتهم العلمية من ناحية، والتشجيع على التواصل بين العاملين في المجال من ناحية أخرى.
عبد العزيز المُسَلَّم عاشق التراث:
هو ابن الشارقة التي ولد فيها عام 1966، وهو باحث في التراث الشعبي بالفطرة، وشاعر وكاتب، تشير سيرته الذاتية إلى اهتمامه بما كان يدور حوله من مناسبات شعبية وعادات وتقاليد ومعارف وفنون، استطاع أن يحفظها ويسجلها في ما بعد، سواء في مقالات منشورة أو كتب، أو من خلال عشرات البرامج والحلقات الإذاعية والتليفزيونية العربية. حصل على درجة الدكتوراة في التاريخ والتراث من جامعة الحسن الثاني في المملكة المغربية. يشغل الآن منصب رئيس معهد الشارقة للتراث، وهو إحدى المؤسسات الثقافية المهمة في حكومة الشارقة يختص بعرض التراث الإماراتي والعربي. ارتبط إسم المُسَلَّم بالتراث الثقافي عامة، والحكايات الخرافية بصفة خاصة، حيث تصدى لإعادة تقديم مجموعات من الحكايات الإماراتية ونشرها، وقد رأس- ولا يزال- تحرير مجلة الموروث، وهي مجلة علمية فصلية محكمة تعنى بالتراث الثقافي، يرأس كذلك تحرير مجلة مراود التي تتوجه إلى القارئ العام والجمهور الأوسع بما تقدمه من موضوعات تراثية متنوعة. وعلى المستوى الدولي ساهم المُسَلَّم بدور نشط في اتفاقيات اليونسكو للتراث غير المادي والتراث العالمي، فضلاً عن دوره الفعال في حماية الملكية الفكرية (الوايبو)، وهو عضو تنفيذي بالمجلس الدولي للتراث الثقافيICCROM، ورئيس المنظمة الدولية لمهرجانات التراث الشعبي CIOFF بالإمارات، وعضو مجموعة أسابيع الشارقة الثقافية العالمية. وقد استطاع المُسَلَّم أن يؤسس لثلاث فعاليات مهمة من خلال عمله بإدارة التراث والشؤون الثقافية بدائرة الشارقة للثقافة والإعلام، ثم معهد الشارقة للتراث الذي نهض على تراكم الخبرات السابقة في شأن التراث الثقافي منذ تسعينيات القرن العشرين، في مقدمة هذه الفعاليات الكبرى: أيام الشارقة التراثية التي تعد من أكبر الفعاليات التي يقيمها المعهد، بل أكبر تظاهرة ثقافية شارقية، تنطلق سنويًّا خلال شهر أبريل. وكذلك «يوم الراوي» الذي يحتفي بالكنوز البشرية والروايات الشفاهية، الذي تغير إسمه مع اتساع نطاقه وبرامجه إلى «ملتقى الشارقة الدولي للراوي»، ثم «ملتقى الشارقة للحرف التراثية» الذي يُعد من أهم التجمعات الثقافية التي تحتفي بالحرفيين والعاملين في مجال الحرف الشعبية. نُشر لعبد العزيز المُسَلَّم الكثير من الإصدارات العربية، منها: موسوعة الكائنات الخرافية في التراث الإماراتي: دراسة في المخيلة الشعبية- الثقافة الشفهية: رؤية في أهم منابع الثقافة الشعبية في الإمارات العربية المتحدة- خراريف- المعنى: أحاديث الأوائل من الذاكرة الشعبية- النية ذهب (حكايات من تراث الإمارات)- أمثال السنع- صوغة (مجموعة شعرية)- نجمة في الحديقة- جحا والباب- عويد الحنا (حكايات للأطفال)- رادا (حكاية)- وهل تعلم (شعر شعبي)، وغيرها.
وقد نشر للمسلم عشرات المقالات والدراسات في موضوعات التراث الشعبي الإماراتي في اللهجة الإماراتية والأزياء والزينة وفنون الحكي والأغاني الشعبية والحرف.. إلخ. وقد حصل المُسَلَّم على الكثير من شهادات التقدير المحلية والدولية، منها شهادة الأداء الحكومي المتميز في الخدمة العامة عام 2003 من حكومة الشارقة، وشخصية العام الثقافية من جريدة الخليج عام 2012 ، ووسام المبدعين الخليجيين المختصة بالبحث في التاريخ الشفهي بالكويت عام 2014، وجائزة العويس للابداع لأفضل كتاب للطفل عام 2015، عن كتابه «أمير البحار».
مشروع المُسَلَّم حول الحكايات الخرافية
أشرنا في مقدمة المقال إلى اهتمام المُسَلَّم بالحكايات الخرافية، والبحث في الكائنات الخرافية بشكل عام، وقد انعكس ذلك في عدة طبعات لمجموعة من الكتب التي تحمل هذا المضمون، وكان قد نشرها من قبل في بعض الدوريات العربية. ونشير هنا إلى كتاب «خراريف» الذي صدر عن دائرة الثقافة والإعلام بالشارقة 2007، وقد أشرنا في العدد 11 إلى هذا العمل الذي قام فيه المؤلف بجمع ميداني لما توفر له من روايات حول الكائنات الخرافية بالإمارات، وهي حوالي عشرين كائنا خرافيا تنوعت أشكالها كما تنوعت التصورات الشعبية حولها. ويشير المؤلف في مطلع كتابه بقوله: «جميل أن نقتحم أسوار الخروفة في الإمارات فهي تعبير صادق عن خلجات النفس والروح، فقد ظلت «الخراريف» وهي الجمع للخروفة تروى فقط ولا تفسر، وكانت جميع عوالمها محجوبة معزولة عن التداول والمناقشة». ويقدم المؤلف عشرين كائنا خرافيا ذابت فيها الفوارق بين التصورات الشعبية والحكايات الخرافية. وبنزعة الباحث قدم عبد العزيز المُسَلَّم دراسة حول الأدب الشعبي وأنواع الحكايات الشعبية بالإمارات. أما الخراريف فقد عرضها مستعيناً بالمادة الميدانية التي جمعها من الرواة، فضلاً عن المادة المرجعية حيث قدم ما ورد حول كل كائن خرافي في معاجم اللغة، ثم في التراث الإماراتي والتراث العربي والعالمي، لنجد أننا أمام مادة تنوعت بين الدقة البحثية والإبداع الروائي.
وبعد عشر سنوات يتوسع المُسَلَّم في هذا الكتاب ليقدمه كموسوعة متخصصة في الموضوع، حيث صدرت عام 2017 الطبعة الأولى لموسوعة الكائنات الخرافية في التراث الإماراتي: دراسة في المخيلة الشعبية في560. كما قدم الموسوعة مترجمة في المجلد نفسه إلى اللغة الإنجليزية. وبصدور الموسوعة أصبح هذا الموضوع من المشاريع العلمية التي استحوذت على اهتمام المُسَلَّم، وقد طلب منه ترجمتها إلى لغات أخرى غير الإنجليزية، وبدأ الاهتمام بالموضوع يتوسع على المستويين العربي والدولي، وقد صدر من الموسوعة طبعة أخرى عام 2020. وقد كتب المقدمة العلمية للموسوعة مصطفى جاد، كما ذُيلت بمجموعة دراسات عن الموسوعة بدأت بدراسة باسم عبود الياسري بعنوان «الخرافة فعل إنساني لمواجهة الخير»، ثم دراسة دلال جويد بعنوان «الخراريف خيال يبني قيم الواقع»، وأخيرًا دراسة رسول محمد رسول بعنوان «قراءة في بنية الموروث الحكائي الشعبي في الإمارات». ويسجل المؤلف حكايته مع الكائنات الخرافية مشيرًا لارتباطه بمنطقة خورفكان التي تتألف من مجموعة من القرى المتقاربة تحتضنها سلسلة من الجبال، ومن ثم حفلت بالعديد من المعتقدات الشعبية المرتبطة بالكائنات الخرافية، والتي كان يُعتقد أنها تزور منزل العائلة مما دعا الأم للبحث عن الوصفات الشعبية لإبعادهم كالملح والعتم وتركة صالح وغيرها من الوصفات التي كان يجب وجودها في البيت لإبعاد زوار الغفلة. كما يسجل المُسَلَّم اهتمامه بتسجيل المأثورات الشفاهية عن والدته وهو في مرحلة الإعدادية، ثم انضمامه للدورات التدريبية بمركز التراث الشعبي لدول الخليج العربي، ثم تجربة دائرة الثقافة والإعلام بالشارقة، ثم قصة ترميم المدينة القديمة بالشارقة التي واكبها العديد من الروايات والمحاضرات حول الكائنات الخرافية لدى الإماراتيين، وينتهي المُسَلَّم بقوله: أكاد أجزم أن كتاب «المستطرف في كل فن مستظرف» للأبشيهي، وكتاب «بدائع الزهور في وقائع الدهور» لابن إياس، كانت محفزة لي على أن أتابع في هذا الباب.
تضم الموسوعة جميع ما عكف على جمعه المؤلف من روايات حول 33 كائنًا خرافيًا، صُنفت حسب الترتيب الهجائي. وقد استطاع أن يقدم مادته الميدانية بمنهج رصين من خلال لقائه بمجموعة من الرواة الثقاة الذين جلس يسمع منهم ويدون أحاديثهم حول الموضوع، وقد اتبع سياقا موحدا فى جمع مادته واستخلاص المعلومات، فقدم فى بداية كل مادة أصل تسمية الكائن الخرافي، ثم التفسير اللغوي للإسم لنتعرف على ملامحه، ثم أماكن انتشاره في الإمارات، ثم شرع يبحر فى كتب التراث العربي للوقوف على تأصيل عربي للكائنات الخرافية التي جمعها. وينتهي بالرواية الشفهية التي جمعها. وقد التزم المؤلف أيضاً بالبعد الجغرافي والمناطق الثقافية بدولة الإمارات، فنجد مواد ممثلة للبيئات الساحلية والصحراوية والجبلية. كما عرض لكائنات يمكن أن تندرج تحت ما يُعرف بالبشر وأنصاف البشر، مثل: أم الدّوّيس (ذات المنجل)- أم الهيلان (العجوز الشمطاء)- غريب (النحيل الجبار)- روعان (مزدوج الشخصية). كما عرض لكائنات خرافية اتخذت هيئة النباتات والحيوانات والطيور مثل: أم الصبيان (دجاجة وفراخها)- أم كربه وليفه (النخلة)- بعير بلا راس (الجمل المنحور)- بعير بو خريطه (الجمل ذو الكيس)- بو سولع (المفترس)- سدرة الصنم (سدرة وادي الحلو)- أم رخيش (طائر الرخم)- حمارة و كلاب القايلة. كما تضمن الموسوعة كائنات خرافية من الجمادات والجن والشياطين مثل: بو راس (يد أسد ورجل حمار)- خطّاف رفّاي (بو شريع)- شنق بن عنق- كهف الدّابه- جني المريجه- حصه وعيالها- فتّوح (عفريت القرم)- جني الرقّاص- عثيون (الياثوم)- سويدا خصف (سلة التمر). أدخلنا عبد العزيز المُسَلَّم بموسوعته إلى عالم ساحر بحق.. كائنات خرافية تتعارك مع البشر، أو تبادلهم الغناء الجميل..أو تفترسهم، وكائنات تظهر فى البر والبحر، وتظهر فى اليقظة آناء الليل ووضح النهار. وقد تظهر في الأحلام مثل عثيون الذي يعبث بمنامات الناس. وقد تتخصص فى خطف الأطفال كأم الصبيان وبعير بو خريطة والهامّة وبو سولع. نقرأ فى الموسوعة عن كائنات تظهر في البحر مثل شنق بن عنق، أو تعترض السفن مثل خطاف رفاي الذي يظهر في شكل شراع. وقد تتشكل فى صورة امرأة جميلة تغوي الرجال كأم الدويس. وقد تتطفل على البيوت وتحسد الناس كأم الهيلان العجوز الحاسدة قبيحة الخلقة. وقد نشاهد كائنات تخصصت فى اللعب بالناس واللهو بمشاعرهم كجني المريجة. أو تؤذي البشر مثل روعان الذى كان بحاراً ماهراً ثم أخذ يعترض الناس دون إرادة منه.. كائنات قد تظهر عندما يكون القمر بدراً مثل «بو راس» المستذئب الذى يصارع من يقابله فى خفة لا تتناسب مع حجمه. ومنها ما يظهر فى جميع الأوقات وفى الأماكن الآهلة بالسكان. كائنات قد تظهر مبتورة اليدين مثل بابا درياه الذي يخيف البحارة.. وقد تتشكل الكائنات فى صورة حيوان كالبعير الذي ذبح ولم تخرج روحه مع رأسه المقطوعة فظل هكذا. وقد تكون نخلة «كأم كربة وليفة» النخلة القبيحة التي تلبسها الجن لتؤذي بها الناس وتعذبهم. وقد يكون طائرا كأم رخيش الطائر الضخم الذي ينذر وجوده بالخراب والدمار. وهناك كائنات خرافية لطيفة تصاحب الناس مثل «جني الرقاص» الذي لا يعمل إلا إذا أقيمت له الاحتفالات والأغاني. و«سويدا خصف» التي تظهر في شكل تمرة سوداء محفوظة في خصف. وقد ترتبط الكائنات الخرافية ارتباطًا وثيقًا بالبشر «كحصة وعيالها» الجنية التي يعرف سرها عبد الله الرجل الغريب الغامض صاحب العلم الباطني. يقدم المؤلف بلغته المميزة هذه الكائنات الخرافية، وكأنه يوجه دعوة مباشرة للمبدعين فى الأدب والفن والسينما لأن يستلهموا منها ما يشاءون من موضوعات. وقدمت الموسوعة تصورًا تشكيليًا للكائنات الخرافية من خلال تنفيذ الكتاب على الرسم، إذ استعان المؤلف بأربعة رسامين اعتمدوا على قراءة المأثورات حول هذه الكائنات وأطلقوا العنان في رسمها بالألوان، وهو جهد يُضاف للموسوعة. كما قدم المؤلف ببليوجرافيا عربية مختارة حول الكائنات الخرافية.
اهتمام المُسَلَّم بالثقافة الشفهية
المتتبع لمؤلفات المُسَلَّم سيلاحظ اهتمامه بتسجيل ما حفظة من مخزون تراثي في الذاكرة ثم إعادة كتابته مرة أخرى بمنهج علمي يتميز بالسهولة والوضوح. وفي هذا الإطار صدر كتابه «الثقافة الشفهية: رؤية في أهم منابع الثقافة الشعبية في الإمارات العربية المتحدة» عام 2014 في طبعته الثانية عن دائرة الثقافة والإعلام بالشارقة، وقد أشرنا لهذا الكتاب أيضًا في عدد سابق حيث اشتمل على خمس دراسات، بدأها المؤلف ببحث بعنوان «في التراث والثقافة الشعبية: دعامة الهوية وإثبات الوجود»، ناقش فيه إشكالية الاهتمام بالتراث والتعاطي معه، باختلاف المستويات الثقافية لفئات المجتمع، كما تتبع مفهوم الثقافة الشعبية وارتباطها بالتأدب والتهذيب، أما التعليم فتقابله المعرفة الشعبية. ثم انتقل لمرادفات أخرى كالتراث والفولكلور والتراث الثقافي. وقد وصف الوضع الراهن بإشارته إلى أن المُطَّلع اليوم على ما تعانيه النتاجات الثقافية المحلية، في الخليج عموماً وفي الإمارات على وجه الخصوص، يلاحظ غُربة وبُعْدا عن المتلقي العادي، وأن هذه النتاجات غير شعبية، ولم تخرج من المنبت الطبيعي للثقافة المحلية (التراث الثقافي). وهي في الغالب إما متعالية مترفعة، أو متجاهلة مستخفة بهذا التراث، مما أوقعها في إشكالية كبيرة، فالصنف الأول المتعالي المتعجرف أعجب بثقافات أجنبية غريبة، جعلته كمن نسي مشيته ولم يتمكن من تقليد مشية الآخر، أما الصنف الثاني المتجاهل المستخف فهو الذي انكبّ على ما يسمى الأدب الرسمي أو الأدب الفصيح، ويلغي كل ما ليس فصيحا بدعوى القصور، متناسياً بذلك أن هذا التراث الثقافي الشعبي هو نتاج تراكمات ثقافية أدبية وفنية فصيحة تناقلت بين الناس شفاهة، وهو نتاج تجارب وممارسات ومعارف وعادات مختبرة وموثقة. أما الدراسة الثانية فجاءت بعنوان «الساحل: الاسم القديم للإمارات العربية المتحدة» حاول فيها الكشف عن ملابسات تسمية الإمارات القديمة، وما يكتنف تلك التسمية من غموض أو عدم وضوح، لأسباب عدة أهمها عدم الاكتراث. والساحل- كما يشير المؤلف- منطقة تاريخية قديمة تقع في شبه الجزيرة العربية في جنوب غرب قارة آسيا مطلة على الشاطئ الجنوبي للخليج العربي، لها حدود بحرية مشتركة من الشمال الغربي مع قطر، من الشمال والغرب مع المملكة العربية السعودية ومن الجنوب الشرقي مع سلطنة عُمان، لها ساحل آخر هو ساحل الشميلية يمتد من رأس الخيمة مروراً بدبا وخورفكان والفجيرة حتى كلباء وينتهي في منطقة خطمة ملاحة الفاصلة بين الإمارات وعُمان، ويتصل ساحل الشميلية جغرافيًا وطبيعيًا بسهل الباطنة في سلطنة عُمان. بانطلاق الكشوف الجغرافية الأوروبية منذ مطلع القرن الخامس عشر كان (الساحل) ضمن المناطق التي أغرت الأوروبيين لاستكشافها والسيطرة عليها، ومن ذلك الحين والساحل يدون في الوثائق و المراسلات والخرائط وفق الحالات السياسية والأحكامات العسكرية والأمزجة الشخصية الخاصة بأولئك الأوروبيون، فيسمى ساحل عُمان أو الساحل المتهادن أو المهادن أو الساحل المتصالح أو ساحل القراصنة. وبسبب الانقسامات الداخلية والفرقة، برزت أسماء إمارات مثل (أبوظبي، الشارقة، رأس الخيمة) المكونة للساحل والأحلاف القبلية القوية (القواسم وبني ياس) التي تقاسمت السيطرة البرية والبحرية وطغى إسمها على الإسم العام للمنطقة. لكن تأصيل هذا الإسم بات صعبًا لغيابه في غالبية الكتابات التي أعقبت الكشوف الجغرافية سواء الأجنبية أو العربية منها، لتأثرها بتداعيات تلك الكشوف، ولاعتماد الكتابات التاريخية العالمية على المنشور التاريخي الأوروبي، حتى دولة الإمارات وهي المعنية بهذه التسمية أكثر من غيرها لم تسع طوال مدة تاريخها الاتحادي إلى تثبيت هذا الاسم الذي نعتبره مشرفًا، ونبذ الأسماء ذات النعوت الاستعمارية المعادية، فتأصيل هذا الاسم كان يستلزم جهدًا خاصًا لاستخلاصه من بين آلاف الكتابات التاريخية، كما يتطلب الاستناد إلى التاريخ الشفوي وإلى الأدب الشعبي (الشعر الشعبي والأمثال الشعبية والحكايات الشعبية والسير) لكن اعتماد الدولة في العقدين الأولين من قيامها على مؤرخين وكتاب من غير الإماراتيين (الساحليين) غيّب الاسم لاعتماد أولئك على المصادر الأجنبية فقط. ويتساءل المؤلف: لماذا الساحل؟ إن من أهم أسباب تسمية الإمارات قديمًا باسم (الساحل) هو وقوع جل مساحتها على ساحل طويل يقدر طوله بحوالي 700كم، كما أن أهم المدن كانت مدن ساحلية تمتد بامتداد الساحل ولايتجاوز عرضها بضع مئات من الأمتار، ثم يحدها سور منيع ليحصرها على الساحل بما يؤكد غلبة هذا الاسم عليها. السبب الآخر هو عدم وجود كيان سياسي موحد، أو زعامة واحدة للمنطقة فغلب ذلك الاسم الوصفي ليعبر عن النطاق الحدودي والجغرافي. ومما يمكن اعتباره سببًا في التسمية أيضًا هو العمل الرئيسي لسكان المنطقة ومورد اقتصادهم الأوحد، وهو المهن والتجارة البحرية، فأهم ست ركائز لاقتصاد المنطقة هي ( الغوص على اللؤلؤ، صيد الأسماك، الحجارة المرجانية، المغر، صناعة المراكب، النقل النهري)، وكل من أراد نموا اقتصاديا قصد الساحل، وكل من جاء بخير جاء من الساحل، فتركزت التسمية. ثم عرض المؤلف للساحل في اللغة والتراث اللغوي والثقافي المحلي، كما عرض لها في المصادر والمراجع الأجنبية، وعرض للخنجر الساحلي الذي كانت تشيع صناعته في الإمارات وعمان حتى الآن، والساحل في الشعر الشعبي، وفي الأمثال الشعبية الإماراتية ومنها المثل الشعبي الشهير «بلادي ما أبيع بها ديار حسا ولا ديار عامر» كناية عن الولاء للساحل وعدم تعويضها بالإحساء أو بعمان (بلاد عامر). ولا يزال العمانيون يسمون أهل الإمارات بأهل الساحل، وينعتون واحدهم باسم «ساحلي».
أما الدراسة الثالثة فجاءت بعنوان التاريخ في الذاكرة الشعبية: ودوره في حفظ الرموز والأحداث المحلية، حاول فيها إلقاء الضوء على أنماط من التاريخ في الذاكرة الشعبية الإماراتية، ومحاولات حفظ أشكال مختلفة من الأحداث المحلية والرموز التي تعبر عن أصل الحقائق ومجهولها، مع بيان دور الرواة والإخباريين في ذلك. ويضيف المُسَلَّم أنه قد ظهر عند أهل الإمارات ما يسمى «الغطو»، والغطو هو الستر والتغطية، فإذا ألّف الشاعر قصيدة فيها بوح لما يخالف رغبات السلطة يقال له «سو غطو» حتى لا يكتشف وهكذا لو قدر المؤرخون والباحثون عمومًا على تعلّم أسرار الغطو لاستطاعوا فهم الكثير من الأحداث التاريخية والمشاهد السابقة التي لم يستطع كتابها تفسيرها تفسيرًا منطقيًا لجهلهم بحلقات مفقودة هي خبيئة في الذاكرة الشعبية، أما الشيفرات أو الأبجديات السرية التي تستخدم في هذا الغطو فهي أنواع أبسطها «الجمّل» أو كما يحب تسميتها الناس «الأبجدي» وهو حساب «الجمّل» المعروف برموزه العددية، أما النوع الثاني فهو «الريحاني» وهو أصعب من «الجمّل» من حيث أن كل جماعة يمكنها الاتفاق على رموز خاصة بها مع ثبات القاعدة وهذا النوع يسمى في باقي دول الخليج «درسعي» ومثالنا على ذلك:
صافي هوانا صافي واللــون كــاليـاقوت
في ملتــقانــا وافي مشمـش وخـوخ وتـوت
أما دراسته الرابعة فكانت حول «القيظ» والمقصود هنا فصل الصيف والذي يمثل انقلابًا تامًا لنمط الحياة في الإمارات. والقيظ أو فصل الصيف أوله برج السرطان وهو شديد الحرارة يليه برج الأسد ثم السمبلة التي تبشر بنهاية القيظ، وللقيظ معان كثيرة منها بمعنى بشارة نضوج الثمر، فيقولون (قاظت نخلكم) أي بانت تباشير نضوجها، والقيظ عند العرب حمّارة الصيف، و(قاظ) بالمكان و(تقيظ) به في الصيف والموضع مقيظ. و(قاظ) يومنا اشتد حرّهـ (الصحاح). وتعرض الدراسة لموضوعات متنوعة مرتبطة بالقيظ كأطباق الفواكه ومنها الرطب، والهمبا، واللومي حلو، واللوز، والفرصاد (التوت)، والنبج، والبطيخ، والتين، والرمان..إلخ. كما يرتبط بالقيظ عادة السفر عند الإماراتيين الذين اعتادوا على الحياة في بيتين مختلفين كل عام، الأول هو «المشتّى» أي بيت الشتاء، والثاني هو «المقيظ» أي بيت الصيف. وتختتم الدراسة بعرض للألعاب الشعبية للأطفال كلعبة الطائرات الورقية، ولعبة «التيلة»، ولعبة «عمبر»، ولعبة «سيوف»، أما الألعاب التي تزدهر في فصل الصيف فتكون في أماكن المقيظ، وجميعها ألعاب ذات علاقة بالزروع ومياه الري والسباحة في البحر أو في الأحواض، ومن بينها: ديك وديايه، الصقلة، القحيف، قرقعانه.
والدراسة الرابعة خصصها المؤلف لبحث المعتقدات الشعبية والبحر، ويرى أن المعتقدات الشعبية تعتبر من أصعب الموروثات الشعبية على الإطلاق، كونها غير معلنة، فمكانها الطبيعي صدور الناس، وكون الغالبية لا تصرح بها علانية لكنها تمارسها في سويعات المواجهة مع اللاوعي أو العالم فوق الطبيعي. ويأتي البحر في مقدمة الأشياء الملهمة للمعتقد الشعبي وهو في ذلك يتكون من ثالوث اعتقادي رئيسي تتشكل منه الملكات الإبداعية للقصص والشخصيات الخرافية وهذا الثالوث هو:
الماء+ الملح+ التيه = البحر.
وتفرد الدراسة لبعض الأمثال الشعبية والمأثورات القولية في هذا الإطار، مشيرة للمعتقدات المرتبطة بالإصابة (مستصيب أي به مس)، وأهم الكائنات الخرافية المرتبطة بالبحر. والدراسة الخامسة في كتاب الثقافة الشفهية كانت حول «المطر: صفاته ومعانيه وطقوسه»، وقد تعرض فيها المؤلف لمفهوم الماء وما يحمله من رموز تنحصر في ثلاث موضوعات: مصدر الحياة (ماء الحياة)- وسيلة طهارة (ماء الغسل والوضوء)- مركز تجدد وانبعاث. ثم استعرض موضوع صلاة الاستسقاء وهطول الأمطار وما يرتبط بها من معتقدات ومعارف شعبية. ثم موضوع «الاستطباب» من حيث قدرة مياه الأمطار على الشفاء لكثير من العلل بعد قراءة القرآن على كمية قليلة منها. كما ارتبط المطر ببعض الطقوس خاصة إذا نزل عند ولادة طفل استبشروا به وظنوا به الخير والصلاح. ويعرض المؤلف لمجاري مياه الأمطار، ثم ما يعرف بأهازيج المطر في الإمارات وأشهرها أهزوجة «طاح المطر» التي مطلعها:
طاح المطر بيد الله كسر حوى عبد الله
طاح المطر برعوده كسر حوى سعوده
طاح المطر من فوق كسر حوى بن طوق
والدراسة الأخيرة في هذا الكتاب كانت حول المهن والحرف التقليدية في الإمارات، والتي قسمها المؤلف إلى عدة أقسام هي: الوظائف العليا أو القيادية مثل: الشيخ/الحاكم وهي أعلى منصب يمكن أن يشغله شخص، ثم نائب الحاكم- المشرع- القاضي- الكيتوب/الوزير- الوالي. ثم استعرض نمطًا آخر من المهن وهي «مهن البحر» وفي مقدمتها: الغوص- النوخذا- الطواش- المجدمي- الغيص- السيب- السكوني- الطباخ- الفيلج- الرضيف- التباب- النهام. ومن المهن الأخرى المرتبطة بالبحر: السالفة- الجلاف- السماك- مدوبي- العبار- المحصية (من امتهنوا تقطيع الأحجار المرجانية من قاع البحر). أما مهن المدينة فمنها النساي أو النساج- البناي- الصايغ- الكراني- المحلوي- العطار- الصفار- المقهوي- المشرخ- المخشب. ومن مهن البدو تعرض الدراسة لمهن مثل: الجفير (قصاص الأثر)- المكري أو راعي الجمال- المطارزي- الطناف- المظمر- لمحطبة- المجلاد- الزفين- المخلب- الشباق- البرام- المحطب- الشاوي أو الراعي. كما ترصد الدراسة لعدة مهن وحرف مشتركة كالمعالج الشعبي والعطار. أما المهن النسائية فمنها: المطوعة والمحنية والبدويات اللائي اشتهرن بغزل الصوف. وتختتم الدراسة ببعض المهن المستحدثة والدخيلة كالخياط والبزاز والخباز. ويشير المؤلف في النهاية إلى أن هذه المهن في الفترة ما قبل الطفرة لم يبق منها إلا الذكريات الناقصة والمشوهة أحيانًا.
أمثال السنع:
وفي مجال الأدب الشعبي وأداب السلوك صدر لعبد العزيز المُسَلَّم كتاب أمثال السنع: باقة من الأمثال الشعبية الإماراتية، عن دار كلمن للنشر2020 في 98 صفحة من القطع المتوسط. وكان قد صدر عام 2018 عن معهد الشارقة للتراث، وقمنا بعرضه ضمن العدد 50، والكتاب يقع في 100 صفحة من الحجم الصغير، يبدأ الكتاب بمقدمة أشار فيها المؤلف إلى أن هذا المصنف الصغير يحوي نخبة مختارة من الأمثال الشعبية المتداولة في الإمارات العربية المتحدة، تناقلها الناس جيلاً من بعد جيل، من باب حب الحكمة والموعظة الحسنة، وقد حرص الإمارتيون دومًا علي تداول الأمثال لما فيها من فوائد بعضها مستخلصة من العقائد الدينية، وأخرى من حكمة نبتت من تجارب إنسانية راسخة نابعة من هذه الأرض وأناس عايشوا واقع الحياة وتمرسوا فيها، وما سعى الناس إليها إلا امتثالاً لقول الله سبحانه وتعالى: (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ البقرة/269 ، وفي الحديث: (عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله حكمة فهو يقضي بها ويعلمها).
ويعرف المُسَلَّم المثل الشعبي بأنه الشبه أو النظير، كلام يقال في حادثة أو مناسبة خاصة، ويردد فيما بعد إذا سنحت مناسبات مشابهة للحالات الأصلية التي ورد فيها الكلام، وفي المعجم الوجيز: المثل جملة من القول مقتطفة من كلام، أو قائمة بذاتها تنقل مما وردت فيه إلى مايشابهه من دون تغيير. و«السنع» من أهم أبواب الأمثال الشعبية باعتبارها مؤشرًا سريعًا ودائمًا للتربية والتوجيه الاجتماعي، فيها نحث الناس على التأدب والتحلي بالأخلاق الحسنة الجميلة، كونها طريقًا للتفاضل والتميز بينهم، واتباعًا لهدى النبي(صلى الله عليه وسلم) القائل: «إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق».
ويستكمل المُسَلَّم: الأمثال الشعبية طرف من أطراف الحكمة وامتداد لها، وهي من أقدم أشكال التعبير الشعبي الشفوية وأعرقها على الإطلاق، لكن المثل على خلاف معظم الحكم، يمكن أن يصدر عن أيً شخص كان مهما كانت طبيعته ومرتبته الاجتماعية والذهنية؛ فالخطاب المثلي رصيد نابع من الجميع؛ من خاصة وعامة ومتعلمين وأميين. ثم قسم المؤلف كتابه إلى ثلاثة أبواب رئيسية تبين مضمون السنع، وهي:
- الآداب العامة: ويتفرع عنها آداب المأكل والمشرب وآداب الطريق.
- معاملة الآخرين: ويتفرع عنها آداب الضيافة وآداب الحديث والاستماع.
- الأمثال المرتبطة بموضوع «القناعة».
ويعرض للمثل الشعبي مع شرحه شرحًا عامًا، وشرح غريب الألفاظ بكل مثل وإرجاع الحروف المقلوبة أو الكلمات المحورة وفقًا لتبويبها للمجالات الثلاثة. ومن ثم فالكتاب هنا موجه للجمهور العام أكثر منه للمتخصصين.. وقد قصد المؤلف أن يقدم شروحاته في عبارات سهلة تمكن القارئ من الاطلاع على الكتاب بأكمله بكل اليسر.
ويعرض في البداية إلى أهم الدراسات في التراث العربي التي تناولت الأمثال، مثل كتاب الأمثال في الحديث النبوي لأبي الشيخ الأصبهاني- والأمثال والحكم لعلي بن محمد المواردي- وكتاب الأمثال لمحمد بن أحمد البسّاك.. وهي كتب تُعد من أوائل الأجناس الأدبية التي عني بها العرب.
والمثل في الإمارات يُقال إما بصيغته اللفظية الاعتيادية، وإما بإضافة لازمة تكميلية هي (يقول المثل) أو (يقول المتوصف)، وهي إضافة يُراد بها تقوية تأثير المثل، وإذا ما اشتهر أحد الناس بقول الأمثال سمي «المتوصف» ودأبوا على حضه على قولها متى ما كانت الحاجة مُلحّة إلى تقويم فعل خاطئ؛ (فيقولون له: شو يقول المتوصف)، من باب دعوته إلى إلقاء مثل شعبي يعبر عن الحدث أو يصفه أو يسخر منه.
ودور الأمثال في الحياة الاجتماعية العامة والخاصة، لم يكن هامشياً قط، بل كان دورًا رئيسيًا بامتياز؛ فقد حرص الأوائل من الأجداد والآباء والأمهات على التشجيع على حفظ الأمثال وتداولها وأخذ العبرة منها.. لكونها ذات وقع مؤثر ولطيف، لاتؤذي المشاعر، ولا تجرح الإحساس، مختصرة الكلمات، بالغة التعبير، ذات تركيب موزون وبعضها مقفى، كما أن استحضارها أسهل من الشعر والحكاية لسهولتها في الحفظ والاسترجاع، ولا تُنسى لارتباطها بالأحداث، وكلما تعلق الناس بلغتهم وأمعنوا في استعمالها أكثروا تداول الأمثال، وكلما ابتعدوا عن لغتهم اضمحلت الأمثال حتى تختفي تمامًا، ويستعاض عنها بأقوال ضعيفة وأمثال أجنبية.
أما «السنع» فهو الموضوع الذي اختاره المؤلف للبحث عنه في الأمثال الشعبية الإماراتية، و«السنع» لغة هو الجميل الحسن، وهو الشئ الأفضل والشرف، والأسنع هو الشرف العالي، والأسنع الكبير الفاضل، وقد جاء عند بن دريد، وهو العالم اللغوي الأقرب إلى لهجة الإمارات وعمان، أنّ الأسنع هو الطويل المرتفع العالي. ومن الأمثال التي اختارها المؤلف في الآداب العامة:
- (المذهب ذهب، والمعاني حروف): ومعناه سلوكك القويم ذو قيمة عالية، وحديثك الحسن ميزة فضلى.
- (ازكر الناس باساميها عن تاكلك اثاميها): أي إدع الناس بأحب أسمائهم، حتى لا تسمع ما يسيئك.
أما آداب الطريق فهي ذات معنيين رئيسيين، أولهما الطريق نفسه، وثانيهما الرفيق في طريق العمل وصحبة الأخيار الذين يحيلون دروب العمر الضيقة إلى مسارات واسعة رحبة:
- (الريل تمشي سالكة وين القلوب تود): أي الناس يقصدون في مسعاهم الذين يحبونهم فحسب.
وفي آداب المأكل والمشرب اختار المُسَلَّم بعض الأمثال منها:
- (أطعمه وطرّش كلبك ينبحه): أي لا تكرم الناس من جانب ثم تضرهم من جانب آخر.
- (إنت تأكل وغيرك يُعد الطعام): أي لا تسرف في موائد الآخرين؛ فأنت لا تعلم حاجتهم.
- (عند اليواني محد ياني، وعند الصياني مالي مكاني): أي يذم في الناس اجتماعهم على الولائم وامتناعهم عن العمل على مساعدة الآخرين.
- (لي يكبر اللقمة يغص بها): أي أن الأكل بنهم ليس إلا مضرة للنفس.
وفي الأمثال المرتبطة بالتعامل مع الآخرين، نجد في آداب التعامل مع الآخرين:
- (السدّ لي وليته تحت الثرا مدفون، ما اعلم به خلايق ولا الأهل يدرون): أي كتم السر دائمًا من أهم الأولويات في الحياة.
- (شي أفضح تركه أصلح): أي من الأفضل ترك الأعمال التي بها فضيحة.
- (حط مالك عند اللي عنه مال، وحط عيالك عند اللي عنده عيال): أي أن لكل من الناس اختصاصه؛ فتعامل معهم وفق ذلك.
- (إذا يتك العويا من السفيه خلها، حذرك من أردود الجواب الصنوت): أي ترفع عن تفاهات الأراذل فهذا أمر غير مستبعد.
وفي آداب الحديث والاستماع نجد بعض الأمثال التي تعكس ذلك، ومنها:
- (الرمسة قوت، لكنها خراب بيوت): أي أن كثرة الكلام معدوم الفائدة ضارة مهما اعتقدت أنها نافعة لك.
- (اللي ما يسمع شور من يوده، ترى إبليس يلعب به): أي يجب على الإنسان أخذ مشورة ذوي الخبرة.
وفي آداب الضيافة، التي تعد ركن رئيس في الحياة الاجتماعية الإماراتية، ومصدر للعز والفخر:
- (من لفا الأكرام ما حاتا العشا، ومن لفا الأبخال خلوه امحقور): أي أن تقصد كريمًا فأنت بمأمن من عاديات الزمن، لكن أن تقصد بخيلاً فلن تنال إلا الإهمال والصد.
- (البيت ما يدخل من بابه، يندخل من أحبابه): أي لن يقبل عليك الناس لكبر شأنك ومالك وجاهك، لكن لطيب أخلاقك ومحبتك.
وفي القسم الأخير من أمثال السنع الذي يشمل موضوع «القناعة» وهي عدم التطلع إلى ما في أيدي الآخرين، يختار المؤلف بعض الأمثال، منها:
- (إن ياد الزرع حصدناه وان تكدر رميناه): أي أن الحياة ربح وخسارة
- (اركب الهزيلة لين تحصل السمينة): أي اقنع بوضعك حتى تجد ما هو أفضل منه.
- (بقيشة على خلاك ولا أرنب مشروك فيه): أي حظك المتواضع قد يكون أجمل وهو لك وحدك، لكنك قد تتمنى حظًا آخر لا تمتلكه وحدك إنما مع شركاء.
- (حط راسك في الخداع واسلم م الصداع): أي لاتتدخل في ما لا يعنيك تسلم من كل ما من شأنه يتعبك.
- (راحتي وقرة عيني أخير لي من لبس الحرير): أي أن التمتع بالراحة والطمأنينة أفضل من السعي المجهد وراء الكماليات.
أحاديث الأوائل يسجلها المؤلف:
وفي عام 2020 صدر كتاب: المعنى: أحاديث الأوائل من الذاكرة الشعبية عن دار كلمن للنشر، في 290 صفحة من القطع المتوسط، يقول عبد العزيز المُسَلَّم في مقدمة الكتاب: جمعت في هذا الكتاب أقوالاً متفرقة من أحاديث الحكمة والسمر والفكاهة، التي كانت تدور في مجلس والدي عبد الرحمن بن محمد المُسَلَّم، رحمه الله، وهي باقة من أحاديث الأوائل التي تتناقل بين الناس من الذاكرة الشعبية. كان لوالدي- رحمه الله- أكثر من مجلس، أتذكر اثنين منها، المجلس الأول الذي أتذكره كان في منطقة ميسلون شارع عثمان البتي بمدينة الشارقة، منذ بداية الستينيات حتى بداية السبعينيات، ثم انتقلنا للعيش في مدينة خرفكان، عندما تم تكليف والدي تشغيل محطة الكهرباء هناك وتطويرها، والتي كانت تسمى (باور هوز)، وكان رواده من الشارقيين، ومن أهالي المنطقة الشرقية في خورفكان وكلباء ودبا والفجيرة، ومن سلطنة عمان، فقد كان والدي محبًا للناس، بشوشًا كريمًا سخيًا، يستبشر بلقاء الناس، والترحيب بهم. في مجالس والدي- يستطرد المُسَلَّم- كان الناس يتداولون موضوعات شتى حول الذكريات، ورحلات المقيظ، والصيد والقنص، والأحداث التي مرت على المنطقة، وقد أوردت في هذا الكتاب مجموعة من تلك الأحاديث التي كانت تدور في مجالس الوالد بينه وبين أصدقائه من الرجال الطيبين الأجلاء، رحمهم الله وأدخلهم الجنة. وقد بادر المؤلف بتصنيف الكتاب بقوله أن هذا الكتاب يأتي من جنس الأدب الشفهي، أو ما يسمى هنا في الإمارات العربية المتحدة سوالف مجالس، وهي موضوعات متفرقة تحكي من باب الخبرات والفكاهة، وهي من أحاديث السمر.. والكتاب في ظني هو أقرب للتاريخ الشفهي بحسب ما جاء في مقدمة المؤلف، لأن الأدب الشفهي هو جزء من مضمون الكتاب الذي يحول الكثير من العادات والتقاليد والمعارف الشعبية وفنون الحكي والحرف الشعبية..إلخ.. أما الكتاب من الناحية الشكلية، فهو أقرب إلى الشكل الموسوعي، إذ يحوي 54 موضوعًا، مرتبة ترتيبًا هجائيًا، يبدأ بموضوع (الأرا والأرطا) وينتهي بموضوع (ورفجة: وهو قسم يقسم به أهل الإمارات). واختار المؤلف عنوان «المعنى» وهو يقصد المنطق والأخلاق الكريمة لأهل الإمارات، وقد يكون هذا المعنى غائبًا عن الأجيال الجديدة، لكنه واسع التداول بين القدامى من أجيال ما قبل السبعينيات.
وعلى هذا النحو يحوي الكتاب واحدا وستين موضوعًا متنوعًا يحوي مختلف الروايات التي سجلها أبو مسلم من خلال مشاهداته مجالس والده.. واختار عناوين لافتة لكل موضوع مثل: الأرناق- الرولة- الأسوار والموانع- بنت المطر- رسائل قديمة- شيشة- العيد الأول- عيني عليك باردة- كل واسكت- المشموم- المعنى- ميلس..إلخ. وأول موضوعات الكتاب (الأرا والأرطا) نكتشف أنه نوع من النبات، الأراه مفرد، والجمع الأرا، هو نبات بري وجبلي، متوسط الطول، كثيف، لونه أخضر فاتح يميل إلى البياض، ويسمى «أملح» وطلعه يشبه القطن. كان الناس يقصدون أماكن وجوده، فيخرطون طلعه حتى يجتمع في أكفهم، ثم يجمعونه في وعاء لديهم، وفي البيت ينقى من الشوائب، ثم يوضع تحت أشعة الشمس حتى يجف. بعد أن يجف يؤتى بالأرا فيوضع في وعاء، وتوضع معه خلطة من العطور تسمى «بضاعة» وهي مجموعة من الأعشاب العطرية والزهورات المجففة مثل الورس والورد البلدي والياس وجوزة الطيب ومواد أخرى.. فتخلط البضاعة مع الأرا، ثم توضع في الوسائد والمخدات، وتكون ناعمة ولينة وذات رائحة طيبة. وغالبًا ما تصنع من الأرا وسائد للأطفال حديثي الولادة، لأنها تريحهم وتساعدهم على النوم العميق. وتسمى تلك الوسادة «كتاه»، وهي عبارة عن حلقة مفرغة من الوسط. أما «الأرطا» فهو نبات شهير يؤكل، وقد ذكره الفيروزآبادي في القاموس المحيط، بقوله: «شجر نوره كنور الخلاف، وثمرته كالعناب مرة، تأكلها الإبل غضة، وعروفه حمر، الواحدة أرطاة» يستعمله القوم هنا لدبغ الجلود. عرفه العرب قديمًا وجاء تعريفه في اللغة: أديم مأروط؛ أي جلد مدبوغ بورق الأرطي. كما أن ورق الأرطا وعيدانه الناعمة تفرم وتخلط مع اللبن، أو تطبخ مع السمك والأرز وتؤكل. وكذلك فإن أغصانه اليابسة التي مر عليها نصف عام تطحن وتغلى بالماء فتصير صبغًا، تصبغ بها الأقمشة والملابس بلون حليبي، والأرطاة المرة المذاق تسمى «عِبلة- بكسر العين». وهو نبات كثير الخضرة، ينبت في السيوح، أوراقه مفتولة طويلة، وردها يسمى «فراخ» ذو لون أحمر، وقد اعتاد أهل الإمارات أكله كنبات من نباتات السلطة، فيقطع ويخلط مع الأرز وتسمى هذه العملية «مك» وتسمى الوجبة «مكيكة». وقد أورد أبو مسلم تعريفات مبسطة لبعض المفردات المستغلقة قبل كل نص، ففي هذا الموضوع نجد شروحات لبعض الكلمات مثل: أملح: لون- البضاعة: خلطة عطرية- كتاه: وسادة مستديرة مرغة من الوسط- مكيكة: وجبة من الخضروات- الورس: مسحوق عطري- الياس: شجيرة. وهكذا نجدنا أمام عدة مفاهيم طرحها المؤلف من خلال موضوع واحد حول نوعين من الأشجار ليستخلص منها معارف حول العطور، والطعام، والوسائد، ودباغة الجلود، وصباغة الملابس..إلخ.
وحول النبات والأشجار أيضُا يطالعنا الكتاب على روايات سمعها المؤلف حول الرطب والرطيبات ونخيل البلح، و«الزعترة» وهو نبات جبلي ينبت في الوديان، و«السدرة» أو شجرة النبق وهي شجرة كريمة عريقة وأصيلة، و«العود» وهو الأخشاب العطرية المشهورة عند أهل الخليج، و«الغيض» أو طلع النخل في موسم الصيف كونه أساس لقاح النخل، وفاكهة الإمارات، و«العنقلية» المصنوعة من الخشب وهي عود مدبب الرأس يستخدم في تخليل الأسنان وتنظيفها مما علق بها، و«كف إبليس» وهي شجرة الصبار الشهيرة المملوءة بالأشواك، وشجيرة «المشموم» العطرية وأنواعها وشهرتها بين الإماراتيين. ويتسلل المؤلف بهذا الأسلوب إلى قلب وعقل المتلقي، فنجده يعرض لأشهر فصول الشتاء في الإمارات، والمعارف المرتبطة بألوان الطيف والألوان الأصلية، حيث جاءت تسميتهم للألوان حسب خصائص لهجتهم ومعطيات البيئة الطبيعية والاجتماعية المحيطة بهم.
وفي عالم الحيوان والحشرات يحدثنا المُسَلَّم عن «بنت المطر» وهي حشرة جميلة من فصيلة العناكب تتمتع بزهو لونها وجلدها المخملي الناعم والتي وردت في القصص الشعبي الإماراتي، و«الصرناخ» وهي حشرة تبشر بقدوم الصيف حيث تطلق الصرانيخ صافرات الإنذار البشري. كما يحكي عن « ضروس الخيل» و«بو الصراصر» وهو نوع من القطط، فالقطة السوداء علامة الشؤم عند الناس، ومن المعتقدات الموروثة في الإمارات أن الكلب إذا كان في البيت فهو يدعو بالخير والعافية لأهل البيت، أما القطة فإذا كانت في البيت فهي تدعو على أهل البيت بالعمى. كما يحكي عن «الحندول»- وهو الغراب الصغير- والحكايات والمعتقدات المرتبطة به، والأسماك التي تعد من مصادر الرزق في الإمارات وما توارث حولها من حكايات.
وعلى مدار الكتاب يطالعنا المؤلف ببعض الروايات الحياتية التي ربما عشناها في أكثر من سياق، فيتحدث عن التليفزيون الأول في المنطقة، والأحداث التي لازمت ظهور هذا الجهاز بين الناس، وقصة العائلة المسكينة التي كانت تمتلك التليفزيون الوحيد في «الفريج» والتي لم تحتمل الجلوس في البيت من كثرة الطرق على بابها من قبل الأطفال. كما يحكي أيضًا عن أول جهاز راديو ظهر في الإمارات وقد سموه «رادو»، وكان مصدر إعجاب الناس ودهشتهم في البداية حتى اعتادوا عليه في المقاهي، وأصبح له أشكال متنوعة، وعندما أنشأ الإنجليز أول سينما في الشارقة توالت الوفود لمشاهدة الناس الذين يتحركون ويأكلون ويشربون وهم ملتصقون على الجدار، وكانت «السيلمة»، كما كانت تسمى، مكشوفة وأغلب المتفرجين يجلسون على الأرض. ثم يحكي عن «الرسائل القديمة» وظهور البريد أو «مندوب الفرح»، وكانت الرسائل آنذاك قطعًا أدبية راقية، وقد أفرزت المراسلات منظومة من التقاليد الخاصة بهذا الفن، وهذه الحاجة الحياتية المهمة، أما السيارات فكان يطلق عليها «المواتر» في الذاكرة الإماراتية وعرفت ببعض الأنواع التي يفضلها الإماراتيون.
كما يتوقف عند عادات رمضان في الشارقة، ومشروب «الفيمتو» وهو الاكتشاف الأول للمشروب الشعبي جدًا في الإمارات خاصة في شهر رمضان، و«الفنيال» أو فنجان القهوة في اللهجة الإماراتية ذو النكهات والمذاقات العديدة، و«قهوة الكيف» والعادات المرتبطة بها، و«كل واسكت» وهي أغرب أكلة عرفها المؤلف وهو صغير، تذكره دومًا بالعيد والأيام السعيدة كالإجازات المدرسية والأفراح والمواسم، وهو طبق له أشكال وألوان عديدة. أما «اللارنجوش» فهو عصير البرتقال، و«مالح وسحناة» هي أطباق شهيرة في المطبخ الإماراتي، فالمالح يعتمد على أنواع معينة من الأسماك، أما السحناة فهي السمك المطحون من سمك صغير يسمى القاشع. كما يحكي لنا حول المخبوزات الإماراتية، و«البرنيوش» وهو العيش المحمر الذي يطبخ مع الدبس، وقد عُرف «العيش» في الخليج باسم «الأرز».
نقرأ في الكتاب بعض الموضوعات التي تتناول صفات بعض الناس مثل «الزين» أو «الزينة» أي الشخص الجميل، أو الشيء الحسن، و«سامان ديقا» وهي تسمية هندية الأصل أي الرجل عديم المنفعة، فضلاً عن الأمثال الشعبية التي تتحدث عن العطاء والسخاء وخدمة الناس، والصبر كقيمة إنسانية أصيلة. ثم عادات الزواج التقليدية والتجهيزات التي تعدها العروس الإماراتية. كما يصف «الميلس» أو المجلس الإماراتي وما صاحبه من طقوس وعادات، و«فن النوبان» الشعبي الذي اشتهر على طول المناطق والمدن. كما يحدثنا عن حكايات الجدات للأطفال في هذا الزمان، وأنواع الحكايات ومن بينها «خريريفة» وهي تصغير «خروفة» والتي تحوي حكايات عن عوالم البحر والصحراء والواحات والجبل، كما يحدثنا عن أنواع الحكايات ومن بينها «خريريفة» وهي تصغير «خروفة» والتي تحوي حكايات عن عوالم البحر والصحراء والواحات والجبل.
استلهام المُسَلَّم لفنون الشعر:
ارتبطت إبداعات المُسَلَّم بحلقات تأثره بالتراث الشعبي، فلم يبتعد عن المجال في أعماله، خاصة في مجال الشعر، حيث برز في منتصف الثمانينات حتى منتصف التسعينيات كشاعر له أعمال منشورة على نطاق واسع، وبلغ اهتمامه بالشعر أن أسس مع أصدقائه مجلة «مزون»، وهي مجلة للشعر والإبداع الشعبي، وقد أبدع في مجال الشعر النبطي خصيصًا، وقد نشر في فترة مبكرة قصيدته «عرش الحسن» في جريدة البيان عام 1987، في صفحة الشعر الشعبي التي كان يشرف عليها الشاعر الكبير حمد بوشهاب. وقد صدر له منذ عام 1990 حتى الآن ثمانية دواوين شعرية هي: سفر الليالي (مسرح الشارقة الوطني، 1990)- بقايا الليل (النادي الوطني للثقافة والفنون، عجمان، 1995)- طفولة حب وسلام (المجلس الأعلى للطفولة، الشارقة، 1998)- لحظة: رباعيات (إصدار خاص، 2007)- أذكريني (ديوان صوتي، 2007)- المجموعة الشعرية (نبطي للنشر، 2017)- صوغة: رباعيات (كلمن للنشر، 2018)- وهل تعلم (كلمن للنشر، 2020). وإبداعات المُسَلَّم الشعرية تحوي نصوصًا قصيرة تلخص عشرات الحالات الإنسانية، غير أنها لم تبتعد عن الحنين للحالة الشعبية المتوارثة، فنجده في ديوانه الشعري (صوغة) يكتب قصيدة بعنوان (دارنا) يقول فيها:
لو نسافر قلبنا فيها ساكن ومثبت أركانه
دارنا بالحيل نغليها في هواها الروح هيمانه
كل ما فيها وأهاليها في ميان القلب عنوانه
يعل سحب الغيث ترويها والرخا ينزاد بنيانه
أما ديوانه الشعري (وهل تعلم، 2020) فقد سجل في مقدمته هذه الفقرة: اثنتان وخمسون سنة مرت من عمري، كتبت فيها كثيرًا من الشعر والنثر والدراسات، أنتقي منها هنا 52 قصيدة مما راق لي طوال تلك السنين، أقدمها لكل من أحبني.. هدية حب ووفاء. وقد صنف المُسَلَّم ديوانه إلى خمس حلقات رئيسية كل منها ومضة شعرية تمثل مرحلة في حياته: ومضة أمي- ومضة بعض- ومضة سفر- ومضة البعض- ومضة صباح الخير. وحملت أسماء القصائد ما يعكس شخصية المؤلف ورؤيته للعالم المحيط، فنجده في قصيدة «مسرح الدنيا» يلخص هذه الرؤية في ثمانية أبيات عامودية تحفل بعشرات المعاني:
العنا والصد يأتي باختصار
والرضا يأتي مع قول كثير
إن جفا يرحل ولا يترك غبار
وان صفا يلفى ولا يسمع شوير
هكذا الدنيا علو وانحدار
وهكذا خلي يصير وما يصير
ساعة ألقاه في ليلي منار
وساعة ألقاه في البيدا هجير
أصبح التمثيل في عمري حصار
كل يوم لصاحبي دور مثير
تبتدي الأمور عنده بافتخار
وبسواد الليل يمسي لي سمير
ثم يرغمني على دور انتحار
لاجل ما ألقاه من موتي يجير
عيشتي مسرح ويحجبها ستار
وقصتي من مسرح الدنيا كبير
استلهام المسلم لفنون الحكي الشعبي:
أما إبداعات المُسَلَّم التي تأثر فيها بفنون الحكي الشعبي، فيمكننا تصنيفها إلى ثلاثة محاور، الأول يتمثل في إعادة تقديم الحكايات الشعبية التي جمعها أو سمعها بنفسه، غير أنه قام بدور الراوي وأعاد تقديمها مرة أخرى في لغة رصينة بعيدة عن لهجة راويها. وهو ما يؤكد لنا هنا أن منهج الحكي الشعبي هو الأساس في فهم إنتاج عبد العزيز المُسَلَّم العلمي والإبداعي، وقد أشرنا في فقرات سابقة إلى مشروعه في جمع وتوثيق الحكايات الخرافية، ونشير هنا إلى استكمال حلقة اهتمامه بفن الحكي الشعبي من خلال إعادة تقديم الحكايات الشعبية الإماراتية، من خلال كتابه النية ذهب: حكايات من تراث الإمارات، الذي صدر عن دار كلمن 2019 في 84 صفحة من الحجم المتوسط. ويسجل المُسَلَّم قوله: حكايات شعبية من الإمارات العربية المتحدة سمعتها في أزمان وأوقات مختلفة، من رواة مختلفين، فحفظتها وتداولتها في كثير من المناسبات، سواء في محاضراتي أو مع العائلة أو مع الأصدقاء.. ها أنا اليوم أقدمها للقراء الكرام بلغتي وأسلوبي الخاص كراو جديد، راجيًا أن يستمتعوا بها كما استمتعت بها أنا من قبل..وعلى هذا النحو يقدم المُسَلَّم مجموعة من الحكايات الشعبية من التراث الإماراتي تمثل في مجملها جانبًا من السرد الشعبي الإماراتي تحفل بمجموعة من القيم والمثل العليا، وقد مزج فيها بين الجمع الميداني والأسلوب الأدبي الإبداعي الخاص به، وشمل الكتاب عشر حكايات حملت عناوين: حكمة امرأة- نصيب الحطاب- البيدار والحية- النوخذة- النية ذهب- حب الملح- زوجة الطواش- طويل القامة- نفنوف السعادة- أم حميد. وقد ذيل الكتاب بمجموعة من الرسومات الإبداعية للفنان محمد بغدادي.
أما المحور الثاني لمرتبط باستلهام المُسَلَّم لفنون الحكي الشعبي، فيمكننا تلخيصه في قدرته على استلهام منهج الحكي في فن الرواية العربية، هو ما ما نلمحه في رواية (رادا) التي صدرت طبعتها الثانية عام 2020 في 76 صفحة عن دار كلمن للنشر، ونكتشف من الوهلة الأولى إصرار المؤلف على تسمية العمل «حكاية» وليس «رواية» كما يصنفها المتخصصون في علم المكتبات، وينسج الحكاية في لغة شديدة البساطة، وعلى طريقة إبداعاته الشعرية يسعى المُسَلَّم إلى تقديم عمل إبداعي يمكن القارىء من الاستمتاع به كله في جلسة واحدة، فلم يقدم لنا رواية من مئات الصفحات، وقد تأثر بأسلوب الحكاية الشعبية حول رجل في منتصف العمر يعيش في مخيلته وأحلامه مع فتاة رومانسية بكل ما تحمله الكلمة من معنى، وقد التقى بها بعد أن سكنت مخيلته.. وتمضي الأحداث على هذا النحو، حتى تنتهي بمفاجآت أقرب لما نتلقاه في الحكاية الشعبية.. وعلى حين تنتهي الرواية نجدنا نعود إلى الغلاف الذي يرسم صورة تلك الحالمة بإبداع يفوق خيال المؤلف. ومن ناحية أخرى قدم المؤلف الأحداث بصوته (ضمير المتكلم)، بل يكاد يقدم شخصيته عندما يصف نفسه بين مرحلتين من العمر كان يتمنى أن يعود فيها إلى الصغر بعيدًا عن الجاه والشهرة والمكانة الرفيعة التي يعيشها الآن:
«في تلك المدينة الباردة ركبت حافلة، فاكتشفت حينها أني أصغر الركاب على متنها، كم كنت سعيدًا بتلك الحقيقة! بعد زمن، لا أستطيع تقديره، ركبت حافلة مماثلة، ففوجئت بأني أكبر الركاب، فحزنت كثيرًا، لأن عمري مضى بأسرع مما توقعت.. وهكذا تمضي الرواية التي لا أريد الغوص في تفاصيلها حتى يستمتع بها القارىء. وقد اختار المُسَلَّم بعض العناوين الدالة على الأحداث، مثل: وهم؟- نبوءة- مجهول- رجوع- سالم؟- ليت- مجازفة- وجهًا..- نهاية؟.
إبداعات المسلم للأطفال:
أما المحور الثالث في توجه المسلم لاستلهام فن الحكي، فنجده في أعماله الإبداعية للأطفال حيث استطاع أن يستدعي عناصر من المعارف الشعبية التي عاشها ودرسها كباحث في الفولكلور، ثم تقديمها كإبداع قصصي للأطفال. وهو ما نجده في قصة (نجمة في الحديقة) الصادرة عام 2019 عن دار كلمن للنشر يقدم نصًا للأطفال يحكي فيه عن النجم «سهيل» الذي يحمل الكثير من المعارف والمعتقدات الشعبية، وتقدم القصة للأطفال معلومات عن سهيل في حوار مبسط بين طفلين دان دان وماني:
سُهيل- قال ماني
من سُهيل؟- دان دان
تلك النجمة المتلألئة في السماء كأنها طائرة.. هل هي نجمة سهيل التي ذكرها أبي ذلك اليوم؟
لا أعلم- دان دان، لكن أبي ذكر أسماء نجوم كثيرة، فلماذا سهيل بالذات؟
لأنه قال إن ماء «الدوش» يكون باردًا إذا ظهر سُهيل- قال ماني.
وعلى هذا النحو قدم المسلم أيضًا حكاية (عويد الحنّا) التي صدرت عن دار كلمن للنشر 2019، وهي حكاية خرافية بالعامية الإماراتية روتها له: الوالدة مريم بنت عبدالله الشهيل، ثم قام بجمعها وإعادة كتابتها، ونشرها مع مجموعة رسومات مبهجة تجذب الأطفال لقراءتها. وقد أبدعت الفنانة نهى الدخان في رسومات قصتي (نجمة في الحديقة) و(عويد الحنّا)، بحيث كانت مكملة بشكل جذاب للأطفال. كما قدم المسلم أيضًا في هذا السياق بعض نماذج الحكي الشعبي المرتبطة بالتراث العربي التي سمعها وهو صغير، وقد نشر بعضها مثل حكاية (جحا والباب: حكاية من التراث الإماراتي) عن دار كلمن 2020، وحول هذه الحكاية يشير المؤلف إلى أن جحا يشتهر في الموروث الشعبي الإماراتي باسمه المعروف (جحا)، كما يشتهر بكنية بونواس، وقد شاعت عنه حكايات فكاهية عديدة، مطلعها (كان بونواس)، يتداولها الناس من باب التندر، أو إشاعة الفكاهة والبهجة، وفي أحيان كثيرة من باب الحكمة الممزوجة بالابتسامة والفرح. فالحكمة المجردة والجافة يمقتها الناس، لما قد يظنها بعضهم انتقاصًا أو تسلطًا، بينما إن كانت بقالب مبهج فكه، فهي مقبولة لا محالة، رغم ما قد تضمنه من قسوة ومباشرة. ويضيف المسلم، وقد حرص دومًا على ذكر والده كمصدر أصيل للتراث الذي يحمله: سمعت هذه الحكاية (جحا والباب) وأنا في التاسعة أو العاشرة من عمري تقريبًا، بينما كنت برفقة والدي في سيارته الجيب، وكان والدي قليل الكلام معنا، لكنه إذا تحدث فإن حديثه شائق ممتع- لندرته- كما أن غالب ما رغب في التحدث به كان يبعث على البهجة والفرح، كان، رحمه الله، مرحًا فكهًا، حسن المعشر، خدومًا وكريمًا، كما كان محبًا لضيافة الناس، والترحيب بهم. كان لوالدي مجلسه الخاص، المسمى (مرمس)، وكان مجلسًا عامرًا في الشارقة في الستينيات والثمانينيات، كما كان له مجلس آخر عامر في مدينة خورفكان في السبعينيات.
كل الدعاء أن أكون قد نجحت في الكشف عن ملامح واحد من الباحثين في التراث الشعبي، ومن المبدعين الذين تأثروا بهذا التراث فقاموا باستلهامه، وإعادة تقديمه وروايته مرة أخرى للحفاظ عليه للأجيال الجديدة، الباحث والمبدع والراوي الدكتور عبد العزيز المُسَلَّم.