كورونا تسلب أرواحنا وتهدد ثقافتنا الشعبية
العدد 55 - التصدير
عندما نتأمل منذ سنتين ما كتب عن هذا الوباء اللعين الذي تغلغل في حياتنا جميعا دون فصل بين الشعوب والأعمار والطبقات الاجتماعية وبين الدول فقيرها وغنيها وما استشرفه المبدعون في مختلف المجالات شعراء وروائيون وأطباء وعلماء في اختصاصات شتى نشرت معظم أعمالهم في كتب عدة ، نتبين أن الأمل كان دائما غالبا وأن الاستشراف كان في مجمله ينادي بإعادة الاعتبار للعلماء وللأطباء ولأهمية العلم في القضاء على هذا الوباء وأنه يكفي أن نقدر جيشنا الأبيض وعلماءنا المنكبين في المخابر لإيجاد اللقاح للعلاج لتعود الحياة كما كانت حلوة مزهرة نقية وليسود الأمل ونحلم ببقعة الضوء آخر النفق.
ولكن المتأمل بعد كل ما كتبنا يتبين أن خساراتنا فادحة ثقافيا واقتصاديا وروحيا، فثقافتنا الشعبية قامت أساسا على الحميمي في كل منا. ويكفي أن نأخذ من الحكاية الشعبية أنموذجا لذلك حكاية أساسها التجمع والتحلق والسماع والنظر إلى الأعين والحركات ،حكايات تروى في العالم أجمع وتصلنا عبر دراسات نشرت منها مجلتنا «الثقافة الشعبية» الكثير الكثير وانتظرها الناس بشغف وحب وإذا هي اليوم لا تصل إلى معظم القراء المتلهفين للمسها بسبب كورونا.
اجتماعاتنا لقاءاتنا أصواتنا مهرجاناتنا صارت بعيدة تقام عن بعد من وراء شاشات الكمبيوتر والهواتف الباردة المحنطة تزداد المسافات بين البشر طولا وتزداد العلاقات برودا وتزداد القلوب تحجرا وتصلبا!!!!
والعجيب أن المثقف هذا المتمرد الذي يرفض الأغلال وتكميم الأفواه وسلب الحرية ،سلاحه الذي يقاوم به التخلف والرجعية والجهل والاستبداد، صار خانعا هادئا مستسلما .
لا أدري لم أشعر اليوم أن مجال الثقافة الشعبية من أكثر المجالات تأثرا بهذا الوباء اللعين لعله مجال في رأيي يختزل تجربة الإنسان بمكوناته المختلفة روحا وقلبا وعقلا وجسدا تجارب تختزل الحياة بما تمثله من خصوصية وكونية في آن. فعندما نتحدث عن مكونات الثقافة الشعبية من موسيقى وأدب وفكر ورقص وغيرها نتبين أنه مجال يختزل دورة حياتنا منذ ميلادنا إلى حين مغادرة هذا العالم وبالتالي فكورونا اليوم تسلب حياتنا في مختلف مكوناتها ومجالاتها ولا قوة لنا إلا بالصبر والمقاومة .ولكن كيف المقاومة؟كيف نتحمل الابتعاد عن الميدان وهو أساس العمل في الثقافة الشعبية؟ كيف لامرأة مسنة بسيطة يجتهد شباب في اختصاصات عدة بطرق مختلفة لتروي لهم من الأسرار والروايات العجيبة دون تردد وفي فضاء حميمي أن تشعر بالارتياح والانسجام الروحي مع محاوريها عن بعد؟ ألم تقم البحوث الميدانية في جانب منها مهم على الفطنة في التعامل الحميمي مع المخبرات في سن متقدمة وثقافة معينة على الاستدراج الذكي لكسب الثقة حتى ينتزع منها المعلومات المرجوة في هذا المجال أو ذاك؟! فكيف نحقق كل ذلك عن بعد؟! هذا نموذج بسيط يتبادر إلي أمام اكتساح الرقمنة وانفجار الثقافة عن بعد والتي يجد فيها الطلبة والعارفون بهذا المجال صعوبات في التواصل فما بالنا بمجال أساسه القرب والتحلق والاجتماع؟! كيف نتجنب الالتصاق والتقرب من المسنين وهم أساس نقل التراث وروايته؟! كيف لنا أن نشعر بجمالية لمس هذا الفخار أو تلك الآلة التقليدية وشم الروائح الساحرة لهذه العطور أو لهذه الأطعمة أو هذه الأقمشة والجلود وغيرها في هذا المكان أو ذاك ونحن نرتدي قفازات ونضع على أنوفنا وأفواهنا الكمامات؟! تبكي الأمهات اليوم وتتألم الجدات وهن يصددن أبناءهن وأحفادهن خاصة من صغار السن وهم يهرعون لضمهن وتقبيلهن خشية العدوى فتذرف الدموع وتحزن الأفئدة!! يغادر الأحبة في صمت ويدفنون في هدوء مؤلم تشوبه الحيرة والجزع والخوف من عدوى من هنا أو هناك! صار الألم عن بعد والعشق عن بعد والفقد عن بعد والتعازي عن بعد والتهاني عن بعد! أي خسران تعيشه الإنسانية! هذه «الأسلحة الرهيبة» التي يدعي الأطباء أنها تقينا الوباء ولكنها وهي تحافظ على سلامة أجسادنا تسلبنا أرواحنا عنوة وتغتصب حريتنا شيئا فشيئا وتكلس مشاعرنا لحظة بلحظة.وتقضي على كل جميل وحميمي فينا، هذا الذي شد منذ الأزل كل عاشق للثقافة الشعبية للتراث للإبداع .ومع ذلك ليس أمامنا إلا أن نأمل ونحلم بغد أجمل نعود فيه لذواتنا لعشقنا لأحبائنا لحلقاتنا، لمهرجانتنا الحضورية، لملتقياتنا العلمية وندواتنا الفكرية، بغد جميل يكسر الحواجز ويفتح الحدود لأن شعار الثقافة الشعبية كان دوما تجاوز الفوارق المختلفة بين الأجناس والأديان والألوان لتأسيس الأهم والأبقى وهو الإنسان.ولذلك أرى أن الكورونا جاءت لتقاوم الإنسان وتسلبه أجمل ما فيه وأن الثقافة الشعبية التي تمثل مكونا أساسيا من مكونات شخصيته وروحه وآماله وأحلامه لم تكن بمنأى عن لعنة هذا الوباء ولم تستطع بأسلحتها السلمية الخاصة بها القادرة على كسر الحواجز بين الشعوب والأفراد وفتح مجال الحوار بين الأجناس ومختلف الحضارات أن تقف بوجهه وتكسره وتنتصر عليه.لقد بات الجميع مسكونا بالخوف في معناه الفلسفي العميق باعتباره فعلا أو رد فعل من الإنسان عندما يتعرض لشيء أو موقف يشعره بالخطر وقد يكون الخوف المؤقت ضروريا لتجنب المهالك والصعوبات يدعو للحذر و ينتهي بانتهاء التهديد أو ما يبعث على الخوف لكن الخطر قد ينجم عن الخوف المصحوب بالقلق الاجتماعي المرتبط بالآخر ولعل الموقف من كورونا يرتبط في بعد من أبعاده بهذا الصنف الذي يجعلنا نتجنب القرب من الآخر ونهرب من كل من يقترب منا .والخوف كل الخوف أن يتحول هذا الخوف إلى وسواس ينغص حياتنا ويزرع اللامبالاة فيها والبرود والجفاء.ولكن الأمل لن ينعدم والحلم سيظل قائما بيوم مشرق يعيد للعلاقات بريقها وللمحبة صفاءها وللإنسان روحه وسلامته.
تبادرت إلى ذهني هذه التأملات وأنا أجيب أحد طلبتي الذي سألني «لم لم تعد مجلة الثقافة الشعبية تصل إلى الأسواق في تونس ؟افتقدناها كثيرا أستاذتي «وأنا أجيبه بكل ألم ومرارة «إنها تبعات كورونا اللعينة».وإن شاء الله تعود قريبا إلى نقاط البيع في تونس وخارجها.