التراث الشعبي... المرتكزات والتجلّيات
العدد 54 - التصدير
لم يكن المجتمع الإنساني يوماً حاصلَ حاضرِه، إلا بقدر ما يكون مَنشأَ ماضيه، وبقدر ما يعمل على الوصول إلى المستقبل، بما نشأ عن الحاضر والماضي، وما هيّأ لدخول المستقبل. ومن أجل وعي الحاضر للتطلع منه إلى المستقبل، لا بد من الإتكاء على الماضي، لمعرفة ما كان عليه المجتمع، وما كان يشكّل نقاط مشاركته في العالم الأوسع، وبصماته في المحطات الحضارية الأساسية التي ساهمت في وصول عالم اليوم إلى ما هو عليه، وإلى ما يمكن أن يكون عليه مستقبلاً.
من المهم القول إن البحث في تراثنا العربي يسمح لنا بالتعرف على ما أبدعته شعوب هذه المنطقة على امتداد تاريخها، لتيسير شؤون حياتهم، وللتأثير على المعطيات الطبيعية بما يخدم توجهاتهم، وبما يساهم في الانتقال من حالة عيش إلى حالة أرقى، ومن الاكتفاء بالضروري إلى ما هو زائد عليه ليصير ضروريا، ومن ثم الانتقال إلى ما هو مِن أطراف النِّعم ليصير ضرورياً أيضاً، وهكذا دون توقف، حسب المنطق الخلدوني، انطلاقاً من كون الحاجة أم الاختراع؛ وهي المقولة التي تجعل من الحاجة المهماز الذي يحرّك البشرية للانتقال مما هو كائن، إلى ما يمكن أن يكون.. هكذا إلى ما لا نهاية، إلا نهايةُ إنسانٍ بعينه، لتستأنف الحياة ذاتُها مسيرتَها بتسلسل الأجيال.
كل فعلٍ حضاري إنساني موصول بما سبق مما يخصّه في سلسلة متّصلة الحلقات تربط الحاضر بالماضي. والماضي هذا، هو التراث بكل تفاصيله وعناصره، في ما يخص هذا الفعل، أو مجموع هذه الأفعال الحضارية التي أعطت للمجتمعات صفتها الإنسانية. وقد ابتدأت هذه الأفعال في الظهور من خلال عمل الإنسان في الطبيعة، وفي ما هو مُهيّأ من الموجودات لتدخّل الإنسان فيها، من خلال معرفة مواصفاتها الذاتية بالخبرة والتجربة، وتسخيرها لصالحه وصالح المجموعة التي ينتمي إليها.
يوصلنا هذا الكلام إلى التأكيد على أن التراث الشعبي باعتباره مجموعة الإنجازات التي حصّلها الانسان من خلال المعرفة الذاتية للأشياء المكتسبة بالخبرة والتجربة، أقدم في الوجود من التراث العلمي والأدبي والفلسفي الذي لم يظهر إلا بعد تفكّر عقلاني طويل ومستمر في الوجود والموجودات، وربط خصائصها الذاتية بما يمكن أن يحصّل الإنسان بقدراته العقلية وإمكاناته المادية. وقبل ذلك، كان لا بدّ له إلا أن يسيّر أمور حياته، ليبقى على قيدها، بما هو متوفّر وقابل للتحوّل لخدمة الإنسان والمجتمع المحلي الذي ينتمي إليه. لقد عرف الانسان العاقل أن الماء مصدر للحياة، وأيضاً لحاجات أخرى؛ وعرف أن الشجرة يمكن أن تكون مثمرة كما يمكن أن تكون مصدراً للتدفئة، أو مادة أوّلية لإنشاء مركب؛ والنباتات يمكن أن يكون منها ما يؤكل، وكذلك الحيوانات؛ والقضاء على البرد يكون بالتدفئة، والاحتماء بالمغاور، ومن ثم الملاجئ على أنواعها..
ومن الإبتدائي في التعاطي مع البيئة الطبيعية، وصل الإنسان إلى ما هو أكثر تعقيداً. وانتقل مما هو مادي، مع تطوّر تفكّره العقلاني، إلى ما هو غير منظور إلا بالخيال والتصور. ذلك أن الظواهر الطبيعية المتقلّبة شكّلت له مجال تفكّر حسيّ وخيالي حول مصدر الكون، والمتحكّم به، وما يمكن فعله لتجنب مخاطرهما، بعد أن اطمأن، أو كاد، إلى مصادر رزقه وتوفّرها. فصار، لذلك، الحجرُ معبوداً وكذلك الشجرة، والرياحُ والمطر والخصوبة وغيرها. ظهر ذلك كله في التراث. وهو ما يبيّن كيفية نشوء العالم ووجهته، وما نشأ عن التفاعل بين ناسه والذين أوجدوا هؤلاء من الآلهة في البيئة المخصوصة.
وليكون التراث الثقافي مفهوماً على وجهاته الحقيقية، لا بدّ إلا أن يكون ناشئاً من البيئة الطبيعية التي احتوته بتفاعل ناسِها فيما بينهم، وعلى أرضها، وبالتالي متوافقاً معها. بذلك، تتحوّل البيئة الطبيعية من حالتهاهذه، إلى حالتها الاجتماعية. ويتحول الفعل الإنساني من سدّ حاجاته الأولية للعيش والإستمرار، إلى الفعل الثقافي الناشئ عن هذا التفاعل الجدلي بين ما هو مادي وما هو ذهني، للوصول إلى الموقع الأرقى مادياً وروحياً. هذا التحوّل تنتجه الثقافة العالمة فيما بعدَ فعلِ الثقافة الشعبية، أو بالتزامن مع هذا الفعل، باعتبارها انتاج النخبة؛ وذلك بعنصريهما المادي واللامادي، وإن كان بوتيرة أسرع لدى منتجي عناصر الثقافة العالمة.
إن الوعي بالتراث، وخصوصاً التراث الشعبي، ينمّي لدى الجماعات والمجموعات الإحساس بهويتها ووعي أهمية انتمائها، والشعور القوي بارتباط الحاضر بالماضي. كما يعزّز هذا الوعي الشعور باحترام الآخر، فرداً كان أو جماعة، من خلال احترام تراثه المغاير، انطلاقاً من احترامه لتراثه. كما ينتظر من الآخرين احترام تراثه، انطلاقاً من احترامهم لتراثهم. فيؤدي ذلك كلّه إلى الإنفتاح، والإنصراف إلى تنمية القدرات الإبداعية البشرية في كل زمان ومكان.
من المهم القول إن التراث الشعبي اللامادي أمانة مجتمعية. ومن الضروري العمل على المحافظة عليه مجتمعياً، وبالإهتمام اللازم في جمعه وتصنيفه، ليبقى وثيقةً حيّة للأجيال القادمة. إلا أن ذلك لا يتحصّل إلا من خلال وعي أهمية التراث الشعبي في كل عناصره، المادية منها واللامادية. ووعي أهمية التراث يوصل إلى ارتباطه المفصلي بالهويّة. والهوية هي التي تحدد مكاناً لنا في هذا العالم، وباسمها تتجلى موروثاتنا بوضوحها اللازم، وعناصرها اللامعة، بالصوت والصورة والكلمة، أمام العالم أجمع تحت عنوان التراث الشعبي العربي.
أنتج التراث الثقافي العربي اللامادي شعراً ونثراً وحكايات، وغناء ورقصاً إيقاعياً، ومعادلات رياضية وكيميائية، ورسوماً فلكية وضروباً في علم التنجيم، ومعرفة ما يمكن أن يخبئه الغيب، وفنوناً في المعالجة الطبية وشفاء المرضى، وغيرها. إلا أن هؤلاء قليلو العدد نسبياً، مقارنة بالعامة من الناس الذين بقوا في عزلة شبه تامّة عما ظهر من انتاج الثقافة العالمة، لمتانة الفصل بين الفئتين. لذلك أنتج العامة من الناس ثقافتهم المخصوصة. ولمعرفة ذلك، لا بد من التساؤل أولاً: كيف مارس الناس في أكثريتهم الساحقة حياتهم العادية اليومية؟ ما كانت انشغالاتهم؟ كيف نظروا إلى فوق؟ كيف عبّروا عن أفراحهم وأحزانهم؟ ماذا شكّل الأدب بالنسبة إليهم؟ هل عرفوا الشعر ومارسوه؟ ما كان نوع الأدب الذي عرفوه؟ وكيف كانت طرق ممارسته؟ والحكاية؟ ما نوعها وما وظيفتها؟ والغناء والرقص والموسيقى؟ ما هي تجلياتها وعمّ كانت تعبّر، وما درجة تفاعل الناس معها؟ وإذا كان لكل عنصر ثقافي من أدب وفن ومعتقد وظيفة يقوم بها لتلبية حاجة ما، ما هي الحاجات التي كانت تلبّيها عناصر الثقافة الشعبية اللامادية؟ وكيف تجلّت هذه التلبية بتلبّسها أداة مادية تتجلّى من خلالها، قولاً أو نغمة أو إيماءة أو حركة وإيقاعاً. وهل يمكن للثقافة الشعبية اللامادية أن تظهر دون توسّل الوسائل المادية؟
لا شك في أن مجلتنا «الثقافة الشعبية» قد أخذت على عاتقها، مع دوريات عربية قليلة، مهمة البحث في التراث الشعبي المادي واللامادي، بمنهجية أكاديمية، وبنظرة موضوعية إلى ميراثنا الثقافي الشعبي، وكيفية تشكّله، والعناصر الأساسية التي دخلت في هذا التشكّل، دون أن يعني ذلك إقفال الموضوع على ما ظهر ويظهر فيها، بل الإنطلاق مما ظهر للبحث في عناصر ثقافية أخرى يضمّها هذا التراث، وتبين أهمية ما كان يشغل أسلافنا في حياتهم اليومية؛ وهو الإنشغال الذي أوصل إلى منجزات ثقافية كبرى أثرَت الحضارة الإنسانية.