الثقافة الشعبية : ظلالها وامتداداتها
العدد 9 - التصدير
الثقافة الشعبية ذاكرة المكان والزمان واللسان: “والزمان له مكان والحنين له بلد”، وهي مقاومة للمحو الذي يتعقب الهويات ويضعها في مهاوي الافتتان بالنسيان.
ولأن وظيفتها أكثر من اجتماعية واقتصادية بما هي محمول ميتافيزيقي أو ديني شعبي أوإثنوغرافي، فإنها لا تتوقف بمجرد اختفاء لون فولكلوري، أوغياب غناء جماعي، أو محو طقس أو عادة لسبب عبر عنه ضمنيا “بروب” في حديثه عن المحكي؛ وحدده علنيا “موس” وهو ما يمكن أن نسميه “دواعي” إنتاج وإبداع هذا الموروث : سواء في محكي جديد وفي كل الوفاء “تناصيا” للمحكي “الأب” استعارة من باختين، أو في تناصات أنساقية تحضر في الإبداع العالمي ضمن مكونات النص التي لا تموت ولا يتمكن منها المحو، أو في وظائف جديدة تسعف كل ذاكرة جماعية في تبنيها بشكل قديم - وليس تقليديا بالضرورة - وتحت عنوان جديد؛ من قبيل “الهدية” و“الأضحية”، وهي تمظهرات تتمرأى بأنماط اجتماعية جديدة (متطلبة مقاربات موضوعية واعية)؛ مادام الاتصال بين الإنسان ومحيطه الميتافيزيقي والوجودي قائما. وللإيديولوجي أن يتدخل _ كما هو الحال في عقود التطويع الحضاري الذي نحياه باسم التواصل والعولمة_ لاستغلال الموروث الثقافي الشعبي وبناء علاقات وهندسة وظائف بعينها تمركز المركز وتسلب الهامش هوياته ولو بدعم محكي تاريخي أسطوري دون غيره:وللحذف ضروراته.
إن الثقافة الشعبية بهذا المعنى تفسر سبق اهتمام الآخر الاستعماري بالإنثروبولوجيا الثقافية العربية وغيرها من محيط تأثيراته، لأنها “أثر” _ بالمعنى الذي يشغله ميشال فوكو_ لتتبع وفهم المدروس لحساب دارس “أسمى” حسب اعتقاده، ولعل اعتبارها “فضلة نحوية” في الدراسات الأكاديمية العربية في مقابل الدراسة “العالمة” قد أخر فهم كثير من القضايا المرتبطة بالذاكرة الجماعية وظلالها الممتدة إلى ما يجايلنا من موروث؛ وما “نحيا به من استعارات” تشكل المرادف المعلن في عاداتنا دائما؛ والخفي في تصوراتنا أحيانا، وهل ينكر باحث موضوعي كون الآخر مصدرا لمقاربة الذات في المعارف التي تتناول الثقافة الشعبية العربية.
إن الموروث الشعبي “رأسمال رمزي” استعارة لتعبير كريستيفا يحيل على الحضارة بما هي دال من دوال “الحضور” في مقابل الثقافات الغائبة، وتغييبه هدر لرأسمال إنساني وطاقة تفتقر إليها كثير من الثقافات. من هنا نفهم الصياغـة الرائعة لـ“باتريك دولابان”: “إن الشعوب التي ليس لها أساطير؛ تموت من البرد”، ومن هنا نفهم تفسير وجه من وجوه العناية الأكاديمية لكثير من المؤسسات الغربية عموما بالشعبي - حتى خارج حدودها لحاجة الامتداد الثقافي - ، ومن هنا ضرورة تدعيم الأصوات المنادية بالإنصات لهذه الثقافة وظلالها حفاظا على امتداداتها.