المعتقدات الشعبية في مناطق السباسب التونسية
العدد 22 - عادات وتقاليد
يشكل التراث الثقافي والروحي الشعبي بكل تجلياته على مختلف المعارف و الفنون وغيرها مجالا حيا وخصبا لكل عمل إبداعي فيه إضافة ودافعا لانطلاقة ثقافية وحتى مشروع نهضوي.
ويعد هذا التراث مصدر إثراء معرفي لا غنى عنه، ناهيك أن يمثل عمقنا التاريخي وذاكرة الأجداد، وعلاقة الإنسان بالروح الأخضر «Green Spirit» كانت منذ بواكير رحلته في هذا الكون، ومنذ القديم أولى هذا الإنسان العاقل عناية خاصة بالنباتات ومنحها قدسية خاصة منذ لاحظ كل التغيرات التي تحل على سطح الأرض خلال دورة الفصول وظهور النباتات وخضرة الشجر في فصل الربيع ثم اصفرارها وسقوطها في فصل الخريف، وهذا ما جعله يعيش قلقا متجددا حسب الزمان ومدى تأثرها بعوامل وتبادلات دورة الفصول وغياب مظاهر الخضرة في الصحاري والغابات فكانت لهفته شديدة وهو ينتظر عودة الروح النباتية واستمرارية دورة الحياة، لذلك أوجد آلهة ارتبطت بالخصب والحياة فكانت «عشتار» الرافدية أما كبرى للجنس البشرى في المشرق و«تانيت» القرطاجية في بلاد المغرب البونية (البونقية)، فكانت روح الغاب ممثلة في الشجر وأخذت قدسيتها بروحها لا بجسمها كشجرة.
وقد عرفتها كل الحضارات من الصين إلى بابل إلى أرض دلمون على الخليج إلى مصر الفرعونية إلى مجال قرطاج والنوميديين وأمازيغ المغرب الأوسط (الجزائر) والأقصى (المغرب الحالي).
ومازالت هذه الروح الطقوسية «حية وتتعايش مع الإنسان بفطرته في عديد المناطق بالبلاد التونسية وخاصة في المناطق الداخلية حيث التنوع التاريخي للإثنيات فنجد قبائل العرب الهلاليين مع قبائل ذات أصول نوميدية أمازيغية. فمنطقة السباسب حيث وجدت آخر ممالك البيزنطيين الداخلية بالبلاد التونسية وبالتحديد في سفيطلة / سبيطلة وشمل هذا المجال كل مناطق السباسب وكانت حيدرة (ميدرة حسب التسمية الرومانية) ضمن هذا المجال السباسبي، وعرفت هذه الناحية ومجالها الريفي، طقوسا ذات بعد قدسي للروح الأخضر وحظي شجر العرعار المعمر بإجلال الأهالي لما يرمز إليه من قدسية وروحانية خاصة فالبعض من هذه الأشجار يحرق لها البخور وتضاء الشموع وحرم هذه الأشجار قد تم تحويطه ليكون مجالا آمنا للمؤمنين والعرعار كشجر له استعمالات في عادات الأهالي وتقاليدهم فمنه يستخرج القطران وبأوراقه المخضرة على الدوام تصنع الأدوية الشعبية ومنها يخلط البخور الرمضاني سبعة وعشرين عند الجريدية أو «المجموعة» عند بقية سكان البلاد التونسية، فعلاج النفس والنظير والحسد لا يعالج إلا بحرق هذا الصنف المحلي من البخور الرمضاني...
فالمخيال الحيدري تتجلى فيه قدسية الروح الأخضر أو روح العرعار الخالدة في أعماق الحس الوجداني للأهالي.
ففيما تتجلى طقوس أهالي حيدرة مع عرعارتهم « المقدسة » ؟
وما هي ّأهم الاستعمالات المعيشية لهذا الشجر في أعراف أهالي السباسب؟.
العادات والتقاليد وطقوسها الروحية في الموروث الشعبي:
إن النبش في تراث الأجداد الذي يعد تراثا جماعيا وذاكرة حية امتزج المقدس بالدنيوي المدنس وفقا لاهتمامات الفرد المؤمن.
و في ثقافتنا الشعبية الكثير و المحكي منها على سبيل التخصيص فيه العديد من الاستفهامات التي تفرض علينا السعي لاستنطاق ما يمكن واستخراج بواطنها ودررها الكامنة والتي تحتاج منا مزيد البحث في الدلالة والرمزية وهو ما يدفعنا إلى تفحصها في محاولة لسبرها وتفكيك تلك الإيحاءات فمعتقدات الروح الأخضر في منطقة السباسب الغربية من البلاد التونسية نتلمسها في سلوكيات الباطنة والظاهرة، وهذه “الروح” العقدية نجدها في مناطق عدة في العالم ومازالت حية في المسكوت عنه من طقوسنا الدينية. ففي “فرنانة” من ولاية(محافظة) جندوبة بالشمال الغربي التونسي كانت هناك “ شجرة فرنان” ضخمة وعندها يحلو الجلوس بل كانت تحت ضلها الوارف تعقد الاتفاقيات وتبرم العقود بل اعتبرت حدا فاصلا للجباية في عهد البايات الحسينيين فقد أخذت بعض الأشجار بعدها القدسي لوجودها في حرم أوليائي أو في أرض المزارع لان أهالي تلك المناطق يعتقدون أن الولي يترك بركته في الشجرة التي توقف عندها أو استراح تحت ضلها(1).
فعند جامع “سيدي عسكر” هناك شجرتان (فرنان وزيتون) مزروعتان في ارض المزارة وينظر إليها السكان باعتبارها مقدسة(2)، وقطع ثمر الفرنان من البلوط أو أغصان الزيتونة يدخل ضمن المحرمات ومن يتجرأ على ذلك عليه لعنات هذا الولي وغضبه. ومن الأشجار المقدسة لدى قبائل خمير: شجرة الفرنان، فتحت ظلها يجتمع“ميعاد” خمير تحت إشراف شيخهم الذي يعمل على إرساء العدل وحل الخلافات بين الأهالي(3).
وعند هذه “الفرنانة” يلتقي شيخ القبيلة بممثلي “المحلة” طالبين منه دفع المجبى.
وهناك قصة ترسخت في الذاكرة الجمعية عند أهالي فرنانة من قبائل خمير، انه لما عرض قائد “المحلة” أمام “ الميعاد” مطالب الباي والمتمثلة في دفع الضرائب والقيام بعمليات التجنيد لشباب الجهة(4) وفجأة حركت الرياح أغصان الشجرة فصرخ الشيخ مفسرا حركة الشجرة وكأنها تقول لا: “فرنانة جدي قالت لا ندي ولا نعدّي”.
“Le chêne liège mon ancêtre à dit non: nous ne paierons pas et nous ne ferons pas le service militaire”(5)
وهذه المقولة على لسان شيخ تراب قبائل خمير تكلست في الذاكرة الجماعية للأهالي معبرة عن واقع تاريخي معاش أيام البايات (6).
و في مدينة فريانة من محافظة القصرين بأرض السباسب توجد شجرة زيتون معمرة منذ مئات السنين اعتبرها “الفراينة” امتدادا أوليائي لصلحاء فريانة على مختلف انتماءاتهم وكراماتهم و خصوصية كل ولي منهم .
فزيتونة “ازواغر”(7) شيخ المخيال الفرياني الشعبي عديد الأساطير عنها، فمن قطع جذعا منها تكسر أضلاعه و لا يجنى زيتونها بل يتساقط وزيتها شفاء و بركة ...(8).
ونفس المقاربات الانتروبولوجية سوف نضعها في ميزان البحث للإبحار مع العادة والطقس الشعبي في علاقتهما بالروح الأخضر عند أهالي حيدرة.
وفي الحقيقة إن رحلة الفرد مع ماهو معتقد شفوي سمعه عن الكبار أو تناقلته الآذان بالسمع يعد رافدا قويا لسبر أغوار ذلك التراث اللامادي، وعلاقتنا بالقصص الشفوي و ما ينسجه المخيال الشعبي عن هؤلاء الأبطال و الآلهة و الصلحاء وفي محطات مختلفة من تاريخها ما قبل الإسلام إلى ما بعد الزمن الحاضر و المتجدد عند الكبار، وما تلقفه آذان الصغار أصبح جزءا لا يتجزأ من تراثنا وترسخ المعتقد روحي بالرغم من السنة “الذادة” الجدد عن المقدس في عملية إلغاء ذلك التواصل الروحاني بين معتقدات الأجداد بما لها وما عليها والجانب التطبيقي للمقدس بلبوسه الإسلامي الذي نجده يتعامل برقي وتسامح كبير مع ما تكلس وترسخ في باطن “المؤمنين” من ذلك الإرث، القسم وهو يندرج ضمن تاريخ العقليات و الأفكار.
فكم كنا نستمع للجدات وهن يروين بدون كلل أو ملل، تلك “القصص” الشفوية عن أبطال وصلوا إلى مكانة الآلهة بما نسجه الرواة، فقصص “راس الغول” و“عنترة و عبلة” و“الجازية الهلالية و خليفة الزناتي” وتطواف الأولاد في أيام محرم لجمع نذر وهدايا الأهالي بمناطق الجريد أو احتفالات “عمي عوف” عند قبائل خمير بالشمال الغربي وهم يقفزون فوق نار يرتفع لهيبها و يقفز الشباب والكبار وحتى لحواء نصيبها من القفز ومن تلسعه سياط هذه “النار المقدسة” يحمى من كل مرض لمدة سنة(9) وحتى هنا نستوقف عند قصة “كَحل” رأس السنة الهجرية ونسج المخيال الشعبي الإسلامي قصصا وأساطير من ذلك ما يروى انه “من اكتحل في محرم لن ترمد عيناه طيلة سنة”(10).
وهذا المشهد الذي يجسمه أهالي الجريد في أوائل شهر ماي/ايار هو امتداد طبيعي لطقوس الخطب البشري وأعياده التي نجدها عند الفراعنة “بشم النسيم” أو عند الفرس “بالنيروز”، وكما أن للفن صوره وأشكاله أيضا ووظيفته الاجتماعية(11) وبحكم أن التراث الشعبي علم في الإنسانية ومن المعارف المكملة لعلم التاريخ والآثار وكلها تشكل حلقة واحدة في حياة الإنسان، لذلك فان دراسة الثقافة في أبعادها الروحية اللامادية يعد عنصر إضافة لكل جوانب التاريخ الإنساني وإذا بحثنا في عملية حفر انتروبولوجي لمصادر الحكايات فإننا نجدها تنبع من رافد مشرقي واحد(12) فمنطقة الشرق الأدنى القديم من الهضبة الإيرانية وشبه الجزيرة العربية وبلاد الرافدين وبلاد الشام فهذه الطقوس والاحتفالات الضاربة في أعماق التاريخ كان رافدها ومنبع ذلك الشرق الساحر فالآلهة كانت مشرقية والإنسان الأول وبواكير النهضة الإنسانية كانت هناك حيث تأسست أولى التجمعات البشرية للاستقرار والإنتاج والمعرفة فالدين ووازعه كانت ارض الشرق مهادا له والمعتقد البشري بكل تجلياته وما شابه من أسطرة وخرافة نسجها خيال ذلك الإنسان في رحلة إيمانه وبحثه في حياته كإنسان.
وعلاقة الفرد المكابد بالأرض والمقدس بكل مالها من رمزية وحس روحاني فالأرض مصدر قوته وحياته ومنها خلق وإليها يعود لذلك كان الخضار يرمز إلى الحياة والديمومة وروح التجدد في ذاته لذلك نتلمس في بعض أعمال الإنسان الفطرية نحو معتقدات الأجداد فكلها تواصلية واحترام بالرغم من تدخلات أولئك الذادة الذين نصبو أنفسهم حماة للدين؟ أو تلك المجموعات التي تبنت خطاب حداثوي ورموا بمبررات وتراث الأجداد عرض الحائط معتبرينه أساس التخلف وكلا الخطين ظلم ثقافة الأجداد ولم يستفد منها كوعي حضاري يتجدد ويتواصل به.
وهذا ما يجعل من التراث اللامادي والشفوي منه يقتصر في صموده عواتي الزمن وما “يجعل الحكاية الشفوية على خلاف الحكاية المكتوبة تصمد في وجه الزمن هو تداولها”(13) وهو ما دفعنا لشد الرحال إلى بر الفراشيش(14).
وهناك كانت لنا زيارات ميدانية لمواقع الأشجار المقدسة من “الولية” إلى“للّه سالمة” إلى “عرعارة الشلاليق” وهذه الأشجار من صنف العرعار البري ويعد من الأشجار المعمرة فالشجرة كما أشرنا ترمز إلى الحياة فهي كالمولود تنمو ثم تتكامل بنيتها وطولها وامتداد أغصانها وصلابة وضخامة جذعها.
لذلك اعتبرها القدامى رمزا للخلود(15) عند كل شعوب الأرض فهي تعبر عن الحياة والشباب والحكمة أسوة ببقية الأشجار(16) في حضارات العالم المتوسطي والشرق الأدنى القديم وغيرها من بقاع الأرض.
وبالعودة لعرعارات حيدرة بروحانيتها المتجلية في الوجدان والمسكوت عنه لدى الأهالي وربما يظهر ذلك في الحس الوجداني عند المدلهمات لان الصلح والسلم مع الموروث العقدي بما نسجه من قصص حاكها ذلك الحس الروحي مدعما بما تصورته ميتافيزيقية الأجداد عن ذلك المعتقد الشعبي بروحها الخضراء.
والأخضر رمز للخير والإيمان فالناس يتفاءلون به باعتباره لون النبات والحقل المعطاء. انه أكثر الألوان انتشارا في الرايات العربية الإسلامية فقبة المسجد النبوي الشريف بالمدينة المنورة خضراء اللون وعمائم الأشراف من آل البيت النبوي ذات اللون الأخضر إنه اللون الذي وصفت به الجنة وأهلها من المؤمنين جاء في محكم تنزيله“متئكين على رفرف خضر”(17) فحتى في الرسوم الشعبية نجد اللون الأخضر هو الطاغي على كل الألوان(18) لذلك اختلفت أسباب التقديس في أبعادها التاريخية والعقائدية لذلك اعتبرت هذه العرعارات من عالم الجان وأنهن صالحات ذلك العالم المخفي ونقول عنهم“الخافيين” أو “أولاد بسم الله” باعتبار أن مفتاح دخولنا للمناطق العتمة إلا بعد أخذ الإذن “ دستور في خاطرهم” ونحن نقول في الغرب الإسلامي “بسم الله” حين نهم بدخول مكان مظلم لا وجود للبشر فيه.
وهذا ما دفعنا لتقصي الأثر الشفوي لمعرفة سر هذا التقديس لشجر العرعار وكذلك الاستعمالات لهذا الشجر في العادات والتقاليد وفي معتقدات الأهالي وبما أن عرعارات حيدرة جزء من ذاكرة جماعية فإنهن يتجلين في منامات “المؤمنين” وأنزلن اشد العقوبات على من يتجرأ بقطع أغصانها لذلك عدت العرعارات استمرارا تواصليا لعقائد “الروح الأخضر” والخصب المتجسد فيهن فإن اختلفت أشكال الطقس الديني فعملوا على بعث روح فيهن وأنست الممارسات الطقوسية وربطت الروح العقدية بالخصب ونوايا الخير والعفة والطهر وهذا ما سوف ينجر في طياته.
فماهي أبرز تلك التجليات في أبعادها الروحانية والتقليدية؟
تجلي الروح الأخضر في عرعارات عروش حيدرة :
1 - حفر في معتقدات الروح الأخضر:
من جملة ما ذكره مرسيا الياد قوله “كل كائن تاريخي يحمل في ذاته قسما كبيرا من إنسانية ماقبل التاريخ”(19) .
كان الدين والحس العقدي الروحي للإنسان القديم أول ما عبر عنه بوسائل مختلفة منذ بدأت تتبلور أفكاره عن الحياة والكون والقوى الروحية للطبيعة ومنها الشجرة بما ترمز إليه من تجدد وحياة وقوة متواصلة فهي رمز للطبيعة والكون(20).
لذلك وجه عبادته لها كشكل نحو الروح الكامنة فيها ومنها انبثقت «عشتار» الرافدية في شكلها الآدمي بما يحتويه من غنوجة وجمال وأنوثة حية فكانت مجسمة في جذع شجرة وأصبحت تعبد في بعديها التجسيمي والروحاني الإنساني حيث تحولت بعد ذلك من هذا المجسم الشجري الخشبي إلى أن تكون في التماثيل الرخامية في واجهة المعابد ومع ذلك لم يفارقها مجسم الشجرة(21) لذلك اعتبرتها الشعوب القديمة في حسها الروحي الديني العالم كله فهي تتكرر وتتجدد وتختصره وهي في نفس الوقت ترمز إليه(22).
فالشجرة تشكل محورا أساسيا في عقائد الإنسان القديم وفي الغالب نجدها مصورة بين حيوانين يأكلان منها أو يتطلعان إليها بارتياح وطمأنينة ثم في مرحلة لاحقة أصبحنا نراها بين مجسمين لكائنين يجمعان بين صورتي الإنسان والحيوان(23) .
لقد خلد الفنان المشرقي القديم (بلاد الرافدين، سورية الكبرى، مصر الفرعونية، إيران والأناضول) الشجرة من خلال معالجته لموضوع شجرة الحياة(24) مجسما للآلهة عشتار الخضار في أشكال ترمز إلى تواصلية تلك الروح والخضرة المتجددة وديمومتها التي جسدتها تلك الأعمال الفنية القديمة بشكل زخرفي تبسيطي جميل تظهر عشتار وعن يمينها ويسارها مخلوقات أسطورية تحرسها وتتعهدها بالرعاية(25).
لذلك فإن شجرة الحياة التي مثلتها في الميثولوجيا الإغريقية الرومانية الشجرةالضخمة القائمة وسط غابة «ديانا-ارتميس» هي التي تظهر مجددا في قلب الجنة التوراتية التي غرسها «بهوه»: ( وغرس الرب الإله جنة في عدن شرقا ووضع هنا آدم الذي جلبه وأنبت الإله من الأرض كل شجرة شهية للنظر وحيدة للأكل وشجرة الحياة في وسط الجنة وشجرة معرفة الخير والشر»(26) وشجرة الحياة التي ولد منها «ابن الأم السورية الكبرى عشتارات» ومنها تجسمت في الإرث العقدي المسيحي السيدة مريم كأم كبرى(27).
ونجد في قصة ولادة السيد المسيح حيث نجد قصة النخلة في قوله تعالى «فجاءها المخاض إلى جذع النخلة قالت يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا فناداها من تحتها ألا تحزني قد جعل ربك تحتك سريا وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا»(28).
وهي نفسها الشجرة التي أصبحت عند النصارى شجرة الميلاد حيث تزدان بها بيوتهم في أعياد الميلاد وتزين بالشموع والأضواء التي ترمز إلى الأجرام السماوية المنيرة للكون ذلك أن شجرة الحياة هي التي تتعلق مصابيح الكون بصدرها(29) أما عند أجدادنا من العرب والأمازيغ فإن تاريخ شبه الجزيرة العربية ترى بمثل هذه المعتقدات في الفترة السابقة للإسلام فقد قدس العرب الأشجار وصبغوها بهالة من المعتقدات الأسطورية وقد خصوا أنواعا من هذه الأشجار دون غيره. بقدسية مميزة من بينها «الصلح والسمر والعشر»(30) وقد حفظت لنا كتب الأخبار قصصا عن الأشجار المقدسة عند العرب. ولابد من الإشارة إلى أن معتقدات أجدادنا في شبه الجزيرة العربية هي امتداد طبيعي لمعتقدات المجال السوري والرافدي القديم وبتعبير آخر أنها ترمز لروح الغاب بما ترمز إليه من روحية في عقائد العرب قبل الإسلام(31) من ذلك نذكر «ذات أنواط» شجرة الحجاز المقدسة أو نخلة نجران في بلاد اليمن.
وإن كانت معلومتنا عن ذلك شحيحة بحكم أن المؤرخ الإسلامي كتب عن الحقب السابقة للإسلام «الجاهلية» في أغلب الأحيان بشكل إقصائي وتشويهي لعرب الجاهلية وعقائدهم.
ومن الأشجار التي شاعت عند أصحاب السير والأخبار نذكر «نخلة نجران» و«سدرة ذات أنواط»
«نخلة نجران» عبد عرب الجنوب نخلة طويلة في نجران يأتونها مرة في السنة في يوم معين اتخذوه عيدا فيعلقون عليها كل ثواب حسن وجدوه وحلي النساء وعكفوا عليها طيلة يومهم (32) .
سدرة“ذات أنواط” : كانت لقريش شجرة عظيمة خضراء(33).
هكذا وصفتها المصادر يأتونها كل سنة فيعلقون عليها أسلحتهم ويذبحون عندها وفي مواسم الحج تعلق أردية الحجيج عليها قبل دخولهم الحرم المكي لأن طوافهم بالبيت عراة(34) حتى أن بعض المساكين في غزوة حنين(35) بقوله “هكذا فعل قوم موسى بموسى(36)”. في دنيا المنامات فقد حفت كتب التفاسير بتأويلات وتفاسير للشجرة ورمزيتها وجميع حالاتها ونكاد نلحظ إجماعا عند كل المفسرين على أن الشجرة ترمز إلى المرأة والخصب والرفاه والخير العميم(37). فقد جاء عند شيخ المفسرين محمد بن سيرين البصري (ت 110هـ / 728 م ) أنه من رأى نخلا كثيرا فانه الخصب والمنافع(38). ومن خلال هذا التأصيل والإبحار في عالم عقائد الشعوب بالروح الأخضر نمهد الأرضية ونبني الأسس المعرفية لسبر أغوار “عرعارات حيدرة” ومدى تواصلها الروحاني في كوامن أهالي مناطق السباسب التونسية، فماهي أبرز تجليات الروحية لشجر العرعار في الثقافة الشعبية لأهالي حيدرة؟ و ما مدى ذلك العمق العقدي عندهم؟
2 - قصص “العرعارات” في حيدرة في عادات الأهالي ومعتقداتهم:
*البعد الرمزي والقدسي للشجر في الوسط القبلي والشعبي الأمازيغي والريفي:
وهنا تستوقفنا طقوس بعض قبائل الأمازيغ في تكييف معتقدات أجداده مع الشعائر الإسلامية في عملية توفيقية بينهما، فالذاكرة الجماعية الأمازيغية بقيت متعايشة مع ثقافة ومعتقدات الأجداد، ويواجهنا تعنت ومعارضة قوية من علماء الظاهر“ الفقهاء” باعتبار الذادة عن أي بدعوية تؤثر في السلوك التعبدي للمؤمن(39). لذلك كان التدين الأمازيغي أو المتعرب تدينا اقرب إلى مسالك التصوف وهو بطبيعته اقرب إلى سلوكياتهم الحياتية وإيمان الأمازيغ من سكان الشمال الإفريقي “بشجرة الحياة” قديم و“هو ينتمي إلى زمن أبعد بكثير من العصور القديمة فهو مرتبط بعقيدة الإنسان الأول في عناصر الطبيعة وعقيدته في الروح الكامنة في الأشجار”(40).
فالمجتمع “الماستي” بالمغرب الأقصى مازال يتعايش مع تلك الممارسات الطقوسية للمعتقدات الشعبية الضاربة في القدم، فإننا نجد أفراد المجتمع الماستي - مثل أهالي حيدرة في تعلقهم بشجر العرعار- متعلقين ب “شجرة أركان” فعملوا على المحافظة على هدا الصنف البري من الأشجار بل تجاوزوا ذلك في نظم أغاني وأهازيج لهذه الشجرة المقدسة(41).
ويتجلى هذا التقديس والإجلال لهذا النوع الشجري في اتخاذ الأهالي لها كفضاءات مقدسة لممارسة طقوس الزواج وتقاليده والختان، لما تعنيه الخضرة في المخيال الجماعي للأمازيغ . وهذا ما كان يحدث في حرم سيدي عسكر بفرنانة حيث الفرنان وتحت ظله الوافر تبرم العقود وتجبى الضرائب وتعقد الاتفاقيات .
والغريب أن المجال الأوليائي سواء كان زوايا أو أحباسا موقفة لها، كان خصبا وحيا لتنامي معتقدات الأهالي في شجرة الولي باعتبارها حرما مقدسا وفضاء لا تدخله “الشياطين”، لذلك فان قدسية الأشجار المعمرة في بلاد الغرب الإسلامي وفي المجال الأمازيغي العربي اكتست قدسيتها من قدسية “الولي”، خاصة وإن سياحة التفكر والانقطاع عن عالم الشهادة بمدنسه جعل منهم صلحاء تشد إليهم رحال المؤمنين للتبرك والزيارة وحتى الإقامة في ذلك الفضاء، وإذا كان لأهالي ومريدي هذا الولي بعض اليسر فتقدم القرابين وتقام الاحتفالات “الزردة” في مواسم الحرث والحصاد.
وهذا ما ينطبق على “عرعارات” حيدرة بالوسط الغربي التونسي:
*حيدرة: (الموقع الجغرافي)
تقع مدينة حيدرة بالوسط الغربي للبلاد التونسية التابعة لولاية القصرين، وتبعد حيدرة عن المقر الإداري 84 كلم و12 كلم على الحدود الجزائرية.
أ - الولية:“مـﭭيال” سيدي احمد المكاوي المقدس:
وهي شجرة من سلسلة الصنوبريات تقع بأحد أرياف حيدرة و بالتحديد بنقماطة على بعد 6 كلم عن المقر الإداري لمعتمدية حيدرة، وعرفت هذه الشجرة باسم “الولية” لأنها تقع في فضاء أحد الصلحاء المحليين” سيدي احمد المكاوي”، فقد كان هذا الصالح يستظل بظلها والظاهر أن كثرا من الصالحين كانت “ مـﭭيالا ”لهم فسميت في الوسط الشعبي في نـﭭماطة “ مـﭭيال الصلاح”، وكثيرة هي الأشجار المعمرة التي اعتكف عندها الصلاح وانقطعوا عن زخارف دنيانا فأصبحت عند الأهالي حرما مقدسا(42) و هذا المجال الذي نال قدسيته وحضوره في اعتقادات الأهالي تيمنا ببركته(43).
ويعتقد “عروش الفريخات” و“العصايدية”(44) بخوارقية وقدسية “شجرة الولية”.
تقع “شجرة الولية” غربي وادي بنقماطة شرقي الطريق المعبدة “تالة-حيدرة” على بعد 500 متر في ارض عباس سعداوي .
إذن كان البعد القدسي“ لشجرة الولية” استظلال الصالحين تحتها وانقطاعهم في رحلة الإيمان بهذه البراري والهضاب وحسب جذع الشجرة فإنها من الأشجار المعمرة والغريب أنها الوحيدة الباقية في الشجر البري بمنطقة بنـﭭماطة وقد نسج الخيال الشعبي أساطيرا وقصصا ليعطوها بعدها الكرمي والقدسي ومن جملة ذلك انه من يقطع غصنا من الولية “مـﭭيال الصلاح” معرض للعقوبة الربانية فقد ذكر لنا شهود العيان(45) قصصا عن واقعهم المعاش فقال قطع احد الشبان(46) غصنا منها وكان جزاؤه أن خرجت عليه خلية نحل فلسع حد الجنون وهناك من أصبح عاجزا بسبب مرض أصابه في ساقه لأنه قطع غصنا من “الولية”(47).
إذا فالولية التي اكتسبت بركتها من “الصلاح” أصبحت تصلي بعذابها كل من يتطاول على أغصانها حتى الحيوان لم يسلم منها حسب الخيال الشعبي لأهل نـﭭماطة.
ومن جملة الكرامات المنسوبة إليها أنها تشفي ببركتها المرضى وعون للتلاميذ في امتحاناتهم وللمحتاجين في قضاء حوائجهم(48) وهذا التراكم العقدي يتوارثه الأهالي ويتكلس في عالمهم الباطني ويرسخ عقائد القدامى بأن الشجرة رمز للعطاء(49) لذلك تكونت عبر الزمن دلالات رمزية استعطائية “قربانية” للتقرب من الولية حيث يحتم حرق النجور في الحويطة والمنجرة الموجودة عند سفحها(50) وكذلك تضاء الشموع ويأخذون منها عودا للبركة ويترجون تحقيق أمانيهم وهذا الاستعطاف القرباني نجده عند “الأمازيغ” في وشم أشكال عديدة فعند بعض “العروش” تزين النساء صدورهن أو زنودهن بشجرة وارفة الأغصان(51) ومازال الكبار يعتقدون بحرمة وقداسة الولية في منطقة بنـﭭماطة فهي “مـﭭيال الصلاح” في تاريخهم القريب وملاذهم عند الشدائد وهي حارسة واد احباس وواد سيدي حمد المكاوي ليلا فمن يتجاوزه في الظلام تصبه بسياط عذابها(52) وهكذا نجد ذلك التواصل بين معتقدات الوسط الشعبي بإيمانه العجائزي في تواصلية مع ما ترسخ في ذاكرتهم من معتقدات الأجداد وهذا سر بقاء الولية كأحد الأاوبد الفريدة في مجالها.
ب - العرعارة سالمة:
حامية الشجر وحارسة الغاب(روح الغاب بالـﭭرﭭارة) على الرغم مما أحدثته العقيدة الجديدة من تحولات عميقة في الوسط القبلي الأمازيغي أوالبدوي العربي فإن الأرياف والبراري في اغلب مناحيها ظلت محافظة على كثير من عاداتها وطقوس معيشتها ونظمها الفكرية ذات العمق الأسطوري وظل الأهالي يعبرون عن مذخورهم بمظاهر مختلفة وأساليب متنوعة(53)وهذا هو حال “العرعارة سالمة” حارسة الغاب وحامية الشجر “بالـﭭرﭭارة” في ريف حيدرة أنها عاقبت من تجرأ على قطع أغصانها وحرق أوراقها وسوف نعرج بالتفصيل في سياق سبرنا لأغوار هذه الشجرة المقدسة عند أهالي الـﭭرﭭارة.وهي تقوم بدور الآلهة القديمة في حراسة الغاب في نفس الدور الذي قامت به الربة“ديانا” روح الغاب عند الرومان فهي آلهة للغاب والبراري الوحشية وحيوانات الصيد. أقيم هيكلها الرئيسي في غابة “نيمي” لحماية الغاب وفي وسط الغابة “نيمي” كانت هناك شجرة كبير ة وارفة اعتقد عبادها بأنها تجسيد للآلهة نفسها(54) وهكذا كانت “العرعارة سالمة” الساكنة في روح شجرة العرعار(55).
سالمة صالحة الجان: تقع هذه الشجرة بالـﭭرﭭارة في أحد أرياف حيدرة وتبعد عن المقر الإداري 7 كيلومترات توجد بأرض الطيب بوخريص بالجهة الغربية من وادي الناقص وتظهر جذورها الضاربة في أعماق الأرض وقد أثرت عوامل التعرية والانجراف وتآكل تربتها وانجردت بسبب المياه الجارية على مر الزمن.
- التسمية بين الناسوتي واللاهوتي تعود هذه التسمية للعرعارة “سالمة” إلى تلك الحكاية الأسطورية المتوارثة عند أهالي الـﭭرﭭارة والتي يرويها الكبار الذين تواصلنا معهم في أراضي المنطقة.
- وهـذه الحكايـة مــنـتـشـــرة عند عــــــرش “القشابيشية”(56) ويتناقلونها بينهم وتدور أحداثها حسب ما حفظته صدور الكبار(57). أن العجوز “العزوز السوداء” امرأة عاشت في الزمن الغابر بمنطقة القرقارة وقامت بقطع بعض العرعار من هذه الشجرة المعمرة لاستعماله في دباغة جلد خروف(58) وتتم هذه العملية حسب الطريقة التقليدية عبر تسخين العرعار في الماء بدرجة حرارة عالية إلى الغليان. ثم يقع نقع الجلد في إناء بهذا الخليط ليتمتن أكثر ويحافظ على ديمومته أكثر ولما عادت “العزوز السوداء” إلى منزلها نامت فرأت في المنام امرأة قالت لها (أنا سالمة أعيش في العرعارة فردي ما أخذته مني وإلا ستنزل عليك لعنتي ) فنفذت “العزوز السوداء” الأمر وردت ما أخذته ومنذ ذلك العهد انتشرت هذه الحكاية وأصبحت سالمة محل تقديس وإجلال من الأهالي(59).
أما ما تواتر عن كرامات “العرعارة سالمة” حامية النبات وروح الغاب بالـﭭرﭭارة أن أحد الرعاة من أبناء المنطقة أراد أن يسيطر (يصطاد) خلية النحل اتخذت من الحفر والثقوب التي صنعتها عوامل الطبيعة بجذوع سالمة الثلاث (60).
فقام باستعمال النار حسب الطريقة التقليدية في التشويش على حركة النحل تحاشيا للدغاته في بعض الأغصان فأصابه الدخان في عينيه وأصيب بالعمى(61).
ومما تكلس في علم الصدر الشفوي عند “الـﭬشايشية” ‘أن أي ثري يقطع منها غصنا يموت فقيرا(62)وهذه المعتقدات المترسخة في العقل الباطن للقشايشية وغيرها من أرياف حيدرة القرية تعود بجذورها إلى بواكير عصور الصيد والالتقاط في الحياة البرية وإلى عصر الزراعة والإنتاج المنظم للغذاء في حضارات العصر النيلوتي حيث سادت الربة عشتار حامية للطبيعة البكر بغاباتها العذراء وبراريها المتوحشة وقطعانها المدجنة فخصص الإنسان الأول لكل آلهة “تخصصا” ومجال سيطرة وحماية فانفصلت عشتار إلى صورتين عشتار البراري القديمة ونموذجها عند الإغريق“ارتميس” و“ديانا الرومانية” وعشتار الزراعية أي الداجنة ونموذجها “عشتار البابلية” و“ديمترا اليونانية”(63) وحلت “العرعارة سالمة” محل “ارتيميس” و“ديانا” في براري “الـﭭرﭭارة” وعملت حسب ما تكلس في معتقدات القشايشية حماية الطبيعة لتبقى بكرا بدون تشويه آدمي لها.
ويتقرب إلى “العرعارة سالمة”بالشموع والنجور وتربط بأغصانها رقع من القماش ويعد يوم الخميس هو اليوم المقدس المبارك “لسالمة” روح الغاب بالـﭭرﭭارة حيث يتم الوفاء بالنذور وتعلق الأماني في قطع القماش بأغصانها فنذور “القشايشية” ومن جاورهم من “الحوافظ الفراشيش” معلقة عند عشتار القديمة التي خلدت في إيمان الأهالي وعمق عقيدتهم بالموروث الديني للأجداد في تلك الروح الكامنة في الأشجار والمخفية عن العامة ولا تظهر إلا بكرامة أو معجزة حكاها الفرد عبر تواصله مع تلك المعتقدات القديمة.
ج. شجرة الشلاليـﭪ : “ذات أنواط” أهالي حيدرة:
*الموقع والقصة :
تقع عرعارة الشلاليـﭫ(64) في أرض الصادق العياري على حافة وادي حيدرة، وقصتها العقدية شبيهة بتلك التي رويناها عن “العرعارة سالمة” روح الغاب و حارسته في “الـﭭرﭭارة”، وقصة العرعار نستحضرها مرة ثانية لاستعماله في الدباغة، ولكن الملفت في حالة “شجرة الشلاليـﭫ” / “عرعارة الشلاليـﭫ”(65) بأنها ظهرت في صورة جنية في منام المرأة التي قطعت منها بعض العرعار وأنها “ولية”(66)، وهنا نستحضر علاقة الجان ببني آدم وأين يقطن الجان ؟ والجان المؤمن أي غير المؤذي للإنسان ولكن عرعارة الشلاليـﭫ جمعت بين الولية والجنية وهذا الأمر يفرض علينا انعطافة حقيقية إلى الوراء لمعرفة معتقدات المجتمعات العربية والسامية والإفريقية بالجان.
وهذا الاعتقاد في الجان وعالم“الخافيين”(67) مازال مترسخا في عديد المناطق إلى يومنا هذا عند عديد الشعوب والأمم من الفترة ما قبل الإسلام إلى ما بعده، والسواد الأعظم من المسلمين يعتقدون في الجان عقيدة خوف ورهبة، بل إن قسما من أساطير العرب القدامى نجدها عند العرافين و“العزامة” في مناطق عدة من العالم الإسلامي ناهيك عن الزنوج في إفريقيا السوداء(68) وعبادة الجن من العبادات الدارجة والمعروفة عند القدامى، وتشير عديد الآيات القرآنية إلى هذا الاعتقاد الراسخ في عبادة الجن “... ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون”(69) و قد دونت كتب الإخبار قصص تواصل العرب الجاهلية بالجن وكلاما ازدانت به أمهات كتب التراث العربي القديم ونجد ذلك منظوما في شعر ينسب إلى الشعراء الجاهليين وملاقاتهم بالجن(70). ونجد عند الجن حسب ما ورد لنا من قصص القدامى أشرارا وسفلة(71)وكأننا نرى نفس التقسيم لعالم الإنس في محكه الأخلاقي والاجتماعي.
وربما هذا ترسخ في الذهنيات الاجتماعية بوجود أشرار وأخيار. ولا ننسى أنه وجدت آيات تشير لجان المؤمن والمسلم “...وإنا لما سمعنا الهدى آمنا به فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخسا ولا رهقا. وإنا منا المسلمون ومنا القاسطون فمن أسلم فأولئك تحروا رشدا”(72).
وبالــــــعـودة إلــى تسمــيــة الــعـــرعـــارة “بالشلاليـﭫ”(73)حيث يشد الأهالي أمانيهم على قطع قماش بأغصانها “حيث أين توجد النية يوجد العمل” كما يقولون باللغة العامية فهي تسعد حسب عقائدنا كبار حيدرة “من يعقد فيها النية وتحقق له أمانيه”(74) وعرعارة الشلاليـﭫ تعيدنا إلى سدرة “ذات أنواط” وهي واحدة من الأشجار التي عبدت قبل الإسلام في بلاد الحجاز فقد كانت لقريش شجرة عظيمة خضراء(75)، و هذه شجرة السدرة الخضراء الضخمة كانت فضاء احتفاليا لعرب الجاهلية، يأتونها كل سنة في موسم الحج وتعلق عليه أردية الحجيج قبل دخولهم البيت الحرام لأنهم يطوفون حولها عراة(76).
وهذه التواصلية بين خلود الطقس العقدي والحياة اليومية لأهالي حيدرة، وسر هذا الخلود هو استمرارية الممارسة باعتبارها طقسا شعبيا مزج بالمقدس. لذلك فإن عمق التأثير والتواصل يبقى حيا عند الفرد.
*الطقس الديني:
تعد عرعارة الشلاليـﭫ عند أهالي حيدرة بالأمل الذي يشدهم نحو غد أفضل فعلى أغصانها تربط وتشد أمانيهم، لذلك كان إجلالهم لعرعارتهم في سائر الأيام وبشكل أخص يوم الخميس، حيث يحرق البخور وتضاء الشموع مساءا وتعقد الأماني على قطع الأقمشة المشدودة في أغصانها و تتكشف العرعارة في المنام لمحبيها وزائريها فتنصح وتبشر ولا تقبل أي نذور فهي الولية الوكيلة لصلاح الأنس سيدي عصيدة وسيدي علي بن إبراهيم وهما جدان لعروش الحوافظ ساكني حيدرة(77).
هذا وإن سر بقاء هذه الأشجار البرية الثالث كان عنصرا قويا في تعلق كبار السن بهم ونسجهم الأساطير والقصص التي تراكمت في الحافظة البشرية. وقد ساهمت حركات النزوح خارج مجال حيدرة في ضياع هذه الذاكرة الشعبية ونسيان تلك الطقوس والمعتقدات الضاربة في قدم أميرة الجبال كما يحلو لقدامى البربر تسميتها في الماضي.
الاستعمالات الشعبية للعرعار بين التقاليد والحس الروحاني:
بعد سياحة مع عرعارات حيدرة في روحانية نادرة، في تواصل بين الحاضر بحداثويته وذلك الماضي الضارب في القدم، وبعد إطلالات عن كل «عرعارة» «ولية» مازالت تنال حضوة الوسط الأهلي في مناطق تواجدها النادر والفريد بسبب عوامل القطع للغابات البرية والتعرية وغضب الطبيعة في مواسم الأمطار والتمعن الجيد في تاريخ أديم الأرض وحسب روايات كثيرة من الفالحين الذين تواصلنا معهم ذكروا لنا أن المحاريث تصطدم بسلاسل جذور العرعار والصنوبريات وغيرها من سلسلة الصنوبر البري المنتشرة في الماضي القريب بالمنطقة فكثيرة عمليات القلع العشوائي سواء من قبل قبائل الفراشيش وماجر وغيرهم من سكان المنطقة أو حملات القطع الممنهج التي قام بها الاستعمار الفرنسي لغابات عروس الجبال البربرية حيدرة.
وبالعودة لشجرة العرعار الذي نال قداسة وتبريكات من الولية ومن سالمة روح الغاب ومن عرعارة الشلاليـﭫ وكلها كانت في حمى وحرم أوليائي فقد استظلوا بظل هذه الأشجار أو توقفوا عندها فكانت البركة والخطوة و الشفاء من الأمراض والأسقام وتسهيل أموال العباد والبلاد.وهنا يستوقفنا أمر ماهو سر الحظوة للعرعار في حيدرة ومجالها القريب؟
فناهيك عن البعد القدسي المتجسم في طقوس الأهالي أمام «العرعارات» سلوكا وحياة. ولكن الأمر الهام ماهي استعمالات العرعار في الوسط الشعبي بحيدرة؟
والأجوبة قد تطول نظرا لتلك العمليات «الاستردادية» للطب الشعبي الذي يعتبر التداوي الطبيعي بالأعشاب أمرا حتميا وفرضا ملزما فكثيرة كتب وحواشي الطب البديل والطب بالأعشاب والطب الرعواني وتعدى ذلك إلى تلك الثورة في مواقع الانترنت حيث عجت بتلك العودة «الاستردادية»(78) للانتفاع بالأعشاب وبما أن العرعار من ضمن الأعشاب التي توصف في التركيبات العشبية للمتطبيبين او المتداوين بالطب البديل فإننا سوف نخوض في رحلة ميدانية عند البعض من أهالي الريف بحيدرة وفي مناطق عمرة قفصة(79).
فقد كانت لنا استمارات وإفادات من كبار السن حول الاستعمال الرعواني الشعبي للعرعار في العلاج – البناء- الصناعة واهم هذه الاستعمالات تلك المرتبطة بما هو روحاني قدسي ومن الطرافة أن إعداد «النجور» الخاص بالعرعار حيث لطقوس الأسلمة سوف نعرج عليها بذلك التفصيل لما له من طرافة جمعت بين ماهو إسلامي قرآني وماهو طقس عقدي له أبعاده الثقافية القديمة في تلك المرجعية وما ترمز إليه.
1 - العرعار: الاستعمال في العادة والتقليد الشعبي:
بدون تلك المرجعية الشعبية في الوسط الريفي البسيط في تعامله مع عادات وتقاليد الأجداد بلا كلفة ولا تعقيدات الحداثة ولا تلك المحاولات التي يقوم بها المتطببون لتهذيب وذلك “الطب الرعواني” لإخضاعه وإسقاطه في عالم الثقافة والتطوير ليصبح في جعب وقوارير بضوابط قد تكون ناجعة في بعض الأحيان.
إن العرعار شجرة معمرة دائمة الخضرة تنمو في المناطق الجبلية الباردة ويوجد منها “الذكر” و“الأنثى” ولا ثمرة عرفت في الوسط الشعبي وعند باعة الأعشاب “بالزنين” وهي عبارة عن حبات صغيرة عنبية ذات ألوان مختلفة غلب اللون البنفسجي عليها لتتحول بعد جفافها إلى اللون البني الخافت. وقد انتشر استعماله عند قدامى الفراعنة واستخرجوا منه أدوية لعديد الأمراض (80).
أما عن استعمال أهالي الأرياف التونسية للعرعار حسب التقاليد والعادات الرعوانية فإنه يتطبب به لعلاج آلام البطن وخاصة حالات الإسهال فحسب تعبير إحدى الأمهات “إنه أنجع حتى من الطب الحديث”(81) كما ذكرت لنا سيدة أكثر تجربة من غيرها حول الاستعمالات العلاجية للنفساء وذكرت(82): “إن العرعار يستعمل ك“زرير” وتتمثل العملية في حشو التمر بالعرعار وتقديمه للمرأة النفساء لما له من فوائد يعينها على استرجاع صحتها وعلاج الأرحام بسرعة.وهذه الوصفة في لحم الجراح الخاص بالنفساء ذكرت في كتب الطب والحكمة القديمة(83) كما نجد في الوسط الشعبي الريفي نفس الاستخدامات الطبية لهذه النبتة(84) التي ذكرها داود الأنطاكي في تذكرته“العرعار حار في الأول وعوده بارد وثمره حار في الثانية وكله يابس في الثالثة يلحم الجراح ويحبس الدم ملطفا ويخفف القروح حيث كانت ويحلل الأورام ويجلو الابخار وخصوصا البرص طلاء وشربا. الغرغرة بطبخه يسكن أوجاع الأسنان وقروح اللثة ويشد رخاوتها وثمره طريا يشد ويلحم الفتق أكلا وضمادا وإن عجن بالعسل ولعق أبرأ السعال المزمن. ثمره بالماء والخل وطبخه بالدهن لدهان الشعر يسوده ويمنع سقوطه وكذا يجبر الكسر ورص المفصل وضعف العصب.”
أما عن الاستعمال الصناعي للعرعار فإنه درج في الوسط التقليدي عن استخدامه في دباغة الجلود وخاصة القرب بأنواعها (الخاصة بالماء- باللبن والمؤن) وكل نوع له اسمه في قرب الماء: تسمى “قربة” و“صمات” “شكوى”(85) كذلك تسمى قرب اللبن: بالشكوى في الوسط الريفي في بر الهمامة من القبائل العربية وتعددت هذه التسمية للمجال الأمازيغي الجبلي.
كما أنه يستعمل كربوب للأوعية الجلدية التي ذكرناها بعد دباغتها أما قرب المؤن فهي تسمى “مزود” حيث يودع فيها “الزوادة” من الأكل على مختلف أنواعه كمصبر من دقيق وثريد وبسيسة وحتى “القديد”(86) سواء كان لحما أو شحما أو الرمان “المـﭪدد ”وهي عادة غذائية منتشرة عند أهالي واحات الجريد(87). كما يستعمل خشب العرعار في مجال البناء وبالتحديد في تسقيف المنازل في المناطق الجبلية، وبالطبع الأمر أصبح صعبا الآن أولا لانتشار مواد البناء الحديثة والأهم عمليات القطع العشوائي للغابات البرية، مما تسبب في تعرية وتجريد الأرض من غطائها النباتي .
ومن الاستعمالات الصناعية للعرعار نذكر استخراج “ القطران” وهي من المواد الصناعية التي تصنع بطريقة تقليدية أقرب إلى البدائية منها منذ عصور قديمة وتتعدد استعمالات قطران العرعار منها الاستطباب وقصدرة الأواني الفخارية ولتقوية جلود القرب حيث تنقع هذه القرب لمدة عشرين يوما في شقاف (نصف جرة ) فخاري وبعدها تستعمل القربة لتبريد مياه الشرب(88).
مع الأسف الشديد ندرت صناعة استخراج القطران من خشب العرعار، ومع ذلك وجدنا بعض الكبار الذين أشرفوا في شبابهم مع عائلتهم في استخراج هذه المادة السائلة من خشب العرعار وكانت لنا لقاءات مع البعض من أهالي فريانة التابعة لمحافظة القصرين وأخذنا تفاصيل التحضير لاستخراج القطران(89).
- وتتم العملية كالأتي:
في الصورة رقم (1) يقوم بجمع الحطب وتكسيره على شكل قطع صغيرة ليسهل احتراقه، كما في الصور رقم (2) يوضع صغار الحطب داخل برميل، ثم يقوم بقلب هذا البرميل على حفرة صغيره على شكل ثقب موضحة بالصورة رقم(3) ثم يقوم بإشعال النار تحت هذا البرميل كما موضح بالصورة رقم (4) حتى ينزل سائل من قطع الخشب ويتجمع داخل برميل مدفون عليه، ويلاحظ الدخان متصاعدا كما في الصورة رقم (5،6) من جراء الاشتعال للنار داخل البرميل، وهكذا حتى يظهر إمتلاء البرميل المدفون بخروج جزء منه على الأرض ثم يقوم بسحبه عن طريق ملعقة مخصصه له، أما الصورة رقم (7) فتمثل نهاية الحطب الذي أصبح على شكل فحم.
وبعد تبريد البرميل يفتح بعد يوم فنجد فيه ماء “المهل” وهو يستعمل لطلاء الحيوانات من الجرب والبكتيريا وبشكل خاص الإبل لذلك سمي “المهل” ب “صابون بل”.
أما القطران الجيد والشديد السواد والخاثر أي معجن كالعسل فيسمى ب“عروس القطران”(90) وهي تستعمل كدواء ولطلاء الأواني الفخارية و.
2 - العرعار في وظيفته الروحانية “العرعارة الحكيمة”:
تجاوزت استعمالات العرعار في الوسط الشعبي الاستعمال العادي -كما مر معنا- في الحياة اليومية وتعداه إلى ماهية «حكمي/ روحاني» فالعرعارات الحيدريات استعملن كل وظائف «عشتار» «البالية» من روح الغاب وحاميتها إلى سيدة الحكمة والشفاء(91).
ومن نبتة العرعار الخضراء اللون المجففة يصنع الأهالي في عديد المناطق بخورا رمضانيا خاصا يسمى «المجموعة» وكذلك «سبعة وعشرين» وسوف نبين أسباب التسميتين ولماذا بخور رمضاني خالص؟
*تحضير «المجموعة /سبعة وعشرين»:
نأخذ العرعار(92) وليس «العرّ» .يوضع العرعار اليابس (المجفف) في محرمة نسائية ملونة(93) أو احد سناجق الأولياء الصالحين (أحمر وأخضر كما جرت العادة، يوضع العرعار الملفوف بالمحرمة النسائية عند المحراب بالمسجد أو الجامع حسب المنطقة وقرب المنبر وإذا كان في المسجد ضريح لأحد الصالحين فتوضع عند «الثابة» من أول يوم في شهر رمضان إلى حدود آخر ختم القران الكريم ليلة السابع والعشرين من شهر رمضان. بعد الفراغ من الصلاة يأخذ كل مصلي «صرة» العرعار (أي محرمة العرعار الملفوفة ) الخاصة به، تترك الصرة على حالها لمدة أربعين يوما مغلقة.
و يستوقفنا رقم الأربعين ورمزيته، نستحضر الآية الكريمة «وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة...»(94).
وربما ذهب المخيال الديني للأجداد للاقتداء بالنبي موسى في انقطاعه واحتجابه عن بني إسرائيل للحصول على الحكمة والصحف المقدسة (التوراة).
بعد ذلك تفتح «الصرة» بالبسملة ولعن الشيطان والاستعاذة من الجان، تتم عملية فتح «الصرة» مصحوبة بالنوايا الحسنة والفال الخير والمقاصد المرضية لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم.
وهذه النوايا الحسنة لفتح «صرة العرعار» تصحبها عملية «الخلوط»(95).
ويتكون هذا الشكل من سبع وعشرين صنفا:«طفيفرة/تفيفرة، كمون اسود، شب، توتيا، زنزار، بطول، ثربيون، جاوي احمر، جاوي أسود، جاوي أبيض، أم الناس، مستكة، داد، غيره، مسك، فاسخ وفسوخ أبيض، فاسخ وفسوخ أسود،......» (96).
طبعا هذا العرض لتركيبة الخلوط حسب ما بقي راسخا في الذاكرة للسيد بوعجامة لأن الخلوط الخاص بالمجموعة/ سبعة وعشرين يباع جاهزا.
علما أن هناك من يترك «العرعار» المصلى عليه على حالته الطبيعية بدون خلوط.
أسلمة العادة واستعمالاتها :
هذه الطقوس موغلة في القدم وفيها تصالح كبير مع معتقدات الأجداد ربما كانت سياحة «الصلاح» وانتشار الإسلام الصوفي الشعبي وليس العليم كان دافعا لتواصل هذه العادات لذلك عمل الأهالي على إسقاط بعض الطقوس الإسلامية وهي إحضارها لمدة سبع وعشرين ليلة رمضانية حيث يصلي المؤمنون ويختم القران الكريم والختمة الشريفة في ذلك الشهر الفضيل حيث تصفد الشياطين وتنزل ملائكة الرحمان من السبع الطباق وهذا عنصر معاون للأهالي في عملية توفيقهم بين الطقس والعادة في تواصلهم مع معتقداتهم الإسلامية بارتوذكسيتها المالكية الشديدة جدا على كل ماهو مدخل «بدعوي» قد يشوب الدين الحنيف حسب منظور الفقهاء.
أما عن الاستعمالات الروحية للمجموعة أو لسبع وعشرين فهي متعددة وكما قالت سيدات حيدرة وكبارها : «وين النية وين العمل » وقبل ذكر الاستعمالات لابد من توضيح التسمية بالمجموعة وسبع وعشرين وذلك لأن مادة العرعار خلطت بسبع وعشرين صنف من النجور فقيل مجموعة ونفس التسمية تطلق عليها بسبع وعشرين لأن خلوطها بدون العرعار يتكون من هذا العدد من النجورات وغيرها من المواد التي تركب وتضاف إليها كذلك سميت بسبع وعشرين لأنها مصلى عليها سبع وعشرين ليلة رمضانية(97) وختمت عليها الختمة القرآنية الشريفة.
- أما عن الاستعمالات :
- فإن «المجموعة» تصلح للرقي من العين والحسد والقيل والقال أي المشاكل المنجرة عن الثرثرات وإخماد الفتن الاجتماعية عندما يبخر بها مكان المشكلة وضد النوايا السيئة.
- كما أن «المجموعة» يتبرك بها في انجازات أسس المباني أو الدخول لمسكن جديد أو شراء عقار أو سيارة فيبخر بها تيمنا بالخير والبركة.
- وتستعمل «المجموعة» في الاحتفالات كـ:«الطهور» الختان والخطوبة والزواج وفي إبرام عقود الزواج بالمنازل(98) وهنا لابد أن نبرز مدى التصاق المجتمع «الحيدري» بطقوس الأجداد وخلطه بين ماهو طقسي قديم وماهو إسلامي وافد مع الفاتحين لبلاد افريقية والمغرب.
فثقافة أهالي حيدرة المرتبطة بشجر العرعار وارتباطهم بما هو عقدي قديم، فعندما كانت الشجرة في الحضارات السابقة للإسلام في المنطقة العربية والأمازيغية جزءا من الطقوس التعبدية المرتبطة بدورة الخصب والحياة فعرعارات «حيدرة» لعبن أدوار «عشتار» و«روح الغاب» إلى «ذات أنواط» شجرة قريش المقدسة، فإن تواصلية العقل الباطن في الأوساط الشعبية يحفظ ذلك الإرث الروحي الخالي من كل كوابح الفقهاء «الذادة» عن نهج الدين أو رواد الحداثة في طمسهم لتقاليد وعادات الأسلاف.
الخاتمة
تبقى تواصلية الفطرة الإنسانية والثقافة المتراكمة والمتكلسة في العقل الباطن «للمؤمن» حية ومتجذرة رغم كل المُدخلات أو تلك الكوابح للأعراف وغير المتماشية مع خصوصيات البيئة والثقافة في الأدب الشعبي التعبدي والحياتي وحتى العادة التي اعتبرها «إيمان العجائز» جزء من المقدس الديني.
فالتصاق الأهالي في حلهم وترحالهم «بالصُّلاح» وعالم الروح يحفظ تواصلية هذه الطقوس أينما تكون مرجعيتها أو عمليات حفرنا العلمي للبحث عن تأصيل تاريخي أو أركيلوجي وانثروبولوجي لها. لذلك فان رحلة الإيمان مرتبطة وملتصقة برحلة الحياة عند الإنسان وكما قال: Mercia Eliad أن «المقدس عنصر من عناصر بنية الوعي وليس مرحلة من مراحل تاريخ هذا الوعي» (99).
وهنا لابد من التنويه أن عزلة المناطق وقلة تواصلها الخارجي سبب كاف للانفتاح الكبير على ميراث الأجداد الديني بشكل يؤجج علماء الظاهر لمحاربة ما يرونه محل خلاف، وعندما نتواصل مع ذلك الميراث الثقافي كعادات وجزء من الهوية الذاتية لأفراد أو مجموعات سكانية أينما تكون جذورها الدينية والثقافية وحتى الاثنية فإننا ننجح في الحفاظ على ذاكرة حية للتراث وثقافة الأجداد الروحية والمادية في مواجهة أي مدخل يغير البنية والتركيبة الاجتماعية والثقافية للإنسان.
المراجع و المصادر
1 - العشي (رضا) ، محطات نيرة من تاريخ جندوبة في العهد الاستعماري، مطبعة الرشيد، صلامبو /تونس، 2003، ص118.
2 - Demeerseman (ََAndré) ; « le culte des walis en kroumirie, Revue « IBLA » ; N° 106-107 ; 1961 ; P126.
3 - Demeerseman (André) ; le culte des saints…, revue « IBLA », janvier1939, P28.
4 - العشي (رضا)، المرجع نفسه، ص 119.
5 - Demeerseman(َAndré), ibid, p28.
6 - رضا (العشي) ، المرجع نفسه، ص 119.
7 - صديقي (محمد الناصر )، “التجلي القدسي للأشجار...”
Revue des arts de l’orbité, l’arbre dans tous ses états, N° 03 automne 2011 ; p168 -158.
8 - صديقي (محمد الناصر)، المرجع نفسه ، ص 161 /ص160.
9 - مرويات أهالي جندوبة نجم الدين الجندوبي (40 سنة) موظف إداري بالمعهد العالي للعلوم الإنسانية بجندوبة و هذه الرواية نقلها عن والديه وهي منتشرة في الأوساط الشعبية عند أهالي شمال الغربي التونسي.
10 - و هذه قصة من الإسرائيليات المبثوثة في قصص الأنبياء منها أن النبي نوح أمر أصحابه و من ركب معه في السفينة بعد استقرارها على الجودي و ابتلاع الأرض لمائها أن ينزلوا الأرض و حتى لا يجهرهم نور الشمس طلب منهم أن يكتحلوا بالكحل”.
11 - راجع قصص الأنبياء الخطيب البغدادي، تاريخ الأنبياء (قصة النبي نوح)؛ ابن كثير الدمشقي قصص الأنبياء نفس محور النبي نوح و قصة الطوفان.
12 - عن موضوع البدع ، راجع ابن تيمية مجموعة الرسائل الكبرى، تصحيح ابن الشيخ حسن الفيومي إبراهيم، المطبعة العامرة الشرقية، القاهرة /مصر 1323ه جI باب البدع.
13 - الجويلي( محمد )انثر وبولوجيا الحكاية، مطبعة قرطاج، تونس 2002 ص 60.
14 - وهم الأغلبية السكانية من سكان السباسب الداخلية للبلاد التونسية واغلبهم يستقر بمحافظة القصرين و بالتحديد ناحية حيدرة.
15 - صديقي (محمد الناصر) التجلي القدسي للأشجار، ص168.
16 - أيوب (عبد الرحمان) رموز ودلالات بالبلاد التونسية، وزارة الثقافة والشباب والترفيه، وكالة إحياء التراث والتنمية الثقافية، تونس 2003 م6 ص 15.
17 - القران الكريم سورة الرحمان : 76.
18 - قانصو(د.اكرم) التصوير الشعبي، سلسلة عالم المعرفة العدد 203الكويت اكتوبر- نوفمبر1995 م.ص111-ص112.
19 - ELIADE(Mircea) Images et symboles essai sur le symbolisme-Religieux, édition Gallimard, paris, 1992 p14.
20 - سيرنج (فيليب) الرموز في الفن، الدين، الحياة، ترجمة عبد الهادي عباس، دار دمشق / سورية 1992 ص 286.
21 - السواح(فراس) لغز عشتار، دار علاء الدين دمشق 1993م ص 110.
22 - سيرينج (فيليب) المرجع نفسه ص 286.
23 - البكر( محمود مفلح) الروح الاخضر، دار الحضارة الجديدة بيروت/ لبنان 1992 ص 184.
24 - جسم الانسان القديم في ارض دلمون رسميا لشجرة الحياة وقد عمل الباحث الاثري البحيراني محمد رضا المعراج دراسة علمية عن شجرة الحياة في ارض دلمون (لم ينشر بعد).
25 - السواح (فراس) لغز عشتار ص114.
26 - الكتاب المقدس: العهد القديم (سفر التكوين 2: 8،9.
27 - صديقي(محمد الناصر) المرجع نفسه ص 166.
28 - القران الكريم سورة مريم 19(23-25).
29 - السواح (فراس) لغز عشتار ص115.
30 - أنواع من الأشجار تنبت في البراري والصحاري وكلها من شجر العظاء عن ذلك راجع ابن منظور لسان العرب مادة طلح وعشر وسمر.
31 - صديقي (محمد الناصر) المرجع نفسه ص165.
32 - ابن هشام (عبد الملك) السيرة النبوية، تحقيق مصطفى السقا وآخرين، طبعة مصطفى البابي الحلبي، القاهرة/ مصر 1936 م ج 1 ص 34.
33 - الازرقي (ابو الوليد محمد بن عبد الله بن احمد) اخبار مكة، تحقيق د.علي عمر الناشر مكتبة الثقافة الدينية، القاهرة /مصر 1424 هـ/2004م ج1 ص98.
34 - ياقوت الحموي، معجم البلدان، طبعة ليبزك/ المانيا، 1866م، ج 1، ص 260.
35 - حنين واد بالقرب من الطائف بينه و بين مكة ثلاثة اميال، راجع ياقوت الحموي، معجم البلدان مادة حنين، العاقل (نبيه) و خماش (نجدة) تاريخ الدولة العربية الاسلامية الاولى ن مطبعة دار الكتاب دمشق /سوريا، 1992م، ص 67.
36 - ابن هشام،السيرة، ج 4، ص 70 الجارم (محمد عثمان )، اديان العرب قبل الاسلام، الناشر، مكتبة الثقافة الدينية، القاهرة / مصر، 1426هـ/2006م، ص 161.
37 - قمري (سميرة)، الحلم و الرؤيا في الفلسفة والعلم و الدين، دار الحوار، اللاذقية /سوريا، (د،ت)، ص 166- ص167.
38 - تفسير الاحلام الكبير، دار اصداء التراث ، بيروت / لبنان ، 1997م ، ص 467.
39 - صديقي (محمد الناصر)، المرجع نفسه، ص 166.
40 - السواح (فراس )، لغز عشتار، ص 110.
41 - اوماست(الحسين بوالزيت)، البيئة و المقدس
http://tawizo.iFrance.com/tawiza98/bouzzit.ht, p2.
42 - demeersman (andré) le culte des walis, op.cit, p126.
43 - العشي (رضا)، المرجع نفسه، ص 118.
44 - راجع في الملاحق جدول عرش الحوافظ و هم فرع من قبيلة الفراشيش الأمازيغية أعده الطالب صابر ماجولي ينشط ضمن المؤسسات الأهلية فهو يشغل منذ سنة 2011 منصب كاتب عام لجمعية أحباء أثار حيدرة
45 - الزهرة بناني، من مواليد سنة 1935 م تعمل فلاحة قاطنة بنقماطة،عباس سعداوي عمره 50سنة صاحب الأرض التي تقع عليها الشجرة.
46 - الشاب هو قيس ولد العربي سعدي رواية الزهرة بناني.
47 - المَصاب محمد بالأسود سعدي رواية زهرة بناني وعباس سعداوي.
48 - رواية زهرة بناني.
49 - أيوب (عبد الرحمان) رموز ودلالات، ص 15.
50 - انظر الصورة رقم 2 للولية.
51 - أيوب(عبد الرحمان) المرجع نفسه، ص15.
52 - روايات كبار السن في عرشي القداورية والعصايدية من سكان بنقماطة.
53 - البكر(محمود مفلح)، الروح الاخضر، ص 187.
54 - Frazer (James), The Gloden Bough, Macmillan, New York, 1971, p1 -5.
55 - انظر : صورة 3 للعرعارة “سالمة”.
56 - يعود عرش الطالب صابر ماجولي المرافق لنا في هذه الرحلة البحثية الميدانية إلى “القشابشية” وهذه الشجرة “العرعارة” في حماهم.
57 - صدور الكبار أو “علم الصدر” أو التاريخ اللامادي / الشفوي وهو ما اختزنته حافظة الشيوخ والعجائز وتناقله الأبناء.
58 - سنعرج لاحقا في الاستعمالات الشعبية لنبتة العرعار.
59 - عن الصادق بوخريص ابن الحاج الطيب وهو صاحب الأرض(عمر الصادق 50سنة) كذلك ما رواه لنا محمد بن مصطفى مروشي عمره 60 سنة من عرش العصايدية.
60 - انظر الصورة رقم 4.
61 - رواية الصادق بوخريص ومحمد بن مصطفى مروشي.
62 - الصادق بوخريص.
63 - السواح(فراس)، لغز عشتار، ص 107-108.
64 - مفردها شليقة وهي قطع القماش البالية أو المقطعة إلى أجزاء صغيرة.
65 - الصورة رقم 05، حيث تظهر لنا أغصانها و من خلفها مشهد ريفي في ارض زراعية تقف شامخة وحيدة.
66 - رواية الصادق العياري عمره 74 سنة
67 - الخافيين هو مصطلح محلي عن الكائنات التي تعتقد في أوساطنا الشعبية أنها معنا، أصحاب الدار من الأرواح (خيرة و شريرة) و الجان (المسلم، اليهودي...) و نقدم لهم قرابين ، أكل بدون ثوم أو لحم بدون ملح أو دم المهرق للأضاحي في المكان الجديد، حتى بات عند الأهالي بان طعام الجان هو الدماء.
68 - صديقي (محمد الناصر)، القرامطة من القرن الثالث إلى القرن الخامس الهجري، أطروحة دكتورا، في التاريخ الإسلامي الوسيط، كلية العلوم الإنسانية و الاجتماعية بتونس ، تمت مناقشة هذا البحث في 29/04/2009 بملاحظة مشرف جدا (العمل مرقون) ج1، ص 35.
69 - القران الكريم، سورة سبا(34 : 40/41 ).
70 - الألوسي ( السيد محمود شكري)، بلوغ الإرب في معرفة أحوال العرب، طبعة محمد بهجت الأثري، مطابع دار الكتاب العربي، القاهرة / مصر، 142هـ/ 1942 م، ج 2، ص350.
71- Noeldek(th), encyclopedia of religion and ethics, volI, p670.
72 - القرآن الكريم: سورة الجن (13-14).
73 - انظر صورة رقم 06 حيث العرعارة قد شدت عليها قطع القماش و ربطت بأغصانها.
74 - الصادق العياري (من الرواة).
75 - الأزرقي، اخبار مكة، ج1، ص98؛ السواح(فراس)، لغز عشتار، ص111.
76 - ياقوت الحموي، معجم البلدان، ج1، ص260.
77 - رواية رشيدة عصيدي، 63 سنة.
78 - “الإستردادية” نوع من التعبير عن استعادة بعض الأطراف المتخصصة أو الشبه متخصصة في الطب البديل لفوائد الأعشاب واستعمالاتها.
79 - عمر في قفصة : هي تك الأرياف الأقرب للبداوة بسبب الطبيعة الجافة واغلب سكانها من قبائل الهمامة وهم من الأصول الهلالية التي غزت افريقية في عصر المنتصر الفاطمي.
80 - راجع عن استعمالات القدامى للعرعار موقع :
http://;egq.logu2.co;/t2444-lopic
81 - السيدة قليعية بنت حمدة المحمدي مواليد 1968 بأولاد محمد (طريق قفصة – صفاقس).
82 - السيدة زكية بنت الطاهر بن سلطان من مواليد 1945 من أولاد محمد /عمرة قفصة.
83 - راجع ابن سيناء الطب والحكمة : ابن البيطار، داود الانطاكي، تذكرة الانطاكي راجع موقع :
http //mega.logu2.com/t2444-topic
84 - الصورة رقم 7 : العرعار الطبيعي حيث حبات “الزنين”.
85 - هذه التسميات مستعملة في حيدرة وفي قفصة وبلاد الجريد بالجنوب الغربي للبلاد التونسية
86 - ساعدنا في التواصل مع بعض صناع القرب في عمرة أولاد محمد طالب الماجستير عدلاني بن السبتي بن ثابت من مواليد 1988 م بقفصة.
المعلومات الواردة عن صناعة القرب أخذناها من العياشي بن براهيم من عرش اولاد محمد بعمرة قفصة مواليد 1940م.
87 - مبروكة بنت محمد العروسي الصديق، مواليد زاوية احمد بن الحاج المصري بنفطة سنة 1947، نجاة بنت لزهاري بن محمد بالحاج نصر صدقي ، علقمة نفطة 1966.
88 - رواية العياشي بن ابراهيم (صانع قرب في الماضي).
89 - رواية علي عبيدي من مواليد سنة 1950 بارياف فريانة من ولاية القصرين و كان والده احمد العبيدي من مستخرجي القطران في القرن الماضي من مواليد 0903 و توفي سنة 1983.
90 - عن فوزي ولد العربي ملايل يشتغل تاجر أعشاب بمدينة قفصة من مواليد 1958 و قد ورث مهنته عن والده الحاج العربي ملايل وهو من كبار الخبراء في الأعشاب و الطب الرعواني بالجنوب الغربي التونسي.
91 - السواح (فراس) ،لغز عشتار، ص242-ص251.
92 - الصورة الخاصة بالعرعار حيث يظهر الزنين كمادة خام بدون أي إضافات.
93 - ليس شرط لون المحرمة لكن لتعرف كل امرأة عرعارها المصلى عليه في رمضان لا غير.
94 - القران الكريم (سورة البقرة (2) : 50)
95 - أنواع منن البخورات المختلفة لخلطها بالعرعار و عددها 27 صنفا. و يسمى خلوط المجموعة(انظروا صورة الخلوط)
96 - مصدر المعلومات المرحومة السيدة خديجة بنت يوسف هرماسي توفيت 2 مارس 2006م ، وبائع البخورات السيد بلقاسم بوعجاجة (وهو اسم الشهرة) عمره 50 سنة من اصيلي مدينة نفطة .
97 - رواية بلقاسم بوعجاجة، قليعية بن حمدة عن والدتها مبروكة بنت حليم المتوفاة سنة 2006.
98 - السيدة خديجة بنت يوسف ، مبروكة بنت حليم ، علي بن حبيب المولود بعمرة أولاد محمد سنة 1941م.
99 - الحنين إلى الأصول ترجمة حسن قبيسي دار قابس للطباعة والنشر والتوزيع دمشق بيروت 1994 ص 5.