فصلية علمية متخصصة
رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم
العدد
22

التواصل والقطيعة في علاقة الثقافة الشعبية بالثقافة العالمة من خلال النموذج الجزائري

العدد 22 - آفاق
التواصل والقطيعة في علاقة الثقافة الشعبية بالثقافة العالمة من خلال النموذج الجزائري

تهدف هذه المداخلة إلى طرح مجموعة من القضايا المتعلّقة بطبيعة علاقة الثّقافة الشّعبيّة بالثقافة العالمة في الجزائر، منذ العهد التركي إلى اليوم، من خلال بعض النماذج التي ظهرت في محطات تاريخية معينة من تاريخ الإنتاج الثقافي الذي تتجسد فيه هذه العلاقة بصورة جليّة.


في البداية يجدر التّنبيه إلى أنّ مفهوم الثّقافة الشّعبيّة يثير جدلا واسعا بين الدّارسين نظرا لما يتّصف به من لبس بسبب تداخل مفهومه مع مفاهيم أخرى تحمل تسميات مغايرة مثل «التّراث الشّعبيّ»، «الموروث أو المأثورات الشّعبيّة» و«الفولكلور» و«التراث اللاّمادي» وغيرها من المصطلحات الّتي تشير لنفس الموادّ الثّقافيّة، لكنّها تحمل معاني وإيحاءات لها حقولها الدّلاليّة الخاصّة. ننطلق هنا من المفهوم الذي يرى بأنّ الثقافة الشعبيّة هي مجموع الرّموز وأشكال التّعبير الفنّيّة والمعتقدات والتّصوّرات والقيم والمعايير، والتّقنيّات والأعراف والتّقاليد والأنماط السّلوكيّة التي تتوارثها الأجيال، ويستمرّ وجودها في المجتمع بحكم تكيّفها مع الأوضاع الجديدة واستمرار وظائفها القديمة، أو إسناد وظائف جديدة لها. ونقصد بالثقافة العالمة تلك الثقافة التي تعتمدها المؤسسة الرسمية وتروجها، وتتكفل الدولة أو مايقوم مقامها بالعناية بها وترقيتها من خلال استراتيجيات وخطط ووسائط اتصال نخبوية وجماهيرية. يكمن الفرق بينهما أساسا في الدور الكبير الذي تلعبه الجماعة الشعبية في حفظ الأولى والعناية بها وتداولها ويكون الانتقال الشفاهي هو الوسيلة الأساسية في هذا التداول، بينما يتعاظم الدور النخبوي والفردي في إنتاج الثانية ويتم تداولها وحفظها أساسا عن طريق الكتابة. عرفت الثقافة الشعبية الجزائرية حالات تواصل وتكامل مع الثقافة العالمة للمجتمع الجزائري، كما عرفت حالات قطيعة وتنافر، تبعا للمراحل التاريخية ولطبيعة الحكم السياسي الذي يكرّس القطيعة عندما يكون أجنبيا، ويتميّز بتعدّد قنوات التواصل في فترات ظهور نظام سياسي منبثق من رحم المجتمع.
سوف تتوجّه عنايتنا هنا لمجموع الممارسات الثّقافية التي عاشتها وتعيشها الجماعة الجزائريّة منذ العهد التركي، والتي اتّخذت كوسيلة تعبير اللّغة العربية ولهجاتها المحلية. ويكون اهتمامنا موجّها أساسا لأشكال التّعبير الفنّي الذي يستخدم المنطوق اللغويّ، قد يكون تركيزنا أحيانا على مظاهر فترات تاريخيّة معيّنة، أو على منطقة من المناطق، أو على شكل أدبيّ معيّن، أو على أسماء معيّنة من المشهد الإبداعيّ. يخضع الأمر لما يتوفّر بين أيدينا  من تسجيلات ووثائق، ولاهتمامنا بالموادّ الأدبيّة بصفة خاصّة بحكم الاختصاص، ولما حقّقه البحث الميداني في الجزائر من بعض التّراكم في هذا المجال.

1.حكاية «جنّيّ الجبل» والتأسيس لجنس القصّة العالمة انطلاقا من الموروث الشعبي
يتمثل النموذج الأول الذي نسوقه بخصوص طبيعة العلاقة بين الثقافة العالمة والثقافة الشعبية في العهد التركي في قصة كتبت باللغة العربية الفصحى في الفترة السابقة على الاحتلال الفرنسي، وقد عثر عليها مخطوطة(1)، فقدت ورقتها الأخيرة وضاع معها اسم كاتبها. تمت ترجمتها إلى اللغة الفرنسية ونشرت في ملحق خاصّ بدوريّة «إليستراسيونL’ILLUSTRATION» لشهر أوت من سنة 1910، مصحوبة بتقديم يشرح ظروف العثور عليها. تحمل الترجمة الفرنسية عنوان: «حكاية جني الهيدور» مثبتا في أعلى الصفحة الأولى من الملحق بالحرف العربي متبوعا بترجمة إلى الفرنسية مع تعليق بين قوسين (حكاية عربية عثر عليها في تلمسانLe Génie de l’Aidour, Conte arabe trouvé à Tlemcen).
أنجز الترجمة ((هنري دو صارّوطون Henri De Sarrauton))، ووضع رسومها ((جورج سكوت Georges Scott)). عثر المترجم على النص المذكور مخطوطا باللغة العربية لدى أحد معارفه من التجّار. وقد تسلّمه هذا الأخير بدوره من أحد جنود الحملة الفرنسية أثناء الاحتلال الفرنسي للمدن الجزائرية. كان هذا الجندي قد وجد المخطوط داخل صندوق غنمه من أحد المنازل التلمسانية التي اقتحمها الغزاة، ظانّا أنه يحتوي على نقود أو جواهر ثمينة. يمكن تحديد تاريخ كتابتها بالتقريب بالفترة التالية على الغزو الإسباني لمدينة «وهران» الواقعة في المنطقة الغربية من القطر الجزائري، أي في العهد العثماني. تكمن أهمية النص الأصلي المكتوب باللغة العربية في كونه يمثل شكلا من أشكال القص عرفه الأدب العربي في الجزائر، ينتمي للأدب الرسمي أي للثقافة العالمة، كما هو واضح من الموضوعات المعالجة، قام بتاليفه أحد أفراد النخبة المثقفة في الغرب الجزائري، وهو فيما يبدو من حاضرة تلمسان التي عرفت ازدهارا للثقافة العربية في القرون 16و17و18، سواء في قسمها الرسمي أو في قسمها الشعبي. ينتمي القالب الشكلي الذي عولجت فيه الموضوعات القصصية لقالب ألف ليلة وليلة، من حيث التأطير القصصي (التضمين)، ومن حيث طبيعة بناء الشخصيات الرئيسية، وكذلك التشكيل الدرامي للأحداث.
يتشكل العمل(2) من مجموعة قصص مندرجة في إطار قصّة أم تنبثق عنها هذه القصص المؤطّرة، التي تشكّل بدورها وحدات قصصية مستقلة لكل منها بداية ووسط ونهاية، منفردة بحوادثها الخاصة وبشخصياتها ولا يربط بينها سوى شخصية البطل الذي تتغيّر وظيفته في كل قصة. وهي جميعا قصص بطوليّة مبنيّة على مواقع مختلفة للسلطة السياسية أو الاجتماعية تشغلها شخصية البطل؛ فيلعب أدوارا مختلفة لنماذج بشرية مستمدّة من البيئة المتلقّية للعمل الأدبي، فهو الفارس الشجاع الذي يحكم مجموعة قبائل مرّة، والسلطان أوالوزير المستشار مرة أخرى وقائد الجيش في إحداها والتاجر في أخرى والعالم المتفرّغ في محرابه يخوض في التنظيرات ويخاطر مستكشفا مجاهل الكون وأسرار الطبيعة والحياة، في قصة أخرى، بينما يعيش حياة مواطن عادي لا يخضع سوى لسلطة عواطفه وهواجسه الفردية في القصة الأخيرة.
يكشف النصّ عن وجود تيّار أدبي وفكري يختلف عن التيار الثقافي المهيمن في العهد العثماني، والمتمثّل في الإنتاج الصوفي بالنسبة للثقافة العالمة،وفي الإنتاج الثقافي الطرقيّ بالنسبة للثقافة الشعبيّة. فالعمل القصصي المعالج هنا ينتمي للثقافة الشعبية من حيث البناء الشكلي بينما نجده ينتمي للثقافة الرسمية من حيث التوجه المنطقي العقلاني في معالجة القضايا السياسية والاجتماعية والفرديّة المطروحة.
وهي معالجة ترتكز على إعمال الفكر، والتدبّر المنطقي، والتجربة المعاشة. ويتوقّف دور العنصر الغيبي والعجيب والخارق للعادة على التنظيم السردي والتحريك الدرامي (الفنّي) للمكوّنات ذات الطبيعة الشكلية.
تعالج القصّة الأولى المتضمّنة (بالفتح)، والتي سوف نركز عليها هنا، مسألة الصراع السياسي الداخلي المتمثّل في الحروب الواقعة بين القبائل المتجاورة، وكذلك الصراع السياسي الخارجي، والمتجسّد في مواجهة جميع القبائل للغزو الأجنبي الأسباني للموانئ المحاذية للمنطقة الغربية من الجزائر، بالإضافة إلى الصراع الاجتماعي الداخلي بين أفراد القبائل، والمتجلّي في تنافر مصالح الأغنياء والفقراء. تتميّز وجهة نظر السارد في هذه المعالجة بكونها تكشف عن وجود بذور للوعي الوطني في عصره، بين أفراد النخبة المثقفة، قريب من المفهوم الحديث للفكرة الوطنية، وهو وعي لم تسمح ظروف الاحتلال الفرنسي، الذي قضى على إمكانية الظهور المبكّر والنضج المكتمل لحركة إصلاحية وطنيّة في منتصف القرن التاسع عشر؛ يقول عنها الدكتور أبوالقاسم سعدالله في تقديمه لكتابه القيّم حول «تاريخ الجزائر الثقافي»: «ولولا الاحتلال الفرنسي لأخذت تلك الحركة في التوسّع والنموّ ولسبقت الجزائر أخواتها بالنهوض والتخلّص من ظاهرة الجمود»(3).

2. قصص كرامات الأولياء الصالحين مسار جنس أدبيّ بين الثقافة العالمة والثقافة الشعبية
انبثق هذا النمط القصصيّ في أحضان عقيدة التصوّف، التي عرفت نشأة نخبوية في القرون الوسطى، يعزوها البعض لتوجهات فلسفيّة معيّنة في الثقافة العالمة، ويفسر آخرون ظهورها وانتشارها بأسباب سياسية تتعلق بطبيعة الحكم الاستبدادي الذي عرفته الدولة الإسلامية في بعض مراحل تاريخها. يربطها آخرون بالحالات النفسية المرضية الجمعية، فيجعلها تلعب دورا في التعبير عنها.بدأت تظهر الممارسات الطرقيّة النابعة من الفكر الصوفي في الجزائر في نهاية القرن العاشر الميلادي. وقد سجّلت الثقافة العالمة في مدوّنات «المناقب» نصوصا سردية ذات طبيعة قصصية من جنس قصص كرامات الأولياء الصالحين. كما انتشرت قصص كرامات الأولياء الشعبيّة في الجزائر وتغنّى بها المداحون في الأسواق لقرون. وقد ارتأينا أن نعلّق على نصين من هذه القصص وان نقارن بينهما، نشر النص الأول في كتاب «البستان» لابن مريم، وهو من الثقافة العالمة، اعتنى بمناقب مجموعة من أولياء تلمسان. سجلنا الثاني في إحدى حلقات المداحين المقامة في سوق وادي سوف (في الجنوب الشرقي للجزائر) في منتصف السبعينيات من القرن الماضي، وهو متداول شفاها، بالعربيّة الدارجة، مجهول المؤلف ذو طبيعة شعبيّة. يتمثّل النصّ الأوّل في إحدى كرامات الشيخ «سيدي بومدين شعيب» دفين مدينة تلمسان، وهو شخصية تاريخيّة معروفة، بينما يحمل النص الثاني عنوان «الشيخ البودالي خديم سيدي عبد القادر». بطل الأولى هو رجل التصوف الأندلسي المعروف، وبطل الثانية أحد أتباع الطريقة القادرية مجهول الهوية قامت قصة الكرامات بتصويره وتقديمه لجمهور المتلقّين على أنّه شخصية مستمدة من الواقع الاجتماعي في فترة النفوذ التركي في المنطقة المغاربيّة.
عند مقارنة النصّين ببعضهما نستنتج أنّ كلاّ منهما يتّخذ من موضوع المعارضة بين المقدس والمدنّس موضوعا له؛ فيقلّل من قيمة «الدنيويّ» أو يدحضه في مقابل الإشادة بقيمة المقدّس والإعلاء من شأنه. يختلفان في تحديد مدى حضور المقدّس في الحياة اليوميّة للمجتمع. تجعل القصة العالمة من هذا الحضور أمرا سرّيّا وخافيا لا يتبدّى للعيان ولا يدركه سوى النابهون والمتدبّرون وهو يتجلّى في المظاهر اللاّاجتماعية أي الطبيعيّة، فهو رؤيا للحياة وتدبّر في شؤون الخلق. بينما تؤكّد قصة كرامات سيدي عبد القادر الشعبيّة الحضور الدائم واليومي للمقدّس في حياة الناس وتدخّله بصفة سافرة في حلّ التأزمات والفصل في القضايا المتنازع عليها، والوصاية المباشرة على المريدين وتقييم سلوكهم ومجازاتهم في الوقت المناسب ومعاقبة خصومهم.
تغيّب الأولى الصراع الاجتماعي وتعتني بالحياة الفرديّة للحامل للقناعات الصوفيّة؛ فتقابل بين حالة الإنسان المتعبّد المعتزل المندمج في الكون (الطبيعة) والمتصالح مع عناصره (الحيوان)، وحالة الإنسان المنشغل بالتواصل البشري والمنخرط في الحياة الاجتماعية، مما يتسبّب في ظهور علامات القطيعة مع محيطه الكوني، واختلال في حالته الذهنية والنفسية. تجسّدت ذروة تعقّد الأزمة في البناء الدرامي للقصة الأولى في ما حدث لمّا تخلى البطل عن اعتزاله في الوسط الطبيعي، وحاول الاتصال بمحيطه البشري، فتدهورت وضعيّته. وقد أعاد التوازن إلى حياته لما تخلّص مما يربطه بالبشر (المال).  تمثّلت نقطة التأزم في القصة الثانية في تعرّض البطل وأسرته للظلم الاجتماعي وتدخّل القوى الغيبية لمعاقبة الظالم وإنصاف المريد (البطل) وأسرته.
تنتمي القصتان لثقافة نفس المجتمع، وهو المجتمع الإسلامي المغاربي القروسطي، وتبدو القصة الأولى (العالمة) وكأنها أقرب إلى مرحلة تأسيس الجنس الأدبي، بينما تعبّر القصة الثانية عن مرحلة تطوّر في مسار هذا اللون الأدبي الذي انتقل من الثقافة العالمة إلى الثقافة الشعبية، التي احتضنته وعدلت من وظيفته بحيث وجهته نحو التعبير عن التأزمات الاجتماعية والسياسية وتخلّت عن الدعوة للعقيدة الروحية ذات القيمة الوجودية الفردية.
تقدّم القصّتان تصوّرا تراتبيا للوجود وللمجتمع، وهي تراتبيّة قام عليها المجتمع المغاربي في العصر الوسيط؛ تراتبيّة دينيّة واقتصاديّة وسياسيّة واجتماعيّة. اعتنت القصة العالمة بمرتبتي الشيخ والعلماء ووقع عليهما التبئير من قبل الهيئة الساردة. أبرزت القصّة الشعبيّة تراتبيّة روحيّة تمثّلت في العلاقة شيخ/مريد، كمراتبية دينية، وهي علاقة صورتها القصة على انها ذات طبيعة عجيبة، فهي قوة سحرية كامنة في الشيخ يستعين بها المريد (المؤمن بقدرات الشيخ الخارقة للعادة) في الوقت المناسب للدفاع عن مصالحه. هناك علاقة سلطان/خوجة/رعيّة كمراتبية سياسية، علاقة مبنية على المصلحة وتسيير شؤون المجتمع وتقدمها القصة على أنها مبنية على الخداع واستغلال السلطة في الأغراض الشخصية وفرض الاستبداد السلطوي على الرعايا.
تظهر القصة العالمة فقيرة من حيث الأسلوب والتركيب السردي وجماليات التصوير القصصي وتنامي الفعل الدرامي بينما جاءت القصة الشعبية مركّبة شديدة التعقيد، تمزج بين الشعر والنثر، وتستعين بعناصر فنّيّة متعدّدة، وتكشف عن قدرة تخييلية كبيرة، ولعلّ مردّ ذلك إلى غنى السرد في الأدب الشعبي العربي الذي عرف الحكاية العجيبة والسير والقصص الديني الخ.. بينما يفتقر الأدب العربي الرسمي لمثل هذه التجارب السرديّة.

3.تأسيس المسرح انطلاقا من الممارسات التمثيلية في حلقات المداحين
بعد الحرب العالمية الأولى، وفي أوج صعود الحركة الوطنية السياسيّة برز إلى الوجود ما يسمّى اليوم بالمسرح الجزائري على أيدي روّاد من أمثال باشترزي محيي الدين ورشيد القسنطيني وعلي سلاّلي ومصطفى دحمون ومحمد التوري وغيرهم؛ وهي نخبة من رجال الفنّ والثقافة ظهرت في ظروف تميّزت بغياب المؤسسة الرسمية الوطنية بسبب ظروف الاحتلال الفرنسي، وانصراف عامة الناس إلى استهلاك الثقافة الشعبية المتداولة في نطاق الأسرة وتجمعات الأحياء والأسواق والأماكن العامّة.
تميّز رجال المسرح الجزائري منذ ظهوره في أواسط العشرينيات من القرن الماضي بخوضهم لتحدّيّات جمّة رغم إمكانياتهم المحدودة ليؤسّسوا فنّا مسرحيّا ينتمي للثقافة الرسمية؛ يواكب المسرح العالمي الحديث وينهل من معين الممارسة الثقافية الشعبية في نفس الوقت، متميّزا عن الممارسات المسرحية الكولونيالية، ذات الطبيعة الغربيّة، من ناحية وعن الممارسات التمثيلية الشعبية التقليدية الموروثة المنتمية لبنية ثقافية يسعى المجتمع لتجاوزها بفعل ما أصابه من تطور واحتكاك بالمجتمعات الحديثة، من ناحية أخرى.
     يعدّ كلّ من باشترزي محيي الدين ورشيد القسنطيني وعلي سلاّلي ومصطفى دحمون مؤسّسين بحقّ للممارسة الثقافية المسرحية الوطنية الجزائريّة، وكان ذلك في ظروف تاريخيّة صعبة، موسومة بالصراع الثقافي مع الاستعمار، معتمدين على ما تمثّلوه من عناصر الثقافة الشعبيّة، مراعين الذوق العامّ السائد في الأوساط الشعبيّة التي وجّهوا لها نشاطاتهم. كان نصيبهم من الثقافة الرسمية الغربيّة محدودا جدّا، خاصة من الناحية النظرية، وتمثّل في قدر بسيط من التعليم الذي افتكّوه من المدرسة الاستعمارية في طورها الابتدائي، وفي تجربة حياة ثريّة من الناحية الثقافية بفعل سفرهم إلى مدن غربية واحتكاكهم بشخصيات فنية من أفراد النخبة الأوروبية وبما اطلعوا عليه من مسرح النهضة الأوروبية الحديثة. اعتمدت جلّ أعمالهم على موادّ ثقافية مستمدة من التراث الشعبي، وبالذات من نوادر جحا وقصص ألف ليلة وليلة. كما استعانوا بتقنيات الرواية التي كان يلجأ لها المداحون في الأسواق وفي الأماكن العامة، فربطوا بشكل واضح بين الممارسة الثقافية العالمة والممارسة الثقافية الشعبية مما مكّنهم من خلق جمهورهم الخاص من بين المواطنين الجزائريين الذين كانوا ينعتون في ذلك الوقت بالأهالي تمييزا لهم عن المواطن ذي الأصل الأروبي.
بعد مرحلة التأسيس للمسرح الرسمي انطلاقا من الأداءات التمثيلية والسردية الشعبية جاء دور أفراد من النخبة المثقفة الذين واصلوا حركة بناء المسرح الجزائري على نفس الأسس تقريبا مع مراعاة طبيعة المرحلة التاريخية التي عبّروا عنها، ويأتي في مقدّمة هؤلاء كاتب ياسين  وعبدالقادر علّولة وعبد الرحمان كاكي ومصطفى كاتب .

4.ظاهرة الشّعر الملحون وموقعه بين الثقافتين العالمة والشعبية
لن نتوقّف هنا عند مناقشة مصطلح «الشعر الملحون» في حدّ ذاته.. في إيحاءاته النّابعة من الثّقافة الرّسميّة المتعالية ذات القيمة السّلبيّة أو المحدّدة لبعض الخصائص الفنّيّة، كما أنّنا لن نطرح قضيّة قبوله أو رفضه للدّلالة على جزء هامّ من الإنتاج الشّعري الجزائريّ. بل سنتناوله، بالنّظر لشيوع استعماله بين الدّارسين، وكذلك المحيط الذي يتداوله، وننظر إليه في دلالته على مدوّنة واسعة من الشّعر الغنائيّ الذي وصلنا مكتوبا، وظلّت رواياته الشّفويّة متداولة في بعض المناطق، ينسب لمبدعيه الذين كثيرا ما ترد أسماؤهم منظومة في نهاية القصيدة. عرف عهود ازدهار مازال صداها يتردّد إلى اليوم مثل القرون السادس عشروالسّابع عشر والثامن عشر بتلمسان، والقرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين في مناطق الهضاب العليا، في البيض والأغواط وأولاد جلاّل وبسكرة الخ…  لقي رواجا بين أفراد الشّعب، خاصّة في المناطق التي عاش فيها الشّعراء فرواه الرّواة، وحاول تقليده الشعراء المبتدئون، وما زال يمثّل جزءا من الرّأسمال الفنّي الموروث للمجتمع الجزائريّ، وقد توجّهت إليه العناية في السّنوات الأخيرة، فنشرت بعض دواوينه، أو أعيد نشرها، وتناولته المذكّرات الجامعيّة، وأقيمت المهرجانات والملتقيات حوله، كما أصبحت أسماء بعض رواده ومبدعيه محلّ اعتزاز للجماعات المحلّيّة، فاكتسبت قيمة رمزيّة بحيث أطلقت على مؤسّسات رسميّة وعلى تظاهرات وجمعيّات ثقافيّة ولائيّة، ونذكر هنا على سبيل المثال عبدالله بن كرّيو (الأغواط)، سيدي لخضر بن خلوف والجيلالي عين تادلس (مستغانم)، مصطفى بن ابراهيم (سيدي بلعبّاس)، محمد بن قيطون وأحمد السّماتي ومحمد بن يوسف (أولاد جلاّل) الخ… أضف إلى ذلك أنّ عددا من الشعراء المعاصرين لنا قد أخذوا على عاتقهم الاستمرار على نهجه في الإبداع ومواصلة الإنتاج الشّعري وفق قواعده وطرق ارتجاله.
إنّ أقدم مدوّنة شعريّة بالعربيّة الدّارجة لهذا النّوع الشّعريّ يعود إنتاجها إلى القرن السّادس عشر، وقد نشرت في نهاية الخمسينيّات من طرف محمد بخّوشة منسوبة للأخضر بن خلوف الفارس الشّاعر الذي كان من بين المجاهدين  الذين خاضوا معارك مقاومة العسكرية الإسبانية حول موانئ المنطقة الوهرانيّة. وهو رجل متصوّف جمع بين العلوم الدّينيّة والشّعر، وقضى فترة من حياته يتلقّى قواعد التّصوّف الطّرقيّ في مدينة تلمسان التي عرفت في هذا القرن ازدهارا علميا وثقافيّا هامّا. وقد أصبح بعد وفاته وليّا من أولياء الله يعتقد في كراماته، ويزار قبره ويتبرّك بذكره إلى اليوم.
تتحدّد خصائص موادّ الثّقافة الشّعبيّة بمدى ارتباطها بحياة الجماعة الشّعبيّة، فهذه الأخيرة تعدّ المنتج والمستهلك في نفس الوقت. فما يسمّى الشّعر الشّعبيّ يوسم عادة بالجمعيّة. يتناقل شفاها، يكون مجهول المؤلّف، يرتبط إنشاده وارتجاله (إعادة إنتاجه) بالمناسبات الاحتفاليّة، يفقد وظيفته عندما تحدث تغيّرات هامّة في المجتمع، فيصبح فولكلورا ، يتمّ أداؤه في المناسبات الاحتفاليّة من طرف فرق فنّية محترفة ومختصّة تنشئها عادة المؤسّسة الرّسميّة. هل نعتبر الشّعر الملحون الجزائريّ من هذا النّوع؟. تبدو الإجابة عن مثل هذا السّؤال لأوّل وهلة بسيطة. فيمكن القول بأنّ الجماعة تداولت هذا الشّعر، وأصبحت معاييره جزءا من التّقاليد الفنّيّة الموروثة والمتّفق عليها بين محترفيه، كما أنّه عبّر من خلال أهمّ مبدعيه عن روح الجماعة وانشغالاتها، وجسّد هويّتها الفنّيّة، وهو إلى جانب ذلك متداول أيضا غناء من طرف بعض المؤدّين في مناسبات ذات طابع جمعي، بل إنّ بعض المؤدّين المحدثين –ذوي الشّعبيّة- سمحوا لأنفسهم بغناء مقاطع شعرية منه دون نسبتها لأصحابها، فأصبح يعامل وكأنّه مجهول المؤلّف، مثلما فعل –على سبيل المثال- رابح درياسة لمّا غنّى بعض شعر الشيخ السّماتي، وكما فعل أيضا الشّابّ خالد لمّا غنّى مقاطع من شعر مصطفى بن ابراهيم.
انطلاقا من هذه الحقائق هل يمكن التّسليم بأنّ الشّعر الملحون الجزائريّ هو شعر جمعيّ، أي من مكونات الثقافة الشعبية الجزائرية؟.
للإجابة عن هذا السّؤال لا بدّ أيضا من النّظر في خصائص الشّعر الذي لا ينتمي للثقافة الشعبية عادة. وهو الشّعر النّخبويّ الذي يستند إلى احتراف مجموعة من الأفراد قد تتّسع أو تضيق للإبداع الشّعريّ، بحيث يتمّ على مرّ التّاريخ بناء تقاليد متينة. يتميّز بطغيان الرّوح الفرديّة والتّعبير عن ذات الشّاعر، والثّبات النّسبي للقواعد الفنّية، والحرص على المحافظة على ما ينتجه الشّاعر بحيث يصبح أدنى تغيير مدعاة للانتقاد والاستهجان ليس فقط من طرف الشّاعر نفسه بل من طرف متداولي شعره ورواته. إنّ جميع هذه الخصائص تتوفّر بشكل واضح في الشّعر الملحون الجزائريّ. وبالتّالي يمكن القول استنادا لكلّ ذلك بأنّه يخرج عن نطاق الشّعر الجمعي، ويرتبط أكثر بالشّعر النّخبويّ. وممّا يجعل مثل هذا الافتراض أكثر قبولا أنّ أغلب شعراء الملحون الجزائريّين كانوا ينتمون للنّخب الثقافية في زمنهم، وحسب معايير عصرهم. فأغلبهم تقلّد مناصب وظيفيّة هامّة مثل القضاء (عبد الله بن كرّيو - الأغواط)، والقيادة السياسية للقبيلة (مصطفى بن ابراهيم– سيدي بلعبّاس)، والحصول على قدر كبير من التّعليم الرّسمي والتخصّص في علوم عصرهم،  فنجد كثيرا منهم تخرّجوا من مدارس المدن التي عاشوا فيها، ومن الزّوايا، فهم عادة ذوو تكوين فقهي عالي مثل سعيد بن عبدالله المنداسي (تلمسان) والشيخ محمد بن يوسف (أولاد جلال-بسكرة والشيخ أحمد السماتي ومحمد بن قيطون (سيدي خالد - بسكرة. وبعضهم نهل من أدبيّات التصوف من أمثال لخضر بن خلوف (مستغانم) ومحمد بن يوسف (أولاد جلال-بسكرة) ومحمد بن مسايب (تلمسان)، أضف إلى ذلك أنّ هذا الشّعر يحفظ مكتوبا في أغلب الأحيان في كنانيش وكراريس يستعملها المتعلّمون عادة في تسجيله وتوثيقه. وقد أشارت مختلف الدراسات الميدانية إلى هذا الأمر. بل إنّ من بين هؤلاء الشّعراء من ترك ديوانا مخطوطا ظلّت عائلته ترثه كشيء نفيس من الثروة المتناقلة بالوراثة، مثلما هو الحال بالنّسبة لديوان الشّيخ قدّور بن عاشور الزّرهوني –الذي نشر في السنوات الأخيرة في طبعة خاصّة من طرف المكتبة الوطنية- وكذلك ديوان أحمد بلحرمة الذي لم ينشر بعد حتّى اليوم، ولم يحقّق بعد بسبب حرص أهله على الاحتفاظ به وعدم التّفريط فيه!. لهذا كلّه تصدق على الشّعر الملحون الجزائري تحديدات ((رومان جاكبسون)) اللّساني المعروف والمتخصّص في الدّراسة الشّعريّة لمّا يقول في حديث له عن علاقة الشّعر الشّفويّ بالفولكلور ما يلي: ((في حالة واحدة، يخرج الشّعر الشّفويّ، بصفة جوهريّة، عن إطار الفولكلور، ويكفّ عن أن يكون خلقا جمعيّا: لمّا تكون هناك جماعة متلاحمة من المحترفين، تملك تقاليد صلبة، تتعامل مع بعض الإنتاجات بقدر كبير من التّقدير بحيث تسعى بجميع الوسائل للمحافظة عليها بدون أدنى تعديل. هناك مجموعة من الأمثلة التّاريخيّة تشير إلى أنّ ذلك يعدّ أمرا ممكنا بأيّ حال من الأحوال))(4). ينطبق هذا التّحديد تماما على شعرنا الملحون،  لذلك تصبح معالجته في نطاق الثّقافة الشّعبيّة لا مبرّر لها سوى من حيث:
 1) لغته العامّية؛ ولعلّ هذه الخصيصة هي التي تقف وراء عدم إدراجه ضمن البرامج التّعليميّة الجزائريّة.
 2) الظّرف الذي ازدهر فيه هذا الشّعر والمتمثّل خاصّة في فترات الاحتلال، من جرّاء غياب سلطة ثقافيّة رسميّة تنتمي فعليّا للمجتمع الجزائري. ممّا أدّى إلى تلاحم النّخبة المثقّفة مع الفئات الدّنيا في المجتمع في مواجهة سلطة الاحتلال الرّسميّة بمظاهرها السياسية والثقافية والاقتصادية. ومن هنا ضاق هامش التّمايز، واقترب الشّاعر الجزائريّ (النّخبويّ بحكم تكوينه وطبيعة ثقافته وموقعه الاجتماعي) من الجماهير، فعبّر بلغتها وخاطبها مباشرة دون وسائط وقنوات رسميّة، واحتضنت هي بدورها شعره فتداولته مشافهة وكتابة، وسعت إلى حمايته وحفظه بشتّى السّبل فتمكّن من الوصول إلى جيلنا كما هو دون تحريف كثير.  
وإذا ما كان أفراد الجماعات الشّعبيّة قد حاولت بوسائلها الخاصّة أن تضمن استمرار هذا الجزء الهامّ من الرّأسمال الرّمزيّ للمجتمع الجزائريّ، فما هو موقف النّخبة الوطنيّة منه؟.
اتّجه عدد من رجال الثّقافة والدّارسين الجامعيّين الجزائريّين بعد الإستقلال إلى جمع جزء من هذا الشّعر وتدوينه ونشره، وهناك من بينهم من حاول دراسته عن طريق تحرير أطروحات جامعيّة لنيل درجات علميّة نذكر من بينهم أحمد طاهر الذي قدّم أطروحة دكتوراه حول «أوزان الشعر الملحون وبحوره وقوافيه»(5) في بداية الاستقلال، ومحمد بلحلفاوي الذي حرّر بدوره رسالة جامعية حول «الشعر الشعبي المغربي ذي التعبير العربيّ»(6)، وقد جاءت المدوّنة التي اعتمد عليها مكوّنة من قصائد شعرية من الغرب الجزائريّ. كما قدّم أحمد لمين رسالة دكتوراه من الدرجة الثالثة «حول الشعر في منطقة سيدي خالد (بسكرة) في فترة الاحتلال الفرنسي»(7) (جميع هذه الأطروحات نوقشت بجامعات فرنسية).
أمّا عبد القادر عزّة فقد نشر ديوان الشاعر مصطفى بن ابراهيم شاعر قبائل بني عامر، ونشر بسّايح أشعار محمد بلخير، وحقّق أبوعبدالله محمد بن أحمد «ديوان ابن مسايب» ووضع سهيل ديب «أنطولوجيا الشّعر الشعبي الجزائري»، كما تمّ في الآونة الأخيرة إعادة نشر دواوين بن مسايب والمنداسي وبن تريكي، والتي كانت قد نشرتها دار ابن خلدون في فترة الاحتلال لمّا كان محمد بن الحاج الغوثي بخوشة يزوّدها بمثل هذه الأشعار، وقد بذل جهدا جديرا بالتّنويه في جمعها وتحقيقها.  وظهرت طبعتان مختلفتان لديوان بومدين بن سهلة قام بتحقيق الأولى شعيب مغنونيف، وأعدّ الثانية للطّبع لحبيب حشلاف ومحمدبن عمر الزرهوني.

الهوامش و المراجع

 1 - حكاية جنّيّ الهيدور
Le Génie de l’Aidour (Conte arabe trouvé à Tlemcen), supplément à L’Illustration du 6 aout 1910, L’Imprimeur Gérant : A.Chatenet.
 2 - قمنا بتعريب الترجمة الفرنسية نظرا لفقدان الأصل العربي، ونشرناها مسلسلة في مجلة المجاهد الثقافي الأسبوعية، الصادرة في الجزائر، أعداد 4 فبراير/3 مارس/ 10 مارس/17 مارس/ 24 مارس 1989.
3 - تاريخ الجزائر الثقافي من القرن العاشر إلى الرابع عشر الهجري (16-20م)، ابو القاسم سعدالله، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزائر، 1981، ص14. نجد في نفس المؤلّف إشارة إلى حكاية جني الهيدور في جزئه الثاني، نفس الناشر ونفس التاريخ، ص216.
(4) Roman Jakobson, Questions de poétique, Edition du Seuil, Paris, 1973, p.71.
(5) Ahmed Tahar, La poésie populaire algérienne (Melhun): rythme, mètres et formes, SNED, Alger, 1975.
(6) MhammedBelhalfaoui, La poésie arabe maghrébine d`expression populaire, Ed. Maspero, Paris, 1973.
(7) Ahmed Lamine, Poésie populaire algérienne a Sidi Khaled et sa région (Wilaya de Biskra– Algérie) de 1850 a 1950 et ses relations avec le patrimoine culturel arabo-islamique, Thèse de doctorat de IIIe cycle, Université d’Eix-Marseille, France, 1983.

أعداد المجلة