تدويـن الأدب الشعـبي: حفظ أم نقض لفظ؟
العدد 17 - آفاق
1 - الأدب الشعبي وأجناسه:
1-1 المصطلح والمفهوم.
يمثل الأدب الشعبي جزءا من التراث التقليدي، تتبلور من خلاله بكل وضوح، الوظيفة الإنشائية للكلام، فتكون بذلك رسالته منطوية على ذاتها ومستقلة بها، ممّا يحتم تركيز الاهتمام عند دراسته، وبقطع النظر عن البعد التقريري للنصوص، على أشكاله وأنماطه الفنية، اعتمادا على المناهج البنائية التي يسّرت إدراك الدلالات الكامنة في ثنايا تلك النصوص وأعماقها1.
كما في كل ثقافات العالم، يعتبر الأدب الشعبي إبداعا فنيا، أدوات التعبير فيه لغة عامية شفوية، متفرعة عن لغة الكتابة التي تنعت في البلدان ذات الثقافة العربية، مثل بلدان المغرب الكبير، بالفصحى ولا يعني ذلك أن اللغة العامية ليست فصيحة، بل هي تفوق الفصحى أحيانا في التعبير عن ثقافة الجماعة العميقة والحميمة.
مهما يكن من أمر وبقطع النظر عن المناهج ومختلف مشاربها2، فإن الأدب الشعبي إنتاج قولي، يعكس التجربة الجمعية والمتمثلات المشتركة بين أعضاء الجماعة، فهو لا يعبر ضرورة عن مزاج قائله المتفرد أو عن ذاته، ولا يبسط تجربته الشخصية، وإن فعلها، فباعتباره عضوا منصهرا في ذات الجماعة. انطلاقا من ذلك، وُسم هذا النمط من الأدب بالشعبي باعتبار أن هذا المصطلح يحيل إلى مفهوم ثقافي صرف يفيد الانتماء إلى جماعة تربط بين أعضائها روابط مختلفة، ويتعلق بالسلوكيات والممارسات والإنتاجيات الجمعية المشتركة. يرتكز هذا المفهوم على فكرة الشيوع والرواج بين العامة والمراد بها تلك الجماعات المحلية التي تنتمي إلى مجال سكني محدد (مدينة أو حي أو ريف أو جزيرة أو جبل...)، أو عضوية، تربط بين أفرادها روابط مختلفة: عرقية أو قرابية أو مهنية أو دينية3....
دون الدخول في تفاصيل مجزأة عن خصوصيات الأدب الشعبي، وقد تم تداول هذا النمط من الأدب بقليل أو كثير من الإسهاب من طرف الدارسين4، يجدر التذكير ببعض سماته، مختزلة في عدد من العناصر. تتمثل هذه العناصر في لغته العامية كما أسلفنا، ومحتواه الثقافي المعبر عن قيم الجماعة ومتمثلاتها، والعاكس لتجربتها وخصوصياتها، وتداوله الشفوي في نطاق الجماعة أو خارجها، ونقله من السلف إلى الخلف، مما يضمن ديمومة النصوص ورواجها. تعتبر مجهولية مؤلفيه من أهم سمات الأدب الشعبي، خاصة بالنسبة إلى الأجناس السردية كالحكاية والسيرة. ليس للمبدع في إنتاج هذا النمط من الأدب من ذاتية خصوصية سوى ما يتعلق بالشعور العام والوجدان الجمعي، إنما يتحقّق الأثر بالإلقاء أو الرواية، وبحكم التداول والنقل، يصبح حقا مشاعا للجماعة وملكا لها إلى درجة نسيان مؤلفه الأصلي5. من جهة أخرى، يعكس الأدب الشعبي تراكم تجارب الجماعة ومتصوراتها، ويفسر التواصل الزمني والمكاني لواقعها الثقافي، فيغذي ذاكرتها وينمّي تراثها.
1-2 الأجناس.
كما في الأدب الفصيح، تتعدد أجناس الأدب الشعبي وتبوّب بين شعرية ونثرية، وبين سردية وغير سردية كالأمثال.
1-2-1 الأمثال.
تمثل الأمثال6جملة من الأقوال القصيرة، ذات إيقاع لغوي خاص، ويتضمن محتواها مختصرا لتجربة بشرية متراكمة في مختلف ميادين الحياة، وتحيل إلى أنماط من السلوك لها دلالات أوسع من الخبرة أو المعنى المتضمن بالألفاظ، فيرقى بذلك المثل إلى مفهوم مجرد ويتحول إلى حكمة أو نصيحة أو يفسر سلوكا معينا أو يبرره أو يضع شروطا مسبقة ليبلور سلوكا مثاليا يوافق قيم الجماعة.
المثل تعبير لغوي يتميز الشعبي منه بلغته العامية، ومن حيث بنيته اللغوية، وخلافا للأقوال السائرة التي لا ترتبط بنيتها بشكل محدد، يأتي المثل في شكل ثنائي، تماما مثل المسند والمسند إليه أو المبتدأ والخبر، على غرار: «لو كان عمّي يحكي على همّي // ما كنت نبكي على بابا وامّي» و«اللي ما يدريها // يڤول سبول» و«عايشة في دار الناس // والناس في دارها»و«سمّعني ع اللي نحب // حتى بالكذب. من حيث الدلالة، يتضمن المثل طرحا متعلقا بالتجربة البشرية وتعبيرا عن محصّل تلك التجربة، فهو كما سبق مختصر لتجربة بشرية متراكمة، ترتقي إلى مستوى السلوك النموذجي والمعياري. تقترن الأمثال الشعبية أحيانا بقصص تتفرع عنها كخلاصة أو موعظة، وقد تلفق لعدد منها قصص تفسرها وتشرحها.
1-2-2 السيرة.
في باب الأجناس السردية، تحتل السيرة مكانا مركزيا في الذاكرة الشعبية. تُعرّف السيرة بأنها جنس أدبي يمزج بين الواقع والخيال، بين التاريخ وحقائقه الثابتة ووقائعه المدونة في متون التاريخ، والأدب بما يكتنفه من تخيّل ومن تحرر من ذلك الواقع، وعند العرب، تمتزج لغة هذا الجنس الأدبي الفصحى بالعامية. السيرة تاريخ لأنها تسرد أحداثا جدت بالفعل في زمن ما ومكان ما وكان للفرد أو للجماعة تأثير في سيرها وأثر في تاريخ تلك الجماعة وفي الإنسانية برمتها، وهي أدب لما لواضعها أو راويها وناقلها من تأثير في صياغتها أو في إعادة صياغتها، شعرا أو نثرا، بحيث تنطبع بمحيطه الثقافي وبذاته بوصفه عضوا من بين أعضاء الجماعة7.
تروي السيرة حياة شخص يؤثر سلوكه في محيطه الطبيعي والثقافي إلى درجة يتحول خلالها إلى سلوك نموذجي ومعياري يعكس واقع جماعة وتطلعاتها، أو مسيرة جماعة برمتها، توحد بين أعضائها وحدة المصير. لا يزال الأدباء الشعبيون التونسيون يتذكرون سيرة حسونة الليلي8، ذلك الرجل الحضري، قائد قومه، وما جرى له جرّاء حبه لبدوية رآها «تورد» الماء من أحد الآبار فتمكن منه حبها. أما سيرة بني هلال، فلجلّ المناطق التونسية رواية تحكي عن الجازية المتخبلة في شعورها9 أو بوزيد الهلالي، ذلك الفارس المغوار أو خليفة الزناتي، البطل المنكوب الذي يذود عن قومه وأرض قومه حتى الموت.
1-2-3 الأسطورة.
خلافا للسيرة، تتضمن الأسطورة، وهي أيضا جنس سردي يمثل الجانب القولي للطقوس التقليدية، حكاية تقوم في الغالب على الخرافة وقد يكون أبطالها بشرا أو أنصاف آلهة أو آلهة، حسب السياقات الثقافية، وقد تتفق أحيانا إرادة البطل البشري بإرادة الآلهة وقد تتصادم معها أحيانا أخرى. يظهر بطل الأسطورة في ثوب البطل الجمعي الذي يعكس معتقدات الجماعة ويستجيب لآمالها، مستعينا بالقوى الغيبية الخارقة كالسحر والآلهة والشياطين والحيوانات والعناصر الطبيعية10.
قد تؤدي الأسطورة أيضا وظيفة تفسيرية لبعض الظواهر الطبيعية أو الاجتماعية أو التاريخية أو حتى النفسية، مثل أساطير التأسيس والتعمير والإخلاء، وأساطير تسمية الأماكن... لمّا يعجز العلم بمختلف فروعه، الإنسانية منها وتلك المسماة بالصحيحة، عن تفسير هكذا ظواهر، تأتي الأسطورة، معتمدة على المخيال الجمعي، لتعوّض العلم وتقدم التفسير المطلوب.
من أساطير التأسيس في تونس، تلك المتعلقة بقرطاج، المدينة التي أسسها الفينيقيون في القرن التاسع قبل الميلاد. تقول الأسطورة إن الملكة عليسة، القادمة من مدينة صور بلبنان الحالي، طلبت من أصحاب الأرض أن يقتطعوها وقومها ما يغطيه جلد ثور من الأرض. لما نزلوا عند طلبها، طفقت تقطّع الجلد سيورا حتى غطى مساحة مدينة كاملة وانطلت الحيلة11. ليست قرطاج وحدها في تونس التي تعلقت بها أسطورة تأسيس، فصفاقس، المدينة الثانية في البلاد التونسية والتي ظهرت في أواسط القرن الثالث الهجري، خلال الحكم الأغلبي الموالي للدولة العباسية - نحن إذن في حقبة تاريخية مغايرة تماما - ارتبط تأسيسها بأسطورة مماثلة12، وكذا قرية الدويرات الأمازيغية التي تقبع مهجورة على قمة جبل الڤواطير بجنوب البلاد، غير أن المحيط هناك حتّم تغيير جلد الثور بجلد بعير13.
1-2-4 الحكاية الخرافية.
تنحدر الحكاية الخرافية حسب الأخصائيين، من الأسطورة وتعتبر شكلا مصغرا لها14، إذ يغلب تدخل الخوارق في نسيجها القصصي باعتبارها المحرك الأساسي للأحداث. تنطلق الحكاية من بسط وضعية اجتماعية يشعر فيها البطل بنقص ذاتي أو بضرر يحدق بالذات أو بالجماعة التي ينتمي إليها، فيسعى إلى تدارك تلك الوضعية بالتصدي لتلك المخاطر ودرئها، بمساعدة القوى العجائبية الخارقة كالسحر وتسخير الحيوانات، وبذلك يتحقق التوازن الاجتماعي في صلب الجماعة، ويحقق البطل ذاته بالارتقاء الاجتماعي15.
يتفق جل دارسي الأدب الشعبي السردي على أن أصول الحكاية الخرافية المتداولة في كل ثقافات العالم أصول مشتركة، تغور في أعماق الأزمنة السحيقة16، ومما يؤكد ذلك وجود روايات متعددة للحكاية الواحدة في ثقافات مختلفة، على غرار حكاية سندرلاّ العالمية17التي عثرنا لها عن روايات محلية بكل من تونس (حبة الرمان)18ومصر (امرأة الأب)19وقطر (فسيجرة)20. ما يميز بين الروايات ليس البناء السردي، لأنه من ثوابت الحكاية الخرافية ولا حتى المضمون الاجتماعي والأخلاقي الذي يحيل إلى قيم عامة وأزلية تتعلق بالجنس الأدبي نفسه وبالمجتمعات التقليدية، إنما تكمن الخصوصية في المستوى التصويري الثقافي الذي تتبلور من خلاله قدرة الحكاية على التأقلم مع الزمان والتكيف مع المكان وتوظيف السياقات الثقافية ضمن تلك البنية السردية والدلالية المعهودة21.
1-2-5 الشعر.
خلافا للحكايات الخرافية ذات البناء السردي والجذور المشتركة، يتطبع الشعر الشعبي بالسياقات الثقافية المحلية من حيث الأشكال بدرجة أولى والمحتوى بدرجة أقل، علاوة على الفوارق اللهجية. يؤكد المؤرخ التونسي حسن حسني عبد الوهاب انطلاقا من المتن الشعري الشعبي التونسي، ومن المعطيات التاريخية التي تحف به، أن هذا النمط من الأدب جاء نتيجة تلاقح بين الزجل الأندلسي الذي بدأ ينتشر بالبلاد انطلاقا من القرن السادس الهجري، إثر توافد المهاجرين الذين أطردوا من الأندلس، وشعر أعراب بني هلال وسليم الزاحفين من نجد بعد مقام بصعيد مصر، وهذا الشعر متصلة جذوره بشعر الأنباط بالجزيرة العربية22. يقول العلامة عبد الرحمان ابن خلدون: «لهؤلاء الهلاليين في الحكاية عن دخولهم إلى إفريقية طرق في الخبر غريبة...فيروون كثيرا من الأشعار، محكمة المباني، مقننة الأطراف، وفيها المطبوع والمنحول والمصنوع، لم يفقد فيها من البلاغة شيء، وإنما أخلّوا فيها بالإعراب فقط23».
يتفرع الشعر الشعبي التونسي إلى أربعة أقسام حسب شكل القصيد وترتيب مقاطعه وأغصانه (الغصن هو ما يقابل البيت في الفصيح): الڤسيم والموڤف والمسدس والملزومة. أما الأوزان (البحور)، فيصعب حصرها لتعددها وتجددها، وأكثرها تداولا البورجيلة والسوڤة والسعداوي والعرضاوي والمربع والمسدس، في حين أن أغراضه لا تخرج ظاهريا عن أغراض الشعر العربي القديم، لكنها مطبوعة بهواجس الزمان والمكان. من بين تلك الأغراض يمكن ذكر الأخضر وهو الغزل، والأحرش وهو الهجاء، والبر ويعنى بوصف الطبيعة ونزول المطر، والضحضاح وهو في وصف الصحراء والسراب، والمكفّر وهو شعر الموعظة والحكم. منذ ما يزيد عن القرن، ظهر غرض جديد مستحدث، يسمى شعر الخطاري ويهتم بالوطنيات ويعتبر سجل الأحداث التاريخية التي شهدتها البلاد ومرجعا لدى الباحثين لتأريخ تلك الأحداث24.
من فطاحل الشعراء الشعبيين في تونس، نذكر أحمد البرغوثي (مات سنة 1931) وأحمد بن موسى الذي عاش في القرن التاسع عشر وأحمد ملاك المعاصر له وقائل الأبيات التالية في غرض النجع ويعني مجمع الخيام البدوية، والقصيد من نمط المسدّس بوسا:
النجع وڤت ان تسـڤّـد رحيله
إبله وخيله
يالندرى وين ناوي نزيلـه
النجع وڤت ان تسڤـد رحل
خيله وبـل
يالندرى وين ناوي الـنزل
يلـوّج على سمح الخـجـل
خذت العڤل
بنت العرب من خيار الدويلة
في عمومه، ورغم تقليدية أجناسه وأغراضه، يعكس الأدب الشعبي من خلال توظيفه الثقافي المحلي، تراكم تجارب الجماعة، مفسرا التواصل الزمني والمكاني للواقع الثقافي والتاريخي، مما يغذي ذاكرة الجماعة وتراثها، من هذا كله يستمد شرعية جمعه وتدوينه قصد المحافظة عليه ونشره.
2 - الأدب الشعبي تراث لامادي.
2-1 التراث الثقافي اللامادي وسمات اللامادية.
برز مفهوم اللامادية في التراث عموما نتيجة لقناعة حصلت لدى كثير من المختصين والعلماء المهتمّين بالميدان بأن العولمة تهدّد مختلف الثقافات وخاصة تراثها اللامادي لهشاشته، بالتنميط أو حتى بالذوبان ، ممّا حدا بمنظمة اليونسكو سنة 2003، لإصدار وثيقة في الموضوع تبسط المفهوم، وتطرح اتفاقية للمحافظة على تراث الشعوب الثقافي اللامادي، وتحدّد فيها محتوى هذا التراث ودوره في الحفاظ على الهويّات وعلى التنوع الثقافي.
تمثل العولمة خطرا محدقا بالتراث الثقافي وبخاصة ثقافة الأقليات والجماعات المحلية، جرّاء رفع الحواجز وإلغاء الحدود أمام التجارة الدولية وانتقال البضائع بحرّية تامة، بما في ذلك المنتجات ذات الصبغة الثقافية. لكن دراسة ثقافات الشعوب تؤكد أنه لا فضل لثقافة على أخرى، مما يدعو إلى احترام الخصوصيات والحفاظ على الهويّات، وهذا ما يحث على التعامل مع كل الثقافات باحترام وإنصاف وعدل. قال الله تعالى في الآية السابعة من سورة الحجرات: «...وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم...».
إن عولمة الثقافة ليست وليدة العصر، فمنذ القدم تفاعلت الثقافات وتلاقحت بفعل الهجرات والغزوات والحروب، وكذلك عبر المبادلات التجارية والسفرات. وقد أفرزت هذه الاتصالات وهذا الاحتكاك بين الشعوب عامّة عملية مثاقفة تقاربت من خلالها السمات الثقافية المتباينة فأفرزت ثقافات جديدة، تبدو أحيانا بسيطة، ولكنها في حقيقة الأمر معقّدة وذات جذور متعدّدة، إلى درجة أن لا وجود لثقافة محلية بكر، نقية وخالية من المؤثرات الأجنبية ولم تتأثر بأية سمة ثقافية دخيلة. يعتبر ذلك ضربا من ضروب التغيّر الثقافي وهي ظاهرة ربّما تشمل جميع المجتمعات25، غير أن عملية المثاقفة بالنسبة إلى الثقافات الشعبية أو التقليدية القديمة، بحكم انعزالها أحيانا، تحصل ببطء فيصعب إدراكها بيسر.
كانت المثاقفة تتم في العهود القديمة بصفة مباشرة، عن طريق الاحتكاك وعبر التوسع البشري والسياسي كالتوسّع اليوناني والفينيقي والروماني في حوض البحر الأبيض المتوسط في العصور القديمة، ثم التوسع العربي الإسلامي في المغرب وصولا إلى شبه جزيرة إيبيريا غربا (إسبانيا والبرتغال اليوم)، والسند والهند شرقا، والتوسع الأوروبي في القرن التاسع عشر بإفريقيا. أما اليوم، فبحكم تطوّر وسائل الاتصال وتكنولوجيا المعلومات أصبح من اليسر نشر ثقافة ما، بكثافة لا حدود لها، لدى من يرغب في ذلك أو من لا يرغب، وأضحى من يتحكّم في قنوات الاتصال هو الذي يؤثر دون أن يتأثر وبذلك انعدمت المعادلة التي تنبني عليها المثاقفة المرتكزة على التبادل26.
يتمثل التراث الثقافي اللامادي في الممارسات والمتمثلات والتعبيرات والمعارف والمهارات التي تعتبرها الجماعات وفي بعض الحالات الأفراد، من بين مكوّنات تراثها الثقافي. يتضمّن هذا التراث التقاليد والتعبيرات الشفوية بما في ذلك الأدب واللغة بوصفها حاملا للتراث الثقافي اللامادي وناقلا له، وكذا الفنون المشهدية والممارسات الاجتماعية، والطقوس والأحداث الاحتفالية، والمعارف والممارسات المتعلقة بالطبيعة والكون، والمهارات الحرفية المتعلقة بالصناعات التقليدية. تقوم الجماعات بنقل هذا التراث من جيل إلى آخر بإعادة إنتاجه بصفة دائمة حسب الوسط الذي تعيش فيه ومن خلال العلاقات التي تربطها بالطبيعة وبالتاريخ، وجرّاء ذلك يتكوّن لديها شعور بالتجذر والبقاء، إضافة إلى أن المحافظة على هذا التراث هي السبيل للإبقاء على التنوع الثقافي والحث على الخلق والإبداع (وثيقة اليونسكو ذات الصلة).
2-2- حفظ التراث اللامادي.
لقائل أن يقول: لماذا الاهتمام بالتراث اللامادي والعمل على حفظه؟ صحيح أن هذا المفهوم قد برز كردّ فعل تجاه العولمة الجامحة والتنميط الثقافي العقيم المعقّم (بكسر القاف)، يحقق المحافظة على التنوع الثقافي لدى مختلف الجماعات وتأكيد كيانها وهويتها. إن التقاليد الشعبية والتعبيرات الشفوية بما يتبعها من لغة وتمثلات وباقي الظواهر الثقافية والممارسات الاجتماعية، هي التي تؤسس الهويّات، ونظرا لطبيعة التراث اللامادي الهشّة وخاصة الأدب الشعبي الذي يزول بزوال حامليه إذا لا تتم إعادة إنتاجه، فإن الاهتمام به وحفظه يعتبران من أولويات المؤسسات التي تعنى بالتراث والثقافة عموما. يقال إنه كلّما مات شيخ بإفريقيا، احترقت مكتبة.
يجمع التراث اللامادي بين مختلف مظاهر الثقافة المتراكمة عبر الزمان ، وتتمثل عناصره في الإنتاجيات الفنية والأدبية والممارسات الجمعية التي يحملها رجال ونساء، يعتبرون كنوزا بشرية حية، يتولون نقل تلك السمات الثقافية بطريقة شفوية وبواسطة الحركة ويعيدون إنتاجها باستمرار في نطاق الجماعات التي ينتمون إليها، فإذا ما انقطعت سلسلة النقل اندثر الأثر. التــراث اللامــادي بطبيعته تراث جمعـي، فهو ملـك للجماعـات عن طريق تلك الكنـــوز البشرية الحية التي تحمله وتتداوله وتحافـظ عليه بالعمل على إعادة إنتاجه ونقلــه.
تنحصر المحافظة على عناصر التراث اللامادي أساسا في عمليتين على درجة كبيرة من الأهمية: تعنى العملية الأولى بالمحافظة على المادة نفسها، مما يفيد إعادة إنتاج الممارسة الثقافية اللامادية مثل سرد الحكايات، باعتبارها تراثا حيا يتحقق ويتجدد في الوقت نفسه عند كل أداء، وذلك بالرجوع إلى حامليه، واعتمادا على الذاكرة الشفوية وبالأخذ عنها بالنقل من السلف إلى الخلف. أما العملية الثانية فتتمثل في المحافظة على حامل المادة وهو بالضرورة حامل مادي، سواء كان ورقيا أو إلكترونيا، وينبغي أن يتم ذلك طبقا لضوابط علمية تعتمد على التكنولوجيا المتطورة، لكن هذه الطريقة تفصل المادة عن سياق أدائها وعن دائرة التفاعل الاجتماعي الناجم عنه وتثبـّتها على الحامل وبالتالي تجمّدها.
3 - إشكاليات تدوين الأدب الشعبي.
الأدب الشعبي تراث لا مادي على درجة كبيرة من الهشاشة، فهو مهدد بالاندثار جرّاء تراجع تداوله شفويا في سياقاته التقليدية وانعدام إعادة إنتاجه وتقلص عدد الحفظة والروّاة رغم تطور وسائل الاتصال. من هذا كله، يستمد الأدب الشعبي مشروعية جمعه وتدوينه قصد المحافظة عليه ومواصلة تداوله ثم نشره، وإن كان بالتدوين. لكن التدوين يطرح إشكالات عدة.
3-1 التدوين:
يتمثل التدوين في جمع المادة الأدبية الشعبية مباشرة من حامليها، ثم توثيقها بالكتابة والنسخ ضمن دواوين وسجلات على محامل ورقية أو إلكترونية مع إمكانية مزج التدوين الورقي بالتسجيل السمعي البصري. يتم الاحتفاظ بتلك المحامل بعد تصنيف المادة المسجلة بها حسب معايير دقيقة ومضبوطة، تساعد على استرجاعها عند الحاجة، لكن تدوين الأدب الشعبي بهذه الطرائق يطرح إشكالية اتصالية وتعبيرية هامة.
يفيد التدوين المرور من نمط تعبير واتصال محدد إلى نمط آخر مغاير تماما، أي المرور من الشفهية إلى الكتابية في مستوى البث ومن السماع والمشاهدة المباشرة إلى القراءة أو المشاهدة غير المباشرة (الوسائط الإلكترونية) في مستوى التلقي. المسألة على درجة من التعقيد لأنه لا يمكن اختزال نص شعبي شفوي في مادته القولية المنطوقة أو في بعده المعجمي فقط، لذلك وجب الاهتمام عند الجمع بملابسات أداء الرواة وحركاتهم وبسياقات ذلك الأداء زمانا ومكانا.
ينطلق التدوين إذن من عملية الجمع ويعني الذهاب إلى مصادر الخبر، إلى الكنوز البشرية الحية، حاملي النصوص الأدبية ومؤدييها حيثما يعيشون، في بيئتهم الاجتماعية والثقافية. من ضوابط تدوين الأدب الشعبي الأساسية، سواء كان ذلك بالكتابة أو بالصوت أو بالصوت والصورة معا، احترام النص خاما، أي في كليته بتكراراته واختصاراته، وتردّدات الراوي وسكوته وتداركاته إن صح التعبير، وبكل ما يشوب الإلقاء الشفوي التلقائي ضمن السياقات التقليدية وذلك بإعادة إنتاج تلك السياقات إن سمح الأمر وتلك هي الطريقة المثلى في التدوين..
3-2 من المنطوق إلى المكتوب:
قلنا إن تدوين الأدب الشعبي عن طريق النسخ يحتم المرور من الشفهية إلى الكتابية أي الانتقال من نظام تواصل يعتمد الكلام والسماع إلى نظام يرتكز على النسخ والقراءة، ويقتضي النسخ تطويع الكتابة بالأحرف العربية، علما أن العربية لغة قائمة على قواعد النحو والإعراب الخاصة بالفصحى، إلى كتابة اللهجة العامية بلحنها وأصواتها ونحوها المغاير وخصوصياتها المحلية. من ذلك، أداء أصوات غير موجودة في متن تلك الأحرف مثل الحروف المفخمة (الزاي المفخمة...) والقاف البدوية المعقوفة التي تكتب في تونس بتثليث النقاط التي تعلو الحرف ()، وجيما بمصر وبلدان عربية أخرى وكافا فوقها مطّة بالعراق والمغرب () باعتبار أن مخارج الصوتين هي نفسها وما يفرق بينهما هو أن الأول أصم والثاني رنّان.
هكذا نكتشف قصور الكتابة في نقل الواقع اللهجي المنطوق، الذي لا يستوعب قواعده إلا أبناء البيئة المحلية، كمخارج الأصوات مثل ما سبق، وإدراك مواطن الإمالة (الميل بالفتحة نحو الكسرة وبالألف نحو الياء) والإطالة (المد في نطق الحرف) والخطف (السرعة والتسرع في الكلام) والوقف (نطق أول حرف الكلمات بالتسكين ) والقطف (حذف صوت أو اثنين من آخر الكلمة وتسكين ما قبله)... لذلك، يحبذ، إضافة إلى التدوين الورقي أو الإلكتروني، التسجيل السمعي والبصري كأفضل طريقة حفظ متاحة، اعتبارا أنها تبقي على بعض من مقومات الأدب الشعبي وخصائصه من حيث الأداء، بوصفه خطابا تواصليا، رغم ابتعاده عن السياق الحقيقي الذي يكتنف إنتاج الأدب الشعبي وتداوله ونقله.
3-3 لغة الكلام ولغة الجسد:
يتحقق النص الشفوي ضمن شكل اتصالي يختلط فيه الكلام بوسائل اتصال مصاحبة كالحركة، فيجمع النص بين طرق اتصال لغوية تهم اللغة والأصوات والنحو والعروض بالنسبة إلى الشعر والبناء السردي بالنسبة إلى الأجناس الأخرى، وطرق اتصال غير لغوية، بل جسدية وتتمثل في لغة الجسم كالحركات والنظرات وقسمات الوجه ونبرات الصوت... في هذا الباب، لحفظة التراث الأدبي الشعبي ورواته قدرة على الأداء تجعلهم يتحكمون في قنوات الاتصال تلك، وكذا التمكن ضمنيا من الأجناس الأدبية بصيغها وبناها السردية، فإذا ما تم تدوين النصوص بالكتابة، اقتصر ذلك على المادة القولية وأضاع ما سواها من عناصر السياق التواصلي ومنها تلك التعبيرات الجسدية، وقد يؤدّي ذلك إلى الالتباس أو عسر الفهم.
خلافا للأدب الفصيح المكتوب، يستدعي النص الشعبي الشفوي نسقا حركيا يساعد على الإبلاغ والتواصل والتفاعل مع المتلقي. تسمي الحركة التي ترفد النص في مادته المنطوقة حركة سردية27. تندرج الأنساق الحركية ضمن متن الإشارات والإيماءات البشرية وتتعلق بالنشاط التقني والفني بالمعنى الواسع كتقنيات الجسم والتقنيات المؤثرة في المادة28 أو ترتبط بالكلام المنطوق، ومنها ما يمثل لغة تخاطب مكتملة، تعوّض الكلام في حالة عجزه عن إبلاغ الرسالة (عند الصم والبكم مثلا). يعد الصوت والحركة عند أداء النص الأدبي الشعبي من العناصر شبه اللسانية التي تضفي مزيدا من الفاعلية التواصلية وتطبع الأحداث بشيء من الواقعية التي تشد المتلقي إلى الباث، أي السامع إلى الراوي فيتابع كلامه وحركاته بكل اهتمام فتحصل له لذة التمتع بالسيرة أو الحكاية وكأنها مشخصة أمامه.
إن الحركات السردية المتعلقة بالأدب الشعبي على درجة كبيرة من الثراء والراوي الماهر هو الذي يتقن الكلام بقسمات وجهه ونبرات صوته وبيديه إن صح التعبير، ويتم ذلك ضمن أنساق معلومة. يضم نسق الحركات السردية نمطين من الحركات: الحركة التي تضاعف النص وتلك التي تعوضه. أما الأولى وهي الأكثر عددا، فهي التي تضاعف الكلام وتصاحبه فتؤدي وظيفة توضيحية صرفة تؤكد الحدث المروي، ومثالها حركات النفي والاستفهام، بينما تضيف الحركة التي تنتمي إلى النمط الثاني إعلاما دلاليا جديدا لا يتضمنه النص صراحة، وعادة ما تكون مصحوبة باسم إشارة (هكّ = هكذا). مثال ذلك أن إحدى الحكايات تروي أن شابا قوي عوده وأصبح قادرا على رفع الأثقال فتقول الراوية: «ها (هذه) الحجرة، يهزها (يرفعها) أربعين، يحطّها (يضعها) أربعين، قال هكّ وتم بيها»29، أي رفعها، وتردف قولها المبهم برفع يديها وكأنها هي التي حملت الثقل. كان الكلام هنا عاجزا عن تصوير الحدث فأتت الحركة السردية لتملأ الفراغ وتشخصه وتبقي هكذا على عملية التواصل والإبلاغ بكل نفاذها، وبذلك تكون الرواية قد انتقلت من نظام تعبير لساني شفوي إلى نظام تعبير حسي وجسدي.
مهما يكن من أمر، إن أنساق الحركات ليست طبيعية، والحركات ذاتها ليست متشابهة من شعب إلى آخر، إنما ترتبط ارتباطا وثيقا بالثقافات المحلية، فالحركة السردية مرتبطة بأنساق الحركات الأخرى السائدة في الثقافة المعنية دون سواها. توجد شعوب عرفوا بوافر حركاتهم مثل شعوب البحر المتوسط وتوجد شعوب اشتهروا باقتصاد مفرط في الحركة مثل الإنجليز.
ترتبط إذن لغة الجسد (الصوت والحركة) بالنص عند أداء جنس من أجناس الأدب الشعبي بصفة عضوية ويتحد الاثنان للإسهام في تبليغ الرسالة الأدبية بصفة تكاد تكون شاملة ويعطيان للخطاب الأدبي بعدا دراميا يشخص الأحداث ويمثل الشخوص ويجعل منه متعة للعقل والعين، فكيف السبيل إلى تدوين كل هذا؟
3-4 جدلية الثابت والمتغير في النص الشفوي:
إلى جانب ذلك، يطرح التدوين جدلية الثابت والمتغير في النص الشفوي لأن كل أداء للنص يعد إعادة إنتاج له من حيث المادة القولية ومن حيث السياق، وترتبط تلك الجدلية بمفهوم الشفهية القائم بدوره على مفهومي الوحدة السردية أو الجزء30بالنسبة إلى الأجناس السردية وبخاصة الحكاية الخرافية، والصيغة بالنسبة إلى الشعر. الجزء هو أصغر عنصر قصصي ذو صبغة تصويرية، يحمل دلالة أو سمة ثقافية، ويتميز بثباته وتواتره في حكايات تنتمي إلى ثقافات مختلفة وذلك ضمن بنى سردية ثابتة، مثل جزيئات الإساءة أو الاستلاب والاختبار التأهيلي والمساعدة31...، وما يتغير هنا هو محتوى تلك الوحدات الذي يتغير حسب السياقات الثقافية. أمّا الصيغة في الشعر، فهي بدورها أدنى وحدة لغوية ذات دلالة، تتضمّن صورا وأوصافا تقليدية تستخدم بانتظام في القصائد الشعرية وتتواتر من نص لآخر ويحذقها الأدباء الشعبيون الفطاحل أمثال أحمد البرغوثي والطويل المرزوڤي.
يقول أحمد البرغوثي في قصيد من نمط الموڤف المربّع:
ضحـضـاح ما اشناه يزرا
يوساع يغرا
غـيـمه على روس الاشـفا
دخان حضّن رواڤه
وبالصيغ نفسها، يقول الطويل المرزوڤي:
ضحضاح ما اشناه يـبسال
يعراض يطوال
غـيـمه حـفـز بـان زنـكـال
في الشبح عامل ضلالة
لا تعتبر هذه المطابقة بين المقطعين انتحالا أدبيا، بل هو ضرب من التداول السائد لدى الشعراء الشعبيين والمقبول منهم بصفة ضمنية وقد يتبارون في إتقانه، لذلك يعدّ تواتر الصيغ والأنماط والأوزان الشعرية من ثوابت الجنس الأدبي، وذاك هو جوهر الأدب الشعبي: هو ملك مشاع بين الجماعة بأغراضه وأشكاله وصيغه التي نجهل في النهاية مؤلفيها الأول، إنما يرددها الشعراء بقليل أو كثير من التغيير وفي ذلك مكمن مهارتهم.
مهما يكن من أمر، يمثل تكرار الصيغ أو الجزيئات ضربا من الثبات الذي ييسر عمل الذاكرة في الحفظ والاسترجاع عند الأداء، لكن الأداء يتغيّر في الآن نفسه في كل مرّة، فتتعدّد بذلك الروايات، خاصة في الأدب السردي، فالمؤدون ليسوا مجرّد رواة بل هم مبدعون بكل معنى الكلمة، إذ أن النص الشفوي الشعبي متجدّد على الدوام فإذا دوّن بالكتابة أو التسجيل يثبّت إلى الأبد في أدائه المحدّد زمانا ومكانا وبالتالي يفقد لا محالة بعضا من سجلاته. إن الأدب الشعبي بمختلف أجناسه محل مفارقة هامة تميزه، وهي الثبات والتغيّر، والمحافظة والتجدّد.
خاتمة:
إذا سلمنا بأنه لا مناص من التدوين نظرا لتراجع التداول الشفوي في سياقاته التقليدية، ولضرورة المحافظة على هذا النمط من التراث اللامادي الثري والمهدّد بالاندثار أمام الغزو الثقافي والتكنولوجي، فربما يصبح التسجيل بالصوت والصورة أخف الأضرار. يرتبط المرور من الشفهية إلى الكتابية حتما بالنسخ، والصعوبة هنا تكمن في تطويع الكتابة العربية القائمة على قواعد النحو وحركات الإعراب بالنسبة إلى اللغة العربية الفصحى إلى كتابة اللهجة العامية بأصواتها المحلية ونحوها الخاص ولحنها، لذلك تبقى الطباعة المتطورة بتطور المحامل والوسائط من الورقية إلى الإلكترونية ومن الكتب والدواوين إلى الأقراص المدمجة أفضل طريقة تسجيل وتدوين لأنها تحافظ على بعض من مكوّنات الأدب الشعبي وتبقي عليها بوصفه خطابا تواصليا، ولكن النسخ وحده لا يضمن تحقيق السياق الحقيقي الذي يكتنف إنتاج الأدب الشعبي وتداوله ضمن أنشطة اجتماعية كانت سابقا تؤثث الحياة التقليدية.
إذا اقتنعنا بأن النشر الورقي يمثل إلى اليوم أنجع طريقة لرواج الأدب الشعبي، فإن إعادة إنتاجه هي -في المقابل- أفضل طريقة للمحافظة عليه بوصفه تراثا لاماديا. تفيد إعادة الإنتاج هنا إعادة الأداء في سياقات مماثلة للسياقات الأصلية، ورغم قصورها عن استيعاب المادة في كامل أدائها، يبقى التدوين أيسر طريقة متاحة للحفظ وأبسطها.
نشهد اليوم في تونس انتعاشة ملحوظة للغناء والشعر الشعبيين، إذ أصبح استدعاء اللدبة32وهم شعراء ومغنون شعبيون من ضروريات الاحتفالات والأفراح التي تقام بالقرى والأرياف التونسية وحتى في ظاهر المدن الكبرى وضواحيها، وتمثل هذه الظاهرة التلقائية فرصة سانحة للتدوين والتسجيل في سياقات أدائية عادية.
إشكالية تدوين الأدب الشعبي إشكالية اتصالية وتعبيرية، وتعني المرور من نسق تعبير واتصال محدد إلى نسق تعبير مغاير تماما، كما أسلفنا، أي أنه يقتضي المرور من الشفوية إلى الكتابية في مستوى البث، ومن السماع والمشاهدة إلى القراءة في مستوى التلقي. في حقيقة الأمر، لا يمكن اختزال نص أدبي شعبي شفوي (خاصة نص سردي) في مادته القولية المنطوقة أو في بعده المعجمي فقط، فهل إن مقولة تدوين الأدب الشعبي ما هي سوى تناقض لفظي؟
الهوامش والمراجع
1 راجع:
C-L. Strauss, L’Anthropologie Structurale, Plon, Paris, 1958.Mythologiques, Plon, Paris, 1968.
Sémiotiques et sciences sociales, Seuil, Paris, 1976.
Greimas, Du Sens, Seuil, Paris.
2: والتر ج. أونج، الشفاهية والكتابية، ترجمة حسن البنا عز الدين، المجلس الوطني للثقافة والفنون، والآداب، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، 1994، ص13.
3: سيد حامد حريـز، «تحديد مفهوم الأدب الشعبي»، المأثورات الشعبية، عدد 3، يوليو 1986، مركز التراث الشعبي لدول الخليج العربية، الدوحة.
4: A. Arne and S. Thompson, The Types of the folk tales…, Helsinki, 1964
V. Propp, Morphologie du conte merveilleux, Seuil, Paris, 1970. A.Bouhdiba, L’Imaginaire maghrébin, étude de six contes pour enfants, MTE, Tunis, 1977.
الناصر البقلوطي، حكايات شعبية من تونس، المعهد القومي للآثار والفنون، تونس، 1988.
محمد الجويلي، أنثروبولوجيا الحكاية، مطبعة تونس قرطاج، تونس، 2003.
5: الناصر البقلوطي، مقولات في التراث الشعبي، تبر الزمان، تونس 2005. ص. 20-21.
6: راجع: الطاهر الخميري، منتخبات من الأمثال العامية التونسية، الدار التونسية للنسر، تونس، 1967. ومحمد الصادق الرزقي، الأمثال العامية التونسية وما جرى مجراها، دار سحر للنشر، تونس. ومحمد المصمودي، فلسفة الأمثال الشعبية، دنيا للنشر والتوزيع، صفاقس، 2006. والمفضل بن محمد الضبي، أمثال العرب، دار الرائد العربي، بيروت، 1981، وأيضا:
H. Balegh, Proverbes tunisiens, Ed. La Presse, Tunis, 1993.
7: فاروق خورشيد ومحمود ذهني، فن كتابة السيرة الشعبية، منشورات إقرأ، بيروت، 1980، ص. 33.
8: محمد المرزوڤي، أحمد ملاّك شاعر الحكمة والملحمة، وزارة الإعلام والشؤون الثقافية، تونس، 1980.
9: عبد الرحمان أيوب، هلاليات، تبر الزمان، تونس، 2003.
10: الناصر البقلوطي، 2005، ص. 23.
11: M.H. Fantar, Carthage, la prestigieuse cité d’Elissa, Tunis,1970.
12: عن تأسيس مدينة صفاقس راجع : محمود مقديش، نزهة الأنظار في عجائب التواريخ والأخبار، تحقيق علي الزواري ومحمد محفوظ، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1988، المجلد الثاني.
13: A. Louis, Douiret, étrange cité berbère, STD, Tunis, 1975.
14: J. G. Frazer, Le Rameau d’or, Robert Laffont, Paris, 1981-1984.
15: الناصر البقلوطي، 1988، «التقديم».
16: عبد الرحمان السريسي، الحكاية الشعبية في المجتمع الفلسطيني، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ص63 وما بعدها.
17: M. Soriano, Les contes de Perrault, Gallimard, Paris, 1968.
ظهرت هذه الحكاية أول مرة ضمن مجموعة Charles Perrault الشهيرة، في أواخر القرن السابع عشر ونشرتها دار Hachette الفرنسية سنة 1965.
18: الناصر البقلوطي، 1988. ص54.
19: حكايات شعبية من مصر، جمع عبد الفتاح الجمل، دار الفتى العربي للنشر والتوزيع، بيروت.
20: محمد طالب الدويك، القصص الشعبي في قطر، مركز التراث الشعبي لدول الخليج العربية، الدوحة، 1984.
21: الناصر البقلوطي، «من حبة الرمان إلى فسيجرة، دراسة مقارنة في الحكاية الشعبية»، المأثورات الشعبية، العدد 22، أبريل 1991، مركز التراث الشعبي لدول الخليج العربية، الدوحة، ص7.
22: حسن حسني عبد الوهاب، «مذاهب الشعر في كلام الأعراب» مجلة الفكر، السنة 3، العدد 10، جويلية، 1963. ص. 19.
23: عبد الرحمان بن خلدون، كتاب العبر...، دار الكتاب اللبناني، بيروت، 1968، المجلد السادس، ص. 38-39.
24: راجع محمد الرزوقي، الأدب الشعبي، الدار التونسية للنشر، تونس، 1967، ومحيي الدين خريف، الشعر الشعبي التونسي، الدار العربية للكتاب، تونس-طرابلس، 1991.
25: انظر ملفيل ج. هيركوفتز، عمليات التغير الثقافي» نشر في الأنثروبولوجيا وأزمة العالم الحديث، تحرير إلف لنتن، ترجمة عبد الملك الناشف، المكتبة العصرية، صيدا، بيروت، 1967، ص. 253 وما بعدها.
26: هناس بيترمارتين وهار الدشومان، فخ العولمة، ترجمة عدنان عباس علي، عالم المعرفة، الكويت، 2003.
27: C. Calame-Griaule, « Pour une étude des gestes narratifs », Langage et culture africaine, Maspéro, Paris, 1977, p. 303.
28: A. Leroi-Gourhan, Milieu et technique, Albin Michel, Paris, 1945.
29: الناصر البقلوطي، 1988، ص 114، حكاية «علي بالسلطان و اللربعين جياش».
30: راجع حسن الشامي، «نظم وأنساق المأثور الشعبي»، المأثورات الشعبية، عدد 12، أكتوبر 1988، مركز التراث الشعبي لدول الخليج العربية، الدوحة، ض.77.
31: الناصر البقلوطي، 2005، ص55.
32: «اللدبة» تحريف لهجي محلي لكلمة الأدباء.