عقدة الغرب ووقعها في تشكيل الوعي الموسيقي العربي
العدد 62 - التصدير
كاتب من تونس
لا شك وأن للتعليم الموسيقي، دور أساسي في تكوين الطفل وتشكيل وعيه وتنمية مواهبه وملكاته الذهنية والروحية بشكل تطوّري منسجم ومتكامل. وفي هذا المجال، لا بدّ من الاعتراف بأنّه توجد أزمة حقيقيّة في العالم العربي، تُقلّص من مردوديّة هذا الدور، وتحيد به عن مساره الصحيح. ممّا ينال من حضور الموسيقى العربيّة والتراثية تحديدا وقبولها لدى الطفل العربي، ويؤثّر بالتالي، على ذاتيته فنيّا وذوقيّا. والمسؤولية هنا، وإن تتحمّلها جهات عدّة، فهي تعود بالأساس إلى المؤسّسات التعليمية والثقافية.
ونكتفي بالإشارة في هذا المجال، إلى عائق ذي أهميّة قصوى، يتعلّق بـ «الازدواجية» في اللغة الموسيقية والتي أصبحت الأساس في الطرق المعتمدة بمؤسّساتنا التعليميّة والتربويّة والثقافيّة. ازدواجية نظريّة، عمليّة تعبيريّة وذوقيّة صار وقعها على الموسيقى العربية يشغل بال المختصّين أكثر من الموسيقى نفسها؛ ممّا جعلها محلّ نقاشات ومزايدات لا حدّ لها. ويمكن لنا تصوّر جذور هذه المشكلة بوضوح، إذ أنّ التكوين الموسيقي وتذوّقه في عالمنا العربي المعاصر، يعاني منذ خطوات الطفل الأولى، مشكلة «ثنائية اللغة الموسيقية العربية – الأوروبية»، أو بالأحرى ازدواجية نظامين موسيقيين واتجاهين جماليين متباينين: «المقامية العربية» و«التونالية الغربية»؛ وغالبا ما تكون الأولى شبه مغيّبة، بل وأحيانا غير معتمدة تماما.
هذه الازدواجية التي نكرّسها منذ مرحلة مبكّرة في وعي الطفل العربي، أفرزت عندنا مجموعة من العقد النفسيّة والحسيّة والذوقيّة، وخلقت لنا ولا تزال في أغلب الحالات، انفصاما محيّرا في الشخصيّة ما فتئ يتواصل وقعه على المرتبطين بالشأن الموسيقي، من مستمعين وموسيقيّين: ملحّنين وعازفين ومغنّين ومدرّسين وغيرهم من المهنيين في هذه المجالات. تبعا لذلك، تقلّص الإبداع وتذبذب الذّوق، رغم تراكم الإنتاج وتعدّد قنواته. وضع مؤسف يؤيّده ما يعانيه الطفل العربي – منذ بداية تعلّمه بل واستماعه للموسيقى - من تشتّت واضطراب بين لغتين / نظامين لا تشابه بينهما في الأصل ولا رابط، فيزيائيا كان أم عقليا، ذوقيا أم جماليا. ويزداد هذا التخبّط لدى الشباب، مع تزايد الانفتاح على قنوات الغزو وأساليبه ومجالاته ووسائله المختلفة، حتّى صار الإفلات أو اكتساب المناعة من وقعه، يعدّ ضربا من العبقرية.
اعتبارا لكلّ التجارب السابقة، بات واضحا بأنّ الحلّ لا يمكن أن يكون إلاّ جذريا: وهو الانطلاق في التكوين فنيّا وذوقيّا من الموسيقى المحلية / القومية، بل وضرورة القيام بذلك، لأنّ الحاجة صارت ملحّة. هذا لا يتنافى مع تعلّم موسيقى أو موسيقات أخرى في مراحل لاحقة من أجل إثراء المعرفة والذوق والانفتاح على الآخر، إذ لا شك وأنّ في التجارب الموسيقيّة الأخرى الكثير ممّا ينفع والاطلاع عليها إثراء وفائدة. لكن بعد اكتساب الحصانة اللازمة باستيعاب الموسيقى المحلية تكوينا وتذوّقا.
لذا، يتعيّن على المؤسّسات المختصّة بالتعليم الموسيقي والتربية والثقافة الموسيقيّة عموما، أن تجد الشجاعة الكافية لنقد الذات ومراجعة النّفس في حقيقة أهدافها ومضامين برامجها ومناهج توصيلها للطفل وكذلك الشاب العربي، ممّا يستوجب إعادة النّظر في المفاهيم المتداولة كمسلّمات والتعامل معها على أساس نقدي، مع ضرورة إقحام الاعتبارات الاجتماعيّة والفكريّة والسياسيّة وحقول المعرفة المختلفة وتوضيح الصلة الكائنة بينها وبين الظاهرة الموسيقية وأهميّة دورها في تشكيل الوعي ونحت الذات لدى الفرد والمجتمع. مثل هذه المعادلة، لا يتسنّى تحقيقها، دون إرساء أسس موسيقى محليّة / قومية، واضحة المعالم، فنحن لا نزال نجهل العناصر المكوّنة لهويتنا الموسيقيّة، رغم كلّ ما كتب في شأنها. ذلك لأنّنا تعوّدنا خطأ، البحث عن تعريفات لها، انطلاقا من توجّهات جانبيّة أيديولوجية، سياسية، فكرية واجتماعية، خارجة عن نطاق خصوصيّتنا الموسيقية الحرية بالعناية. فأخذنا شيئا من هنا وشيئا من هناك، ثم حرصنا على أن نكيّف أنفسنا بتقليد هذه المقاييس المفتعلة. والحال أنّ لكلّ مجتمع مقوّماته الخاصّة، فلا يكفي أن يكون توجّه قد صلح في مجتمع ما، أو نجح في بلد ما، حتّى يكون صالحا لنا أو يتوجّب علينا أن ننجح على أساسه.
وبالتالي، عندما نقول «موسيقى عربية» يجب أن نكون واضحين وصادقين في الإجابة على هذا السؤال: ما هي أسس هذه الموسيقى التي نعنيها ونريدها، مدركين أنّها يجب أن تنبع من أعماق تجربتنا الإنسانية عبر الماضي والحاضر. فليس ثمّة موسيقى يمكن أن تُستعار عن طريق التقليد أو النّقل والانتحال، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، يجب أن تكون لهذه الموسيقى نظرة مستقبلية، أي أن لا نكتفي باجترار الماضي – ولو كان ممتازا – على اعتبار أنّه صالح لكلّ زمان. بحيث يجب أن تكون موسيقانا العربية تدور حول محور الإنسان العربي من حيث أنه كان وكائن وسيكون... حاجتنا إلى مثل هذه الموسيقى ملحّة وقيامها ضروري، وتحقيق ذلك ممكن، ولكن كيف السبيل إلى ذلك؟
سؤال يجب أن تعتمد الإجابة عليه، على جملة من المبادئ، من بينها:
- قناعة تامة بأهمية التنوّع الموسيقي وضرورته، أي التحوّل من مجتمع الجموع (المعتمد على عقدة الغرب وعولمة الليبرالية المبنيّة على النموذج الواحد المهيمن)، إلى تيار مضاد هو المجتمع الكوني واهتمامه المتزايد بالتعدّدية والاختلاط الثقافي واحترام الخصوصيات.
- الانطلاق أساسا، من جوهر المادة الموسيقيّة العربيّة ذاتها: نظامها، هيكلتها، تراكيبها اللحنية والإيقاعيّة، الآلات الموسيقية، التقنيات الصوتية، الأساليب التعبيريّة والجماليّة، الوظيفة الاجتماعيّة؛ أي من الداخل المتنوّع (بمختلف روافده)، وبمعزل عن المؤثّرات والاستعارات الخارجيّة التي صارت الهاجس بامتياز لدى عدد من المهتمّين بالشأن الموسيقي عندنا، عوض أن تُتّخذ كإضافة ممكنة حسب الحاجيات.
- لقد بات من الحتمي، اعتماد الإصلاح التعليمي والتربوي والتثقيفي لمواجهة ما يتهدّد الموسيقى العربية من تحدّيات على مختلف مستوياتها العمليّة والعلميّة، والثقافية والاستهلاكية التجارية. باعتبار الموسيقى بما تحمله من فضائل أخلاقيّة وقيم ذاتيّة، اجتماعية وحضارية، تشكّل أحد أهم مظاهر الهويّة وتأكيد الذات انطلاقا من مرحلة الطفولة، كما أن الربط بينها يعدّ من المكوّنات الأساسيّة لقيام نهضة فنية ثابتة الجذور، وعنصرا ضروريا في استراتيجية التقدّم والتنمية، سواء تعلّق الأمر بالإبداع الفنّي أو البحث العلمي.
- الاعتراف بأنّ الأسباب والأهداف المشار إليها هي أيضا من البديهيات. فجلّ الدول المعتزّة بهويتها، الغيورة على سيادتها وتأكيد مكانتها، تراعي هذه المبادئ الضامنة لتشكيل الوعي القومي وتنميته لدى مواطنيها. فالموسيقى على غرار اللغة الكلامية، بمخاطبتها للعقل والقلب معا، تبدو فاعلة ومؤثّرة في الحفاظ على الروح الإنسانية وإذكائها وتنميتها، وهي في هذا الزمن الخاضع لعولمة الاستلاب والنمطية، ضرورية لإرساء حوار متكافئ بين الثقافات، يحافظ على كينونتها وخصوصيتها.
لقد ولّـى الزّمن الذي كانت تُعتبر فيه الموسيقي أمرا ثانويا يقتصر التعليم فيه على حشو العقول بقدر من المعلومات الجافة تتنافى في معظمها، مع طبيعة الواقع الموسيقي للمجتمعات. وأنّ استمرار وضع التبعية أو الإفلات منه، يبقى رهن وعي الشعوب ومدى قدرتها وعزمها على ولوج باب التغيّر والتحرّر، وفي إيمانها واقتناعها بأنّ الانخراط الفعلي في العالمية، لا يتحقق ألا بالمحلية الخالصة. كما أنّ تكريس هذا الوعي وتعزيزه لا بدّ أن ينطلق مع مرحلتي الطفولة والشباب.