فصلية علمية متخصصة
رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم
العدد
47

شَغَفُ الثّقافةِ الشَّعْبيّة وتنميّتُه المأمولة

العدد 63 - التصدير
شَغَفُ الثّقافةِ الشَّعْبيّة وتنميّتُه المأمولة
كاتب من اليمن

 

(الشَّغَفُ Passion)، في دلالته الاصطلاحية: ميلٌ قويٌّ نحو نشاطٍ ما، يستثمر فيه الفردُ وقته وجهده؛ إيمانًا منه بأهمية هذا النشاط أو حبًّا فيه. وهو على صنفين: مادي، وفكري؛ وفقًا لرؤية (جورج برنارد شو George Bernard Shaw 26يوليو1856 -  2نوفمبر1950). 

ويبدو لي أن الاهتمام بالثقافة الشعبية شغفٌ ماديٌّ وفكريٌّ؛ لانقسام أبعادها على محورين: ثقافة مادية، وثقافة غير مادية. وهي - بمحوريها - ثقافة إنسانية، لا يخلو منها أيُّ مجتمعٍ من المجتمعات، كما لا يخلو أيُّ تجمُّعٍ إنسانيٍّ من أفرادٍ لديهم شغفٌ وميولٌ إلى هذا المنحى الثقافي، وعليهم المرور بمراحل تكوينية كافية؛ للوصول بهم إلى مستوىً متقدمٍ، من تنمية الشغف المعرفي والإبداعي. 

وفي هذا السياق، يطلُّ تساؤلٌ حولَ فاعليةِ المراحل التكوينية والتنموية، التي تُمَثِّل سيرةً لشغفِ الثقافةِ الشعبيةِ في المجتمعات العربية. كما يفتح هذا التساؤل بابًا للتعاطي مع إشكاليته، وهو ما يمكنني الولوجُ من خلاله إلى مقاربتي هذه، التي أتطرّق فيها إلى ما أراه مراحلَ سيرةٍ تكوينيةٍ لهذا الشغف، ومن ثم الوقوف على هذه السيرة في الذهنية العربية وتجلياتها العملية، مع الإشارة إلى ما يكْتَنِفُها من مظاهر التعثر والقصور. 

إن المرحلة الأولى - فاتحة الوعي الطفولي على هذا العالم من الثقافة الإنسانية - هي حكايات الجَدّات اللّواتي اضطلَعْنَ - على مدى قرونٍ - بهذه المهمة التثقيفية، وهن يُسامِرْنَ أطفالًا مخلصين في إصغائهم لما يتدفق من أفواههنّ: قصص شعبية، وخوارق بطولةٍ وفروسية، وألغاز وأحاج، وتطريزات من الأدب الشعبي، وخلاصات حِكَمِيّة، وأمثال ومرددات شفاهيّة متداولة.

وتأتي المرحلة الثانية متمايزةً عن سابقتها، بتشابكِ مؤثراتها المرتبطة بالحياة الاجتماعية والثقافية والإعلامية، منها المسلسلات، التي يغلب عليها المحتوى الشعبي، وأثرها المباشر - بوجه خاص - في الطفولة وامتدادها سنوات تالية. 

كما أن من مؤثرات هذه المرحلة - أيضًا - ما له تأثيره المباشر الشامل لتَجَاوُزِ الطفلِ خصوصيةَ الطفولة، إلى ما بعدها، سيما فترة الشباب، التي يتمكن فيها من استيعاب مظاهر الحياة بآلياتٍ مختلفة، تأتي في مقدمتها آليةُ القراءة لما يُكتب في الثقافة الشعبية، أكان هذا المقروء: كتبًا، أو صحفًا ومجلاتٍ متخصصةٍ في الموروث الشعبي، أو تلك التي تفتح له مساحةً على صفحاتها. 

كل ذلك، يعمل على تنمية الشغف، فيمن لديه ميولٌ إلى الثقافة الشعبية؛ فهو يستمتع بمواردها، وبمعية استمتاعه تتَخَمَّرُ تراكماتُها في اللاوعي من مداره الذهني. ومن ثم، تنتظم في سياقاتٍ، تتجلّى - من حينٍ إلى آخر - في بُنيتهِ الثقافية والفكرية، كلما استدعتْ الحاجةُ حضورَها، في مقامٍ من المقامات، أو معنىً من المعاني.

أما المرحلة الثالثة، فتقوم - في جوهرها - على وعي الفردِ وإدراكه حقيقةَ شغفهِ والمساراتِ التي يُمكنه العمل عليه من خلالها؛ ففي هذه المرحلة تكون المنظومة الاجتماعية والرسمية قد أسست في شخصية الفرد ما يتزَوَّد به - ويبني عليه - وهو يمضي قُدمًا في واحدٍ من اتّجاهين: الأول اتجاهٌ إبداعي، يمكن فيه أن يصير موهوبًا في قول الشعر الشعبي، كما يمكن أن يكون ممن يستهويهم توظيف الموروث الشعبي في إبداعاتهم الأدبية والفنية بأشكالها وأجناسها المختلفة. أمّا الاتِّجاه الثاني، فهو اتّجاهٌ بحثيٌّ وكتابي؛ يتعلق الكتابي منه بالعمل الصحفي: كتابات، ومقالات، وتحقيقات. ويتعلق البحثي بدراسة الموروث الشعبي، وتحليل مكوناته تحليلًا منهجيًّا، سابرًا: أبعاده الفكرية، وأغواره الأنثروبولوجية، وخصائصه اللغوية والثقافية.    

ثم تأتي المرحلة الأخيرة ثمرةً لسيرة التكوين هذه، مُتَشَكِّلَةً باتّجاهَيْ المرحلة السابقة؛ اللذين يقوم عليهما إنشاءُ عددٍ من المراكز البحثية وغير البحثية، التي تُعنى بالموروث الشعبي، ومنها - مجتمِعةً - يمكن أن تتشَكَّلُ هيأةٌ مؤسسيةٌ عليا، تُنسق جهودها: جمعًا، وأرشفَةً، ودراسة.

بعد هذا التوصيف والمقاربة لهذه المراحل، لابد من إسقاطها على الواقع العربي في لحظته الراهنة؛ فقد كان لمتغيرات الحياة الجديدة ومعطياتها تأثيرٌ كبير، على دور الجدّات في رفد الوعي الطفولي، بما تيَسَّرَ من حكايات المسامرة. 

كذلك، فإن النجاح المحدود الذي تحرزه بعض المسلسلات الشعبية العربية - من حينٍ إلى آخر - لا يحدُّ من تأثير الكم الهائل من هذه المسلسلات المشوب باجترارٍ للحياة الحديثة، في موازنةٍ ضمنيةٍ بينها وبين ماهية الحياة الشعبية، التي يتّسم التعاطي معها، بنوعٍ من الإيحاءِ إلى عجزها عن التماهي في أنساق الحياة المعاصرة.

   كما أنه غير خافٍ على أحد ما هي عليه حال طباعة الكتب ذات المحتوى الشعبي العربي؛ فهي لم تبلغ المستوى المأمول. كما أن كثيرًا مما تتم طباعته في هذا السياق - على محدوديته - ممولٌ من منظمات دولية، لها اهتماماتها بالموروثات الشعبية، كإرثٍ إنسانيٍّ كوني.

وعلى قلة الصحف والمجلات العربية ذات الاهتمام بالثقافة الشعبية، لا يمكن إغفالُ دورها الفاعل في تنميةِ شغف الثقافة الشعبية. وتأتي في صدارتها مجلة «الثقافة الشعبية»، التي تزهو مع كل عدد من أعدادها بألقٍ متجدد، غير منقطعٍ عن فجرها، الذي أشرقت به افتتاحيةُ عددها الأول، تلك الافتتاحية التي تضمّنت توصيفًا دقيقًا لسياسة المجلة التحريرية القائمة على الطموح المتجاوز مرحلة الجمع، إلى إمعان النظر في الموروث الشعبي ودراسته دراسة علمية محكمة المنهج صارمة الإجراء (العدد الأول، 2008، ص3).

أمّا المراكز والمؤسسات العربية، التي تُعنى بالموروث الشعبي، فإنها تفتقر إلى ما هو مأمولٌ منها من تحقيقِ نسبةٍ عاليةٍ في حيوية التواصل فيما بينها. كما كانت مفتقرةً إلى الانتظام تحت رؤيةٍ مؤسسيةٍ عربيةٍ شاملة، حتى بدأ مشروع هذه الرؤية خطواتِه الأولى، فيما أشار إليه الأستاذ علي عبد الله خليفة - المدير العام رئيس تحرير مجلة «الثقافة الشعبية» -  في كلمته، التي ألقاها افتتاحيةً للـ«الملتقى القومي الرابع للمأثورات الشعبية»، الذي نظّمته لجنة الفنون الشعبية بالمجلس الأعلى للثقافة بجمهورية مصر العربية عام 2009، داعيًا فيها إلى تأسيس منظمة أو هيأة عربية كبيرة، تضم كل الجمعيات والأندية والمؤسسات العربية والأفراد العاملين في مجال الثقافة الشعبية؛ لتوحيد الجهود، وتكوين تَكَتُّلٍ عربيٍّ بصوتٍ قويٍّ مسموع، يكون له اعتبارٌ ومكانةٌ ذاتُ قيمةٍ، في محافل الثقافة الشعبية العالمية. وتأسيسًا على ذلك؛ تواصل الحوارُ بين المعنيين حول تلك الدعوة، إلى أن تمخّضت الندوة العالمية ـــ التي نظّمتْها مجلة «الثقافة الشعبية»، في البحرين عام 2012 - عن تأسيس «المرصد العربي للثقافة الشعبية». (مجلة الثقافة الشعبية، العدد(23)، 2013، ص4). وبذلك؛ فقد مَثّلَ هذا التأسيس تقدمًا نوعيًّا مُهمًّا في طريق الارتقاء بالموروث الشعبي العربي، وما زال الطريق شائكًا بمستجدات الراهن العربي، المثقل بتقلباته وظروفه العاصفة تداعياتٍ ومعوقاتٍ جمة، لكنها - على ذلك - لن تفتّ في العزائم إن تم رفدُها بكل ما يعمل على استمراريتها الفاعلة.

إن تنمية شغف الثقافة الشعبية في المجتمعات العربية، بحاجةٍ إلى تكاملِ كل الجهود والأدوار الفردية والمؤسسية؛ حتى يثمر العملُ على الموروث العربي الشعبي عطاءً معرفيًّا وإبداعيًّا؛ تسمو به ومن خلاله الثقافةُ الشعبية العربية، إلى آفاق الحضور العالمي، بين ثقافات الشعوب التي نالت قدرًا كافيًا من التنمية الثقافية المتكاملة.

 

أعداد المجلة