فصلية علمية متخصصة
رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم
العدد
45

«حفظ التراث الثقافي غير المادي» ومآلات نصوص الحكايات الشعبية

العدد 45 - ندوة الثقافة الشعبية
«حفظ التراث الثقافي غير المادي» ومآلات نصوص الحكايات الشعبية
مملكة البحرين

قبل الشروع في طرح ما تم تداولهُ في الندوة المعنونة بـ«حفظ التراث الثقافي غير المادي»، نودُ الإشارة إلى أن «جامعة البحرين»، وبالتعاون مع «الثقافة الشعبية للدراسات والبحوث والنشر»، وبدعم وتنسيق لوجتسي من «المنظمة الدولية للفن الشعبي (IOV)»، أعلنوا في حفلٍ مهيب شهدتهُ الجامعة، عن إطلاق المجمع الحكائي «الحكايات الشعبية البحرينية ألف حكاية وحكاية»، الذي يعدُ منجزاً ثقافياً تحقق بجهود مائة طالب وطالبة، حيثُ تم جمع وتدوين العديد من الحكايات الشعبية البحرينية ضمن مشروع المسح الميداني لمدن وقرى المملكة، بإشراف ومتابعة وإرشاد الدكتورة ضياء عبد الله الكعبي، أستاذة السرديات بقسم اللغة العربية، في كلية الآداب بجامعة البحرين.

ومن المؤكد بأن هذا المنجز، سيعيد طرح العديد من الرؤى والأفكار والحقائق البحثية المتعلقة بجمع وتدوين ونشر النص الحكائي الشعبي، وهو ما دعانا إلى نشر هذه المجموعة الثمينة من الآراء. ففي ندوة عقدتها «مجلة الثقافة الشعبية»، بمملكة البحرين، وحضرها عددٌ من الباحثين والمختصين بمختلف مجالات الثقافة الشعبية، والأنثروبولوجيا، تحت عنوان «حفظ التراث الثقافي غير المادي»، منتصف (مارس 2016)، تمت مناقشة مجموعة من العناوين التي تتصل بهذا الموضوع، وعلى رأسها مآلاتُ جمع الحكايات الشعبية، والطرق المناسبة لحفظ هذا الإرث، وإبرازهِ لمختلف القراء والباحثين.

وشارك في هذه الندوة، التي عقدت في مقر «مجلة الثقافة الشعبية»، الأستاذ علي عبد الله خليفة، رئيس المنظمة الدولية للفن الشعبي (IOV)، والدكتور محمد النويري، رئيس الهيئة العلمية بـ «الثقافة الشعبية، للدراسات والبحوث والنشر»، إلى جنب الدكتور أحمد علي مرسي، أستاذ الأدب الشعبي والفولكلور بجامعة القاهرة، ومستشار التراث المعنوي بمعهد الشارقة للتراث، بالإضافة للدكتور عبد الله يتيم، الباحث الأكاديمي بمركز دراسات البحرين والمحاضر لعلم الأنثروبولوجيا والتاريخ بجامعة البحرين، والأستاذ عبد الرحمن مسامح، الباحث في التراث والثقافة الشعبية.

وفي مستهل الندوة، بين الأستاذ علي خليفة بأن جهوداً بذلت لجمع مختلف الحكايات الشعبية في مملكة البحرين، وقد أثمرت هذه الجهود، التي جاءت من خلال التعاون مع طلبة «جامعة البحرين»، الذين جمعوا الحكايات الشعبية من مختلف مناطق وقرى البحرين، أثمرت جمعاً ضخماً، مضيفاً أن هذه الحكايات تمتازُ بكونها جمعا من مختلف أطياف المجتمع البحريني، مع التركيز على منطقة (المحرق)، حيثُ ، من هذه المنطقة كانت البداية عام (1983)، متابعاً «ارسل (مركز التراث الشعبي لدول الخليج العربية) الدكتورة بروين نوري عارف إلى البحرين، للبدء في الجمع بالتعاون مع إدارة التراث، ممثلة بالشيخة نيلة بنت علي آل خليفة، التي كلفت مجموعة من السيدات أن يقمن بالجمع، بيد أن بعضهن لم يواصلن هذه المهمة، فيما واصلت أخريات، إلى أن بادرت الدكتورة ضياء الكعبي بمشروعها، حيثُ كلفت مجموعة من طلبتها على مدى سنوات، بجمع الحكايات الشعبية البحرينية، لينتج عن هذا المشروع، كم من الحكايات التي شكلت، في مجموعها، خمس مجلدات ضخمة».

وقد أكد الدكتور النويري، أن الجهود المبذولة في جمع الحكايات الشعبية بمملكة البحرين، نتج عنها جمع كمٍ هائل من الحكايات التي أضحى جزء كبير منها بين يدي «مجلة الثقافة الشعبية»، مبيناً أن توافر هذه المادة، فتح الباب للعديد من الأسئلة والقضايا الفكريه، أهمها «كيف يتم تحرير ما جمع مشافهةً؟ وهل يصح الإبقاء عليه بلغته المحكية أم تعمدُ جهة مسؤولة إلى تحويله إلى اللغة العربية الفصحى، خاصة إذا ما علمنا بأن المادة موجهة لمختلف فئات وشرائح القراء، من المملكة وخارجها، إلى جانب خيارات الترجمة إلى لغات أخرى؟».

وتساءل الدكتور النويري «هل علينا أن نُنقح هذه الحكايات من الشوائب، خاصة تلك الصور التي تُسيء إلى الثقافة العربية وإلى الآخر؟ وما هي المعايير التي يتم اعتمادها لفعل ذلك؟ وإذا تقرر ترك الحكايات على ما هي عليه، فما هي الهوامش التي يتوجب علينا اضافتها للتوضيح، وما هي ردود الفعل التي من الممكن أن نواجهها جراء ذلك؟»، هذه الأسئلة، كانت فاتحة الندوة التي تجاوزت إشكاليات الجمع والحفظ والتدوين، على مالها من أهمية، لتطرح إشكالية الوصول إلى طمأنينة على التراث الثقافي، وكيف تكتب نصوصهُ وتصاغ وتنشر.

الحكايات الشعبية ومآل النص

يبين الدكتور النويري بأناّ إزاء نص مكون من شكل ومضمون، «والعلاقة بين الشكل والمضمون علاقة متماسكة، لا يمكن الفصل بينها، إذ أن الفصل بينهما كالفصل بين وجه الورقة النقدية وقفاها، بيد أنهُ من الناحية المنهجية، نحنُ نفصلُ بين الشكل والمضمون». وهذا ما يتوقف عندهُ الدكتور يتيم، الذي يرى ضرورة معرفة الهدف من وراء نشر الحكايات الشعبية، إذ يتساءل «ما الهدف من نشرها، اهو هدفٌ تربوي؟»، مضيفاً «إذا كان الهدف تربوياً فحدث ولا حرج، نظراً لكون الموروث الحكائي، فيه من الكلمات النابية، والإشارات غير المقبولة الكثير، إلى جانب بعض الإشارات الجنسية غير المناسبة، التي يتعففُ بعض الرواة عن ذكرها، فيما يذكرها آخرون»، مبيناً أن تحديد الهدف سيحدد بدوره طبيعة المادة المتاحة لجمهور القراء.

وجواباً عن سؤال الهدف من وراء نشر الحكايات الشعبية، يوضحُ الدكتور النويري بأنها مقدمةً للثقافة في بعدها المطلق، «نحنُ أمام ثروة حقيقية أبدعتها الأجيال المتعاقبة، التي لا يقتصرُ تقديمها على المتلقي البحريني فحسب، ولهذا علينا أن نتساءل: بأية لغة تطبع هذه الحكايات، وهل علينا تهذيب نصوصها؟».

«نحنُ إزاء مادة ثرية، تُحملنا مسؤولية وطنية»، هذا ما يؤكده الأستاذ عبد الرحمن مسامح، مضيفاً «إن أية جهة وطنية تواجه مسؤوليات في كيفية الحفاظ على المادة المجموعة، وكيف تجعلها ممكنة للتداول، وإزاء ذلك تتمثل مسؤوليتنا في كيفية طباعة هذه المادة لتكون بين يدي القارئ، وليس الإشكال في ما يجوز نشره، وإنما حق الباحث في الإطلاع على هذه المادة كما هي، والبحث فيها». ويبين مسامح «إن التجارب الموجودة في كل العالم تتمثلُ في وجود هيئة وطنية مسؤولة عن حفظ التراث، خاصة وأن مادتهُ عرضة للتلاعب والتسييس، فالحكاية الشعبية هي حكايات مروية بمختلف اللهجات، وفيها بالطبع العديد من الألفاظ غير المقبولة، إلى جانب أبيات الشعر، والحكم، بيد أنها في نهاية المطاف تمثل جزءاً من صراع الهويات المتقاتلة عبر التاريخ، فالفلاحون يتنابزون مع الرعاة، والرعاة مع الصيادين، إلى جانب صراع المذاهب، والأديان، الذي تضمهُ هذه الحكايات، لهذا نحنُ في وضع لا نحسد عليه، نظراً لكوننا أمام معضلتين، أما النشر، أو التعتيم، حتى لو فرضنا نشر بعض الحكايات المنقحة، فما تزال المسؤولية ملقاة على عاتقنا في حفظ التراث بما هو تراث».

لهذا يقترحُ مسامح أن يكون هناك شكلان من الحفظ، «الأول حفظ المادة المجموعة كما هي، وإتاحتها بإذن مسبق للباحثين؛ إذ من حق الباحثين الإطلاع على هذا الموروث ودراسته، وما ينشرهُ الباحث فيما بعد يتحملُ مسؤوليته، بالإضافة لنشر مادة منقحة، لإتاحتها للمتلقي العام، بشكل لا يسيء إلى أيٍ من المكونات المجتمعية».

وتعقيباً على ما تناولهُ الأساتذة والباحثون، قال الدكتور مرسي، بأنهُ «يتوجب علينا أن نلتفت إلى أن الهدف من جمع هذه الحكايات الشعبية، هو الهم بالثقافة الشعبية، وبدراسة عناصرها، فواحدةً من أهم الحكايات الشعبية المجموعة على مستوى الثقافة الإنسانية، هي تلك المشهورة باسم (حكايات الأخوين غريم) التي ترجمت لمختلف اللغات الحية، إلى جانب (ألف ليلة وليلة)، الذي حظي بأهمية عالمية، وهذان الكتابان تمت قراءتهم أكثر من أي شيء آخر على مستوى الثقافة الإنسانية». ويتابع «علينا، كذلك، الوقوف عند تجربة الكاتب والشاعر الدنماركي (هانس كريستيان أندرسن)، الذي وقف على مجموعة من الحكايات الشعبية ودرسها، وهي حكايات تعبر عن قيم إنسانية، يشترك فيها الناس جميعاً، مع فروقات الخصائص المحلية التي تصبغُ بها الحكايات حسب البلدان والمناطق، فحكاية (فتاة الرماد)، في (سندريلا) ستجدها في أوروبا، كما ستجدها في مصر باسم(ست الحسن والجمال) أو كما هي في الخليج العربي (فسيجرة)، ورغم اختلاف الأسماء إلا أن العناصر هي ذاتها. فهناك عناصر مشتركة في الثقافة الإنسانية».

ويبين الدكتور مرسي ذلك ليؤكد بأن الحكايات الشفهية تختلف عن المكتوبة «إن طاقة الأذن تختلف عن طاقة العين»، لهذا فإن مختلف الحكايات التي جمعها الأخوان (غريم)، و(أندرسن)، لم تكن هي ذاتها التي جمعها آخرون، فكل باحث جمع هذه الحكايات ودونها بطريقته، مع الأخذ باعتبار أن «الأذن من الممكن أن تتقبل أشياء ليست مقبولة لدى العين حين تقرأها، فعندما تستمع إلى نص يروى شفاهةً فهناك استمرارية، لا تستطيع فيها أن توقف الراوي لتقول لهُ انتظر ماذا تقول؟ لكن عندما تحول هذه الحكايات إلى نص مكتوب، فأنت تقرأها بنفسك، وتستطيع أن تقف عند هذا اللفظ أو ذاك»، كما يبين مرسي، الذي يضيف «أن الأذن تستوعب التكرار، فيما يشكلُ ذلك مللاً على صعيد النص المدون، لهذا تختلف قوانين الكتابة عن المشافهة، ما يتوجب أن نبين بأن هناك مستويات عند تدوين هذه الحكايات الشعبية؛ هناك القارئ العام، والقارئ المختص. فإن كان النص موجهاً للقارئ الأول، فإنهُ لا يهمهُ صحة ودقة النقل، إن ما يعنيه مضمون الحكايات، وهذا ما أشار إليه عدد من الباحثين، فأحد أهداف وخصائص الحكايات الشعبية، الهدف التربوي، حيثُ القيم، والعادات، والتقاليد، والرؤية الإنسانية، ولهذا فالحكايات تقوم بمهمة تعليمية وتسلوية دون قسرٍ أو جبر، وهي تسد النقص في المناهج التعليمية التي يتم فرضها على التلاميذ جبراً، لأن المجتمع يريد من أولاده أن يتعلموا فهو يجبرهم على أن يتعلموا. ففي التعليم النظامي ليست هناك خيارات ديمقراطية، بعكس الحكاية الشعبية، التي ليس جبراً على الطفل سماعها، بل الطفل هو من سينجذبُ إليها تلقائياً»، وبناءً على كل ذلك يعتقد مرسي بأن تدوين ونشر الحكايات الشعبية لا يمكن أن يتم بالشكل المنطوق، إذ يرى بأن الهدف الرئيس من هذه الحكايات هو هدفٌ تربوي وأخلاقي، ويتوجب أثناء نشر الحكايات مراعاة هذا الهدف، مؤكداً «إن (حكايات الأخوين غريم) هذبت في وقتها، نظراً لكون الهدف لغوياً، ولم يكن هدفاً فولكلورياً، إذ بوصفهم علماء لغة، أرادوا إعداد قاموس للغة الألمانية، وقد جمعوا الحكايات لإحصاء الكلمات على اختلافها في اللهجات الألمانية المختلفة».

وهذا ما وافق عليه الأستاذ علي، الذي بين بأن «مركز التراث الشعبي لدول الخليج العربية» قام بتحويل عدد من الحكايات الشعبية من اللهجة المحكية إلى اللغة العربية الفصحى، ثم ترجم هذه الحكايات إلى اللغة الإنجليزية، مبيناً «إن الحكايات الشعبية تشتغلُ في إطار تربوي، فحتى الصور البشعة والإجرامية في الحكايات، تعالجُ بشكلٍ غير مباشر بعض القضايا المجتمعية في زمن تلك الحكايات، وقد تكون بعض هذه القضايا غير متناسبة مع الأزمنة الأخرى».

هنا يتوقف الدكتور النويري ليؤكد «أن اللغة التي تروى بها الحكايات الشعبية، هي ذاتها اللغة التي تصنفها (اليونسكو) ضمن التراث الثقافي غير المادي»، موضحاً بأن اللغة تمثل جزءاً من هذا التراث، ولهذا «عندما نجمع الحكايات الشعبية بلهجاتها المنطوقة، فإن ذلك يمثل تراثاً ينبغي الحفاظ عليه بكل ما فيه»، ويشير النويري إلى ما أشار إليه الدكتور مرسي عن (الأخوين غريم)، مبيناً «هناك اتجاه كامل في الدراسات اللغوية ينسب إلى هذين الأخوين يتعلق باللسانيات التاريخية والمقارنة، وأول من وصل إلى دراسة اللغة باعتبار اللغة علما، هذان الأخوان، خاصة منهما جاكوب قريم حيثُ بين من خلال دراسة نصوص مختلفة، من الألمانية القديمة، تطور الأصوات عبر القرون، وفق قواعد يمكن وصفها واستخلاصها بطريقة علمية . وتوصل إلى مابات يعرف في اللسانيات الدياكرونية بـ«قانون قريم» وبالرغم من النقد الذي وجه لهذا المنحى في الدراسة، فإنهُ لا وجود لمعطى نهائي، فالنظريات تتقارع وتتصارع، ويقوم بعضها على أنقاض بعض، بيد أنهُ من المهم الحفاظ على اللغة التي تروى بها الحكايات، فنحنُ امام معطيين: أولاً: ثروة لغوية وحكائية لابد من الحفاظ عليها من عبث العابثين، وهذا يحيلنا إلى سؤال ما إذا كان ينبغي علينا حفظ المجموع من الحكايات واتاحتهُ للباحثين المتخصصين بمختلف الوسائل، فالباحث يريد أن يقرأ الحكايات كما جاءت لغاية معينة: اجتماعية، أو لغوية، أو غاية تتعلق بالمتخيل الجماعي، أما على مستوى القارئ العادي، الذي تتوجهُ لهُ المطبوعات عادةً، فيتوجب الخروج بالحكايات من بيئتها الضيقة إلى العالم، والخروج بها لابد أن يكون عبر لغة مهذبةً لا ينبغي لها أن تنفي اللهجات، وهذا هو المعطى الثاني: طباعة الحكايات بلغة عربية مفهومة، مع انفتاح معقول على اللهجات بما لا يستغلقُ على الناس فهمه، إذ أن المطبوع ينبغي أن لا يكون هو ذاتهُ المجموع، بل ينبغي أن يكون بلغة مشتركة بين الناس، ما يمكنُ هذه النصوص من الوصول لمختلف القراء، من مختلف الثقافات». ويوضحُ النويري «إذا قرأ القارئ البحريني اليوم نصاً بلهجة بحرينية قديمة، قد تستغلقُ عليه بعض الكلمات، وكذلك الأمر في مختلف البلدان، فاللهجات المتداولة في العقود الماضية، حكمتها تطورات حتى باتت ربما يستعصي على جيل اليوم فهم الكثير من كلماتها»، وبناءً على ذلك يؤيد النويري ما طرحهُ الأستاذ مسامح، بأن تحفظ الحكايات الشعبية بشكلين، أصلي، ومنقح.

وقد أيد الدكتور يتيم ذلك، مبيناً «هناك تجارب في التراث العربي، كما لدى الجاحظ، الذي حقق العديد من النصوص عبر إضافة الشروح إلى هوامشها، وهذا الأسلوب مناسب للحكايات الشعبية، فبذلك نحنُ لا نتدخل في النص، وإنما نضفي عليه شرحاً مفهوماً للقارئ، فيما تبقى المادة الأصل متاحة لوصول الباحثين».

أما الدكتور مرسي، فقد أثار جانباً مهماً، وهو افتقار اللغة العربية للمعاجم التاريخية التي تتناول اللهجات المحكية، مبيناً «إنه لمن المؤسف افتقار اللغة العربية لهكذا معاجم، توضحُ عدم انفصال الفصحى عن اللهجات المحكية كما يتصور البعض، فالكثير من الكلمات المستخدمة هي في أصلها فصيحة، والعكس صحيح كذلك»، وتابع «إن الحكايات الشعبية تختلف من راوٍ لآخر، فتلك الحكايات التي تحتوي على ألفاظ نابية عند راوٍ، قد تجدها عند آخر بألفاظ أكثر تهذباً، لهذا فالحكايات تختلف باختلاف راويها، وزمن روايتها، وهذا عائدٌ لكون اللغة كائن حي، ففي الوقت الذي تحتوي فيه الحكايات الشعبية على ما يهم عالم الأنثروبولوجيا الثقافية وعلم الاجتماع والتاريخ، فإنها كذلك تهمُ القارئ العادي، وهذا القارئ بحاجة للغة سهلة، بيد أنهُ ليس شرطاً أن تكون اللغة الفصحى، نظراً لكون الكثير من الكلمات، إذا ما حولت إلى كلمات فصحى، فقدت معناها الشعبي، الذي يحملُ طرفةً أو مقصداً ما»، وبذلك لا يوافقُ مرسي على أن تحول الحكايات إلى صيغة عربية فصيحة، بل تحول إلى شكل مفهوم، مع الاحتفظ ببعض الكلمات، كما اقترح الدكتور النويري، وكما أوضح الدكتور يتيم، الذي أكد على ضرورة أن تكون اللغة لغة وسيطة «تتيح للقارئ العام أن يقرأ الحكايات أينما كان، مع ضرورة الحفاظ على المفردات واللهجات المحلية، بما لا يفسد الحكايات خصوصيتها».

إمكانات وصول الباحثين

إن حفظ الحكايات الشعبية كما جمعت، ضرورة كما يتفق المتناقشون، وذلك ليتسنى للباحثين الوصول لها، ودراستها، إذ يرى الدكتور يتيم، إن الأمانة العلمية تقتضي أن تتاح للباحث كافة المعلومات المتعلقة بجمع الحكاية، من تاريخ جمعها، واسم الراوي، وعمرهُ، ومنطقتهُ، وغيرها من البيانات، التي أكد الأستاذ علي بأنها متوافرة، إذ أن «الحكايات الشعبية المجموعة طبق عليها شروط الجمع الميداني بشكلٍ دقيق، حيثُ سجل اسم الراوي، وعمرهُ وأين يقطن، ومكان ميلاده.. إلخ، لهذا سيكون أمام الباحث مجموعة من الحكايات المتشابهة التي جمعت من مناطق ولهجات مختلفة، وهو من يقرر أيهما يختار وأيهما الأصوب!».

فيما تحفظ الدكتور مرسي، على مسألة أي الحكايات أصوب، مبيناً «أن التحقيق في المأثور الشعبي، مختلف عن التحقيق في المأثور غير الشعبي، فالأخير يرتبطُ بالمخطوطات، والتوصل إلى نص يقال بأن هذا هو النص المعتمد، أما المأثور الشعبي على اختلاف نصوصه، هو نص أساسي وعظيم، لهذا فإنهُ ليس هناك نصُ أساسي لتفضيل هذه الرواية على تلك، فكل الحكايات الشعبية أساسية، أما اختلافها فهو ما يهم الباحث، فيما يعنى القارئ العادي بشكل الحكاية التي لها بداية ونهاية، ولها شكل وهدف، مع إداركه بأن كل الرواة، سيحافظون على الهيكل الجوهري للحكاية»، وهذا ما يجعل مرسي، يذهبُ إلى القول بأن الهدف من نشر هذه الحكايات ليس التعليم وحسب، وإنما «هدفها الإمتاع، واستثارة الخيال، وغيرها مما يهم القارئ».

مضمون الحكايات الشعبية

في سياق مناقشة مضمون الحكايات الشعبية، أكد الدكتور النويري أن كل التراث الثقافي غير المادي معني بالمنظومة القيمية التي تؤمن بها الجماعة في مُثُلها ومبادئها وتصوراتها لطبيعة العلاقات الإنسانية، حيثُ يمرر هذا المضمون من السابقين إلى اللاحقين عبر منظومة اللغة، وأهم تجلياتها الحكايات الشعبية، التي تحتوي على قيم خالدة لا يؤثر فيها تغير الزمن؛ كالصدق، والأمانة، والشهامة، والخير والجمال والعدل، والحب.. إلخ، بيد أن هناك أمور متغيرة بتغير الزمن كعلاقة الأفراد بعضهم ببعض، ونظرة شرائح المجتمع إلى المجتمع الآخر، الذي يعتريها التطور، ويبين النويري «عندما نتأمل الحكاية الشعبية، نجد فيها الغث والسمين، فمثلاً هناك حملُ ثقافي متعلقٌ بالنظرة الدونية إلى المرأة، والنظرة إلى الآخر بوصفهِ كافراً، إلى جانب النظرة الدونية إلى اليهودي، فالحكايات الشعبية بما فيها من جميل، فيها كذلك الشيء الكثير من الأمور غير المقبولة في واقعنا اليوم، كالألفاظ النابية، والسلوكيات المنحرفة، وغيرها»، لهذا يلحُ النويري على ضرورة دراسة المضمون، وتنقيحه، بيد أنهُ يتساءل «ماهي المعايير والمقايييس التي يجب أن نستند عليها في التنقيح والتشذيب، بحيث تتلاءم نصوص الحكايات الشعبية مع المثل العصرية، التي أضحينا نتشاركُ فيها مع غيرنا؟».

وتعقيباً على هذا التساؤل، يتحفظُ الدكتور مرسي، على مسألة التنقيح والتشذيب، مبيناً «هناك فرق بين البحث العلمي والمسائل العامة الأخرى، فخلال تجربتي الأكاديمية، أوقفني عددٌ من الأساتذة الكبار، أثناء مناقشتي لرسالة الماجستير، لأني قمتُ بتنقيح الأغاني الشعبية وتحويلها إلى نصوص مهذبة، وما أزال أتذكر حديث المشرفة على هذه الرسالة، حين قالت: (على أي أساس قمت بالتصرف بالنص الشعبي؟)، فبينتُ لها بأن النص الشعبي لا يصلحُ لأن يقال بكل ما فيه، نظراً لما يحتويه من كلمات وألفاظ نابية، فعقبت: (إن النص الذي خجلت من ذكره، هو النص الشعبي، وما قمت بتعديلهُ ليس سوى نصُ معدل أنت من نحته)، وأضافت: (ليس في العلم تابوهات، ولا يصحُ في الرسائل العلمية أن تتصرفُ كما تشاء، لأن هذا مخجل أو هذا نابي، قد تكون حراً في التصرف فيما ستنشرهُ للعامة، بيد أنك لست حراً فيما يتعلقُ بالدراسات العلمية المحكمة)».

من جانبه بين الدكتور يتيم، بأن «هناك فلسفة للنشر، تترتبُ عليها مسؤوليات أخلاقية وأكاديمية، بيد أن النشر الموجه للعامة يختلفُ عن النشر العلمي، لهذا ستجدُ نسخاً مختلفة لمؤلفات (شكسبير) أو (ديكنز)، كما ستجد نسخاً موجهة للكبار وأخرى للصغار من سلسلة (هاري بوتر) مثلاً، وهذا مفقود في عالمنا العربي للأسف، لهذا فإن معرفة المستهدف، مهم في تحديد فلسفة النشر». وهذا ما يتفق معهُ الأستاذ مسامح، الذي أعاد تأكيدهُ على ضرورة أن تكون النصوص الأصلية محفوظة، ومتاحة للباحثين، وذلك لتتبع تطور واختلاف اللهجات والقصص من زمان لآخر. وقد عبر النويري عن مساندته لهذا الرأي . مبينا الفرق بين نصوص متاحة للجمهور العريض من الشباب والأطفال وأخرى متاحة للباحثين. الباحث عليه أن يتعامل مع النص كما جاءه. أما الحكاية التي يقرأها الأب أو الأم للطفل قبل نومه لا يحسن أن تحتوي ما يشوش تربيته كالنظرة الدونية للمرأة أو التحقير من الآخر بسبب لونه أو ديانته .

وقد عاد الدكتور مرسي ليبين أن «الحكايات الشعبية، تختلفُ باختلاف المستمع، وهذا أمر مرتبطٌ في جوهره بفلسفة النشر، إذ تجدُ الراوي، يستبدلُ بعض الألفاظ، بل وحتى مسار الأحداث، حين يروي الحكاية إلى أطفال، عن ما سيقولهُ لو أنهُ رواها للكبار، فالحكاية ليست قالبا جامدا، بل شكل متحرك حسب الفئة المستهدفة، فالراوي يدركُ بحساسية طبيعة السياق الحكائي ومن يحكي لهم، بيد أن الناشر لهذه الحكايات، لا يمتلكٌ سياقاً، كالسياق الذي يراهُ ويتلمسهُ الراوي أثناء حكاية الحكاية»، وهذا ما شدد عليه الدكتور النويري، إذ أكد بأن «مقام الحكي غير مقام الكتابة، نظراً لكون الراوي في مقام الحكي يرى من يروي لهُ الحكاية، ويزنُ كلامهُ على أساس ذلك بالتعديل والتهذيب».

ويتفقُ الأستاذ مسامح مع كل ذلك، مبيناً «نحنُ إذاً أمام إشكاليات واستراتيجيات النشر والكتابة، والمطلوب منا كجامعي حكايات شعبية هو أن نلتزم المعايير العلمية والأخلاقية والاشتراطية، لجمع وحفظ هذا الموروث الشعبي، وهذا بطبيعة الحال، خاضعٌ لعنصر الزمن، فهذه المعايير والاخلاقيات تختلف من قرن لآخر، بل من عقد لآخر، بيد أن كل ذلك مقتصرُ على النشر العام، فيما الحفظ والتوثيق، يتوجب أن يبقى بشكلهِ الأصل، حيثُ يطمئن الباحث بأن هناك وثائق تحفظُ هذا الموروث بكل أشكاله، ويمكنُ الرجوع إليها في أي وقت».

وأكد على ذلك الدكتور مرسي، الذي بين بأن أحداً لا يمكنهُ تغيير (الموتيفات) الشعبية، لا على صعيد الشكل، ولا على صعيد مسار الحكاية، مضيفاً «إن ما يمكن لجامع هذه الحكايات أن يغيرهُ هو بعض الجوانب الهامشية، دون المساس بالعناصر الأساسية المشتركة للحكايات، وهذا ما تتعرضُ لهُ الحكاية في سياق تداولها بين الناس، والمجتمعات، والأزمنة، وتأكيداً على ذلك، يروي مرسي ما حدث لهُ أثناء تدريسه في الجامعة، إذ طلب من تلامذته أن يكتبوا الحكاية الشعبية كما يرويها هو، فبدأ بروايتها، وتسلم منهم تدويناتها فيما بعد، ليكتشف بأن عدداً من الطلبة حولوا (الشاطر حسن) من درويش هائم على وجهه، إلى راعي، وبعد أن دقق في أسماء المدونين وجدها لطلبة من وسط أفريقيا، فسألهم عن سبب تحويلهم (الشاطر حسن) من درويش إلى راعي، حيثُ بينوا بأنهم أعادوا السياق إلى منبعهم الثقافي، بيد أنهم لم يفقدوا الحكاية جوهرها.

من جانبه شدد الدكتور النويري على جوهرية اللغة في تدوين الحكايات الشعبية، مبيناً «إن اللغة التي تستخدم لنشر الحكايات الشعبية، وإمكانية تهذيبها، قضية جوهرية تتعلقُ بثمرة النص، ومآله، فالسؤال: هل سيكون لهذا النص صداهُ في أوساط الشباب المحلي؟ وهل سيكون لهذا النص صيرورة؟ وهل سيكتسح هذا النص مجالات مختلفة أم سيبقى نصاً باهتاً وكئيباً؟» لهذا يرى النويري «وجوب البحث عن من هو مؤهل للتعامل مع هذا النص، ليقوم بالاشتغال عليه».

وتعقيباً على ما طرحهُ النويري، لفت الدكتور مرسي إلى أن استخدام كلمة «تهذيب» للنص لا يجوز، نظراً لكون أحداً ليس مخولاً بتهذيب النص الشعبي الذي سبق لهُ الشيوع منذُ أزمنة، إنما «يفضلُ اختيار النص الأكثر أخلاقية، والإبقاء على باقي النصوص، كيفما كانت، محفوظة للرجوع إليها كما اقترح سابقاً».

فيما أكد الدكتور النويري على جانب من جوانب الأدب وهو الإرتقاء بذائقة المتلقي، مبيناً «الحكايات الشعبية شكل من أشكال الأدب الشعبي، وعليه يتوجب أن تكون ضمن سياق الالتقاء بعقل المتلقي، وتأخذهُ إلى آفق أكثر رحابة من الأفق الذي ينزل إلى مستوى العامة، ويتقوقع فيه، لهذا يجب أن يفهم النص الحكائي بوصفه نصاً إبداعياً ينبغي أن يرتقي بذائقة المتلقي ككل الأجناس الأدبية الأخرى، فإن لم يقم بذلك، ولم ينم المخيلة، ويعزز القيم في ذات قارئه، فلا خير في هذا النص»، وتابع النويري «أنا أصر على ضرورة أن يكون النص المنشور للعامة، نصاً مشذباً من كل حوامل النص التي لا تتماشى مع المثل في العصر الحالي، إذ يجب ألا يجرنا الوجه الآخر من الموروث الشعبي إليه بكل سيئاته، بل يجب أن نجر النص إلى فضاءاتنا المعاصرة. ومع ذلك أدعو مرة أخرى إلى أن تبقى نصوص الحكاية الشعبية على حالها إذا ما تعلق الأمر بالباحثين الرشد».

وهنا لفت الأستاذ مسامح، إلى أن القيام بذلك، لن يوقف النص الشعبي المتداول، «إننا بفعل ذلك لا نستطيع أن نوقف الناس عن استمراريتهم في إنتاج الحكايات بكل غثها وسمينها، وكما هي موجودة لدى الناس سابقاً، سيستمرُ الناس في إنتاجها الآن ومستقبلاً، لهذا ما نزال نشهدُ في وسائل التواصل والعديد من المنصات، محاولات لاجتثاث الآخر؛ الآخر الديني، والطائفي، والثقافي، والإثني.. إلخ، فالنص رهين الحالة الثقافية العامة، إذ عندما تتحققُ إشاعة القيم النبيلة، سيرتقي النص بارتقاء الناس أنفسهم».

إلى ذلك لفت الدكتور النويري، أن النصوص التي من المقرر أن تنشر لمختلف اللغات والثقافات العالمية، يتوجب أن يراعى فيها عدد من العناصر، أهمها كما قال «مراعاة طبيعة العلاقات بين الشعوب، بحيث يتم اختيار تلك النصوص التي تجعلُ الثقافات المختلفة منسجمة مع الثقافات الأخرى بأبعادها الإنسانية الشاملة».

بيد أن الدكتور مرسي، أصر على أن «القيم التي يحملها الموروث الشعبي، هي نفسها على صعيد مختلف ثقافات العالم، كقيم الحق، والعدل.. إلخ»، مبيناً «إن ما يختلف بين مختلف الحكايات الشعبية، هي الصورة الخاصة التي تستخدم في التعبير عن هذه القيم الإنسانية العليا»، وعليه يرى مرسي بأن مراعاة الاختلافات الثقافية، ليس بالأمر الجدير بالتحفظ عليه، نظراً لكون الباحث سيبحث عن المشتركات في مختلف الحكايات لدى مختلف المجتمعات، وسيستطيع التمييز بين القيم المشتركة، وتلك الخاصة التي تخصُ شعب عن آخر. لهذا يدعو مرسي إلى ضرورة «أن يكون الهدف من نشر الحكايات هو إيصالها إلى الأجيال الحالية والقادمة».

غير أن الدكتور النويري أكد على أن «دراسة الحكايات الشعبية مهمة، خاصة تلك الدراسات التي تبرز الأبعاد الجمالية، والمثل العليا التي تجسدها، بالإضافة لدراسة الرموز والعناصر التي تحتويها، والتي قد تبدو للقارئ بأنها عناصر بسيطة، بيد أنها ذات دلالات ورموز تربوية، إذا ما حللناها من وجهة نظر أنثروبولوجية، فالباحث الذي يمتلك أدوات الدراسة، قادر على استنباط هذه الدلالات، واستثمار مختلف نصوص الحكايات الشعبية»، مبيناً أن في تونس، قام أحد علماء الاجتماع المعروفين ( بوحديبة ) بتحليل عدد من الحكايات الشعبية التونسية ، وقد استنتج بأن هذه الحكايات التي تبدو في الظاهر بسيطة، ومجرد حكايات تسلوية خالية من الدلالات، تحملُ حملاً ثقافياً وتربوياً وأخلاقياً في غاية العمق والأهمية، لهذا يؤكد النويري «إن أهمية دراسة هذه الحكايات ضرورة من ضرورات كشف المدلولات، وتبيان العمق الثقافي».

وقد أيدهُ الدكتور مرسي، الذي أضاف «إن ذلك يجرنا لضرورة أن تنشر الحكايات بمقدمة ترشد القارئ إلى مفاتيح النص، يقوم بكتابتها مختص، قادر على أن يرشد القارئ العربي بذات الدرجة التي سيرشد فيها القارئ البحريني لحكاياته الشعبية، لهذا يجب أن تقدمُ كافة النصوص بمفاتيح إرشادية»، مبيناً أن ذلك لا يعني أن تترجم كافة المفردات من المحكي إلى الفصيح، «فالقارئ يجب أن يجتهد في سياق استكشاف المعنى، وما وراءهُ من دلالات».

أعداد المجلة