دور الثقافة الشعبية في بناء النص الروائي
العدد 65 - أدب شعبي
في جميع أنحاء المعمورة، ترتبط الآداب بالثّقافة الشفهية، نظراً لحضورها الكبير والجلي في كثير من التحقّقات الأدبية، بل تصير في كثير من الأحيان مؤسّسة لرؤيتها الفنية، خصوصاً في الروايات ذات الخلفية المابعد استعمارية. نحاول من خلال هذه الورقة فحْص بعض عناصر الثّقافة الشّفهية المؤسّسة للعالم الرّوائي في روايتين تندرجان في روايات ما بعد الاستعمار؛ الأولى كسبان حتة (2006) للروائي المصري الراحل فؤاد قنديل والثانية زريعة البلاد (2004) للكاتب المغربي الحبيب الدائم ربي. سنبرُز في هذه الورقة كيف يسْتثمر هذان الكاتبان مقومات الثقافة الشّفهية في بناء نصّيهما الروائيين، من حكايات وأمثال وكنايات وحوارات ونُكت وخوارق وأساطير وسلوكات وقيَم دون أن نغفَل اللغة وما تختزنُه من حمُولات معبّرة.
نظراً لتعدّد سياقات وغايات استعمالاته، يحفُل مفهوم الثّقافة بحمولات دلالية متنوّعة، من بينها أنّ الثقافة تحيل على تلْك الممارسات المعيشة أو الإيديولوجيات العملية المميّزة لنمط حياة مجموعة بشرية، والملحوظة على مستوى سلوكات ومواقف أفرادها وردود أفعالهم حول كل ما يخضعون له من مؤثرات وتمنحهم الشعور بالانتماء والهوية1، والذي يتم التعبير عنه في لغتهم اليومية التي تعدّ الشّكل الثقافي الأسمى لدى كل الجماعات البشرية في جميع أنحاء المعمور، بل يمكنها (الثقافة) أن تنتقل إلى أشكال التّعبير الفنّية الخاصّة بجماعة معيّنة، بوعْي أو لا وعْي النّاشطين الفنّيين المُنْتمين إلى تلْك الجماعة.
من المعلوم أنه لا وجود لإبداع أدبي من دون المزاوجة بين القدرة التّخييلية للمبدع والعالم المرجعي الذي يحاول تصويره حسب ذاتيته ومنظوره الخاصّين2، نظراً لوجود تداخل كبير بين المُبدع وذاتيته والعالم المتخيّل بكل خصوصياته الثقافية وأساليبه في الحياة وقواعده المُنْعكسة في سلوكات أفراده ورؤيتهم للعالم وحمُولاته الإيديولوجية التي تظلّ آثارُها حاضرة في العمل الإبداعي حين يخرج إلى حيّز الوجود، وتظلّ من سماته المميّزة، بل تدخل أحياناً في إوالياته الإبداعية. ويختلف ذلك من مجتمع إلى آخر ومن ثقافة إلى أخرى، ومن عمل أدبي إلى آخر، وطبْعاً من كاتب إلى آخر، رغْم أن العمل الإبداعي يُنسب عادة إلى كاتب مفرد، لكنه يظل دوماً نتيجة تفاعل الفرد مع محيطه الثقافي خصوصاً حينما يتعلّق الأمر بالنصوص المنتمية إلى جنس الرواية.
على الرغم من طول التّجاهل الذي يعترض الثقافة الشفهية من قبل نظيرتها العالِمة، فإن الشفهية تظلّ هي أساس كل آداب العالم؛ لأن الإنسان يعرف كيف يتكلّم قبْل أن يتعلّم كيف يكتب. وفي كتابة العمل الأدبي عموماً وفي الجنس الروائي بشكل خاص، نجد بجلاء كبير مُمارسة للشّفهية من خلال الحكايات والأمثال والتعاويذ والمقارنات والأساطير والحوارات والألغاز. يتعلّق الأمر بانعكاس لحالة ثّقافة وحضارة شعب في حقبة زمنية معينة في النّص الأدبي3.
من أهمّ تلك السّمات الثّقافية، التي تجسّد حضوراً قوياً في العديد من النّصوص الروائية العربية، نجد الثقافة الشفهية، بل تغدو إوالية مؤطّرة ضمن تيار ما بعد الاستعمار المؤسّس للكتابة الروائية فيها، سواء وعَى بها كتابها أو لم يعوها، والتي تروم إعادة الاعتبار للمهمّشين ولتصوراتهم وقيمهم التي تحكُم نظرتهم للعالم كما تعيد الاعتبار لمشاعرهم المخبّأة وراء أفعالهم الإنسانية4، عبر منحهم أصواتاً داخل النصوص الروائية، لأن النزوع ما بعد الاستعماري كتصور روائي مقاوم للهيمنة والمركزية يراهن، في تحقّقاته النّصية، على إعادة الاعتبار للإمكانات السّردية التي تحبُل بها الثقافة المحلية، وبشكل خاص الحكاية الشعبية التي تختزن الثقافة المحلّية بقيمها وتصوراتها ورؤيتها للعالم، وجعْلها مقوّماً من مقومات الكتابة الروائية.
ويجد الكاتب الروائي نفسه أمام خيارين؛ إمّا أن يستقي مادّته الحكائية من التّقاليد الشّفهية، أو يستقي من هذه الأخيرة طريقة الصوغ الحكائي. كل ذلك يندرج في إطار إعادة الاعتبار لهذه الثقافة التي تم إسكاتها من قبَل الخطاب المركزي بُغية تحريرها واستثمارها في الرّواية؛ خصُوصاً وأنّنا لا يُمكن عزْل الكثير من النصوص الروائية عن الخصوصيات الثّقافية المميّزة للعوالم حيث تجْري أحداثها.
لمقاربة موضوع كيف تعملُ الرّواية العربية التي نزْعمُ أنها تندرج ضمن رواية ما بعد الاستعمار القائمة في أساسها على هدم المركز من جهة وعلى تحرير الثقافة المحلّية من طي النسيان والتّجاهل من جهة أخرى5 وجعلها مقوماً أساسياً في كتابة النّص الروائي وتحقّقه، سنحلّل روايتين؛ الأولى كسبان حتة للروائي المصري الرّاحل فؤاد قنديل6 والثّانية زريعة البلاد للكاتب المغربي الحبيب الدائم7ربي.
1. جدل السّيرة الشعبية والرواية في رواية كسْبان حتة:
يؤمن الروائي المصري الراحل فؤاد قنديل، شأنه شأن الكثير من الروائيين العرب بأن الرواية جنس أدبي مفتوح قادر على التكيّف مع كل الثقافات وقابل لاستيعاب بعض وسائلها في التعبير، وبشكل خاص أشكالها السّردية من أساطير وحكايات وسير شعبية، نظراً لقربها من وجدان الشخصيات المنغمسة في هذه الثقافة، من جهة، ولقُدرتها على التّعبير عنها وتشخيصها، انسجاماً مع طبيعة الجنس الروائي المميز بالقدرة على التغلغل في الأعماق الفردية والجماعية8.
وانسجاماً مع الطابع المفتوح والإشكالي المؤسّسين للجنس الروائي، يبدو لنا أن الكتابة الروائية في رواية كسبان حتة تنبني على رصْد مجموعة من المفارقات الوجودية في حياتَي السّارد والبطل في صيغة جدل يتمّ من طرف واحد يصوغُه السّارد، مُتّخذاً من التّجربة الوجودية النّاجحة والمثيرة لابن خاله كسبان (بطل الرواية) حافزاً يدْفعُه إلى البوح بتجربته الحياتية الفاشلة، على شكل مساءلة مزدوجة للبطل تروم تفسير سرّ نجاحه في حياته (البطل) والتّصريح والكشف عن فشل الذات (السارد). ذلك الحوار الذي يتجاوز السارد والبطل إلى جدل غير معلن بين الرواية كجنس أدبي والسيرة الشعبية المنغمسة في وجدان الشعب المصري، بل يمتد إلى إثارة إشكالية تداول وتلقّي الرواية، مما يجعل السّرد في رواية كسبان حتة يضطلع بوظيفة ميتاروائية تحوّل الرواية نفسها إلى موضوع للتفكير والتأمل من داخل سردها. ويجد السّرد تبريره ومسوّغه في هذه الرواية في سبَبين موجِّهين:
- أولهما؛ مقارنة السارد بين تجْرِبته الحياتية وتجربة ابن خاله كسْبان بطل الرّواية ومآلاتهما وتأثيرهما عليهما وعلى من يحيط بهما من الناس وفي نظرتهم إليهما،
- ثانيهما؛ مُحاولة السّارد فهم وتفسير بعض أفعال هذا البطل الغريبة انطلاقاً من معين الثقافة الشّفهية وبشكْل أساس السّيرة الشعبية التي تغدو بمثابة معين معرفي يعتمده الكاتب لسبر أغوار شخصية أبطال روايته.
1.1.تقابل السّارد والبطل:
تتميز رواية كسبان حتة بأنها قائمة على بناء سردي يرتكز على مقارنة يجريها السارد بين تجربته الحياتية المليئة بالإحباطات والخيبات وبين تجربة بطل الرواية كسبان الحافلة بالانتصارات المتواصلة والمثيرة للناس حوله. يقدّم من خلالها السارد تمايزاً واضحاً بين حكايته الواقعية الموسومة بالرتابة وبين حكايات البطل العجيبة المليئة بالمفاجآت السارة؛ وذلك على عدة مستويات:
- حكاية البطل أكبر من حكاية السارد إذ غطت الرواية ككل، وغدَت محلّ إعجاب النّاس داخل القرية وخارجها، بل دخلَت إلى المخيلة الجماعية، وأصبحت تُروى في قصائد شعبية لشاعر محلي، يقول السارد: «لم تغِب سيرتُه تماماً عن البلد ولا عن الناس، فقد ظهرت موهبة الشّعر العامي والزّجل لدى شاب من أبناء القرية اسمه رضوان الروبي، لفتت نظره مغامرات كسبان فكتب عنه قصيدة أعجبت سامعيه، ثم كتب ثانية وثالثة، وأصبحت مادّة من مواد السّمر، وأمسى الناس جميعا يطلبونها... وانتقلت إلى قرية أخرى»9 أما حكاية السّارد فلا تتجاوز سوى صفحات قليلة، ولا تستدعي أن تُحكى أو تتناقلها الأفواه، يقول السّارد ملخّصاً حكايته مؤكدا على مللها وسأمه منها: «هكذا سافرتُ إلى البلاد العربية الخليجية للعمل، وهكذا تزوجْتُ من الفتاة التي لم يكن من المناسب الزّواج بها، هكذا وضعت أموالي لدى اللّصوص الذين وعدُونا بأكْبر الأرباح... وهكذا انتهيت إلى إدمان الدروس الخصوصية.. لقد اشتريت سيارة للمرور على الطلبة، والحصول على أجور عالية لقاء الدروس المنزلية. لكن الخسائر أيضاً كثيرة، فأولادنا ليسوا كما نود، وبعضهم يرسب، ومنهم أولاد يعانون من التخلّف الذهني، والخلافات كثيرة مع أمهاتهم.. الحمد لله.. أنا لا أشكو، ولكن حالتك دائماً تعيد إشعال النّار، الكامن»10.
- بالنسبة للبطل كسبان يمكن الحديث عن متوالية من الحكايات وليس حكاية واحدة، بينما بالنسبة للسارد يمكن الحديث عن حكاية واحدة هي حكاية الفشل رغم التعلّم والهجرة إلى الخليج وإدمان الدروس الخصوصية والتي يتحرج المرء من سردها.
- إن حكاية سارد رواية كسبان حتة حكاية فشل، يقول السارد: «وهكذا انتهيت إلى إدمان الدروس الخصوصية.. حتى لقد اشتريت سيارة للمرور على الطلبة، والحصول علي أجور عالية لقاء الدروس المنزلية. لكن الخسائر أيضا كثيرة، فأولادنا ليسوا كما نود، وبعضهم يرسب، ومنهم أولاد يعانون من التخلف الذهني، والخلافات كثيرة مع أمهاتهم»11 بينما حكاية البطل كسبان حكاية كسْب، ويبدو ذلك من خلال الاسم الذي يحمله والذي جاء علي صيغة المبالغة فعلان والذي استقاه الكاتب من الثقافة الشفهية، يقول السّارد مقارناً بينه وبين البطل كسبان: «كم هو رائع ذلك المقود الذي تمسك به جيداً وتقبض به على فك حصانك، فلا ينطلق إلا حيث تريد، ولا يميل إلا تبعاً لرغْبَتك، وإن كنتُ أثق أن ما بك من خصال ليس من صنعك، وطريقك ونهجك خطهما الله.. وأراد الله لي طريقاً آخر..آه.. فهل جنيت من تعلّمي ومؤهلي وأسفاري ودروسي ربع ما جنيت أنت؟.. أنت؟»12.
- حكاية سارد الرواية حكاية عادية ومألوفة بينما حكايات بطلها مليئة بالإثارة والتشويق، تتّسم بالغرابة والعجائبية المترسّخة في الثقافة الشّعبية المصرية وما تفتحه من مسارات سردية موسومة بالواقعية السحرية، يقول السارد، محاولاً تفسير غرابة كسبان: «ربما كانت يوم مولدك حيث قيل إنّك ضحكْت ولم تبك ككل الأطفال حديثي الولادة.. وإنك بصقت الماء بالسّكر الذي حاولت أن تقطّره جدّتك في فمك، وبحثت مغمض العينين عن الثدي، وهذا في العادة لا يكون…»13.
ممّا يؤكّد لنا بجلاء أن الثّقافة الشّعبية توفّر للروائي شخصية مكتملة متمثلة في شخصية كسبان؛ من حيثُ سماتها وأفعالها وردود أفعالها ومواقفها، كما أن الثقافة الشعبية بدت لنا في الرواية عنصراً مهمّاً يساعد الكاتب عبر سارده على فهم هذه الشخصية المعبرة عن الثّقافة التي جاءت منْها وكذلك في فهم نقيضها أي شخصية السّارد.
ليعكس السّرد، إذن، مفارقة صارخة بين تجربتين في الوجود أو بين واقعين إنسانيين، بلغة هايدجر، تجربة تأخذ الحياة ببساطة وتُحقّق كل ما تريد، وتجربة تُعقلن هذه الحياة فلا تحصد سوى الإخفاقات والخيبات هذا من جهة، ومن جهة أخرى تؤشر على مفارقة بين بطل السيرة الشعبية (المتمثل في شخصية البطل) وبين البطل الروائي الإشكالي (المتمثل في شخصية السارد).
1.2.الانتصار للسيرة الشعبية:
إن قارئ هذه الرواية يلمس، منذ البداية، أن السارد ينهج أسلوباً تشويقياً يشدّ القارئ ويستميله ويُرغمه علي مُتابعة القراءة، ويدفعه إلى البحث عن هذا السّر العجيب الذي يميز شخصية كسبان، عبر انفتاح الرواية على أساليب السرد التقليدية الشفهية وأساساً السيرة الشعبية انسجاماً مع خصوصيات البطل التي تقتضي هذه الأساليب، يقول: «هل رأى أحد منكم مثل هذه القطعة البشرية الخشنة؟.. هل التقاها… وتعرّف عليها؟ واستشعر الغرابة في كل ما يصدر عنها من سلوك، فاخضرّت في روحه فجأة حقول الدّهشة»14.
وسُرعان ما يندمج القارئ في الرواية ويتتبّع أخبار وحكايات وأفعال بطلها الغريبة، فيفاجئه السّارد بتساؤلات وتعليقات ذات نبرة استفهامية، تؤشّر على تقابل صارخ بين استفهامات السّارد الإشكالية المعبرة عن توتّره مع واقعه، وبين البطل القادم من عوالم شعبية تغيب عنده انشغالات وتعقيدات المثقّف وأسئلته، يصل في بعض الأحيان إلى درجة المواجهة بين السارد والبطل، عبْر أسئلة يوجهها السارد إلى البطل الذي يعد المخاطب الرئيسي في الرواية، ولا يتم السرد من دونه، يقول السارد مثلاً مخاطباً كسبان: «ما الذي دفع بك يا كسبان إلى عالم الأساطير والحكايات؟»15 محاولاً البحث عن الأسرار الكامنة وراء الأفعال الغريبة التي يقوم بها كسبان، يقول السارد مستغرباً: «تكسّر بأسنانك عشرات المسامير، وتظل داخل شوال التبن مكتوم الأنفاس نصف يوم.. وتقلب سيارة وزنها أكثر من طن، وتعبر النار لتنقذ أهل الدار المحروقة دون أن تصاب غيْر ملابسك.. لا.. وألف لا… لا بد أن هناك سراً.. هل أنت أقوى حقاًّ، أم بالفطرة لا تزال.. أم أن يد الله عليك ومعك.. كيف يتحقّق لك ذلك وتستجيب لك الأشياء»16 كما يضطلع الاستفهام برِهَان فهْم وتفسير أفعال كسبان الغريبة: «ما زال السّؤال هو كيف أصبحت ذلك المهرّج والسّاحر، وتلك الشخصية اللافتة والغريبة؟»17 فغرابة أفعاله (البطل) جعلتْه ينتقل من الواقع إلى عالم الخرافة والحكاية. تلْك الأفْعال التي أرْبكت السّارد ودفعتْه إلى التّساؤل هل هي حقيقة أم أنها من نسج خيال الرواة؟ كسْبان الذي يأخذ دائماً الأمور ببساطة بعيداً عن تعقيدات المتعلّم والمثقف، كما هي حال السّارد الغارق في تساؤلاته.
إنه حوار غير معلن بين الرّواية ببطلها الإشكالي الذي يعيش واقعه الإنساني بدون سند، (ويتمثّل في السّارد) والسّيرة الشّعبية ببطلها كسبان، يقول السّارد: «يندفع الجميع بالضحك، قاطعين الحبْل المشدود لحماس كسبان، ويفرح الأطفال وهم يتصورونه عنترة»18 حوار يرصد المُفارقة بين عالم الرواية وعالم السّيرة الشّعبية. فإذا كان بطل السيرة الشعبية يقوم بأفعال خارقة للعادة، ويصل إلى كل أهدافه، ويحقّق الشهرة، فإن بطل الرواية إشكالي يعيش في عالم خال من المساندة، يعاني الفشل والخيْبة رغم التعلّم والهجرة إلى الكويت، وامتهان الدروس الخصوصية.
لقد استطاع كسبان أن يحقق كل ما كان يطمح إليه وما لم يكن يطمح إليه، وتمكّن في الأخير من أن ينصّب عُمدة في قريته، وحقّق الشهرة، في المقابل لم يحقّق السارد أبسط متمنياته، وظل غارقاً في تساؤلاته وعزلته بعيداً عن الأضواء. أليس في ذلك تلميح إلى تبرير انتشار السيرة الشعبية بين أوساط كبيرة من الجماهير وانحصار الرواية في جمهور محدود؟ يتعلق الأمر بوظيفة ميتاروائية تتوارى وراء جدل السارد والبطل، تطرح مشكلة قراءة وتلقي الرواية وانتشارها.
يدفعُنا ذلك إلى تأكيد أن فؤاد قنديل يسعى جاهداً من وراء الاشتغال على الحكاية والعجائبي والواقعية السّحرية، بإظهار الواقع اليومي في الأوساط الشعبية المصرية في غرابته الملتصقة به، إلى إثارة القارئ وشدّه إلى قراءة رواياته، في إطار استراتيجية غير معلنة، لتوسيع قاعدة تلقّي رواياته. ذلك هو الهم الذي تضطلع به روايات فؤاد قنديل، إذ تقدم رواية تستبطن وجهة نظر حول الكتابة الروائية.
خلاصة القول، إن رواية كسْبان حتّة لا تخرُج عن عالم فؤاد قنديل الروائي المؤسس على الواقعية السّحرية والسّرد المُمتع الذي يشدّ انتباه القارئ بحكايات تمتَح من معين شعبي محلّي غرائبي. والجديد في هذه الرواية هو أنّها استطاعت أن تخلق حواراً بين الرواية والتّراث السّردي المتمثّل في السيرة الشعبية الممتدة في حياة ووجدان الناس في مصر وغيرها من البلدان العربية. ذلك الحوار الذي يبدو لنا أنه يضمر سؤالاً يشغل فؤاد قنديل وغيره من الروائيين وهو: كيف نوسّع قاعدة تلقي الرّواية؟ ويجيب ضمنياً، أن الأمر ممكن عبر الانفتاح على الأشكال السردية التراثية كالسيرة الشعبية؟
2. الكتابة بالشفهي في زريعة البلاد:
يعي الحبيب الدائم ربي تمام الوعي بأن الإبداع الأدبي عموماً، والإبداع الروائي على وجه الخصوص، تـعـبـيـر عن وجود الإنسان داخل فضاء نفسي واجتماعي وسياسي، ينضاف إلى تعبيرات أخرى تمسّ مظاهر العيش لتشكّل في مجموعها خطابات ولغات يتوسل بها الأفراد وينتجونها لفهم العلائق والسلوكات19.
يظهر بجلاء انخراط الروائي المغربي الحبيب الدائم ربي في رواية ما بعد الاستعمار في اختياره لمدينة صغيرة كمكان تجري فيها أحداث روايته من جهة، ومن جهة أخرى في استدعائه للكثير من الخصوصيات الثّقافية المميّزة للسّلوك اليومي لأنماط بشرية تعيش بمنطقة دُكالة عامّة، ونواحي سيدي بنّور خاصّة حيث تجري أحداث الرّواية، والتي تتبدّى، بشكْل كبير، على مستوى اللّغة، التي تبْقى السّمة الثّقافية الأهم بالنسبة للإنسان، إذ تجسّد إلى حدّ ما الثقافة20 دون أن ننسى أهميتها في بناء الرواية من منظور حوارية باختين، والتي تنعكس أيضاً على البناء السردي لرواية زريعة البلاد، الذي يؤسس روائيته على الانتصار لما هو محلي، ويتمثل في روح الحكاية الشفهية.
يُحسن الحبيب الدايم ربي الإنصات للخصوصيات الثقافية المميزة لسلوكات ساكنة منطقة دكالة المتجلية في لغتهم المختزنة لثقافتهم، ويلتقطها ويستثمرها في الكتابة، معبّراً عن وعْيه، ككاتب روائي مشبَع بروح رواية ما بعد الاستعمار، بأهمية الثقافة المحلّية في إنتاج النّص الروائي، على غرار ما تبلور في أهم التجارب الروائية العالمية التي بنت كوْنيتها انطلاقاً من محلّيتها كما هي الحال في روايات أمريكا اللاتينية، مؤكداً على مقولة لا كونية من دون الانطلاق من المحلّية.
اللاّفت للانتباه في رواية زريعة البلاد ويخلق مفارقة مثيرة لمتلقيها هو تأسّسها كنص روائي مكتوب على الشفهي. لذلك لا يمكننا، كقراء، أن نتناول هذه الرواية دون التوقف عند أثر الشفهية كاختيار فنّي فيها والذي يبدو لنا من دون تردّد واحداً من المفاتيح الممكنة لقراءة هذا النص المثير.
2.1. توظيف اللغة العامية :
يُحيلنا إبراز أثر الشفهية في رواية زريعة البلاد على الاهتمام باللّغة والمجتمع والثقافة وأثرها في العمل الروائي، كما سبق أن أكّد على ذلك ميخائيل باختين، حينما اعتبر كِتاب فرانسوا رابلي انعكاساً للثقافة الشعبية الفرنسية. إذْ أن لغة روايات رابلي وسردها محايثان للعوالم المتحدّث عنها21. وما يصدم قارئ رواية زريعة البلاد هو استيعابها للأسلوب الشّفهي المحايث للثقافة الشفهية واستثماره في التحقق النّصي للرواية، مما يجعل كتابته الروائية تتجذّر انطلاقاً من الشفهي الذي كان أسلوبها المميز. إذ يحاول الحبيب الدائم ربي أن ينقل لنا مجموعة من الخصوصيات الثقافية بأسلوب سردي نابع من تلك الثقافة ومعبّر عنها في الآن ذاته، ليحقق بذلك تفاعلاً ناجحاً بين الرواية كنصّ مكتوب خاضع لضوابط صارمة والشفهي الخلو من القواعد أو المتحرر منها في الظاهر.
ينبغي أن نميّز بين حضور الكلام اليوْمي في الأعمال الأدبية وبين الأسلوب الشّفهي، فالأول؛ أي الكلام اليومي، يحضر في الكثير من النصوص الروائية في إطار التنويعات الخطابية والأسلوبية للرواية والتعدّد اللغوي بالمعنى الباختيني، أما في رواية زريعة البلاد التي تحكي حكاية حياة أسرة السلومي، بالتركيز على حياة وموت شخصية السلومي من منظور أهله وقبيلته. وقد تم سرد هذا الموت عبر حكايتين متناقضتين، الأولى ترى أن موت السلومي غريب وعجيب، بل حتى جنازته لم تسلم من الغرابة إذ تحولت إلى حفل، والثانية تراه نهاية عادية لحياة عادية.
العمل الروائي مبني على الأسلوب الشّفهي وروح الشفهية التي تلوّن الرواية بالمحلّية المثرية للتخييل الروائي والمحقّقة لجاذبيته على مستوى فعل التلقي. فلا يحضر المحكي الشفهي في زريعة البلاد ولا الحكاية الشفهية وإنما تحضر بنياتهما وإواليات اشتغالهما في ارتباط بالثقافة المحلية التي أنتجتهما وبنياتها الفكرية المعلنة والمضمرة. والتي تعكس مجموعة من التصورات والخصوصيات الثقافية التي ينقلها الحبيب الدايم ربي بجدارة إلى السرد الروائي ويجعلها بانية له وتاركة بصماتها الجلية عليه. ثمة بالفعل آثار للثقافة المحلّية على اللغة السردية وعلى طريقة السرد وطريقة صياغة الحكاية ونسْجها.
نلمس كقراء اشتغالاً مقصوداً من قِبل الحبيب الدائم ربي على اللغة ليضعنا أمام رواية مكتوبة بعناية لغوية فائقة، إذ يجعل من اللغة الواصفة للشخصية مُحايثة لها ولما تتحدّث عنه، ولصيقة بالمكان ووليدة له على مستوى الاستعارات والكنايات. يبدو أن هذا الاستخدام للغة يراعي الثقافة المحلية22، لأن طبيعة الخطاب تحدد مكانة وموقع الشخصية الروائية، إذ اختار الكاتب اللغة العامية نظراً لقُدرتها على الكشف عن دواخل الشّخصيات وكيف تتواصل وكيف تفكّر وكيف ترَى العالم من حولها طبيعة وإنساناً.
تتجلّى عناية الحبيب الدائم ربي باللغة بروحها المحلّية عبر المزج بين العامّية والدارجة على مستوى الحوار، وتطويع الدارجة عبْر الإعراب، والعناية بالعبارات والكلمات الفصيحة في الدّارجة بنطقها الصحيح. ليلفت الكاتب انتباهنا أولاً إلى وجود تداخل وتقارب بين اللغتين العامية والفصحى غير منْتَبه إليه، وثانياً إلى إيمانه بأن الأولى وليدة الثانية، فالكثير من العبارات المستعملة في اللغة العامية عندما ننْتبه إليها نجد بأنها عربية فصيحة خضعت لتحوير من فرط الاستعمال وبتأثير عوامل طبيعية واجتماعية. يستعمل الكاتب اللغة العامية لقُدرتها الإبلاغية عن عوالم وشخصيات محايثة لها، لأن اللغة الواصفة مُسْتقاة من الواقع البدوي. يقول مثلاً عن السلومي: «صار السّلّومي شماتة للأعداء مرقّعة من الأمام ومن الخلف»23 ثم اعتماد التشخيص الذي يستند إلى الواقع على مستوى الكنايات والأوصاف: «والأخ الأصغر ممزق بين جمل شبعان وجمل عطشان»24.
وأخيراً اعتماد الكلام على الدّعاء السّلبي عادة، وهو من خصوصيات الحوار في البادية وما يطبعه من خشونة، وهو دليل على عنف الحياة وقسْوتها وخشونة البدوي.
2.2. الجمل الاعتراضية:
ومن آثار الثقافة المحلّية نسجّل الحضور القوي للجُمل الاعتراضية التي تؤدي وظيفة داخل الكلام، وهي موقف المتكلّم ممّن يتحدث معه أو يتكلّم عنه أو السارد من سرده، والتي تعبّر عن لهجة المخاصَمة، وأغلب الجمل الاعتراضية الواردة في نص زريعة البلاد تعبّر دائماً عن انفعال أو موقف ذي نبرة عنيفة مبطّنة بالازدراء والاحتقار لمن نتحدث معه أو عنه وهي خصوصية تميّز الحديث الشفهي في البادية والتي تقال إما همساً أو يقولها المتكلم في نفسه، معبّراً عن رأيه فيما رأى أو سمع أو في حالة أخرى مقاوماً له.
تعكس الجمل الاعتراضية أيضاً توتراً داخلياً يعيشه السارد في علاقته بمحيطه ومع من يُفترض أنّه ينقل إليه الحكاية، فيشمل العنف كل الشخصيات، بل يتعدّاه إلى القارئ الذي يضعه السارد موضع امتحان، على شكل أسئلة بمثابة ألغاز يطالبه بحلها، عنونها بـ«تمارين تطبيقية (لاختبار البلادة)» وذلك باعتماد لغة عنيفة تحضر بقوة في الجمل الاعتراضية: «في نظرك (إذا كنت تستحق شرف أن يكون لك نظر) على ما يحيل عنوان «زريعة البلاد» هل على الأصالة؟ أم المعاصرة؟»25 وانسجاماً مع جو التوتر السائد في الرواية، شكلاً ومضموناً تجترح الرواية لنفسها طريقة في الحديث عن الشخصيات تُعارض أدب المناقب لكن مع التركيز على الجانب السلبي والإيجابي؛ برصْد عيوب الشخصية التي يتم عادة التحرج من ذكرها إلى جانب ذكر خصالها ومزاياها.
كما أنّ تعاليق السّارد تجعله قريباً من الحكواتي الشعبي في «الحلْقة» التي يعمل فيها على تكسير حكاياته الشعبية بالجمل الاعتراضية إمعاناً في التشويق وشدّ اهتمام المستمعين إليه. لكن السارد في زريعة البلاد يعبّر عن عدم حياده، في علاقته بما يسْرده، إذ يخلّله بجمل اعتراضية تعبّر عن موقفه المُعارض مما يقول ومن راويه الذي يكيل له جملة من الأدعية والشتائم والعبارات التحقيرية. يقول: «تقول حكاية مدسوسة إن سالم السلومي-بْغَيت ليه الضّر-عاش بمجرّد حلوله بالبنورية كذبة قاتلة، جراء الإهمال والفقصة»26.
يتعلق الأمر بخصوصيات تميّز السرد اليومي والمسكوت عنها والتي تبقى في حدود الكتمان ولا يتم التّعبير عنها إلا همساً حتى لا يسمعها من وُجّهت له. وتعبّر تلك التعاليق عن توتّر حاد بين ما يُروى من حكايات وشائعات ومن يرويها فليس هناك أي حياد للسارد. إذ توجد مسافة بين الراوي ومرويه تسْمح له بالتعليق عليه والتشكيك فيه وهو يعكس وعي الكاتب بالارتباط الوثيق بين سمات الشفهي في الثقافة المحلية وتنسيب الحقيقة المميّز للكتابة الروائية.
2.3. الإشاعة والبناء والهدم:
من التّقاليد الشفهية الحاضرة بشكل لافت في رواية زريعة البلاد نجد الإشاعة التي تعدّ عنصراً بانياً لسردها الروائي، باعتبارها خصوصية وثيقة الصلة بالحكاية الشفهية المرتبطة عادة بأشخاص، وهي تكشف عن غياب اليقين وبقاء المروي في حدود الظن والزعم. كما تؤدي إلى إفراز توتر يعبّر عنه بتناوب بين حكايتين يحكيهما سارد واحد مثل حكاية موت السلومي التي تضاربت الآراء حولها. يقول الكاتب: «لكن النميم نفث ريحاً صرصراً في رماد الحكاية. أججّ في الجمر الخابي نيراناً وقّادة. والباقي الأسوأ تكلّفت به الإشاعة… بالمجان»27.
تكسّر الحكاية القائمة على الإشاعة الحقيقة وتُبعثرها وتجعلها مصدر حوار وصراع وتنازع. فتحاول كل حكاية إبطال الأخرى، مادام هناك تعدد في الساردين لنفس الحكاية مع اختلاف وجهات نظرهم حولها إلى حد التناقض. بل تطعن حكايةٌ في صحة حكاية أخرى. فما أن تعرض حكاية حتى تأتي حكاية مضادة لها فيغدو السرد وكأنه يقوم بعملية هدْم متواصلة لنفسه، على أساس ثنائية بناء وهدم متواصلين؛ الأمر الذي يكشف لنا عن كون الحكاية غير مطمئنة إلى ذاتها، بل تُسائل ذاتها وتشكك في نفسها انسجاماً مع روح التنسيب المميزة للجنس الروائي.
هكذا استثمر الحبيب الدائم ربي الثقافة المحلّية بمنطقة دكّالة المغربية والمُتمثلة في اللغة، بحمُولاتها المحلية ومُمْكناتها التي اتخذت دعامات أساسية لتشكيل عالمه الروائي على مستوى بناء الشخصية وبناء السرد بشكل لا يخرج عن طبيعة الجنس الروائي المفتوحة بل ينسجم معها ويثريها، ويؤكد على اندراج نصه ضمن تيار ما بعد الاستعمار الذي يراهن كتابة الرواية عبر إيلاء أهمية كبرى لكل ما يمكن أن يثري الكتابة الروائية من داخل الثقافة المحلية، ليؤكد أن أساس الأدب هو التفاعل مع الثقافة الشفهية.
تركيب:
قدّمنا في هذا العمل تمظهر عناصر الثقافة الشفهية المتبناة في روايتي كسبان حتة (2006) وزريعة البلاد (2004)، وبيّنا العلاقة العميقة بين الثقافة الشفهية والنص الروائي، من خلال الدور الذي تضطلع به بعض مقومات الثقافة المحلّية في تحقق النص الروائي، وكيف استطاع كل من الروائيين استيعاب عناصر من ثقافتهما الشعبية واستثمارها في نصيهما.
وعلى الرّغم من اندراج الرّوايتين المحلّلتين أعلاه ضمْن أفق رواية ما بعد الاستعمار التي تنتصر للمحلّي على الكوني وللهامش على المركز من جهة، وعلى الرغم من انطلاقهما من الثّقافة الشّفهية من جهة أخرى، فإن رؤيتهما الفنّية وبناءهما الفني اختلفا؛ فإذا كان الروائي المصري فؤاد قنديل قد استثمر الثّقافة الشّعبية المصرية في روايته كسبان حتة من خلال خلق حوار تقابلي بين الرواية والسيرة الشعبية انتصر فيها تخييلياً لهذه الأخيرة، فإن الروائي المغربي الحبيب الدائم ربي حاول استلهام هذه الثقافة الشعبية المحلّية بمنطقة دكالة بالمغرب عبْر جعل مكوّنها الشّفهي عنصراً أساسياً في بناء روايته زريعة البلاد، وبشكْل أساسي عبْر الاشتغال على الإمكانات التي تحبُل بها اللغة العامّية المغربية في انسجام واضح مع الروح المفتوحة للجنس الروائي غير المكتمل.