البحرين - دلمون حكاية معرض في باريس
العدد 67 - نافذة على التراث الشعبي البحريني
لكل منا في حياته محطات، منها ما يبقى ماثلا في الذاكرة، نتصفح تفاصيلها كلما هاجت بنا الشجون، ومضى بنا قطار العمر إلى محطاته الأخيرة، ومن تلك المحطات ما هو مصدر فخر واعتزاز ومبعث سعادة، بكل ما تحمل هذه العبارات من معنى، وإنني في هذا المقام أعود بذاكرتي عندما كنت أعمل بمتحف البحرين الوطني، عندها قدر لي أن أكون ضمن أعضاء اللجنة البحرينية الفرنسية البريطانية الدنماركية الألمانية المشتركة التي أشرفت على تنظيم وتنسيق وتنفيذ معرضا للآثار الذي حمل فيما بعد عنوان (البحرين - دلمون) والذي انطلق في صيف عام 1999 في أولى محطاته الأوروبية من عاصمة النور (باريس) ثم انتقل إلى عاصمة الضباب (لندن) مرورا بمدينة (آرهوس) القلب الثقافي لمدينة جوتلاند وثاني أكبر مدن الدنمارك، ليستقر المعرض في محطته الأخيرة على ضفاف نهر الألب في مدينة (دريسدن) الألمانية.
وفيما يتعلق بآثار البحرين فقد كانت تجربة فريدة ورائدة بكل المقاييس وممتعة وشاقة في آن واحد، استطاعت البحرين من خلالها أن تفتح آفاقا للتعرف على إرثها التاريخي المجهول لدى البعض من الشعوب. وأن تؤكد في الوقت نفسه بأنها ليست طارئة على التاريخ بل كانت ومنذ القدم ملتقى وامتدادا الحضارات إنسانية مختلفة، وهذا ما يؤكد انفتاحها اليوم على العالم.
إن إقامة معرض أثري عن تاريخ البحرين القديم يجول مدن أوروبا ، كانت فكرة بحرينية فرنسية في المقام الأول، وعلى الرغم من أنها كانت رغبة سياسية تؤكد عمق الصداقة بين البلدين، إلا أن إقامة المعرض واجهت صعوبات كثيرة في التنفيذ ، ولعل من أبرزها وجود اشتراطات جازمة لقبول معرض عن الآثار في مركز ثقافي بحجم معهد العالم العربي في باريس. ولذا تطلب الأمر بذل جهود مضاعفة، فحضارة دلمون لم تكن معروفة لدى قطاع كبير من الجمهور الأوروبي إذا ما قورنت بالحضارات الكبرى التي تزخر آثارها لدى الكثير من المتاحف العالمية ، كحضارة وادي الرافدين في العراق والفراعنة في مصر القديمة وحضارة الإغريق في اليونان، وغيرها من الحضارات المؤثرة والتي تركت بصماتها في أرجاء كثيرة من العالم ، بينما ظلت معرفة (دلمون) قاصرة على الباحثين والمهتمين في علم الآثار، يتم تداول ذكرها في الندوات والملتقيات الموسمية المتخصصة التي تقيمها المراكز والمعاهد والجامعات في العواصم الأوروبية المختلفة.
دلمون.. مملكة تعود للعالم من جديد
يقول عالم الآثار جيوفري بيبي في كتابه (البحث عن دلمون)
«ينتابني شعور بأن الناس لا يكتشفون الحضارات المفقودة وإنما تقوم الحضارات المفقودة ، حينما ينضج الوقت بالكشف عن نفسها، مستخدمة في ذلك الغرض أية موارد وأي أناس يتواجدون. وهكذا كان الحال على الأقل فيما يخص دلمون، حيث عادت تدريجيا لتطفو على وجه التاريخ العالمي بعد أن غطيت تماما طيلة الأربعة والعشرين قرنا الماضية.لقد كانت دلمون على مدى ألفين وخمسمائة سنة حضارة مفقودة بالمعنى الحرفي لتلك الحقيقة، ضائعة بشكل لم تكن عليه الحال حتى بالنسبة لحضارة آشور أو مصر أو بابل حينما كانت حضارات ضائعة، وحتى كما كانت الحال مع الإمبراطورية الحثية ، أو بالنسبة لحضارة سومر»1.
لقد اختلف الحال مع دلمون فلم يأت التاريخ على ذكرهذه البلاد، ولم نسمع أحدا يذكر دلمون لمدة أربعة وعشرين قرنا، ولم يرد أي ذكر لها في أي كتاب أو على ورقة أو نقش.وبالمقابل فإن هذا الاسم كان اسما مألوفا على مدى ألفي عام قبل ذلك، وهي مدة مساوية للمدة التي ظلت فيها دلمون منسية. لقد كانت بلدا معروفا للتجاروالرحالة وللمؤرخين والجغرافيين، ونالت شهرة في القصص والملاحم، وفي الأديان وفي النظريات المختصة بنشوء الكون.لقد جال رجال دلمون حول العالم المعروف طيلة تلك الألفين من السنين، ووجدت أعمالهم الفنية ونقوشهم عبر المنطقة الممتدة من اليونان إلى حدود بورما2.
الظهور من ضباب الأسطورة
ليس من شك في انه قد طرأ تحول في علم الآثار المتعلق بالخليج العربي خلال الستين عام التي مضت بفضل تفجر معلومات جديدة، فقد أصبح هناك وعي متنام في الخليج نفسه وبقية العالم بأهمية تراثه. ويعود ذلك لعدة عوامل منها بروز الشعور بالهوية الوطنية، وتغير الظروف الاقتصادية، التي جعلت الدول التي كانت غنية بالنفط تبحث في وسائل أخرى لإيجاد الدخل مثل السياحة، فقد كانت مناطق مثل الخليج العربي تعتبر ثانوية بالنسبة لما يطلق عليه الحضارات الكبرى في مصر وبلاد ما بين النهرين، إلا أنه نتيجة للمعلومات الحديثة التي أظهرتها البحوث المكثفة اليوم، جعلت الاهتمام بمثل تلك المناطق في تزايد مستمر3.
إن الوقائع التاريخية تؤكد أن جزر البحرين قبل أربعة آلاف سنة، شهدت استقرار الانسان على أرضها، وقد مارس ذلك الإنسان مختلف ألوان النشاط البشري. تشهد بذلك موروثاته الحية التي قاومت كل العوامل التي يمكن أن تطمس معالمها، ففي أواخر الألفية الثالثة ومع بدايات الألفية الثانية قبل الميلاد ظهرت قوة رئيسية في الخليج تعرف في الكتابات المسمارية بمسمى (دلمون)، وهي أرض ذات طابع مزدوج فهي بلد أسطورية حيث كانت موطن (زيوسودرا)4، ومركز تجاري مزدهر، وتبين النصوص ومعها علم الآثار تمركز دلمون الحقيقة على أرض جزيرة البحرين.
فمنذ بداية القرن التاسع عشر تبين لنفر قليل من الرحالة ذلك الاهتمام الكبير بآثار البحرين الذي تأكد بعد ذلك ومع بداية الخمسينيات من القرن الماضي.عندما قامت بعثة أثرية من (متحف موزغارد)5 في الدنمارك - وربما إخلاصا منها لذكرى (كارستن نيبور) الذي قام باكتشاف الجزيرة العربية قبل مائتي عام - باكتشاف جزيرة عربية أخرى، بل تمكنت تلك البعثة تثبيت (جزيرة البحرين) في سجل تاريخ العالم، من خلال إقامة الشواهد على أن (حضارة دلمون) كانت موجودة بالفعل6.
و قد فتح هذا العمل الأثري الرائد لبعثة متحف موزغارد الطريق التي يرتادها اليوم كل علماء الآثار الذين سحرتهم البحرين وحضارة دلمون. وبفضل العمل المكثف الذي قام به مؤخرا عدد من الباحثين البحرينيين وبعثات من عديد من البلدان المختلفة، بدأت دلمون الحقيقية في الظهور من ضباب الاسطورة، وأصبح بمقدورها اتخاذ مكانها كمركز تجاري حيوي في مسارات شبكة التجارة في الشرق الأدنى القديم في تلك الفترة.وإن معلومات كثيرة جدا توفرت حول التجارة الدولية التي كان الاقتصاد الدلموني جزءا منها7.
من نفائس تايلوس إلى معالم أوال
تشير المصادر الكتابية (الكلاسيكية) عن اهتمامات الإسكندر المقدوني ومن بعده خلفائه الهللنستيين (السلوقيين) بمنطقة الخليج العربي، ففي نحو 325 قبل الميلاد، وصلت إحدى بعثات الإسكندر الكبير الاستكشافية إلى البحرين .وعلى الرغم من أن طبيعة التدخل الإغريقي على الجزيرة مثير للجدل إلا أنه من المؤكد أن تايلوس - دلمون سابقا – شهدت مرحلة استثنائية من الازدهار تحت تأثير الامبراطورية السلوقية خلال القرن الثالث والثاني قبل الميلاد. كانت تايلوس على الأرجح بلادا مستقلة استخدمت كميناء للأسطول البحري الإغريقي في منطقة الخليج.
لقد جذبت وفرة ينابيع المياه العذبة والخضراوات في تايلوس انتباه الأميرلات والكتاب الإغريق. فقد تحدث أندروستينيس ابن تاسوس وهو أحد أميرالات الإسكندر الذين زاروا الجزيرة، عن حدائق تايلوس الخلابة وطقسها اللطيف في رواية دائما ما اقتبسها علماء الجغرافيا الكلاسيكيون وعلماء النبات.وكذلك يصف ثيوفراستوس أشجار النخيل والفاكهة والقطن وحتى شجرة المنغروف الاستوائية الموجودة على الجزيرة والتي اختفت تقريبا اليوم. ثمة كتاب آخرون خلال القرن الأول بعد الميلاد ومنهم ترابو وبليني تحدثوا مرارا وتكرارا عن وفرة وجمال لؤلؤ البحرين الشهير، والذي تم الكشف عنه من خلال أعمال بعثات التنقيب عن الآثار في مواقع مختلفة8.
وتؤكد تلك الكتابات أن الجزيرة يديرها حاكم من أهلها، وقد استفادت جزيرة تايلوس من صلاتها التجارية مع الإغريق، وتؤكد اللقى الأثرية انفتاح تايلوس وتفاعلها مع الشرق الأوسط الهللينستي، بالإضافة إلى الدور الهام الذي لعبته في انتشار الثقافة الهللينستية .فإن العثور على بعض النقوش الإغريقية خلال التنقيبات يشير إلى أن بعض سكان تايلوس تحدثوا اللغة الإغريقية، كما أن الأواني الفخارية والمسكوكات والتماثيل تظهر بوضوح التبادل والتنوع الثقافي في تايلوس9.
ولقد خلف الفرس الإغريق في السيطرة على منطقة الخليج، واستمر ذلك حتى حوالي القرن الثالث قبل الميلاد.وحتى انتشار الإسلام كان سكان البحرين على اتصال وطيد مع أبناء عمومتهم عرب الجزيرة العربية تجاريا وحضاريا على الرغم من إلحاق الملك شابور الثاني جزيرة البحرين بالامبراطورية الفارسية 10.
رحلة من المعرفة في انتظاركم !
واستعدادا لإقامة المعرض تم تكوين لجنة من خبراء الآثار من البعثة الفرنسية تحت إشراف الدكتور بيير لومباد بالتعاون مع خبراء بحرينيين من متحف البحرين الوطني، تقوم بدراسة دقيقة لاختيار أفضل وأندر القطع ذات القيمة الأثرية، لتكون النموذج الأمثل المعبر عن مختلف الفترات التاريخية التي مرت بها مملكة البحرين، فكان (رأس الثور البرونزي) في مقدمة تلك القطع الأثرية، باعتباره رمزا وتحفة فنية نادرة تمثل بقايا قيثارة دلمونية، عثر عليها بمعبد باربار وكانت تضاهي تلك القيثارة السومرية المعروفة التي تم العثور عليها في عام 1929م في مدينة أور جنوب بلاد الرافدين والتي ترجع إلى زمن الملك شبعاد 2450 قبل الميلاد، والذي يرجع الفضل في اكتشافها إلى المنقب البريطاني السر ليونارد وولي. وإلى جانب رأس الثور كانت هناك مجموعة من الفخاريات الملونة والتي تم إنتاجها محليا، بجانب تلك التي تم استيرادها من الخارج، وتضيف الأواني المصنوعة من الحجر الصابوني (الأسيتايت)11 جمالا فريدا بزخارفها الجميلة والمعبرة عن تلك الحقبة.
وتعتبر مجموعة الأختام الدلموينة التي وقع الاختيار عليها هي من بين أروع الأشياء التي عثر عليها الآثاريون، والتي تحمل مشاهدها صورا جذابة رسمت بشكل دقيق، لها دلالاتها المختلفة وتعطي لمحة عن أساطير دلمون، وطقوسها الدينية، وقد يكون بعضها أختاما شخصية، وبعضها الآخر تم استخدامه لختم رزم تجارية ذات قيمة.
أما اللقى الأخرى من الأدوات البرونزية فكانت مجموعة تتضمن رؤوس الرماح والسهام وبعض السيوف، ومن بين الحلي هناك الخواتم والأساور والاقراط، وجميعها تنتمي لفترة دلمون المبكرة (حوالي الألف الثاني قبل الميلاد).
وكان اختيار القطع الأثرية بالنسبة لمرحلة تايلوس، غني وثري للغاية، وذلك نظرا لما تمتاز به هذه الحقبة التاريخية من ثراء في اللقى الأثرية، ولعل أبرز ما يميزها ذلك الخزف الملون والزجاجيات وشواهد القبور المنحوتة في الصخر، كما شملت عروض هذه الحقبة دبابيس الشعر، ومشابك الأحزمة، وقطع الدروع والمجوهرات التي عثر عليها في القبور، إلى جانب الخلاخل والمعاضد والخواتم المصنوعة من الفضة والبرونز، إضافة إلى عقود من اللؤلؤ والأساور من مختلف الاشكال ومن أنواع متعددة من المعادن شائعة الاستعمال.
وهناك أيضا التماثيل والدمى المختلفة والمصنوعة من الطين أو الجبس، وتنفرد حقبة تايلوس بوجود المباخر المتنوعة والأدوات الشخصية من الشفرات والأمشاط والملاعق، وحاويات العطور وادوات الزينة وكذلك السكاكين.كما تشمل أيضا رؤوس سهام ودبابيس ومخازر، ومغارف معدنية أو إبر ومغازل وفلكاتها، والصناديق المطعمة والمصنوعة من العظام .
وقد بلغت أعداد القطع الأثرية المشاركة في هذا المعرض خمسمائة قطعة أثرية، ولذا يعد معرض (البحرين - دلمون )، هو الأكبر من نوعه الذي شاركت به البحرين خارج حدودها الإقليمية، وقد حظي بمتابعة إعلامية ودولية، لأهمية القطع الأثرية المعروضة فيه، المعبرة عن البعد الحضاري والثقافي للمملكة.
جزيرة المئة ألف من آكام القبورالأثرية
لا يزال وصف (البحر الشاسع من المدافن التلية) الذي أورده (بنيت)12 في تقريره عام 1890 يعبر حتى يومنا هذا عن أكبر موقع لقبور العصر البرونزي في العالم!، كانت ولا تزال إحدى الملامح الرئيسية لأفق البحرين الأركيولوجي.وقد حاول بعض العلماء أن يفسر وجود هذه الآكام أو القبور كدليل على كون هذه الجزيرة قد أعدت كموطن للموتى أو مقبرة من قبل الحضارات المجاورة في الجزيرة العربية وبلاد ما بين النهرين13.
وفكرة جزيرة الموتى التي يفترض أنها وجدت صدى لها في الأساطير السومرية، لم تعد ممكنة حيث تم العثور على عدد من المستوطنات التي كانت معاصرة لهذه المدافن، وتأييدا لهذ الرأي، فقد تم الاستدلال على أن الجزيرة يبلغ عدد سكانها 10,000 نسمة قبل ما يزيد على الخمسة قرون.وكان هذا العدد كافيا لشغل القبور الموجودة.
تغطي آكام القبور في البحرين مساحات واسعة موزعة في ستة حقول رئيسية تتركز غالبيتها في النصف الشمالي من الجزيرة الأم، حيث توجد المستوطنات القديمة الرئيسية التي أمكن التعرف عليها. لقد قدر الباحثون عدد تلال المدافن القبرية هذه بحوالي 100,000 مدفن إلا أن التقديرات الأخيرة تزيد عن ذلك كثيرا لتصل إلى على وجه التقريب إلى ضعف هذا الرقم إذا أخذنا بعين الاعتبار تلال المدافن المندثرة والمدافن المترابطة والمدافن الصخرية14.
ونظرا لما تمثله تلال القبور في البحرين من تراث فريد لا يوازيه مثيل في العالم بأسره، حيث كان للاعتقاد السائد بالبعث الأثر الكبير لدى الدلمونيون، مما جعلهم يعتنون بموتاهم ويهتمون أيضا ببناء مدافنهم، وتم توفير المستلزمات الخاصة بالميت، إما لإعانته في رحلته للعالم الآخر، أو أنه عندما يعود للبعث من جديد يجد ما يحتاج إليه، بحسب معتقدات ما بعد الموت.
ومن هذا المنطلق رأت اللجنة المختصة ضرورة عمل نموذج لأحد المدافن الفردية، يجسد المعتقدات والعادات والتقاليد المتعلقة بدفن الموتى، حيث تم بناء تل أثري يتوسطه مدفن يتوسط المدفن هيكل بشري يمثل الميت، ويحيط بالقبر جدار دائري، وتوضع مع الميت مرفقاته الجنائزية من فخاريات وخزفيات وأسلحة برونزية وغيرها من المستلزمات.
وفي إطار التحضير للترويج الدعائي لهذا المعرض، تم إصدار مجموعة من المطبوعات المختصة بكل فعالية من فعاليات المعرض، منها كتاب باللغتين العربية والفرنسية يتحدث عن المعرض ومكوناته والحقب التاريخية التي مرت بها البحرين منذ أقدم العصور. كما قام معهد العالم العربي بإصدار عدد خاص عن المعرض في مجلته المعروفة باسم (القنطرة) بالإضافة الى ملحق ثقافي خاص تصدره مجلة (باريس ماتش) الشهيرة عن المعرض وحضارة البحرين، كما تم إعداد فيلم وثائقي خاص بعنوان (البحرين - دلمون) وهو فيلم أنتجه فريق فرنسي مختص ليعرض في معهد العالم العربي خلال المعرض الأثري.
في قلب الحي اللاتيني
وليس ثمة شك في أن اختيار الموقع كان أحد أبرز عوامل نجاح المعرض، حيث قرر له أن يقام في أحد أفخم الصروح الباريسية شهرة وهو (معهد العالم العربي)، فعندما يدور الحديث في باريس عن جسر الثقافة بين الشرق والغرب، يتبادر فورا إلى الذهن صرح ينتصب على ضفاف نهر السين في مبنى معماري مهيب صممه المعماري الفرنسي الشهير (جان نوفيل) ألا وهو (معهد العالم العربي) أو (ليما) كما يحلو للفرنسيين تسميته، والذي يعد رمزا للحوار بين الثقافة الغربية والعالم العربي.
يقع المبنى قبالة جزيرة القديس لويس، ويتمتع بإحدى أجمل الإطلالات على مدينة باريس وكاتدرائية نوتردام الأسطورية، ويتميز المبنى بطابعه الحديث الذي يستوحي بعض عناصر العمارة الإسلامية. كما في واجهته الجنوبية حيث تطالعنا عناصر مستوحاة من المشربيات المؤلفة من نوافذ صغيرة تنغلق وتنفتح مع تبدل حركة الضوء.ولقد افتتح المعهد عام 1987م في عهد الرئيس الفرنسي الراحل فرنسوا ميتران15.
ويعتبر مبنى العالم العربي من حيث جودة عمارته وثراء قاعاته الداخلية، واحدا من أبرز المعالم في العاصمة باريس، وقد جرى تمويل بنائه بالتعاون بين الدول العربية وفرنسا منذ عام 1980، وشيد بين جامعة جوسيو وضفاف نهر السين على قطعة أرض ذات تاريخ حافل في الموقع السابق باب القديس برنار ومن ورائه دير القديس فيكتور وسوق النبيذ، في قلب الحي اللاتيني وليس بعيدا عن مكتبة فرانسوا ميتران (المكتبة الوطنية الفرنسية)16.
لقد حان الوقت ليكتشف العالم هذه الحضارة
تزامنت الزيارة الرسمية لجلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة حفظه الله ورعاه - عندما كان أميرا لدولة البحرين – إلى باريس مع إقامة معرض (البحرين - دلمون)، فحرص على زيارة المعرض.وكان ذلك في يوم الخميس الموافق الخامس عشر من يوليو من عام 1999م، وبعد جولة في المعرض، تفضل جلالته بتدوين كلمة في سجل الزيارات عبر من خلالها عن الهدف الرئيس الذي تسعى البحرين لتحقيقه من خلال إقامة هذا المعرض قال فيها :
«لقد سرنا قيام معهد العالم العربي، باعتباره منبرا للحوار والتفاعل الحضاري بين فرنسا والمجموعة العربية، بتنظيم معرض (البحرين – دلمون) في العاصمة الفرنسية لتعريف الجمهور الفرنسي والأوروبي عامة بواحدة من أعرق حضارات الشرق والحضارة الأقدم في منطقة الخليج العربي والتي كانت دولة البحرين بأرخبيلها المترابط في قلب الخليج نقطة ارتكازها ومنطلق إشعاعها قبل خمسة آلاف سنة.. لقد حان الوقت ليكتشف العالم هذه الحضارة المتميزة تميز البحرين انفتاحا وتسامحا ورغبة في الحوار مع الآخر والتعرف إليه وما زال لدى البحرين الجديدة من رصيدها الحضاري ما تقدمه شراكة بناءة مع شعوب العالم قاطبة، وهذا هو مغزى الزيارة التي نقوم بها للجمهورية الفرنسية الصديقة التي تمثل لنا قوة اعتدال وتوازن في عالم اليوم ومنبرا دوليا للحوار بين الثقافات والأمم».
ثم توجه جلالته بإلقاء كلمة عبر فيها عن شكره وتقديره لكل الجهود الطيبة الذي يبذلها القائمون على المعهد، وتمنى للرئيس والمدير العام والمسؤولين بالمعهد كل التوفيق والسداد فيما يسعون إليه من عمل يخدم التفاهم والثقافة بين الشعوب. فيما رحب السيد شارل جو سلين وزير التعاون والفرنكوفونية في فرنسا بجلالته وأكد اهتمام الحكومة الفرنسية بهذه التظاهرة الثقافية والتاريخية17.
جدير بالذكر أن الافتتاح الرسمي لمعرض (البحرين - دلمون) في باريس كان في صباح يوم الإثنين الموافق السابع عشر من مايو سنة 1999م، برعاية كريمة من سمو رئيس الوزراء المغفور له بإذن الله الشيخ خليفة بن سلمان آل خليفة أناب فيها سموالشيخ على بن خليفة آل خليفة وزير الموصلات السابق لافتتاح هذا المعرض، وحضر مراسم الافتتاح يومها السيد جون كلود كيسو وزير التجهيزات والمواصلات والإسكان الفرنسي ممثلا عن الحكومة الفرنسية، كما حضر السيد كابانا رئيس معهد العالم العربي والدكتور ناصر الأنصاري مدير عام المعهد والدكتور علي فخرو سفير دولة البحرين في فرنسا.
ويبقى لحضارة دلمون سحرها الدائم
لا شك أن معرض (البحرين - دلمون ) كان الحدث الثقافي والسياسي الأبرز في باريس واستطاع أن يحوز على اهتمامات المثقفين والصحفيين الفرنسيين. حيث قال عنه رئيس معهد العالم العربي السيد كميل كابانا «أن الشعب الفرنسي ومن خلال معرض (البحرين - دلمون) استطاع أن يتعرف على واحدة من ألمع الحضارات العريقة، وأضاف أن هذه التظاهرة الثقافية الواسعة هي الأولى من نوعها التي يقيمها المعهد ولقد أتاحت للجمهور الفرنسي الاطلاع على ثروة البحرين التاريخية والثقافية، وقال أنه منذ أيام قليلة بلغ زوار المعرض خمسة عشر ألف زائر، وأن المعهد استطاع بجدارة أن يقدم المعرض بشكل يليق بما زخر به من مقتنيات أثرية وتاريخية»18.
- فيما أضاف الدكتور (فيليب رومان) وهو كاتب وصحفي ناقد بجريدة (لوموند) قائلا:
«إن معرض (البحرين - دلمون) يعتبر تجسيدا عمليا للاهتمام بثقافة التاريخ وتاريخ الثقافة، وعملا جادا لإماطة اللثام عن حضارة سادت وأشعت في منطقة من الكرة الأرضية حتى أصبحت إرثا يمتد تأثيره إلى خارج حدود انتشار تلك الثقافة وأي إبداع إنساني يستحق النشر والانتشار يستحق كل الاحترام والتقدير، وأسجل دهشتي لعظمة حضارة دلمون ومنجزاتها والتي أستطيع القول من خلال ما شاهدته وقرأته أنها كانت نقطة تحول في تاريخ الإنسان لتلك المنطقة ثقافيا واجتماعيا واقتصاديا وإني أشد على يد كل مسؤول يشجع مثل هذه المبادرات»19.
- وأما الكاتب (الكسندر ليموزان) وهو صاحب دار النشر (ميدينزاني المتوسط) والمعروف بولعه الأنثربولوجي واكتشاف الثقافات الإنسانية فقال:
«إن الفرنسيين بحاجة ماسة إلى التعرف على ثقافة دول الخليج والتي تعرف غيابا على الساحة الثقافية والفنية الفرنسية بالخصوص.إن هذا المعرض هو خطوة اختراق عالم الفرنكفوني وعرض لثقافة وتاريخ ظل حكرا على الانجلوسكسون لاعتبارات تاريخية، لذلك فهو فتح ثقافي وحضاري وسياسي أيضا. ولعل أهم ما شدني في هذا المعرض هو طريقة إبراز مميزات حضارة دلمون الاجتماعية والاقتصادية وتحديد السياق الثقافي والحضاري الذي تطورت فيه هذه الحضارة، لذلك فدلمون ليست بقية من بقايا الماضي ولا أثرا من مخلفاته فقط بل هو تراث وإرث ينعكس بشكل دائم على الحاضروالمستقبل في طريق تفاهم الحضارات ومعرفة الآخر»20.
- فيما أكدت الكاتبة (ليتيسيا جيلبار) صاحبة جائزة (فانكور) الأدبية الشهيرة على أهمية دور هذا المعرض في إبراز الوجه الحضاري والثقافي وجعله يمر بيسر إلى المجتمعات الأخرى وتؤكد أيضا على أهمية معرض (البحرين - دلمون ) من حيث أنه كنز أثري للدارسين والباحثين في تطوير المجتمعات حتى نتقرب من فهم تكوين شخصية ابن المنطقة وحتى تتكون علائق من الاتصال الثقافي الهادئ والمتزن بين مجتمعات مختلفة الفضاء الثقافي والتاريخي وتغطي مقاطعات الإنتاج والتفكير وطرق العيش لكل مجتمع.لذلك يأتي معرض (البحرين - دلمون) كقيمة فكرية وفنية وحضارية تستحق التنويه والتقدير21.
- أما الشاعر والمفكر العربي صاحب الحضور المتميز (أدونيس) فقد صرح قائلا:
«المعرض هو لحظة تأمل مشرقة من تاريخ البحرين، حضارة تحمل في طياتها ثقافة لم تنغلق على ذاتها وتتجاوز الحدود التي تبدو لنا اليوم وكأنها رسمت منذ غابر الأزمان، حضارة ساهمت ثقافة ابن المنطقة في أحجار عمارتها وارتضت أن تودع فيها سرا من آدابها وفنها وتجربتها وخطابها الذي تجاوز محدودية الزمان والمكان.. وانتشرت منجزاتها في المناطق المجاورة حتى حولت هذا الرصيد التاريخي إلى أعلام وطنية ترفرف فوق الحواضر.المعرض ينطق بلغة عالمية في مراجعه وخلفياته، ويمثل دلمون الهوية نفسها ولا يحتاج إلى هوية تحدده، ويبقى لحضارة دلمون سحرها الدائم، وكأن شيئا من قداسة الماضي يكفل لها هذا السحر ويجعلنا ننظر إلى أحداثه من خلال منجزاته إلى قوة وعنفوان ابن المنطقة»22.
معرض (البحرين – دلمون )انفتاح على العالم
ولكي تكتمل هذه التظاهرة الثقافية في محاولة لربط الحاضر بالماضي، فقد تم تعزيز المعرض ببرنامج من الأنشطة والفعاليات الثقافية المتنوعة، كان من ضمنها معرض للفنون التشكيلية ضم أعمالا متميزة لمجموعة من فناني البحرين التشكيليين ومعرض آخر للؤلؤ احتوى على مجموعة من أندر مقتنيات البحرين من اللؤلؤ الطبيعي والمصوغات الذهبية المرصعة باللؤلؤ الطبيعي، بالإضافة إلى عرض لبعض الوثائق والأدوات والمعدات المتعلقة بصناعة اللؤلؤ، فيما قدمت فرقة البحرين الوطنية للفنون الشعبية نماذج من الفنون الموسيقية البحرينية، إضافة إلى أمسيات لفرقة فن الصوت الموسيقية التي أدت فنون الطرب الأصيل الذي تميزت به البحرين على مدى سنوات عدة .
وضمن الفعاليات المصاحبة للمعرض أقيمت ندوات ومحاضرات علمية وثقافية، منها ندوتان مهمتان حول تاريخ وآثار البحرين، الأولى قدمها الدكتور روبرت كليك من جامعة لندن ورئيس البعثة البريطانية في موقع سار الأثري بعنوان (مرحلة دلمون المبكرة في مستوطنة سار الأثرية) . فيما قدم الدكتور فرانسوا سال رئيس البعثة الفرنسية في موقع جنوسان الأثري وأستاذ في جامعة ليون الفرنسية محاضرة بعنوان ( قبور فترة تايلوس بموقع جنوسان). كما أقيمت ندوة ثقافية أخرى للمفكر البحريني الدكتور محمد جابر الأنصاري والفنان التشكيلي المرحوم أحمد باقر .
وفي الختام لنا أن نتذكر بأن ما تم سرده، هو تغطية سريعة لأحداث رافقت المعرض في محطته الأولى في باريس ، وهناك محطات تلتها في بريطانيا والدنمارك وألمانيا ،ولكل من تلك المحطات مذاقها وصداها ونتائجها، ومن المؤكد بأن للحديث بقية نسلط من خلاله الضوء على تفاصيل كل رحلة على حدة.