تأمُّلات في حِكَاية دعيدع الشَّعبية
العدد 67 - أدب شعبي
ليست الحكاية الشعبية، مجرَّد حكاية يزجي بها كبار السن أوقاتهم، ويتابعها الناس بشغف وأذهان تتخيَّل الشخصِيات والأحداث، فتضحك حينا وتبكي أحيانا أخرى، إنَّها أرض خصبة لمختلف الدراسات التحليلية، والمقارنة، والوصفية، وسواها من دراسات علمية يزداد الاهتمام بها كلَّ يوم، وتلقى رواجا وتفاعلا واسعا من قبل الباحثين.
إنَّ موقع الحكاية في الأدب الشعبي، موقع القلب من جسم الإنسان، فهي أكثر موادِّه حيوية واكتنازا باللآلئ القابلة للتشكُّل كما يشاء الدارسون، فعن طريقها يمكن تلمُّس طبيعة المجتمع نفسيا واجتماعيا وأخلاقيا، وعن طريقها يمكن اكتشاف القيم والمبادئ التي تحكم سلوك الناس، وعن طريقها أيضا يمكن التعرُّف على ميولهم وأهوائهم وتطلُّعاتهم.
كذلك تبرز أهميَّة الحكاية في مقدرتها على «إذكاء الخيال وتحريك السؤال»، كما تقول الفيلسوفة البلغارية الفرنسية جوليا كریستیفا، حيث «تأخذنا إلى حافَّة الوجود، وتدعو مشاهدها المتخيلة، القارئ أو السامع، إلى أن يصبح مسافرا مملوءا بالدهشة، بما فيها من مشاهد عجيبة».
وجوه مرعبة:
تلك المشاهد العجيبة تبرز من بينها وجوه مرعبة، مدهشة بقوَّة حضورها، واستمرار تأثيرها، وجوه لشخصيَّات خرافية محرِّكة للأحداث، وجوه لأبطال عاشوا منذ زمن بعيد في أذهان الناس، في سنوات الظلمة الجاثمة على البيوت مع غروب الشمس، والممتَّدة إلى الطرق والمزارع والسَّواحل. الخبابة، السعلوة، أم حمار، أبو مغوي، الطنطل، سويجن، أسماء حفظتها ذاكرة المزارعين وصَيَّادو السَّمك واللؤلؤ كرموز للشرِّ وتعمُّد أذيَّة الناس.
دعيدع أو دعيدع المقبرة.. أبو الشماطيط، نسبة للثياب البالية، والتي تسمَّى في الخليج «شماطيط»، من أهمّ هذه الوجوه، كما يشير إلى ذلك «بتصرُّف» الباحث البحريني حسين الجمري، فهو جنِّي على هيئة قرد، ووجه قطَّة بأنياب لامعة، وآذان طويلة، «يروى عنه أنَّه كان يشاهد في المقابر، وفي المزارع، حيث كان يظهر للفلاحين عند حلول الظلام، بعدَّة أشكال، مُقلِّداً بعض الأصْواتِ بهدف إغواء الناس وخداعهم».
مرويَّات بحرينية :
لقد ذاعت حكايات دعيدع حتّى غطَّت أجواء البحرين والخليج العربي، وما زالت تثير اهتمام رواة الحكايات والدارسين على حدٍّ سواء، ولأنَّ الحكاية الشعبية، كما يعرِّفها أهل الاختصَاص (عمل أدبي يتم نقله شفهيَّا من جيل إلى جيل)، تحظى روايات كبار السن، بأهميَّة استثنائية، إذ لا يوجد مصدر لهذه الحكايات سوى ما سجلَّته الذاكرة، وما عادت فاسترجعته من مشاهد وأجواء، على رغم ما يشوب هذه الذاكرة بفعل التقدَّم في السن، ونسيان الكثير من التفاصيل، وترميمه بإضافة الكثير من المخيَّلة.
والسيد سلمان، أحد أبناء المحرَّق ممَّن يروي حكايات دعيدع، رجل في الثانية والثمانين من عمره ما زال محتفظاً بقوِّته الذهنية والبدنية، قضى جلَّ عمره بين المزارع والبحر، كما هو شأن أبيه وجدَّه رحمهما الله.
يقول السيد سلمان: «لم أشاهد الجنِّي دعيدع لا في صغري ولا في كبري، غير أنِّي سمعت عديداً من الحكايات عنه، من ذلك ما رواه لي جدِّي رحمه الله، وكان طاعناً في السن وقتها، وكنت في بداية سن الشباب، يذكر أن بيت والده كان قرب إحدى المزارع الكبيرة، العَامرة بأشجار النخيل، وكثيرا ما كانوا يسمعون حركة مريبة على سطح البيت، فإذا ارتقوا السَّطح وجدوا «بسر» الرطب ملقى هناك، غير أنَّ جدي لا يجزم أكان دعيدع هو من رمى البسر أم أحد الصبيان العابثين».
ويذكر السيد عن جدِّه موقفاً صعبا تعرَّض له، حين كان يمشي قرب إحدى المزارع، فصادف حمارة تخرج من طريق فرعي، وتصوب نظراتها بحدَّة إليه وكأنَّها إبليس الرجيم، وقد استمرَّت في ملاحقته ولم تهدأ حتى رفسته بقدميها القويتين وكأنَّ لها ثأراً عنده، فظلَّ يعاني الحُمى جرَّاء ذلك ولعدَّة أيام، حتّى مَن الله عليه بالشفاء.
ويواصل السيد: «سمعت جدِّي في وقت آخر، يحكي أنَّه واثنين من أصحَابه، كانوا في عرض البحر، حين سمعوا من ينادي بصوت مرعب طلباً للمسَاعدة، غير أنُّهم لم يستجيبوا للصوت، خشية أن يكون دعيدع أو غيره من جن، خصوصا والضباب كان منتشراً يحجب عنهم الرؤية».
كما يذكر السيد سلمان أيضا أنَّ جدَّه حدَّثه عن صديقه الحاج عبد الله، وكان قد اختفى لساعات طويلة، فأثار قلق أهله وجيرانه، ثمّ ظهر أشبه بالميت الذي يمشي على قدمين، وحين سُئل قال إنّه كان في طريقه المُعتاد، حين ظهر له ضوء من بعيد، فتبعه «مِن بهامته»، فأضاع طريقه، وظلَّ يؤكد أنَّ دعيدع اللعين هو من جعله يخالف طريقه المعتاد.
المدهش أنَّ السيد سلمان ورغم كثرة ما روى عن فلان وفلان، لا يؤمن بوجود مثل هذا المخلوق، ويرى أنه إحدى خرافات زمن الطيبين، زمن البسطاء الذين يصدِّقون كلَّ ما يسمعون، نظرا لقلَّة حظِّهم من التعليم، «فالحاصل اليوم أنّ جميع المتعلمين لا يؤمنون بوجود دعيدع ولا ما يشبهه من مخلوقات، إلاّ على أساس أنَّها حكاية خرافية وليست شخصية حقيقية، كان يشاهدها الناس».
الحاجَّة آمنة أم عبدالله، وتبلغ من العمر اثنين وسبعين عاما، وهي كذلك من سكنة المحرَّق، تتذكَّر أنَّ والدتها أخبرتها أن أباها أيّ جدّ الحاج آمنة، رجع إلى البيت ذات مساء، فزعا يتفصَّد جبينه عرقا، وكأنَّه شاهد عفريتا!، عاد وأغلق الباب بإحكام، وكأنَّ هناك من يطارده، ثمَّ ألقى بنفسه إلى الأرض وظلَّ لمدَّة غير قادر على الكلام، حتى خشيت جدَّتُه أن يموت لشدَّة ما هو فيه، ثمَّ هدأ نبضُه شيئا فشيئا، وأخبرها أنَّه كان قادمَا من تفقُّد «القراقير»، على عادته، حين أراد الاستحمَام في ماء العين، لكنَّه وما إن نزل للماء حتَّى تفاجأ بحركة غريبة وكأنّ هناك من فرَّ منها، فوقع في نفسه أن فيها جنَّا، وعليه الهرب بسرعة قبل أن يلتهمه.
وحين سألتُ الحاجة آمنة، إن كانت تؤمن بدعيدع حقَّا؟ أكَّدت أن دعيدع جنِّي، والله عزّ وجل قادر على خلق ما يشاء، وليس صعبا عليه سبحانه أن يملأ الدنيا بمخلوقات على شاكلة دعيدع. وتساءلت: إنَّ الحكايات التي تروى عنه كثيرة جدا، فهل يعقل أن لا تصدق ولا حكاية واحدة منها؟
أهزوجة عن دعيدع
وتتذكَّر الحاجة آمنة أيضا، لعبة كانت تلعبها صحبة عدد من البنات من أترابها، وكان من ضمنها أهزوجة «حرارتي.. مرارتي»، ترد فيها لفظة دعيدع، وهي ترويها كالتالي:
«حرارتي مرارتي.. سبع الطويلة جارتي
يا امنا ما تطال.. غضيرة الى الشام
جتني جعيدة من قطر.. تلعب على ضو القمر
يا دعيدع دليني.. يم العنب والتيني
انچان ما زلعتش ملعتش.. بالسيف والسچين
كرورو صميدة عو»
وترويها بشكل آخر أيضاً:
«حرارتي مرارتي.. سبع الطويلة جارتي
يا امنا القصيرة.. ما تطال الغضيرة
من الشاط إلى الباط.. إلى كريم المنزلة
جتنا دعيدع من قطر.. تلعب على ضو الجمر
يا دعيدع دليني.. يا ام العنب والتيني
إن جان ما زلعتش ملعتش.. بالسيف والسجيني
قروروص صميده عو».
والغريب في أمر هذه اللعبة أو الأهزوجة، أنها ترد أيضا في تراث أهل تاروت بالمملكة العربية السعودية لكن دون ذكر اسم دعيدع:
«حرارتي مرارتي.. سبع الطيور لجارتي
جانا صبي هاشمي.. يلعب على فَي القمر
سلسيلة دليني.. يا ام العنب والتين
وانكان ما تدليني.. قطّعتش ملعتش
بالسيف والسجيني».
أمَّا الحاح محمد أبو عيسى، وهو رجل في السبعين من عمره ومن سكنة المحرق أيضا، فيؤمن بوجود دعيدع، لأنَّه ببساطة وكما يعتقد من الجن، والقرآن الكريم ذكر الجن صراحة في أكثر من آية، كقوله تعالى ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون )، وقوله عزّ وجل ( قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا)، صدق الله العظيم، لكنّ مسألة مشاهدته بالعين، أمر آخر تدخل فيه العواطف والتهيؤات، كما أنه شيء غيبي، ولا يعلم الغيب إلاَّ الله عزَّ وجل، غير أنَّ أبا عيسى يعود فيؤكِّد أن الإحساس بوجود الجنِّي أمر وارد، مُتذكَّرا أن جدُّه رحمه الله، أخبره أنَّه شعر بشيء من هذا القبيل، حين كان في قاربه في عرض البحر، إذ شعر وكأنَّ هناك من يراقبه وهو يرفع «قرقور» السَّمك من الماء.
سيد علي سيد حسين، هو أيضا من أبناء المحرَّق كبار السن، يتذكّر أن أمَّه كانت تخوِّفه في صغره من دعيدع وأم حمار، ويقول: إن أصداء هذه التحذيرات لا تزال تطنُّ في أذني، وما زلت أتذكر وكنت ألعب مع أطفال الحي، لعبة الغمّيضة، أني وأحد الأصدقاء دخلنا مزرعة صغيرة، غير مسوَّرة، وشاهدنا رجلا طويلا جدا يتقدَّم نحونا، ففررنا من المكان. ويتساءل سيد علي: إذا كان ذلك وهما، فكيف شاهدناه نحن الاثنين؟ ثمَّ يتابع ضاحكا؟ عرفنا بعد ذلك أنَّها كانت مزحة ثقيلة من صبيان كانوا أكبر منّا سنَّا.
مغزى أخلاقي للحكاية
ويجد سيد علي في حكاية دعيدع وغيره، مغزىً أخلاقيا، فالآباء والأمَّهات كانوا يخشون على أبنائهم من الخروج ليلا، فربَّما اختطفهم من لا يخافون الله، أو أوقعوا أنفسهم في المشاكل، لذلك نجدهم يحذّرونهم من الخروج ليلا، كي لا يقعوا فريسة لدعيدع أو أم الخضر والليف.
حملتني مثل ما حملتك
أمَّا رواية الحاج خليل أبو حسين، فعجيبة في تفاصيلها، فهي تُذكِّر بالحكاية المشهورة عند أهل القطيف باسم «ركبة بركبة يا بن عيد ماكو زعل»، وعند أهل السودان «ركبة بركبة يا ود الزين»، غير أنَّ الحاج خليل، يرويها عن معمِّر، يؤكّد أنَّها حدثت له شخصيا، كالتالي: كنت قد خرجت من البيت عازما تفقُّد «حضرتي»، حين شاهدت حمارة عند الشاطئ، اقتربت منها وحاولت أن أمتطيها، فوجدتها تستجيب لي. دُهشت وحمدت الله تعالى أن يسرَّ لي هذه الدابة. انتهيت إلى الحضرة، فوجدت فيها من السمك الكثير، فقلت في سعادة «حمدا لله.. ليلة مباركة»، وجمعت الكثير من السمك، ثمَّ استرعى انتباهي سمكة كبيرة، سارعت لاصطيادها، ومن عجب أنَّني وجدتها تستجيب لي أيضا، قلت وأنا مندهش: «غريبة، ليلة غريبة بالفعل»، لكنَّي حين بحثت عن الحمارة، لم أجدها، وكأنَّ البحر ابتلعها!، فاضطررت للعودة مشيا على قدمَيَّ، وأنا أنوء بحمل السمكة الكبيرة وبقية الصيد الوفير، غير أنّي وما ان اقتربت من الشاطيء، حتى نشف دمي رعبا؛ لقد فرَّت السمكة من بين يدي، وشاهدتها تتحوَّل إلى رجل طويل جداً، راح يعدو وهو يقول ضاحِكاً: «حملتني مثل ما حملتك».
مخلوق مائي
في مرويَّات دول الخليج العربي، عديد من الحكايات المشابهة لحكاية دعيدع، فتوجد في القطيف بالمملكة العربية السعودية - شخصية دعيدع، لكنَّه يختلف عن دعيدع البحرين، في كونه مخلوقا مائيا، يعيش في أعماق العين، وهو عفريت شرير وقاتل لا يطرف له جفن، وكلُّ ذي حظ سيء، ينزل العين، التي هو فيها، يسحبه إليه ويخنقه، إنَّه نذل حقير فحتّى جثَّة القتيل يبخل بها على أهله، ويحتفظ بها حتى تذوب في المَاء، وهناك مرويَّات أخرى لبحَّارة القطيف، يؤكِّدون فيها أنَّهم شاهدو دعيدع في ماء العين، على هيئة طائر أبيض، ومرَّة أخرى على شكل فأر خائف، وهناك من يزعم أنه شاهده مستلقيا على ظهره في أعماق العين، بجسم يشبه جسم الإنسان.
وممَّا يروى في هذا الإطار، بين سكَّان جزيرة تاروت - كما هو مذكور في الموقع الالكتروني «واحة القطيف» - قصَّة دعيدعة العين، وهي قصة تحكي عن خروج فتاة في عمر الثانية عشر مع أخيها الذي يصغرها سنّا، لم يكن بيتهم بعيداً عن قلعة تاروت، إذ كان يفصل بين بيتهم والقلعة شارع وسوق تاروت. وصلت الفتاة لعين العودة مع أخيها، وضعت أغراضها ولوازمها في مكان نظيف، وأمسكت بيد أخيها خوفاً عليه من أن يهوي في الماء فقد كان لا يعرف السباحة، والماء كان عميقا، نزلا عبر الدرجة حتى وصلا المكان المخصص للجلوس والاستحمام وتسمى الدكة. لم يطل مكوثهما، حتى تعالت صيحات النساء: «إلحقونا يا أجاويد» فاستجاب لهم أهالي المنطقة القريبة. وخرجت إحداهن للسوق طالبةً المساعدة والنجدة، حتى هبّ للنجدة سيد طه ودخل العين بعد أن تنحنح واستأذن الدخول، رمى بنفسه في أعماق العين، وبحث هنا وهناك حتى خرج متأسفاً لأن القدر لم يسعفه بإنقاذ البنت، فحملها إلى أهلها الذين فجعوا بمفارقتها للحياة.
وفي دولتي قطر والإمارات العربية المتحدة، يبرز وجه دعيدع، لكن بمسمّىً آخر هو «بودرياه»، ويعني بالفارسيه «أبو البحر»، وله حكايتان متداولتان، الأولى انه كان يتسلَّل الى قوارب الصيادين بين صلاة العشاء وأذان الفجر، ويختطف البحّارة ويأكلهم، ثم يغرق قواربهم، مما يستوجب على البحّارة أن يكونوا دائما في جماعة يحرسون القارب، ومتى ما أحسُّوا بوجوده صاحوا بصوت مرتفع: «هاتوا المنشارة والجدوم»، فيهرب ويأمنوا شرّه، والثانية يرويها الصيَّادون الذين يبحرون وسط البحر، يقولون ان بودرياه يظلُّ يصيح في الظلام الدامس، طالبا النجدة، لكنّهم لا يستجيبون لندائه، نظرا لمعرفتهم بحكم الخبرة أنه يحاول سرقة طعامهم وشرابهم وهما أعز ما لديهم في عرض البحر، وأنهم إن أنقذوه سيكافئهم بتخريب سفنهم، ولم يكن أمامهم للتخلُّص من صوته المنكر سوى تلاوة القرآن الكريم والأوراد والأدعية.
ويظهر دعيدع الكويت، على شكل حجر، يبتعد بمجرَّد الاقتراب منه، أو على شكل نار أو جسر، كما في كتاب الباحث الكويتي سيف الشملان (الألعاب الشعبية الكويتية): كان الناس «يتوهمون أنه في الظلام عندما يسير أحدهم يشاهد ناراً أو جسراً فإذا اقترب من الجسر بعُد عنه أو انتقل إلى محل آخر وهكذا يخاف من يشاهدها، وإنها من الجن، ومعروفة عندنا (ضو ادعيدع؛ أي نار ادعيدع). وكانوا يخوّفون الأولاد بها حتى لا يخرجون ليلاً».
لكن صورة بو درياه في الكويت، تختلف عن صورته في الإمارات وقطر، فهو «البودريا» وليس بودرياه، وهو على هيئة إنسان نصفه على شكل سمكة تجوب البحار ويسمع صياحها في الليل في البحر على هيئة غريق وعند الاقتراب لإنقاذها تتعمَّد إمساك المنقذ وتغرقه في البحر، وهي مشابهة لحورية البحر، واللافت في أمر هذا «البودريا»، أنه شبيه بـ «إنسان الماء»، ذاك الذي ذكره كمال الدين الدميري في كتابه «حياة الحيوان الكبرى»، عن إنسان الماء ذي الذنب الذي سمي أيضا شيخ البحر. وكنظير عربي لأساطير فتاة البحر وعروس البحر ورجل البحر الغربية ذات الأصول اليونانية القديمة.
غياب الراوي العليم
عند التأمُّل في الروايات السابقة المأخوذة شفهيا من رواة بحرينيين، وفي بقيَّة المرويَّات الذائعة عن حكاية دعيدع، تستوقفنا عديد من النقاط الجديرة بالنقاش، أوَّلُها غياب الراوي العليم، فالراوي هنا ليس بطلاً للقصَّة، يقول أنا شاهدت دعيدع، ولا حتَّى راويا عن بطلها، أنه شاهد دعيدع، وإنما هو ناقل لكلام من يقول إنه سمع فلان يقول إنه شاهد دعيدع، وحتى هذا الذي يقول إنه شاهد دعيدع، يشكِّك في النهاية ويتسَاءل: أكان هو دعيدع حقَّا؟
رتابة وتدخُّل في الأحداث
هو أيضا يحكي برتابة وبطريقة تسجيلية، ويتدخَّل أحيانا مُعلِّقا على الأحداث وعلى الشخصيات، الأمر الذي من شأنه أن يثير الريبة بأنه ربَّما أضَاف للحكاية من عنده، وهؤلاء الذين يتقنون الحكي، كثيرون في مجتمعنا الماضي، ويندر أن تجلس مع رجل من كبار السن، لا يتحدَّث بسلاسة وبطريقة واضحة مدهشة في سردها الأحداث بأسلوب تشويقي، يستأثر بقلوب المستمعين.
وهنا يبرز سؤال مهم؟ أليس من المرجَّح أن يكون دعيدع شخصيَّة أدبية متخيَّلة، تفتَّقت عن مُخيلَّة مبدع أدبي، وجد في اللسان عِوضا عن جهله بالكتابة، فراح يحكي للناس عن مخلوق كذا وكذا، ثمَّ جاء من بعده من أضاف للحكاية مواقف أخرى، وألبس دعيدع، صفات مخلوقات أخرى؟ يعرِّف شين بي لياو، ضمن (موسوعة ستانفورد للفلسفة)، التخيُّل، بأنَّه «تمثُّل الأشياء دون أن تكون ماثلة أمامك كما هي في الواقع، في التو، وبذاتها. يمكن للمرء استخدام التخيل لتمثل الإمكانات المحتملة لا الواقعية، ولتمثل الأزمان الأخرى لا الحاضر، ولتمثل وجهات النظر غير الخاصة به. وبخلاف الإدراك والاعتقاد، فإن تخيل شيء ما لا يتطلب أن يكون ذلك الشيء حقيقيا. وبخلاف الرغبة أو التوقع، فإن تخيل شيء ما لا يتطلب من المرء أن يتمنى أو يتوقع أن يكون الشيء واقعيا». لا يتطلب الأمر إذاً أن يكون الشيء واقعيا، فهل دعيدع شخصية متخيَّلة، أملتها الظروف الصعبة التي كان يعيشها البحَّارة لعدَّة أشهر منقطعين عن أهلهم وأحبائهم في عرض البحر؟ فإنّ من شأن هذه الليالي الطويلة في السفينة، في منطقة نائية مظلمة سوى من ضوء القمر أن تخلق في نفوس البحارة والغاصة عن اللؤلؤ، عديدا من الصور المعبرة عن شعورهم بالوحدة، والخشية من وقوعهم فريسة لمخلوقات يؤمنون إيمانا جازما أنَّها موجودة بأمر الله تعالى.
شخصية طاغية
يبدو دعيدع أيضا شخصية طاغية مسيطرة تماماً على مجريات الحكاية، لا يترك منفذاً لشخصيات أخرى لقول أو فعل، سوى ما يخدمه هو، ويبرز وجوده هو، كفرد مميَّز، يأنف أن يأتي في جماعة من الجن أو «الدعادعه»، نعم ربّما قابل ضحيَّة واحدة أو مجموعة من الضحايا، أما هو فلا يليق باسمه سوى أن يكون لوحده، مخيفا مرعبا، قادرا على فعل ما يشاء بالناس.
متى حدث ذلك؟
أمَّا الزمن الذي يظهر فيه دعيدع، فرتيب يأتي دائماً على هيئة استرجاع واستذکار بصِيغة الماضي، فهو ليس تعاقبيا قابلاً للانعكاس والارتداد، وهو لا يُحدَّد سوى أنه في ذلك الزمان، متى حدث ذلك؟ لا يُجاب على هذا السؤال في حكاية دعيدع، فلا توجد سنوات بعينها ظهرت فيها حكايات دعيدع، وإنما يقال إنها سنوات كانت الظلمة فيها تغشى الأماكن بمجرَّد غروب الشمس، فهل هي محاولة من الراوي الانفلَات من الحساب، حين يعمد لقول الحكايات بدون تحديد زمن معيَّن؟ وهل أخذها من مكان آخر؟ هل سمعها من جيرانه أهل الخليج العربي؟ أو من أحد المتعلمين ممَّن تسنَّى له قراءة حكايات شعبية عالمية مثل حكايات الأخوين غريم أو حكايات هانز اندرسون، فصاغها بأسلوبه وبطريقته الرائعة في الإدهاش؟!
بين العلم والخرافة
لنا أن نتساءل أيضا، عن ثقافة أبناء ذلك الزمان؛ أكان لمحدودية الثقافة وقتها دخل في خلق مثل هذه الشخصيات وتقبُّل الناس لها؟ يقول الدكتور عبد المحسن صالح في كتابه «الإنسان الحائر بين العلم والخرافة»، الصادر ضمن سلسلة عالم المعرفة: «ولقد ظلت البشرية تستند إلى رؤية خرافية في تفسير أحداث الكون، إلى أن بدأ الإنسان رحلته الشاقة والطويلة لاستكشاف «العلل» الحقيقية التي تكمن وراء الأحداث»، ومن نافلة القول أن العلم فتح الآفاق أمام الانسان، وأطلق فكره وإنسانيته، وحرَّره من عديد من الخرافات والأساطير، وترقَّى به من التبعية إلى القيادة، «لكن الغريب أن الإنسان المعاصر الذي قطع أشواطًا بعيدة من هذه الرحلة نحو حضارة وتفكير يقومان على منطق «السببية» الذي يفسر الظواهر الطبيعية والبشرية منطلقا من أرضية البحث التجريبي، هذا الإنسان لا يزال يحمل فوق كاهله طبقات متراكمة من آثار تفكيره الخرافي في الحقب السابقة». فإذا كان الإنسان المعاصر، إنسان العلم، الذي يعيش في مدن مُهندَسَة، بها طرق مسفلتة وشوارع تغمرها الأضواء، لا يزال يحمل طبقات متراكمة من آثار تفكيره الخرافي!، فكيف هو حال أناس بسطاء عاشوا في بيوت من طين وأكواخ من سعف النخيل، لا يعرفون سوى البحر والزراعة مصدَراً لأرزاقهم؟
أمكنة غير مأهولة
كذلك يستوقفنا المكان، الذي يلعب فيه دعيدع لعبته، فهي نفسها الأمكنة التي تتواجد فيها بقية المخلوقات الخرافية، فأحداث حكاياته تقع دائما في الأمكنة غير المأهولة، حالكة الظلمة، في المزارع أو عند السَّواحل أو فوق السفن وسط البحر، حيث يجتمع هؤلاء الذين يفارقون عوائلهم لعدة أشهر، بحثاً عن اللؤلؤ، ويقضون ساعات الراحة القليلة مسَاءً يتحدَّثون تحت ضوء القمر، محتمين بتجمُّعهم من دعيدع وأشباهه من جن، فربَّما خرج لأحدهم فالتهمه.
مجرم بشع المنظر
ماذا عن صفات دعيدع وسلوكيّاته؟ إنَّه قبيح المنظر، بشع، على هيئة قرد، ووجه قطَّة بأنياب لامعة، وآذان طويلة، قادر على أن يتلوَّن بالهيئة التي يريدها، أحيانا يكون بطول نخلة معمِّرة، وأحيانا يحجب الأفق باتساعه، وتارة يظهر على شكل نور يَخطَف الأبصَار، ويزيغها عن الطريق الواضح، وتارة لا يتبين له شكل وسط الضباب، سلوكيَّاته وتصرّفاته عابثة لا تقيم وزنا لشيء، فهو يتلبُّس عبث الأطفال تارة، فيرمي «بسر» الرطب على البيوت، ويحاول إفزاع الناس بأية وسيلة ممكنة، وتارة يتلبُّس روح مجرم لا يتوانى عن القتل في سبيل إشباع رغباتِه، وقد يصل به الأمر إلى السَّاديَّة والتلذُّذ بأكل ضَحاياه، لا يفرِّق بين كبار في السن وبين صغار لا ذنوب عليهم، لا فرق عنده بين رجل شرير وبين طيب حسن الأخلاق، بين امرأة محترمة وأخرى عابثة، فبالنسبة له جميع الناس صيد ثمين. إنَّه يمارس لهوه وعبثه وسط الظلام، فهو يخاف ككلِّ الجن من الأضواء، ويخشى افتضاح أمره، وبالتالي قتله من قبل الناس، وهو أيضا لا يكاد يسمع آيات الله تتلى حتّى يولِّي فزعا، هو أيضا يتخيَّر ضَحاياه من البسطاء، غير المتعلِّمين، وأكثرهم أمّيون لا يقرؤون ولا يكتبون، يعتمدون على آذانهم في كل معلومة أو فكرة تصِلهم.
دعيدع كان من الجن
غير أنَّ صفات دعيدع وسلوكيَّاته لا تختلف في شيء عند التأمُّل فيها عن بقيَّة أبطال الحكايات الخرافية في التراث الشعبي: الخبابة، السعلوة، أم حمار، أبو مغوي، الطنطل، جميع هذه الشخصيات لها نفس صفات وسلوكيات دعيدع، فهل هي صور لشخصية واحدة تواجه الناس، وتتلوَّن كما تشاء، أم أنَّها صفات خلقتها ذاكرة مشبّعة بقصَص الجن والعفاريت، فجميع الراوة الذين استأنسنا بحكاياتهم يروون أن دعيدع من الجن، لكن كيف عرفوا أن دعيدع من الجن؟ هل شاهدوه؟ أليس الجن مستترا عن أعين الناس؟ في معجم لسان العرب لابن منظور: «جَنَّ الشيءَ يَجُنُّه جَنّاً: سَتَره. وكلُّ شيء سُتر عنك فقد جُنَّ عنك. وجَنَّه الليلُ يَجُنُّه جَنّاً وجُنوناً وجَنَّ عليه يَجُنُّ، بالضم، جُنوناً، وأَجَنَّه: سَتَره؛ قال ابن بري: شاهدُ جَنَّه قول الهذلي:
وماء ورَدْتُ على جِفْنِه وقد جَنَّه السَّدَفُ الأَدْهَمُ
وفي الحديث: {جَنَّ عليه الليلُ} أَي ستَره، وبه سمي الجِنُّ لاسْتِتارِهم، واخْتِفائهم عن الأبصار».