الطعام وذاكرة الزمان والمكان
العدد 67 - عطف نسق
طيف واسع من التجارب والأحداث تختزنه الذاكرة، أشخاص، أحداث، أرقام، تواريخ ...الخ. وتبقى مذاقات الطعام من عجائب ما يبقى عالقا بها. وهي إذ تنبجس صدفة من سجف النسيان ، فهي ترد على الخاطر مضمّخة بعبق الزمان متدثّرة بدفء المكان، تبعث فينا حنينا إلى أزمنة متباعدة وأماكن باتت تسكن فينا بعد أن غادرناها وأشخاص ظلوا معنا، لم نفارقهم، رغم بعد الشقّة وطول الغياب. وإذا تحدّثنا عن بعض الأكلات الشعبية التي لا تكاد تكون لها قيمة خارج حدود المناطق التي تعرف فيها فإنها تستمد أهمّيتها وكلّ سحرها من واقع التجربة لحظة، ووسطا، وكيفية إنجاز. كثير منها لا يلتفت إليه خارج المناطق التي ذاعت فيها. فهي في نظر غيرك لا شيء وهي في نظرك لا تقدّر نفاستها بأيّ شيء.
خواطر جالت في ذهني بعد لقائي صدفة مع صديق قديم في مطار تونس قرطاج. كان قادما من أمريكا التي هاجر إليها منذ ما يزيد عن أربعين عاما حيث تزوج وأنجب بنتين تبادلنا أرقام الهاتف واتفقنا على اللقاء. دعوناه وعائلته لزيارتنا فقال شرط أن يكون الغداء «فتات». ضحكنا من طلبه الذي بدا لنا غريبا. من سيعدّه له؟ فقد ذهبت اللواتي يقدرن على طبخه.. وفي الأخير وعدته أني سأعدّه له بنفسي.
أكلة الفتات من الأكلات الشعبية التي ألفناها في صغرنا، يعرفها أهالي منطقة نفزاوة من الجنوب الغربي لتونس. لا يكاد أهل الحواضر من ساكنة المدن يسمعون عنها شيئا. وهي تقوم على إعداد مرق قوامه ماء وشيء من زيت الزيتون ومعجون الطماطم وعدد من التوابل وحبة بصل وقليل من الثوم يضاف إلى ذلك حبوب جافة قضت الليل في الماء وهي العدس والحلبة والفول المصري والحمص، دون أن ننسى سمك الوزف وهو ضرب من سمك السردين الصغير يجفف ويملح، عثرت عليه بشقّ الأنفس. عندما يكون المرق بصدد الاستواء فوق النار تكون عجينة الطحين تتخمّر ليتولّى الطّاهي تسطيح القرص بعد الآخر، في شكل دائري، كما يفعل صانع البيتزا، مع ترقيق أكثر لقرص الفتات. كانت الوالدة عائشة رحمها الله، تستعمل قطعة من القصب تساعدها على تسطيح القرص. وجدت في القلقال Rouleau à patisserie عوضا عنها. وكان لا يفوتني أن ألقي في كل مرة شيئا من الطحين فوق القرص المسطح حتى لا يلتصق التالي منه بالذي سبقه حركة أشاد بها صديقي الذي كان يتابع كلّ حركاتي، ولا يدّخر جهدا في إبداء الرأي حتى يظهر للجميع أنه ليس أقلّ خبرة مني. وعندما تهيّأ لي أنّ ما فوق النار استوى تماما وعبق المكان برائحته أخذت أقراص العجين واحدا بعد الآخر لأتولّى قسمتها إلى قطع ألقيها في المرق الذي يغلي فوق النار. وإن هي إلا دقائق معدودات حتى أطفأت النار وأعلنت الغداء جاهزا. ملأت صحني وصحن صديقي. وحده ابني رأى أن يشاركنا الغداء أما بقية أفراد عائلتي وعائلته فقد حبذوا طعاما طلبوه من الخارج. أعدنا ملء صحوننا واتفقنا على أنا أصبنا من طعام ليس أطيب منه.
لم يكن لنا بد من المقارنة بين أكلاتنا الشعبية وما تشهده باحات الأكل الحديث من أطباق البرغر والبيتزا وما شابههما. لم يكن من شك بيني وبين صديقي أن أكلة الفتات ألذ من أي طبق إفرنجي يمكن قياسه به. فمكوّناتها بيولوجية صحيّة تتضمّن بروتينات نباتية وحيوانية. وهي على كل حال أفضل من الأكلات السريعة التي باتت طاغية رغم تحذير الأطباء منها. أما أبرز فائدة للأكلة الشعبية فهي تتمثل في كونها بلسما للروح وشفاء لأدوائها، تردّك إلى طمأنينتك ، تهدّئ من روع الأيام بما تتيحه لك من استعادة للدفء العائلي القديم. تجعلك تشعر أن من فارقك مازال نابضا بالحياة في داخلك. إنها أكلة حاضنة تحرص على أن يجتمع أفراد العائلة عليها. لا يمكن أن نتناولها خارج البيت. وهي لا تنتظر أحدا. وإنّما ينبغي أن يكون الجميع في انتظارها. في حين أن البرغر هو طعام الشخص الفرد اختار مكوّناته وحده على النحو الذي يريده فلا حاجة لأن يشارك غيره فيه. أما الأكلة الشعبية فلا يمكن أن تنجز إلا بعقلية تشاركية من لحظة الإعداد إلى لحظة التناول. إنه طعام الألفة والجماعة واللقاء العائلي. إنه يحيي فيك ذكر الأم. ويذكرك بالموطن. ويعود بك إلى الوطن. فهو ليس هوية الإنسان عندما تلتبس لديه الهويات فحسب. وإنما هو رحيقها، أساس كيانها، ونسغ وجودها. فالهوية ليست كتلة اسمنتية جامدة وإنما هي معطى لزج متحرك قابل لأن يتأثر ويتغير قليلا أو كثيرا. ولا بد من عنصر قوي يحافظ على الأصل فيه. وأحسب أن الثقافة الشعبية بكل ما تتضمنه تمثل أحد مكوناته الأساسية.
إن الأكلة الشعبية من العناصر الأساسية التي يقوم عليها الإحساس بالانتماء إلى ثقافة وعادات وتقاليد تذكرك بأنك شجرة عروقها ممتدة في الأرض مهما شطّ بك النوى.
تعاهدت مع صديقي على أن يكون اللقاء بيننا ثابتا مستمرا كلّما جمعنا الوطن وأن نلتقي المرّة القادمة على أكلة شعبية أخرى أقررنا بصعوبة إعدادها ولكن اتّفقنا على أن نتعاون حتى تكون فاكهة اللقاء.