فصلية علمية متخصصة
رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم
العدد
61

إطلالة على دراسات المركز الوطني الجزائري للبحوث في عصور ما قبل التاريخ وعلم الإنسان والتاريخ

العدد 16 - جديد النشر
إطلالة على دراسات المركز الوطني الجزائري للبحوث في عصور ما قبل التاريخ وعلم الإنسان والتاريخ
كاتبة من مصر

 

نعرض في هذا العدد لمركز بحثي مرموق استطاع على مدى أكثر من نصف قرن أن يقدم نشاطاً علمياً. بحثياً وميدانياً بمنطقة عربية حفرت تاريخها النضالي لتصبح بلد المليون شهيد.. هي الجزائر صاحبة الثقافة الثرية والمتنوعة، والتي أصبح لها اتجاه علمي بارز في مجال الفولكلور والأنثروبولوجيا.. وقد عرضنا في أعداد سابقة بعض إصدارات أطلس الفولكلور الجزائري.. واليوم نعرض لبعض إنتاج المركز الوطني الجزائري للبحوث في عصور ما قبل التاريخ وعلم الإنسان والتاريخ، الذي حفل بدراسات جد رائعة في الحكايات والأشعار والأمثال والموسيقى والتصوير الشعبي.

وقد أنشئ المركز في البداية باسم المركز الجزائري للبحوث الأنثروبولوجية وما قبل التاريخ والإثنوغرافيا(C.A.R.A.P.E)  سنة 1955، وأصبح في عام 1964 يسمى بـمركز البحوث الأنثروبولوجية وما قبل التاريخ والإثنوغرافيا (C.R.A.P.E)، قبل أن يلحق عام 1984 – تراثاً ونشاطاً- بالمركز الوطني للدراسات التاريخية. ومن خلال المرسوم التنفيذي رقم 93-141 المؤرخ في 14 يونيو 1993، يتحول المركز الوطني للدراسات التاريخية إلى المركز الوطني للبحوث في عصور ما قبل التاريخ وعلم الإنسان والتاريخ

 Centre National de Recherches Préhistoriques Anthropologiques et Historiques (C.N.R.P.A.H).

والذي أصبح عام 2003 مؤسسة عمومية ذات طابع علمي وتكنولوجي. وتتمثل أنشطة المركز الذي تتخذ حروفه العربية الأولى (م.و.ب.م.أ.ت) كما جاء تحديده في مرسوم الإنشاء في مجال البحث في المجالات الثقافية وتفاعلات الإنسان مع بيئاته المختلفة منذ عصور ما قبل التاريخ إلى يومنا هذا. فالأمر يتعلق ببحوث ميدانية تمر بعدة مراحل: من التنقيب وتجميع المعلومات إلى غاية الأعمال المخبرية.

والمركز يتكون من عدة فرق بحث تضم باحثين دائمين وباحثين مشتركين، وغالباً ما تكون المهام الميدانية متعددة الاختصاصات. كما أنها تجمع الأنثروبولوجيا، ما قبل التاريخ، وغيرها من التخصصات الأخرى وبالتعاون مع المصورين ومختبرات تقنية. وقد نشر المركز مختلف أعماله ونتائج دراساته عبر منشورات خاصة به مثل Lybica ومجلة القصص والتاريخ وأخرى تسمى الإنسان، كما قام بنشر بحوثه في مجلات ودوريات دولية. وللمركز عدة مخابر للبحث من ضمنها مخابر تضطلع بالبحوث ذات الطابع الأنثروبولوجي، كما يحتوى مكتبة غنية بكتب ودوريات علمية وأرشيف كبير يحتوي على مادة إثنوغرافية لا يستهان بها. ونبدأ إصدارات المركز بكتاب شيق عن الطقس والشعر والمرأة.

لعبة البوقالة

 أصدر المركز عام 2009 كتابا له خصوصية بالمجتمع الجزائري تحت عنوان «لعبة البوقالة: الطقس والشعر والمرأة» لفاطمة ديلمي، والكتاب من القطع الصغير ويقع في 181 ص. وقبل عرض الكتاب نشيد بالتقديم الذي كتبته الشاعرة والباحثة الليبية كريمة الشماخي؛ مؤلفة كتاب البوكالة في الموروث الشعبي الليبي، إذ يحمل هذا التقديم تفاعلاً علمياً بين الباحثتين في موضوع عربي مشترك. بل إن التقديم لم يخل من احترام متبادل، حيث تقول «في الحقيقة كتابة مقدمة لكتاب الأستاذة فاطمة الديلمي هي من الأمور التي تتسع لها العقول والقلوب في آن واحد وذلك لما عرفته عن الأستاذة من حرص كبير على انتقاء الموروث الشعبي على بساطته». وقد أفادت فاطمة ديلمي بالفعل مما طرحته كريمة الشماخي، وقدمت موضوعاً تميز بالجدية والتحليل الدقيق والمقارنة التي كان القارئ في النهاية هو الفائز الأول بها.

والبوقالة هي ممارسة تقوم على معرفة الطالع وتملك وجوداً تاريخياً ومعاصراً، وهي شديدة التعقيد من حيث وسائلها وغاياتها. وتبدأ المؤلفة كتابها بفصل حول البوقالة من قراءة الطالع إلى اللعبة، وهنا يمكننا الوقوف على اللعبة والطقس في آن، واللعبة تتمثل بداية في بعض الإجراءات الطقسية التي تبدأ بمرحلة تحضير بعض العناصر التطهيرية كالنافخ أو الكانون الذي يوضع بداخله الفحم ثم البخور (السبع بخورات)، وسبع خيوط مأخوذة من ملابس أرملة، وقليل من الحنة، وهذه العناصر تقوم بوظيفة إبعاد بعض القوى غير المرغوب في حضورها. أما العناصر التنبؤية فهي قلة من الفخار تدعى «بوقالة»، وكمية من ماء جمع من سبعة عيون ماء، وقليل من الزيت، وقطع من الحلي توضع داخل القلة. وعند اكتمال هذه العناصر تجلس قائدة اللعبة متوسطة حلقة النساء أمام طاولة منخفضة فوقها البوقالة/القلة. ثم يبدأ تطهير المكان بتبخير الغرفة، وقلب البوقالة فوق الدخان المنبعث من النافخ، ويصاحب ذلك قراءة صيغة أو أكثر من الصيغ السحرية تتعدد بتعدد البخورات التي تم حرقها، مثال:

          بخرناك بالجاوي          جيبي لنا الخبر من القهاوي

ثم يعاد قلب القلة وتملأ بالماء الذي تم جمعه، وقد يضاف حلي المشاركات إلى القلة، وهذا يتوقف على طريقة القرعة المراد جمعها، ثم تقوم القائدة بقراءة بسملة تدعى الفراش، إذ لا تسترسل النسوة في هذه اللعبة مالم تبدأ بالتعويذة والصلاة على الرسول، مثال:

          باســـم اللــه بــديت               وعلى النبــي صليـت

          وعلى الصحابة رضيت            يا ساكنيـــن البيــت

          باســــم اللــه بديـت                وعلى النبـي صليــت

          وعلى الصحابة رضيت            وعيطت يــا خالقــي

          يا مغيـث كــل المغيث              يا رب السماء العالي

وبعد ذلك يأتي دور إنشاد البوقالة التي تكون في شكل رباعيات غالباً، تدور حول الحب العفيف وفراق الأحبة، وهي إما من حفظة قائدة اللعبة أو من ارتجالها مثال:

          العشق فـــــي دارنــا              والعشـــــق ربانـــا

          العشق فـــــي بيرنــا               حتى حـــلا مانـــــا

          العشق محبقـة حتـــى             رمـــات الأغصــــان

          العشق مــــا ينحيـــه    قاضـي ولا سلطــان

ثم يتم الربط بين دلالة الأشعار والمشاركات بإحدى طريقتين تختلفان باختلاف المدن،

الطريقة الأولى: أن تقوم إحدى المشاركات- أو تأمرها القائدة- بعقد عقدة بحزامها وعقد النية سراً على شخص ما حاضرا أو غائبا، وبعد سماع الشعر تفك المشاركة العقدة وتفصح عن اسم الشخص المعني بالفأل المتضمن في البوقالة/الشعر قائلة: «عقدت على فلان أو عقدت على فلانة».

الطريقة الثانية: أن يتم استخراج قطعة حلي من البوقالة/القلة وتكون صاحبتها هي المعنية بالفأل المتضمن فيها، إذ تحاول المشاركة المعنية تأويل محتواها وإسقاطه على الذي نوته، مع رجاء أن يتحقق ذلك فعلاً.

وهكذا نكتشف أن البوقالة هي لعبة وطقس ونص شعري ومسمى للقلة الفخارية.. وهي تمثل جزءا من تاريخ الشعوب في شمال أفريقيا، والتي ترتبط ارتباطاً مباشراً بعدة جوانب منها انتقاء شهر رمضان المبارك على الأغلب في بناء الأسس النفسية التي ترتبط مباشرة بتحقيق الأمنيات في هذا الشهر الفضيل ما دامت السموات السبع مفتوحة بشكل مباشر. كما أن تواجد الحالة المكانية حيث تتحرك الأكبر سناً في إدارة البوقالة، دليل لمكانة هذه السيدة ذات الخبرة.

وتستطرد المؤلفة في شرح مراحل اللعبة وتحليليلها والشروط النفسية والتقنية والزمانية والمكانية والمعرفية المرتبطة بها، فضلاً عن وظائفها النفسية والاجتماعية والسحرية وتحولها من الأسطورة إلي اللعبة. ثم تشرع في بحث الأصول الأنثروبولوجية للعبة البوقالة، من خلال منهج هجرة العناصر الثقافية. وتتساءل الباحثة عن جذور البوقالات الجزائرية: هل هي تركية أم أندلسية أم أمازيغية.. وكيف رحلت العناصر.. مستشهدة بنماذج من البوقالات التركية. ثم تبحث في طقوس العرافة وتأويل الأصوات العفوية وغيرها للوصول إلى الأصل الأنثروبولوجي لهذا الفن، الذي يعانق الكثير من الطقوس التي أوجدتها شعوب البحر الأبيض المتوسط.

ثم تخصص المؤلفة فصلاً لبحث الوحدة والتعدد في الشعر الشفوي النسوي، مستعرضة أنواع هذا الشعر كالموجز الأفغاني أو اللاندي (الذي تنشده نساء البشتون في أفغانستان)، والدارمي(الذي اشتهر به نساء الكوفة والكويت)، والهجيني، والتبراع، وغناوة العلم الليبية، ورباعيات نساء فاس، والحوفي التلمساني (مقطوعات شعرية رباعية غالباً وهي في الحديقة تلعب بالأرجوحة أو وهي في بيتها تقوم بأعماله)، والايزلي (فن شعري شفوي أمازيغي). ثم تستعرض فن البوقالة الليبية، وتقارنه بنصوص البوقالة الجزائرية. وتؤكد المؤلفة على أن البوقالة هي لعبة موجودة حتى اليوم في الجزائر وليبيا، وتضيف قولها: لقد سمحت لنا دراسة الشاعرة الليبية كريمة الشامخي بأن نكشف أن لعبة البوقالة تكاد تؤدى بالطريقة ذاتها التي تؤدى بها في الجزائر في العقود الأخيرة، وأداؤها موجود في المدن الساحلية بشكل خاص وفي القصبات بشكل أخص في البلدين معاً، وبعض النصوص كذلك تكاد تكون هي نفسها أيضاً.

وفي فصل بعنوان «الخطاب المناوئ» تناولت المؤلفة موضوعات الحب في التراث العربي، والعالم الدلالي لخطاب البوقالة، والدلالات المتمردة والخاضعة. أما شعرية البوقالة التي تناولتها المؤلفة في فصل مستقل، فقد عالجت فيه نظرية النوع ومشكلة التراتبية، ودراسة الشفوي، والتدوين ومشكلة النوع، ثم البيانات الشكلية، مشيرة إلى أنه من الصعب الحديث عن بنية شكلية واحدة للبوقالة، فهو شعر يملك بنية إيقاعية خاصة به، وهي بنية متحركة تحررت من كل قيود الشعر العربي التقليدي، ولا تخضع إلا للشعور. ثم انتقلت المؤلفة لبحث وظيفة التناص في شعر البوقالة من خلال قراءة النصوص في إطار النقد الثقافي ومفهوم التناص وأنماطه وصيغه وتطعيم الرباعيات بأبيات جديدة وقد استعانت بالعديد من النصوص المجدولة لرصد عناصر التناص. واختتمت فاطمة ديلمي كتابها بمبحث تحت عنوان «المضمرات في خطاب البوقالة أو لغة الوجود المنفي» تناولت فيه البوقالة من النص الأدبي إلي النص الاجتماعي، ثم خطاب البوقالة بين الظاهر والمضمر، والمضمر في الخطاب المؤسس للتحول، وأخيراً المضمر من خلال الصورة التقليدية. وقد أرفق كتابها بملحق شعري لنصوص البوقالات، نختار منه البوقالة التالية:

          خليلتـــي فــاطمــــة               سبحـــان خــلاقـك

          ريت نجمة فــي السماء           حسبتــهـا ســاقـك

          في النـهــار نتـوحشك             فــي الليـل نشتاقـك

          يــاريــتــك خــاتـــم      فــي يــــد عشاقـك

 وتشير فاطمة ديلمي إلى أنها حينما لاحظت أن بعض النصوص التي جمعتها وردت لها روايات مختلفة عند سعد الدين بن شنب، أدرجت ما ورد منها عنده كفاتحة لبحث ممكن. أما البوقالات الواردة في مجمل البحث والتي لم تتم الإشارة إلى مصدرها هي من رواية صاحبته، وهي نصوص كان بعضها متداولاً في الجزائر العاصمة خلال سنوات الثمانينات والبعض الاخر هو متداول حالياً.

الأمثال الشعبية في منطقة فوراية

وفي مجال الأدب الشعبي أصدر المركز عام 2009 كتاب الأمثال الشعبية في منطقة فوراية (تيبازة)، وهي دراسة ميدانية لبوردوز عبد الناصر، ضمن العدد 12 لسلسلة جديدة. أجريت الدراسة في إطار تحضير الباحث لشهادة الماجستير التي نوقشت بمعهد الثقافة الشعبية بجامعة «أبو بكر»  بلقايد بتلمسان. بدأ الباحث بشكر لكل من ساعده، وقد أصاب كل الحقيقة في شكر خاص للآنسة نزهة معمري التي قامت بتصحيح ترجمة الأمثال من الأمازيغية إلي الفرنسية، وكذا كتابة نصوص الأمثال بالصّواتة الدولية؛ وذلك لصعوبة تعريب وترجمة الأمثال، نظراً لخصوصيات اللهجة التي يتعذر نقلها بالصورة التي أرادها لها المثل، إذ تفقد الكثير من جمالية التعبير وقوة التأثير عند الترجمة؛ يقول بوردو: لقد حاولنا قدر المستطاع أن نجد التعبير المقابل في اللغة العربية لنكون علي الأقل أمناء في نقل المثل بكل ما يحمله من دقة وبلاغة، وعند استحالة توفر ذلك، اكتفينا بالترجمة الحرفية لها. وقد اهتم المؤلف برصد تعريفات المثل في المصادر العربية القديمة والحديثة، وانتهى إلى تعريف من مجمل ما اطلع عليه مفاده أن الأمثال أقوال مأثورة تلخص تجربة أو تعكس فكرة فلسفية بسيطة شكلها الأدبي مكتمل، يقتضي الإيجاز وجمال العبارة، يراد فيها المعنى من وراء معنى آخر على سبيل التمثيل والتشبيه.

أما منطقة «فوارية» التي تمثل ميدان الدراسة فقد اهتم المؤلف بتقديمها للقارئ في مدخل الدراسة، وهي إحدى الدوائر الساحلية لمنطقة تيبازة، ذات الطابع الجبلي، والتي تتمتع بمناخ البحر الأبيض المتوسط، وشرح تأثير ذلك على القطاعات الزراعية والصناعية والسياحية، ثم العمارة، وأصل تسمية المدينة «فوارية»، والتشكيلة الجنسية للسكان حيث يقطن منطقة «فوارية» البربر؛ وهم أمة ذات قبائل وبطون وعشائر كثيرة عمّروا إفريقيا من غربي مصر إلي المحيط الأطلسي، ويتصلون من ناحية الصحراء بإفريقيا السوداء. واعتمد الباحث في تناول موضوعه على الدراسة الميدانية للأمثال المتداولة شفاهة بين الناس في المنطقة، وقد لاحظ أن المجتمع الشعبي في هذه المنطقة قد اعتراه الكثير من التغيرات ومظاهر الاختلاف، منها انكماش اللسان البربري بالمدينة خاصة لدى فئتي الأطفال والشباب المتعلمين، كذلك تغير نمط الأسرة في المدينة حيث تقلصت إلى الأسرة النووية، وباقتحام المرأة فيها لميدان العمل انقلبت طبيعتها، وتغيرت وظائف أفرادها، واستحدثت أمثال شعبية معبرة عن هذا الوضع الجديد، منها هذا المثل الذي يجسد السخرية تجاه الرجل الذي يقوم بأعمال البيت: «عْلي بَصّحْ يتّزط» بمعنى (اسمه علي ومع ذلك ينسج)، ويكشف المثل عن أن عملية النسج كانت موكولة للنسوي، أما الأسرة في الريف فتتكون من أسرتين نوويتين فأكثر، ويتولي الجد تسيير شؤون العائلة. وتأتي الأمثال معبرة عن دور ومكانة الأب الذي لايجوز لأحد أن يخالف له أمرا فيقولون: «أسعديك أبابا أولاش مني أكينهن» ومعناه ( يا لحظك ياأبي، لا أحد ينهاك). وتلعب الأم دورا مكملاً لدور الأب داخل الأسرة، حيث تشكل الدعامة التي يرتكز عليها بناء الأسرة بحكم وظيفتها الأساسية داخل الأسرة إلي جانب عملها خارجه حيث تقوم بجلب الماء وجمع الحطب، وتساعد زوجها في الحقل، ويعزى إليها حصاد الشعير، وعلى هذا يصدق المثّال حين اعتبر المرأة ركيزة البيت والرجل سقفه فيقولون: «همطّوكث مرست وّخام أرياز ذ ساثور» ومعناه ( المرأة ركيزة البيت والرجل عارضته الأفقية). كما تكشف بعض الأمثال عن أن بعض الأباء يختارون لأبنائهم العروس، ويفرضوا العريس على بناتهم، ويفضلون القرابة، فيقولون «هيا زيط اسوار خير سدّي نتمورا( أي دجاجة من الجوار أفضل من لبؤة من البلاد البعيدة). مع كل ما ذكر يبقى الأمر نسبياً إذ تكشف الدراسة عن بعض العائلات في المدينة التي لاتزال تحافظ على تراثها الشعبي وتمارسه إلي حدّ ما، وعلى النقيض من ذلك نجد بعض الأسر في الريف ممن لحقها التغيير بسبب المواصلات، ومن ثم تتمرد على هذا التراث. ويذكر في هذا الإطار أن الأدب الشعبي في هذه المنطقة موكول إلى الذاكرة الجماعية من فئتي الشيوخ والكهول، وفيما يخص المثل الشعبي، فإن النسبة الكبيرة من حفظته يمثلها العنصر النسوي من الفئتين المذكورتين.

والحقيقة فإن الدراسة حافلة بالعديد من عناصر الموروث الشعبي في علاقتها بالأمثال، حيث اجتهد الباحث في جمعها، وتحليلها ومنها عناصر ثرية من المعتقدات، والعادات والتقاليد، ومنها المتعلقة بالولادة والفترة التي تليها من حياة الطفل، فضلاً عن مرحلة الزفاف ويوم دخول العروس بيتها الجديد، بالإضافة إلي «بوغنجه» المرتبط بفترات الجفاف، «ويناير» المتعلق بالطقوس الزراعية. وفي إطار رصد الأمثال التي تحمل بعض المعتقدات نجد أن التفكير الخرافي متجذر لدى العامة بمن فيهم بعض المثقفين، ولكن يظهر الاستيحاء من الدين في بعض الأقوال المأثورة فيرددون: «مَتْشَي رَمْضَانْ ذَ رْفيقْ» ومعناه (من يفطر في رمضان، صديق للكلاب). ومن الموروثات في مجال العادات والتقاليد: أنه أثناء الوضع تقابل الأم بقصعة خشبية فارغة بحيث يسقط بداخلها المولود فور خروجه إلى الحياة، فتقوم المولّدة بقطع حبله السري بداخلها ثم يخرج بعد أن يمسح جسده بقطعة من قماش لين ليوضع فيما يسمي محلياً بـ»هندوكث»، وهي عبارة عن قفة عريضة دائرية الشكل تصنع من الدوم ليمكث بها سبعة أيام ثم يوضع بعدها في «دوح» وهو مهد صغير مصنوع من القصب، وقد نقل لنا المثال هذه العادة فقال: «لُو كَانْ سْعِيغْ زّهَر فْ هْعَنْيُورْتْ، لُوكَانْ مُحَمْديِوْ يَلاَّ ف هَنْدُوكْثْ»، ومعناه ( لو كتب الحظ على جبيني لوضع ابني محمد في قفة الدوم)  وهو مثل يضرب للفقير المعدوم يخونه الحظ دوماً. 

وقد تضمن الكتاب خمسة فصول، الأول يضم الجهود السابقة في دراسة الأمثال، وأهل الشفاهة ومقامات الأمثال، وتصنيف المثل حيث يقول المؤلف: ومن بين طرق التصنيف المعروفة ارتأينا اتباع تلك الطريقة التي تصنف الأمثال حسب الموضوعات، وإن كان الكثير من المختصين يرى أنها ليست الطريقة الأنجح، لكن اعتقادنا أن هذا التصنيف يحيل القارئ أو المهتم بالأحوال الأخلاقية والاجتماعية وغيرها من الخصوصيات التي تطبع جماعة ما بطريقة سهلة..والتعرف على نظرة مجتمع ما إلى البخل مثلاً أو التبذير أو القناعة أو التعاون، وقد بلغ عدد الموضوعات نحو تسعين موضوعاً مس جوانب الحياة المختلفة، بدأها بموضوع «الإتكال» وأنهاها بموضوع «الوقاحة» في الملحق المصنف باللغة العربية. وهذه الأمثال يجمع بينها الرؤية الفلسفية التي تقوم عليها المعاملات وبخاصة العلاقات الاجتماعية،.وقد ورد بالكتاب أربعمائة وواحد وثلاثين مثلاً مترجمة من البربرية إلي العربية، مع شرحها وبيان مضرب المثل، ومورده كلما توافر ذلك، فعندما يرد مثلاً في موضوع الحظ (قلد كل إنسان ما عدا المحظوظ)، فهو يشرح مضرب المثل الذي يقال في التحذير من الجدال مع من ابتسمت له الدنيا أو محاولة النيل منه لأن ذلك لا يجدي شيئاً. كما اهتم المؤلف بتوثيق الأمثال بالكتابة الدولية بالحروف اللاتينية في ملحق منفصل. ويذكر بوردوز أن مصادر المادة التي توافرت لديه في جمع الأمثال وتحليلها هي: البيئة المحلية (طبيعية واجتماعية)، الدين الإسلامي وبعض المعتقدات الروحية، أمثال من التراث العربي، أمثال جزائرية، أمثال عالمية. ومن الأمثال التي صدرت عن البيئة المحلية وصورت ما فيها من جبال ووديان وبحر وحيوانات، قول العامة «مَا ني سِ سْتَكِّيذْ، تْسَوَنْتْ» ومعناه( من حيثما قصدته واجهتك دروب وعرة) إشارة إلي الجبل، ويضرب في إبراز صعوبة الحصول علي الشيء أو يقال فيمن كان طبعه العناد.

أما الفصل الثاني من الكتاب فيشتمل علي الصفات الأدبية للمثل متضمناً معنى ومبنى الأمثال، ومضمون الأمثال، والصيغة التركيبية واللغوية لكل مثل. على حين اهتم في الفصل الثالث ببحث الجملة ومكوناتها في الأمثال من خلال الإسم ونوعه، والجمع ونوعه، والضمائر وأنواعها، والفعل وظاهره. حيث يفصل لذلك في جداول مفصلة. أما الفصل الرابع فقد عالج فيه نظام جملة المثل وأقسامها. منهياً كتابه بفصل حول بلاغة المثل من حيث المعاني والبيان والبديع والإسناد البلاغي. وقد تميز الكتاب بمجموعة من الملاحق المهمة نذكرمنها الملحقين اللذين أشرنا لهما واللذين يضمان الأمثال بالحروف العربية واللاتينية. فضلاً عن مجموعة كاشفة من الفهارس هي: فهرس موضوعات الأمثال باللغة العربيّة - فهرس موضوعات الأمثال باللغة الفرنسية- فهرس الرواة- فهرس الأعلام - فهرس الحيوانات والطيور- فهرس الأمكنة - فهرس الأطعمة- فهرس النباتات - فهرس موضوعات الأمثال. وقد توصل المؤلف لمجموعة من النتائج العلمية لبحثه من أهمها أن الأمثال الأمازيغية لا تختلف في شكلها وصياغتها وموضوعاتها ونظام بنائها وطريقة نطق أغلب الحروف وكذا اعتمادها على أساليب التشبيه والاستعارة والكناية عن أمثال الجزائر الناطقة بالدارجة العربية، وهو أمر يمكن أن يفتح آفاقاً لدراسات مقارنة في المستقبل. 

 

القصص والتاريخ

وقد أصدر المركز عام 2005 كتاب القصص والتاريخ: التمثيل الرمزي لحقب من التاريخ الاجتماعي الجزائري، وهو مجموعة نصوص بحثية جمعت تحت إشراف عبد الحميد بورايو. والكتاب يقع في حوالي 215 صفحة بالعربية وبحثين بالفرنسية في 38 صفحة. وفي تقديمه للكتاب يشير بورايو إلى أن الكتاب يهدف إلى مد الجسور بين التاريخ الاجتماعي ورواية القصص، وذلك من خلال السعي إلى تأسيس منهجي يسمح بتحديد شروط اعتماد طريقة واضحة ومنسجمة بخصوص دراسة الآداب الشفوية. يرمي أيضاً إلى بيان أهمية التفكير النظري والمنهجي المنظم والذي لا يمكن للبحث العلمي أن يتقدم في ميدان العلوم الإنسانية والاجتماعية بدونه. ورغم قصر المقدمة فإنها تحوي أفكاراً مركزة حول إشكالية الحكي الشعبي والتاريخ بالمفهوم العلمي، وهي إشكالية عولجت في بحوث سابقة في أكثر من قطر عربي، ويقول المؤلف وقد تعود نقطة البداية في هذا المبحث المهم لدراسة عبد الحميد يونس حول السيرة الهلالية في أطروحته للدكتوراه عام 1950 تحت عنوان الهلالية بين التاريخ والأدب الشعبي.. وقد تلت هذه الدراسة الرائدة عشرات الدراسات المتخصصة الأخرى. ومن جانبنا نحن ولأننا مهمومون بخلق  حلقة تواصل عربي مشترك من خلال مجلة الثقافة الشعبية لإثراء تراثنا الشعبي، سنقوم برصد بعض من هذه الدراسات التي توافرت لدينا ليضمها المركز لأرشيفه ضمن مشروعه في هذا البحث المهم وهذه الدراسات (حسب الترتيب الهجائي):

- ابراهيم إسحق ابراهيم. السيرة الهلالية بين التاريخ والأسطورة: محاولة في التحليل المقارن.- المأثورات الشعبية.- س5، ع20(أكتوبر 1990).- ص7-21.          

- ابو عبد الرحمن بن عقيل الظاهري، عبد الحليم موسى. بنو هلال: أصحاب التغريبة في التاريخ والأدب.- الرياض: النادي الأدبي، 1981.

- احمد أبو زيد. الملاحم كتاريخ وثقافة .- ص 1001-1037 .- في: دراسات في الإنسان والمجتمع والثقافة : الفرد والمجتمع والإنسان والثقافة- ج2 - القاهرة : المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية ، 1996.     

- بصيرة بنت إبراهيم الداود. دور الرواية الشفوية في التوثيق التاريخي- الدارة .- س27، ع2 (1422 هـ) .- ص 77-96.

جميل كاظم المناف. الأسطورة والواقع التاريخي .- التراث الشعبــي.- س6، ع5 (1975) .- ص41-50.

- حسين فوزى النجار. التاريخ والسير.- القاهرة: الهيئة العامة لقصور الثقافة، 1998.- 203ص.- (سلسلة مكتبة الدراسات الشعبية؛ 31) .- صدرت ط1 عن الدار المصرية العامة للتأليف والترجمة والنشر ، 1964 - (المكتبة الثقافية؛ 121).

- زاهر رياض. قصة ملكة سبأ بين الأسطورة والتاريخ.- القاهرة: دار المعارف، 1960.- 104ص.- (إقرأ؛ 215). 

سيد خميس. القصص الدينى بين التراث والتاريخ .- ط1 .- القاهرة : الهيئة المصرية العامة للكتاب ، 2001 .- 164ص .- (مكتبة الأسرة ؛ الأعمال الخاصة) .           

- صفوت كمال. تأملات في التاريخ والأدب الشعبي .- الفنون الشعبية .- ع52 (يولية- سبتمبر 1996) ص7-15 .      

- عبد الحميد يونس. الهلالية في التاريخ والأدب الشعبي .- ط2 .- القاهرة: دار الكتب المصرية،  1995 .- 234ص .- أصلاً أطروحة (دكتوراه) – جامعة القاهرة، كلية الآداب، قسم اللغة العربية .- (صدرت أيضاً عن دار المعرفة، 1968 ، ومكتبة الدراسات الشعبية ، الهيئة العامة لقصور الثقافة،2004 ).

- عبد الرحمن أيوب. الآداب الشعبية والتحولات التاريخية والاجتماعية: مثال، سيرة بني هلال.- عالم الفكر.- مج17، ع1(أبريل- مايو- يونية 1986).- ص19-46.

- عبد الله بن محمد المطوع. الرواية الشفوية مصدراً لتاريخ جنوب نجد .- الدارة .- س27، ع2 (1422 هـ) .- ص 97-122

- على الشبانى. إشارات حول الامتداد التاريخي للشعر الشعبي العراقي.- التراث الشعبي.- س5، ع12(1974).- ص39-48.         

- فرج الله صالح ديب. الثقافة الشعبية كمدخل لقراءة جديدة للتاريخ.- ص85-100.- : المؤتمر الأول للثقافة الشعبية في لبنان: الثقافة الشعبية من مقومات وحدة الشعب والوطن، 9-11 كانون الأول، 1993.- بيروت : الجامعة اللبنانية، كلية الحقوق والعلوم السياسية، 1993

- قاسم عبد قاسم. بين التاريخ والفولكلور.- القاهرة: الهيئة العامة لقصور الثقافة، يناير 1997.- 204ص.- (سلسلة مكتبة الدراسات الشعبية؛ 13) .- (صدرت ط2 .- القاهرة: عين للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية، 1998).

- كمال الدين حسين. العلاقة المصرية الحبشية بين التاريخ والسيرة.- ص219-238.- في : المؤتمر الأنثروبولوجى الثاني: مصر أفريقيا/ تحرير السيد حامد.- بنى سويف: جامعة القاهرة، كلية الآداب، 1998.

- كمال نخلة. الثقافة الشعبية والتاريخ.- ص853-855.-  : المؤتمر الثاني للثقافة الشعبية اللبنانية العربية .- بيروت : منشورات حلقة الحوار الثقافى،  1999.     

- كولا، إليوت. التخيل الشعبي للسندباد- نحو فهم تاريخي للتعدد النصي في ألف ليلة وليلة / ترجمة احمد حسن.- فصول.- مج13، ع1(ربيع 1949) - ص178-196.       

- لطفي حسين سليم. الزير سالم في التاريخ والأدب الشعبي - ط1 .- القاهرة: الهيئة العامة لقصور الثقافة، 2001 - 279ص .- (مكتبة الدراسات الشعبية ؛ 61) .- أصلاً أطروحة (ماجستير ) –جامعة القاهرة، كلية الآداب،  قسم اللغة العربية، 1971.     

- محمد خليفة حسن. الأسطورة والتاريخ في التراث الشرقي القديم: دراسة في ملحمة كلكامش.- بغداد: دار الشؤون الثقافية العامة، 1988.- 182ص - (صدرت طبعة أخرى .- الجيزة : عين للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية، 1997 )

- محمد رجب النجار. فن الأحاجي والألغاز في التراث العربي: مدخل تاريخي أدبي فولكلوري.- المجلة العربية للعلوم الإنسانيـة، جامعـة الكويت.- مج5، ع20(1985).- ص134. 

- محمد رفعت عبد العزيز. الأمثال مصدراً للدراسة التاريخية : قراءة في التاريخ السعودي والتاريخ المصري .- ط1 .- الجيزة : عين للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية ، [1999] .- 64 ص .- (دراسات عين؛10) .      

- محمود فهمى حجازى. المنهج التاريخي في علم المأثورات الشعبية.- الفنون الشعبية.- س2، ع7(أكتوبر 1968).- ص9-17.

- مرسى الصباغ. دور وهب ابن منبه بين الفولكلور والتاريخ .- الفنون الشعبية .- ع46 (يناير/ مارس 1995) .- ص56-64 .        

- منير إسماعيل. في العلاقة بين التراث الشعبي والتاريخ .- ص1101-1104 .-  : المؤتمر الثاني للثقافة الشعبية اللبنانية العربية .- بيروت: منشورات حلقة الحوار الثقافي، 1999.  

- نبيلة ابراهيم. البطولات العربية في الذاكرة التاريخية.- القاهرة: المكتبة الأكاديمية، 1995.- 200ص.         

- هاشم الطعان. مجنون ليلى وذو الرمة وأبو زيد الهلالي بين الواقع التاريخي والرواية الشعبية .- التراث الشعبي.- س7، ع2،3(1976).- ص133-138.                                        

والدراسة التي يقدمها المركز هي إضافة جديدة لما سبق من دراسات عالجت هذا الموضوع حيث ركزت على التراث الشعبي الجزائري من خلال محاور متنوعة من شأنها أن تكشف النقاب عن الجدلية القائمة بين الخيال والتاريخ في المنطقة. إذ تشير المقدمة إلى أنه من الصعب وضع حد فاصل بين الحكي والتاريخ؛ بين السرد التخييلي ورواية الوقائع التاريخية, فعندما يتحول التاريخ إلى سرد للأحداث والوقائع يصبح من الصعوبة بمكان الفصل بين التاريخ من جهة والقيمة الأدبية لعملية السرد في حد ذاتها. والدراسات المنشورة- كما يقول بورايو- لا يمكن لها هنا أن تدعي بأنها أحاطت بكل ما طرحته من قضايا، بل تطمح إلى أن تكون قد أضافت لبنة جديدة لمحاولات سابقة، مثل تلك التي سبق للمركز أن أقام حولها يوماً دراسياً في أكتوبر 1997، ونشرها تحت عنوان(المرويات والتاريخ) وأن تتيح المجال واسعاً أمام معالجات أخرى في المستقبل تعكس تطور البحث العلمي في هذا الميدان الخصب الذي ما انفك يستقطب اهتمام الدارسين والهيآت العلمية في بلدنا وفي العالم. وقد تم تقسيم المواد المنشورة بالكتاب على ثلاثة أقسام تبعاً لطبيعة المدونة المدروسة. في القسم الأول تناول الباحثون موضوع قصص الأولياء الصالحين التي تمثل نوعاً من قصص البطولة الخارقة التي تعتمد على تراث ضخم ما زالت تحتفظ به الذاكرة الجمعية في مختلف مناطق القطر الجزائري، وقد عرف طريقه إلى التدوين وأطلقت عليه الثقافة الإسلامية تسمية (المناقب). جسد في المدونات المذكورة عقيدة عبادة الأولياء، وقدم عن طريقها مبادئه وأسسه العقائدية، والتبرير الأيديولوجي للمراتبية الطرقية، ولشرعية سلطتها، وفي مقابل ذلك، تداولته الأوساط الشعبية فعبرت من خلاله عن شرط وجودها الاجتماعي والسياسي والاقتصادي. كما عُد قدر كبير منه مرجعاً تأسيسياً لانبثاق الجماعات السكانية في فترة تاريخية محددة ومكان معين. وفي هذا القسم نجد ثلاث دراسات الأولى لعبد الحميد بورايو حول القيمة التّعبيريّة لقصص الأولياء في الثقافة العالمة والثقافة الشعبية. والثانية لحكيم ميلود حول الكرامة الصّوفية: مقاربة أنثروبوجيّة لمدوّنة ابن مريم. والثالثة لخالد محمد حول فضاء مدينة الجزائر في المصادر التّاريخيّة والمرويات الشّفاهيّة.

وفي القسم الثاني الذي اتخذ عنوان: الحكاية بالأمازيغيّة (تماشاهمس) نجد معالجات متعددة لمدونة الحكاية العجيبة القبائلية، ويمثل هذا النوع من الحكايات نوعاً قصصياً موروثاً عن الأسلاف استطاع أن يضمن استمراريته بفعل قدرته على التكيف مع مختلف المراحل التاريخية وتمثيله الرمزي للقيم الأسرية والتحولات المعيشية. ولعل مرد هذه الاستمرارية يعود لكونه ارتباطا بنظام الأسرة، الذي عرف ثباتاً نسبياً منذ أقدم العصور في المناطق الجبلية لمنطقة الشمال الأفريقي. وتقدم الحكاية العجيبة عادة صراعاً بين عالمين؛ عالم "النحن" وعالم "الآخرين"؛ قد يكون الآخر جماعة بشرية مختلفة عنا في نظام معاشها وفي تاريخها وثقافتها، وقد يكون كائناً خيالياً يجسد قوى الطبيعة الممتنعة عن السيطرة البشرية والمهددة لوجود الجماعة. وقد تم تناول هذا القسم من خلال ثلاث دراسات أيضاً: الأولى لفاطمة ديلمي حول صورة اليهودي في الحكاية القبائلية. والثانية لزهية طرحة وهي دراسة أنثروبولوجية بنيوية لحكاية قبائلية عجيبة بعنوان "الورد المشتعل". والثالثة لذهبية آية القاضي بعنوان: اللغز في الحكاية الشّعبيّة القبائليّة. أما القسم الثالث والأخير من الكتاب فقد حمل عنوان: "الرؤية التّاريخيّة من خلال رواية اللّغة والشعر والقصّة" وقد تم فيه تجميع المقالات المتعلقة بتجليات مختلفة للرواية السردية؛ فهي قد تؤدى عن طريق العبارات اللغوية النمطية المحفوظة، أو عن طريق الشعر، أو عن طريق تصوير المواقف بالمزاوجة بين الشعر والنثر. ومن ثم فقد اشتمل القسم كسابقيه على ثلاث دراسات الأولى لعبد الحميد بورايو بعنوان "الدّراسة الاستبداليّة لمجموعة من النصوص الشّفويّة لروايات قصص بني هلال المتداولة في الجزائر". والثانية لأحمد لمين حول قصّة حيزيّة بين الحقيقة والخيال، والثالثة لسليم خياط بعنوان: "مواقع القطيعة بين الأبيض والأسود في التعابير اللسانية". وينتهي هذا القسم بدراستين بالفرنسية لخديجة خلادي، الأولى حول مفهوم الزوج couple في الأدب الشفوي، والثانية حول طقوس الغذاء والاسترتيجيات السردية. وقد تميزت الدراسات بملخصات فرنسية للأبحاث العربية، وملخصات عربية للأبحاث الفرنسية. وعلى هذا النحو خرج إلى الوجود مبحث جماعي مهم في حقل الدراسات الشعبية العربية.

أنثربولوجيا وموسيقى

وقد نشط المركز في إقامة العديد من المؤتمرات والمحافل العلمية، وبخاصة خلال عام 2007 وهو العام الذي احتفلت فيه الدولة بالجزائر عاصمة للثقافة العربية. ومن بين الملتقيات المهمة التي أقامها المركز الملتقى الدولي حول “الأنثروبولوجيا والموسيقى بالمغرب والبلاد العربية”. وقد شهد الملتقى ما لا يقل عن خمس وثلاثين مداخلة علمية، أثرتها شروحات سمعية وعروض لصور وأشرطة من الفيديو توالت على مدار ثلاثة أيام من التبادل والنقاش الجاد المتحمس. وقد صدرت أعمال الملتقى في كتاب حمل اسم “أنثروبولوجيا وموسيقى” عام 2008 في حوالي 400 صفحة، وقد ضم الأبحاث التي قدمت باللغتين العربية والفرنسية. وافتتح الكتاب بخطاب للسيدة خليدة تومي وزيرة الثقافة والذي ألقته في افتتاح الملتقى والذي أكدت فيه أن القانون الجزائري ينص صراحة على حماية التراث الموسيقي واتخذت في هذا الشأن ترسانة من الإجراءات التنظيمية لجرد وحماية وبعث تلك التعابير اللامادية من أجل حمايتها وتنميتها. كما اشتملت مقدمة الكتاب على افتتاحية للجنة العلمية للمؤتمر- التي ضمت كل من مهنى محفوفي وحاج ملياني وسليم خياط- بعنوان “أنثروبولوجيات وموسيقات الجزائر وبلاد المغرب” أكد فيها ثلاثتهم على أهمية الدفع بالمقارنتية لوضع أسس للتواصل في البحوث الخاصة بالممارسات الموسيقية في الحقل المغاربي والعربي. كما ينبغي من جهة أخرى العناية بدراسة الآلات الموسيقية التي أصبحت اليوم من القضايا ذات الصلة بقضية الحفاظ على التراث المادي واللامادي.

وبدأت الأبحاث العربية- التي بلغت عشرة أبحاث- بدراسة محمود قطاط من تونس حول مكانة الموروث الموسيقي في تحديد الهوية (قضايا الموروث والتحديث الموسيقي)، ثم كتبت شهرزاد قاسم نبذة في مفاهيم التصنيف والمصطلح في موسيقى المشرق العربي “مفهوم الموسيقى الفنية” واتخذت العراق نموذجا لدراستها. أما يوسف طنوس فقد تناول الفولكلور الموسيقي العربي المتنوع، تاريخ وحداثة. وكتب عباس السباعي حول جماليات الموسيقى الروحية الدينية والدنيوية في السودان. وكتبت سعيداني ماية حول المصطلحات الخاصة بالتراث الموسيقي القسطنطيني بين الريف و الحضر. وتناول محمد شبانه الأغنية الشعبية كنص ثقافي. ثم تناولت مريم بوزيد احتفالية “سبيبة” من خلال الموسيقى شعائرية وطقوس الإدمان. أما خالد محمد فقد كتب حول التغير والاستمرارية في الموسيقى الريفية البدوية. على حين كتب سليم خياط حول طبول الجلالة وأوتار الأصول في موسيقى فئة السود. واختتمت هبة معين ترجمان مجموعة الأبحاث التي كتبت بالعربية بدراسة حول الأنثربولوجيا الموسيقية لحوض البحر الأبيض المتوسط. أما مجموعة الأبحاث الفرنسية فقد بلغت أربعة عشر بحثاً، بدأت بدراسة مونيك براندلي حول التنوع الثقافي في الصحراء الليبية، ثم مراد يلس حول الممارسات الموسيقية والمعارف الأنثروبولوجية والتمازج الثقافي بالجزائر. كما كتب هادج مهلياني Hadj MILIANI حول الموسيقى الحضرية بين التقليد والمواطنة. أما بوزبرا ميسوسي Tassadit BOUZEBRA MESSOUCI فقد تناول موضوع الموسيقى والمجتمع دراسة حالة. وكتب بيير أوديي pierre AUDIER موضوعاً في صيغة سؤال: هل يجب فصل اللغة للكتابة؟. كما كتب مهدي طرابلسي حول التجربة الجزائرية لبيلا بارتوك من خلال تحليل بعض النصوص والتسجيلات. أما محمد طيبي فقد اهتم ببحث  العلاوي وأولاد نهار:  تأويلات الفولكلور الجماعي  موسيقى ,رقصات وهويات. وكتب أحمد بن نعوم موضوعاً حمل عنوان:  كلمات وإيقاعات نوميدية. وتناول مهنا محفوفيMehenna MAHFOUFI  القبائل الكبرى وخصوصياتها الموسيقية. وبحث عبد المجيد ميرداسي في  الربشة  بين سميولوجية اللعبة والاستماع. وكتبت مريام أولسن حول الأحواش والحمامة. كما كتبت ديدا بادي Dida BADI حول الجانب الجنيولوجي لنوع من موسيقى  الإمزاد. وتناول ميشيل جويجنارد حول  الموسيقى كمرآة للمجتمع. وكتبت سيسيل فونك بحثاً بعنوان: الرجوع الى تبلبالة بعد خمسين عاما. وانتهت المجموعة الفرنسية ببحث لازيلو فيكاريوسVIKARIUS  بعنوان الوثائق الأصلية للمجموعات الجزائرية لبيلا بارتوك.

التصوير الروحاني في الفولكلور الجزائري

كما أصدر المركز عام 2005 كتاب التصوير الروحاني في الفولكلور الجزائري لمؤلفه زعيم خنشلاوى، والكتاب يقع في حوالي 230 صفحة نصفه بالعربية والنصف الآخر ترجمة بالفرنسية، ويفصل بينهما نماذج رائعة من اللوحات التشكيلية لفن التصوير الشعبي العربي ذات الطابع الديني أو الروحاني والتي تناولها المؤلف بالعرض والتحليل. وفكرة الكتاب جديدة يحاول فيها المؤلف توثيق هذا الإبداع العربي الذي لم ينل حظه من الاهتمام، مشيراً إلى دور المطبعة في انتشاره، يتأسى المؤلف على هذا الفن لشعبي الفريد من نوعه الذي ينظر إليه حتى يومنا هذا، من قبل أدعياء الخبرة، على أنه ليس أكثر من مجموعة رسومات غليظة الملامح غريبة الأشكال من صنع فنانين جهلة. ويعرض لكثير من القضايا المتعلقة بمكانة هذا الفن وتقنياته وانتشاره في المنطقة العربية بتونس والمغرب خاصة. كما يبحث في وظيفة فن التصوير الشعبي الروحاني من حيث كونه عنصرا يعمل على تغيير محيط المؤمن وتمكينه من الاتصال المباشر مع عالم الغيب. كما أن هذه التصاوير يعتقد أنها تطرد الأرواح الشريرة من الدار وتمكين سكانها من العيش في سلام بفضل إشعاع البركة التي تصدر عنها. الأمر الذي يجعل منها نمطاً فنياً للظاهرة التشكيلية الغالبة. ويشير المؤلف إلى اهتمام النمط الجزائري بأشخاص الأولياء والقديسين. ويضيف قوله: نستعرض هذه التصاوير تارة في شكل لوحة إجمالية واحدة، وتارة في شكل هياكل منفردة تمثل مهرجاناً لمواضع مختلفة ترسم شبه تاريخ للكون يسترجع أهم الأحداث التي ورد ذكرها في الكتب المقدسة. زمنياً، يمكننا تصنيف هذا الجدول التلقيني المحمل بالمقاصد التربوية التي تحث المؤمن على التقوى، إلى ثلاثة محاور كبرى:

1 -  نسب كتابي: يبدأ بأبوي البشرية آدم وحواء ويستمر من خلال أنبياء العهد القديم كنوح وإبراهيم وإسماعيل ويوسف وسليمان.

 2 - نسب إسلامي: يجسده أبطال الإسلام كالإمام علي، الحسن والحسين، عبد الله بن جعفر، القائد خالد بن الوليد، الخليفتين أبي بكر وعمر. وكذا أولياء المغرب كسيدي أحمد التيجاني، سيدي ولي ده ده وسيدي رجال، وأولياء المشرق كسيدي عبد القادر الجيلاني، وسيدي أحمد الرفاعي.

3 - نسب عربي بربري: يمثل حلقاته نجوم الملحمة الهلالية التي تجري أهم أحداثها في أفريقية الشمالية.

ثم يشرع المؤلف في تحليل العناصر التصويرية في اللوحات التي اشتملها الكتاب والتي ارتبطت بأسماء ذات دلالة اتخذت الترتيب التالي: الفردوس المفقود- سفينة النجاة- مدائن صالح- رؤيا إبراهيم- الفتنة الإلهية- حتى حدود المعقول- الفيل والطير الأبابيل- البراق النبوي الشريف- إيلياء مدينة السلام- المعركة الأخيرة- مولى بغداد- خاتم الأولياء- الصوفي والدركي- الجذبة الإلهية- نهاية التاريخ- الخلفاء الراشدون- فاطمة المحجوبة عن التصوير- الإمام على وأهل البيت- ملحمة العرب والبربر- ما وراء الزمن- الملك الظاهر- الجزائر،القسطنطينية الجديدة- ولي دده منقذ البهجة- الكف، العين والثعبان. وينهي زعيم خنشلاوي كتابه الرائع بخلاصة مفادها أنه ليس من قبيل الصدفة كون الأوصاف الأكثر حضوراً في التصاوير التي تهمنا مرتبطة بفكرة القداسة والبطولة. كما أن هذه التصاوير تستحضر الغيب وتستجيب لمعاني واحتياجات روحية، ما يبرر صغر حجمها، طبيعة رموزها وكذا كيفية إنجازها وتوزيعها. كما يشير إلى أن هذا العمل يثري بصورة معتبرة معرفتنا لأحد الجوانب الأكثر مجهولية من التقاليد الدينية المتوارثة بالجزائر وسائر أفريقية الشمالية.

 

قصور فورارا وأولياؤها الصالحون

ومن اهتمامات المركز في نشر إصداراته الاهتمام بنشر بعض الأطروحات المهمة في المجال. ونستعرض هنا نموذج من هذه الإصدارات وهو كتاب «قصور فورارا وأولياؤه الصالحون في  المأثور الشفاهي والمناقب والأخبار المحلية» لمؤلفه رشيد بليل. والذي يحوي دراسات تمثل توسعاً لأطروحة دكتوراه النظام الجديد تمت مناقشتها في ديسمبر 1994 بالإينالكو INALCO. وترجم الكتاب عن الفرنسية عبد الحميد بورايو، وتم نشره عام 2008 ضمن العدد الثالث من سلسلة «جديدة» في مجلد فخم احتوى حوالي 475 صفحة. ويدور موضوع الكتاب حول مجتمع فورارا الذي يمثل إحدى واحات الصحراء الجزائرية، ويعتمد المؤلف على منهج تبناه لحل معضلة الحكم السلبي المسبق على المصادر الشفاهية اعتماداً علي مصادر مدونة متداولة، وإغفال المصادر الشفاهية التي هي أكثر انتشاراً ويسهل تداولها، ومن ثم فقد آثر المؤلف جمع مادته ميدانياً والشروع في تحليلها، مما أضفى على الدراسة بعداً علمياً وتعمقاً كان من شأنه فك بعض شفرات مجتمع الدراسة. ويقول: تلجأ الدراسة إلي جمع وتحليل أقصى مايمكن من الموروثات المحلية..وقد أوصلنا هذا المسعي إلى محاولة تجديد المقاربة الحالية للماضي، بالاعتماد على هذه الوحدات الاجتماعية المتجانسة الملموسة في فورارا التي حافظت أثناء تطورها التاريخي علي درجة من التجانس.

ثم يستعرض المؤلف العديد من المصادر القديمة والغربية في موضوعه متوقفاً عند إسهام المأثور الشفاهي وسير التحري الميداني. ثم يرصد المحيط الجغرافي والعمراني لفورارا فلكونها تقع في الجنوب الغربي للصحراء الجزائرية فهي بالنسبة للشمال مفصولة عن الأطلس الصحراوي بالعرق الغربي، ويوجد المقيدن في الشمال الغربي، وشرقاً، هناك تادمايت الممتدة حتى شمال تيديكلت، وجنوباً توجد فورارا بجوار توات، وغرباً يوجد وادي الساورة التي بنى عليه الزناتيون على امتداده قصوراً مشابهة لتلك الموجودة في توات- فورارا. وعلى هذا النحو تحتل منطقة توات فورارا موقعاً استراتيجيا في العلاقات ما بين شمال المغرب والساحل الإفريقي المسمى من قبل الجغرافيين العرب بلاد السودان. ثم يستعرض المؤلف القصر من حيث المسكن والجماعة السكانية، والبنية الاجتماعية كمدخل للقسم الأول من الكتاب الذي اتخذ عنوان «أولياء صالحون مؤسسون لتنظيم اجتماعي جديد» والذي يؤكد في مطلعه أن المأثورات الشفاهية تشير إلى وجود الولي الصالح في كثير من قصور فورارا في حقب قديمة جداً يمكن التأريخ لها بنهاية القرن الرابع عشر. ويستعرض بداية شخصية الشيخ المغيلي الذي يمثل زمن فاصل في توات فورارا، ثم يركز على ست شخصيات وفرق دينية، من خلال ثلاث مجموعات، المجموعة الأولى، شكلت جماعة من الشرفاء الأدارسة الذين يبحثون عن الولاية، بدأها من تلمسان إلى فورارا من خلال بحث شرفاء كالي وأجنتور؛ ثم شرفاء شروين المنتمين لسيدي بادهمان ويمثلون المنطقة من الأطلس الصحراوي إلى فورارا. أما المجموعة الثانية، فتشكل تنافس مجموعتين من ذرية المرابطين، بدأها من تادلة إلى فورارا من خلال بحث سيدي عمار الغريب أحد أتباع سيدي حمد بن يوسف من تنكرم وأولاده المقيمين في زوا؛ وسيدي موسى أو لمسعود من تاسفاوت أحد أتباع سيدي أحمد بن يوسف. أما المجموعة الثالثة فقد مثلت النفوذ السياسي الديني للمغرب الأقصى، في مقدمتهم سيدي الحاج بلقاسم كنموذج لانتشار الاعتقاد في الشرفاء، وسيدي الحاج بو محمد من تينركوك الذي يحمل صلة وصل بالجازولية. ويختتم هذا القسم برصد العلاقات بين الأولياء والجماعات السكانية القصورية متخذاً الولي الصالح كنموذج. وخلال هذا القسم يقدم رشيد بليل عشرات الروايات الشفوية والنصوص المدونة والتاريخية وشجرة النسب حول الأولياء موضوع الدراسة، لينتهي بنتيجة مفادها أن الأولياء هم الرجال الفاعلون في إرساء النظام الاجتماعي، ولقد حاولنا- والكلام للمؤلف- انطلاقاً من دراسة القصص المناقبية أن نفصل الواقعي عن العجيب لكي نتمكن من ولوج الأحداث المؤسسة التي تكون مصحوبة على الدوام بهدم للقديم.

أما القسم الثاني من الكتاب فقد خصصه المؤلف لبحث قصص تأسيس القصور وأخبارها التي جمع مادتها الميدانية من مخبرين مختلفين. وقد بدأها بقصور تيفورارين والتي رصد فيها حصن السلطان بو السعد زناتي بآغلاد، ثم قصر شرفاء بكالي، ثم قصر آت سعيد حيث كان المؤلف يعيش في هذا القصر فترة تحرير الكتاب، ومن ثم توفرت لديه معلومات أكثر تفصيلاً، والقصر مكون من مجموعة من الحصون المسكونة من قبل جماعات مختلفة لكنها تتعايش في نفس الحيز. ثم حيز تيميون والأحياء المسكونة به، ثم قصر بدريان ومجموعة القصور المحتلة من قبل الرحل المستعربين القادمين من شمال الصحراء. ثم ينتقل المؤلف لبحث قصور آصرفات(تين زيري- آت عيسي- آجدير الذي يتشكل من قصرين: قصر الشرق وقصر الغرب. أما قصور العرق فقد رصد خلالها قصور تالمين والساقية وتاغوزي. على حين تناول في منطقة شروين وبلاد زوا قصر شروين وقصر طوكي الذي أطلق عليه أرض الزوايا). ومن خلال مبحث بعنوان «استيطانات متتابعة وتأريخ تعمير» يشير المؤلف إلى أن التحري عن القصور قد أوضح أن القرنين الخامس عشر والسادس عشر مثلا فترة انتقالية في ماضي فورارا. وأشارت القصص، في كل مكان، إلى مقدم وإقامة شخصيات دينية احتكت بالجماعات المقيمة قبلها. هذه العلاقة استدعت تغييرات أصابت المجموعات بقدر ما أصابت مساكنها والأحواز المحتلة. وقد شرع المؤلف في محاولة للتأريخ استيطان القصور وبحث الأصل الجغرافي للذريات حسب فترة قدومهم إلى قصور تيفورارين، منهياً هذا القسم ببحث حول تناقل ثروتين ويقصد بهما: الأرض واللغة الزناتية. ويستخلص عدة نتائج في مقدمتها تصنيف الحصون إلى عدة أنماط، في مقدمتها العمران الذي يبدو هو الأقدم يتمثل في الحصون الصغيرة المقامة على أماكن مرتفعة. أما النمط الثاني فهو الحصون الصغيرة المبنية في قمم الهضاب، والذي أطلق عليه الزناتيون اسم «تاوريحت»، منحوه هم للطوائف اليهودية. ويشكل النمط الثالث من حصون (آغام) مبنية غالباً على سفح الهضاب. ورغم أن بعض هذه الحصون ظلت مستعملة حتى وقت قريب، كمخزن جمعي، يلاحظ نمط رابع يسمى قصراً، تقوم حوله مساكن يلتصق بعضها ببعض ومحاطة بجدار حماية. ثم يقدم المؤلف قائمة ببعض المصطلحات المستمدة من الثقافة المحلية لمجتمع الدراسة.

والحق فإن الكتاب ثري بالمعلومات، ولا أحسب أني أعطيته حقه من الشرح والعرض.. فكثرة البيانات والروايات والتفسيرات جعلت محاولة تلخيصه مهمة صعبة، كما جعلت منه مرجعاً رائداً حول فولكلور الأماكن بالمنطقة وهو مبحث تفتقر إليه المكتبة العربية.

أعداد المجلة