فصلية علمية متخصصة
رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم
العدد
60

تجليات البطولة في الأدب الشعبي

العدد 36 - أدب شعبي
تجليات البطولة في الأدب الشعبي
كاتب من المغرب

تشكل البطولة أحد الموضوعات الرئيسية للعديد من أشكال الأدب الشعبي على تعددها وتنوعها، وعلى رأسها أساطير البطولة والملاحم وحكايات الخوارق والأساطير الدينية التي تتضمن سير الأنبياء والأولياء والقديسين وغيرها. وربما يرجع ذلك إلى أن الإنسان منذ أحس بوجوده على الأرض، كان همه أن يصور النموذج البطولي للإنسان الفائق القوة الذي يستطيع أن يحقق شيئا لشعبه بشكل خاص. وقد جاء التعبير عن البطولة في العالم الأرضي بعد التعبير عنها وتصويرها في العالم السماوي في أوساط الآلهة- كما يبدو ذلك في العديد من الأساطير القديمة(1). وقد عنى الباحثون والعلماء في العديد من فروع المعرفة بالبطل والبطولة، فعلى سبيل المثال استخدم علماء التحليل النفسي رموز الأساطير في تفسير رموز الأحلام، واعتبروا أن الأبطال تجسيد للعقد النفسية المكبوتة، وبذلك جعلوا من البطل نموذجا للمرض النفسي. أما علماء الأنثروبولوجيا، فقد توصلوا إلى أن البطولة في الأساطير لم تكن إلا تجسيما للوعي الجماعي، أو تعبيرا عن النظام الذي تقوم عليه حياة الجماعة، وبذلك جردوا البطل من كل معنى ذاتي، وأصبح البطل تعبيرا عن الجماعة أو عن الوظيفة الاجتماعية.

ومعظم الشعوب التي كانت لها حضارات مميزة، نسجت العديد من الأساطير والحكايات التي تمجد أبطالها وأمراءها وملوكها ومؤسسي دياناتها أو مدنها أو إمبراطورياتها. وأضفت هذه الشعوب على ميلاد هؤلاء الأبطــال وسنــي حيــاتــهــم مسـحـات خــيــالـــية. وقد لفت انتباه الباحثين ذلك التشابه المذهل، بل والتطابق الحرفي أحيانا بين هذه القصص، على الـــرغم مــن البــــعــد بين هـذه الشــعــوب عــن بــعـــضــها البعض من الناحية الجغرافية، واستقلالية كل منها عن الأخرى(2).

ويعرف د. شوقي ضيف البطولة بأنها في اللغة الغلبة على الأقران، وهي غلبة يرتفع بها البطل عمن حوله من الناس العاديين ارتفاعا يملأ نفوسهم له إجلالا وإكبارا، وقديما كان البطل في القبيلة وفي عهود الحياة الأولى للأمم يعد شخصا مقدسا، بل لقد كانوا يظنونه أحيانا من سلالة الآلهة، وكأنه هبة تهبها لهم، حتى لا يقعوا فريسة لمن سواهم، وحتى لا يسقطوا في مهاوي لا قرار لها من الاضمحلال والفناء. وعلى نحو ما كانوا يقفون أمام خوارق الطبيعة مشدوهين حائرين شاعرين كأنما تحوطها هالة سحرية، كانوا يقفون أمام البطل مذهولين كأنما يستر في طواياه قوى خفية، وهي قوى مكنت له في رأيهم من الإتيان بالخوارق في البسالة وقتال أعدائهم، وهي خوارق لا تقف عند نجاته من القتل بل تمتد إلى نجاتهم معه نجاة جعلتهم يشعرون بقوة أنه هو الذي يهبهم الحياة. ومن أجل ذلك عبدوه أحيانا، وخاصة في عهود الإنسانية الأولى، حتى ليطلق على بعض فتراتها فترة عبادة الأبطال، حين كان يتراءى لمن حولهم رموزا لقوى خفية غيبية مجهولة، أو بعبارة أخرى رموزا لأشياء إلهية مقدسة، بل كأنما الآلهة هي التي أنجبتهم لحماية من حولهم بما يأتون من معجزات القوة والشجاعة، وهي معجزات دفعت الناس إلى عبادتهم أحيانا كأنهم حقا آلهة بيدهم حياتهم وكل ما يحفظها عليهم من أسباب الرزق والبقاء(3).

ولم يقف العرب قديما ببطولتهم عند جانبها الحربي، فقد اتسعوا بمعناها حتى شملت البطولة النفسية، وهي بطولة أدت إلى كثير من الشمائل الرفيعة. ومن ذلك الحلم وهو في واقعه تغلب على ثورة الغضب، أو قل هو تغلب بطولي على النزق والطيش. ومن ذلك الصبر على الشدائد، وهو بدوره تغلب على الهلع والفزع إزاء المصائب واقتحام المعاطب، وما قد ينزل من الخطوب والنوائب، والبطل لذلك لا يشكو، بل يتجرع الغصص في صمت محتملا إياها أقوى احتمال. ومن ذلك الحزم وهو بدوره تغلب على التردد في الرأي قبل أن تفلت فرصته من يد الشخص، فهو يسلك الوجه الذي يجب أن يسلك، لا يفوته تدبيره في التو والساعة. ومن ذلك الكرامة، وهي بدورها تغلب على صغار النفس وشهواتها الوضيعة وانحراف الغايات الدنيا إلى الغايات السامية في إباء وشمم وأنفة وعزة، وأي ضيم وأي هوان دونهما الموت الزؤام.

وتمتزج هذه البطولة النفسية وأختها الحربية عند القدماء ببطولة خلقية، أسبغت عليهم القوة إزاء غرائزهم، حتى ليخيل إلينا كأن العربي في صحرائه وجاهليته مع ما أوتي من الشجاعة التي تتيح له تحقيق مآربه كان يعمل جاهدا على قهر تلك الغرائز(4). ويؤكد د. حسين نصار أن العربي لا يستطيع أن يتصور كفاحا يشترك فيه، دون أن يسجل ذلك رجزا إبان الكفاح، ثم شعرا بعد أن يبعد عن موطن كفاحه. ويتتبع مشاعر، ويتخير ألفاظه، ويتأنق في عباراته وكان ذلك التصور العربي هو الذي دفع القصاص الشعبي إلى أن يضع على أفواه أبطاله في المعارك التي خاضا غمارها القصائد الشعرية. ولكن ذلك لا ينقض التصور. بل لقد اتسع هذا التصور عند القاص الشعبي، فنسب الشعر إلى الأبطال من غير العرب؛ لأن الشعر عنده خاصة من خصائص البطولة، وسلاح لازم من أسلحة القتال. وجدير بالذكر أن العربي لم ينظم كل ما قال في حروبه من بحر الرجز وحده، بل نظم في بحور أخرى، أخصها الهزج. وتبدو على ما نظم في هذه الأوزان من أشعار سمات الشعبية، مما يدلنا على أن الشعر الشعبي لم يقتصر عند العرب على بحر الرجز وحده بل كان ينظم في عدة بحور(5).

ويشير د. سيد القمني إلى أن مدارس علم النفس «اعتبرت بطل الأسطورة حالما يخضع لتحولات سحرية ويقوم بالخوارق، وكلها ليست سوى انعكاس لرغبات وأمان مكبوتة تنطلق بعيدا عن رقابة الوعي، ولذلك تمتلئ بالرموز التي لو تمكنا من تفسيرها لزودتنا بفهم عميق لنفس الإنسان ورغباته، وأكد (إريك فروم) أن الأسطورة تشرح بلغة رمزية حشدا من الأفكار الدينية والفلسفية والأخلاقية، وما علينا إلا أن نفهم مفرداته لينفتح لنا عالم مليء بالمعارف الثرية، كذلك تبع (يونغ) أستاذه (فرويد) في رأيه أن الأسطورة نتاج اللاشعور، لكنه اختلف عنه في قوله أنها نتاج لا شعور جمعي. عاشت في لاشعور الجماعة وانتعشت من خلال الفرد(6). وعن وجود العديد من قصص الأبطال في الميثولوجيا؟ يقول كامبل: «لأن ذلك هو ما يستحق أن يكتب عنه. وحتى في الروايات الشعبية، نجد أن الشخصية الرئيسية هي البطل أو البطلة حيث وجد أي منهما، أو فعل شيئا ما يتجاوز المستوى العادي للإنجاز أو التجربة. والبطل هو أحد الناس الذين وهبوا حياتهم لشيء ما أكبر من الحياة العادية»(7).

ولأن الآلهة لم يعودوا مرئيين، يجب الآن أن تدفع الدورة الكونية إلى الأمام من قبل الأبطال الذين يستحوذون في قليل أو كثير على جوهر إنساني، والذين من خلالهم يتحقق مصير العالم. وهذا هو خط الحدود الذي تنتقل فيه أساطير الخلق إلى السير والقصص السردية. ولقد تجلى هذا واضحا في سفر التكوين في الطرد من الجنة. الميتافيزيك تخلي مكانا لما قبل التاريخ الذي يكون في البداية غير واضح وغير محدد، ولكن بعد طول انتظار يبدأ بأن يقدم لنا التفاصيل الدقيقة. الأبطال تتناقص شيئا فشيئا طبيعتهم القائمة على القوة الخارقة، حتى في النهاية في المراحل الأخيرة للموروثات المكانية المختلفة تأتي السيرة لتصب في ضوء نهار التاريخ المكتوب(8).

على أن البطل الأسمى ليس فقط من يدفع إلى الأمام بديناميك الدورة الكونية، وإنما من يفتح العين التي أصابها الإعماء مما يؤدي إلى أنه يدرك من جديد حضور الواحد من خلال المجيء والذهاب ومن خلال مسرات وآلام المسرح العالمي. وهذا يتطلب حكمة عميقة أكثر من المرحلة الأولى. وهي لا تقود إلى الفعل وإنما إلى تمثيل هام في ذاته. المرحلة الأولى تملك رمزها في السيف القوي، المرحلة الثانية في صولجان السلطة أو في كتاب القانون. المغامرة المميزة للبطل من النمط الأول إنما هي الاستحواذ على الخطيبة التي تعني الحياة، أما مغامرة البطل من النمط الثاني فهي الطريق إلى الأب الذي هو المجهول اللامرئي(9).

البطل الحديث، إنسان هذا الزمان، الذي يأخذ على عاتقه أن يصغي إلى النداء ويتبعه، ويبحث عن موطن تلك القدرة التي بها يستطيع بمفرده أن يأتي بالسكينة إلى مصيرنا بكامله، لا يستطيع ولا يحق له أن ينتظر حتى ينقي المجتمع مستنقعه من الغرور، الخوف، الجشع المنافق ومن العداوة التي تشوه النفس. يقول نيتشه: «عش، كما لو أن اليوم هنا». ليس على المجتمع أن يرشد البطل الخلاق وأن ينقذه، بل العكس هو الصحيح. وهكذا يتقاسم كل منا محكمة الإله العليا ويحمل صليب المخلّص - ليس في لحظات انتصار القبيلة، وإنما في صمت يأسه المطبق(10).

البطل عبارة عن حقيقة مادية وموضوعية مرتبطة بالزمان والمكان، وليس وهماً، ونبتعد أكثر عندما نقول: وليس استيهاماً، منطلقة من العامل الذاتي المشوه بسيكولوجياً (نفسياً)، والعاجز مادياً، أمام مواجهة العدو الطبقي الداخلي والخارجي، وتحويل الواقع في وقتٍ واحدٍ(11)، وتعرف د. نبيلة إبراهيم البطل بأنه الشخص المحوري الذي تنمو شخصيته من داخل نفسه، فيحس بخطر ما يتهدده، فيسعى من داخله لاكتشاف ماهية هذا الخطر وعلاقته بمصيره(12). وربما كانت ظاهرة ميلاد البطل في الأسطورة والحكاية الخرافية والشعبية على السواء، من أهم الظواهر التي نصادفها في الأدب الشعبي العالمي كله، والتي تستحق اهتمام الدارسين بها. والبطل هو ذلك الذي يولد غريبا وكأن الحياة كلها ترفضه، ولكنه سرعان ما يشق طريقه ويتغلب على الصعوبات، ويحقق في النهاية هدفا يسهم في صنع الصورة المكتملة للحياة(13).

وهناك من يعتبر السيرة الشعبية أقرب الفنون القولية لأن تكون رؤية وجدانية شعبية للتاريخ وأحداثه وأبطاله، ذلك لأن فنون الحكي الشعبي بشكل عام تعد نتاجا تاريخيا مستمرا، سهل من ديمومته واستمراره حاجة الإنسان الفطرية لرواية القصص وسماعها للدرجة التي جعلت من الحكاية قاسما مشتركا بين الثقافات والحضارات الإنسانية كافة، على اختلافها وتنوعها(14). لم يكن من قبيل الصدفة أن ترتبط البطولة علــى امتــداد الســيرة بمنظمومة أخلاقية مثالية بعضها يمثل الجوانب النفسية والسلوكية التي ترتبط بصفة البطولة ذاتها كالشجاعة والإقدام والثقة بالنفس وبعضها الآخر يمثل فقط مفردات الانموذج الأخلاقي المرغوب اجتماعيا قياسا على الثقافة المصرية في البيئة الريفية بشكل عام وفي ريف الجنوب المصري بشكل خاص. هذا الارتباط يدفعنا للتأكيد على قصدية الفعل الفني في استلهام تاريخ أبطال العرب والتصرف الفني الواعي المحسوب الذي يمنح المبدع الشعبي فرصة تصوير وتجسيد آماله وتطلعاته وقيمه وسقطاته ونجاحاته في القالب قصصي الطابع المسمى بالسيرة الشعبية(15)، ويعتبر د. عبد الحميد يونس «الفرق بين القصص الشعبي والتاريخ واضح، فالأول ينشد ما يجب أن يكون والثاني يفتش عما كان»(16). ومن المهمّ القول إنّ الفرق بين الحكاية والسيرة أنّ الأخيرة تتبع حياة شخص منذ ولادته، ومن خلاله يتمّ استعراض الأحداث العامّة الكبرى، وفي الغالب، فإنّ البطل / صاحب السيرة ينطوي على عدد من الصفات المتميزة والمتفرّدة، ومنها: الشجاعة، والكرم، والذكاء والفروسيّة وأحيانًا قول الشعر، والفرد في النصّ الملحميّ بطل الرواية ينشأ من الاغتراب عن العالم الخارجي، من خلال الإحساس بالتناقض بين القيم التي يؤمن بها وصورة الواقع السائد، وهذا التناقض هو الذي وصفه لوكاتش بالجدل الذي يفضي إلى العيش في منطقة المتخيّل كمادّة للحكي(17).

لقد صوّر الشعب بطله مخلوقًا غير عادي فأخذ بصنع الأساطير، وأخذ يصوّر حياته من يوم ولادته إلى يوم وفاته، تصويرًا فيه من الخيال الشيء الكثير، ثمّ أخذ كذلك يصنع حول شخصه الأناشيد والأغاني، وما لبث كلّ ذلك أن تجمع وكون القصص والملاحم. وربما كان شخص هذا البطل غريبًا عن الشعب لم يعش حياته بين أبنائه ولكنّه يكفي أن يكون قد سمع عن غرابة أعماله الشيء الكثير حتّى يمجّده كما لو كان قد عاش بين أبنائه، وذلك صدى لما يسمعه الشعب عن الأبطال الذين أمعنوا في صراع دائم مع الآخرين بقصد الاستحواذ على الثروة والمال أو التوسّع.

وتسلّط الحكاية الشعبية الأضواء على الأبطال وحدهم ولا ترينا الآخرين في بيئتهم إلا بمقدار خدمة هؤلاء للأحداث. وقد لا تذكر الحكاية أحيانًا أسماء الأبطال بل تشير إليهم هكذا: الولد والأم والعجوز والأب...(18) كما أنّ مهمّة البطل الشعبي الكشف عن الطريق المؤدي إلى النجاح وإن كان وعراً، وفي هذا الطريق تعترضه العقوبات وتصادفه القوى الشريرة ولكنه من جهة أخرى تعاونه قوى خيرة على تحطيم تلك العقبات. ومثل هذا البطل يظهر بصورة متعدّدة في القصص الشعبي في مجموعة: فهو شخص واقعي في الحكاية الشعبية، وهو مغامر خيالي في الحكاية الخرافية والأسطورة.

إن المصدر الأوّل والآخر لفكرة البطولة يرجع إلى إعجاب الشعب بفكرة البطل. فالحياة بجوانبها المختلفة لـم تصــل إلى ما وصلت إليه إلا بفضل عناصر بطوليّة تغلّبت على الشر وتغلبت على عناصر الضعف والنقص حتى شارفت الكمال. ومن هنا كانت الأساطير مليئة بعناصر البطولة، بطولة الآلهة الذين أخذوا يتصارعون حتى استقر الكون على ما هوعليه، ومن هنا نشأت فكرة الإنسان الإلهي، ذلك الذي استطاع بصفات بطولية وروحية أن يطوع الطبيعة وفق رغبته أو يشاركه قوتها(19).

إذا كانت السير الشعبية ملاحم بطولة وفروسية بالدرجة الأولى فهي أيضا حكايات حب وعشق وروايات غرام تختلج بالعواطف والغرائز على السواء. فليس هناك بطل من أبطال السيرة الشعبية لا تقف وراء بطولته امرأة إما لتحققها وتؤكد وجودها، وإما لتعاديها وتدمر قيمتها وأهميتها.. فللمرأة في السيرة الشعبية دور أساسي لا يقل في خطورته وأهميته عن دور الرجل. بل إن هناك سيرة شعبية كاملة عقد لواء بطولتها للمرأة ولعب فيها الرجال أدوار التابعين والمعاونين هي سيرة ذات الهمة. وبروز دور المرأة في السير الشعبية يعني بالتالي دورا إيجابيا وهاما للعلاقة بين المرأة والرجل. تلك العلاقة التي يحددها مكان المرأة من البطل، وترسمها عاطفة المرأة تجاه البطل...(20) وتتميز السيرة الشعبية عامة بوجود مرحلة هامة يمر بها البطل في مرحلة تكوينه لها من الخصائص الدرامية ما يجعل دور الحب فيها دورا مميزا وهاما. فتكون البطل الذي سيصبح بعد هذا بطلا ملحميا في باقي أجزاء السيرة الشعبية، يعتمد على طرح قضيته كإنسان وصراعه من أجل تحقيق ذاته... وانتصاره في هذه القضية خلال مرحلة التكوين أو المرحلة الدرامية من السيرة الشعبية.. وفي هذه المرحلة تلعب المرأة ويلعب الحب دوره المميز في رسم سمات البطل وتحديد المسار الذي سيأخذه صراعه، وتصبح المرأة في هذه الحالة هي رمز انتصاره(21).

مرت سيرة ذات الهمة بسبع مراحل، بدأت بمرحلة ما قبل ميلادها باعتبارها مدخلا تمهيديا عن جيل الأجداد، ثم ميلاد البطلة، وبعدها مرحلة التنشئة الاغترابية، تلتها مرحلة الاعتراف الاجتماعي بالبطلة، ثم الاعتراف القومي، فمرحلة البطولة والجهاد، واخيرا مرحلة موت البطلة وتقديسها. وتبدأ السيرة بالتركيز على العنف الجسدي، باعتباره رمزا للفحولة الذكورية، لتقدم في المقابل نمطا آخر من الفحولة الأنثوية، القائمة على الشرف والعفة والفضيلة، أي البطولة الأخلاقية النسوية في مقابل البطولة الجسدية للرجل الذي لا يرى في المرأة إلا جسدا لا عقل له ولا روح، كما فعل ابن عمها الحارث الذي تزوجها بعد رفضها له عنوة، بعد أن دس لها المخدر، لكن على الرغم من أنه عقد قرانه عليها مكرهة، إلا أنها اعتبرت ذلك مسا بكرامتها، مفضلة العيش بعيدة عنه(22). وقد مثلت هذه البطلة قيما جماعية متعارفًا عليها، وفقا لمقومات الجماعة الإنسانية، كما عكست رأيا معتمدا ومكثفا للمرأة، التي بدت في صورتها الكلية لا الجزئية، فالمرأة في الصيغة التي عليها في الحياة ليست سوى جزء مهمش من الصورة الكلية للإنسان، أما الإنسان بالمعنى الكلي فلا يوجد إلا في جسم المجتمع كله المكون من ذكر وأنثى، فهو تشكيل نموذجي بين الفرد والكون(23). إن اختيار البطولة المطلقة للمرأة في «سيرة ذات الهمة» جاء ضمن سياقات منطقيّة في ظل المناخات التي كانت تسيطر فيها المرأة على صاحب القرار وانتشار حياة اللهو وتحكم الجواري بالسلطة، وتحديدًا في المراحل المتأخّرة للحكم العباسي ومن ثم الفاطمي إذ لا يخلو اسم الدولة من انتساب دال. ويمكن فهم إسناد البطولة للمرأة بسبب النجاح الذي تحقّق في حكايات «ألف ليلة وليلة»، وحكايات ابن المقفع والزيبق في جوانب الإسقاط السياسي وحنكة المرأة وحيلتها، وليس ببعيد عن ذلك أنّ المرأة هي التي قامت برواية الحكاية في ظل ما تراه من ضعف في المجتمع الذكوري وسرديته(24).

إنّ «سيرة ذات الهمة» كانت قد انتعشت في نهاية القرن التاسع عشر، وتحديدًا في الفترات التي ظهرت فيها حالات ضعف الأمة نتيجة الغزو الخارجي، واستشرى فيها الفساد الداخلي نتيجة ضعف النفوس وغياب القيم وعوامل الاستلاب، وهو في الغالب ما يتحمله مجتمع الذكورة/ السلطة، فيعود الراوي لاستعادة البقع المضيئة في التاريخ العربي وتراثه، فالسير والملاحم الشعبيّة هي قصص تمجّد البطولة التي يكون محور الصراع فيها النضال القومى ضد محتلّ غاصب أو عدوّ للوطن، وتتطلب أبطالهم مواصفات خاصّة سواء أكانوا من الرجال أم النساء، فيعيد الراوي نسج الحكاية باقتراحات تستبعد المسؤولين عن الحقب السابقة التي تركت ظلال الهزيمة والانكسار، فلا يجد غير الصفة «غير معرفة» لامرأة اسمها «ذات الهمة» «البطل المنتظر» لينسج بمتخيله الحكاية التي تستنهض الهمم. فوظيفة الحكاية الشعبيّة / السيرة التعويض عن عدم مقدرة الإنسان على تحقيق رغبات معينة مما يستدعي تغير وسيلة النص ومحتواه وشكله(25).

ونخلص من هذا إلى أن الأدب الشعبي بعامة عندما يقدم الصورة الكاملة للبطل، فإنه يقدمها من خلال المراحل الثلاث المعروفة لدى الأنثروبولوجيين وعلماء النفس الجمعي تحت عنوان «طقوس العبور»، وهذه المراحل هي مرحلة الابتعاد عن الأهل، ومرحلة النضج، ثم مرحلة العودة. وغالبا ما تقتحم المرأة عالم البطل لتؤكد بطولته او لتكون سببا في شهرته.

أما عندما تسند البطولة الأولى إلى المرأة فإنها تمر بهذه المراحل كذلك، ولكنها لن تجد الرجل الذي يشهرها لحسابها، ولهذا فهي تخوض المغامرة الأولى بمفردها، وبمعزل عن الناس، ولكنها بمجرد أن تنجح فيها، تلتف حولها الجماعة، لأن شخصيتها تكون قد تهيأت لأن تستوعب الأنا والآخر، كما تكون قد جمعت بين الاستقلال الذاتي والوعي الجماعي. وربما كانت اللامركزية التي حققتها ذات الهمة مع جماعتها في المكان الجديد، بعيدا عن متواضعات نظام الحكم آنذاك - ربما كانت تعبيرا رمزيا عن رغبة الجماعة في الالتفاف دائما حول قيم إنسانية واجتماعية. والمكان الجديد إنما اختارته ذات الهمة قبل أن يختاره أي إنسان آخر في السيرة. وقد وصلت إلى درجة من الوعي أوصلتها إلى التحرير الكلي من كل ما يكبلها(26).

 

الهوامش

1 د. كارم محمود عزيز، «البطل الشعبي»، ج.1، مكتبة النافذة، القاهرة، ط.1، 2006، ص. 3.

2 د.كارم محمود عزيز، م.س، ص.3-4.

3 شوقي ضيف، «البطولة في الشعر العربي»، دار المعارف، القاهرة، ط.2. ص.9.

4 شوقي ضيف، م.س.ص. 15.

5 د. حسين نصار، «الشعر الشعبي العربي»، 1980، منشورات اقرأ، بيروت، ط.2. ص.87.

6 د.سيد القمني، «الأسطورة والتراث»، المركز المصري لبحوث الحضارة، ط.3، 1999،ص.32-33.

7 جوزيف كامبل، «قوة الأسطورة»، ترجمة حسن صقر وميساء صقر، دار الكلمة للنشر والتوزيع، دمشق، ط.1، 1999، ص.185.

8 جوزيف كامبل، «البطل بألف وجه»، ترجمة حسن صقر، دار الكلمة للنشر والتوزيع، دمشق، ط.1، 2003،ص.319.

9 جوزيف كامبل، م.س، ص. 348

10 جوزيف كامبل، م.س، ص. 394

11 أفنان قاسم،» عبد الرحمان مجيد الربيعي والبطل السلبي»، عالم الكتب، بيروت، ط.1،1984، ص. 161-162.

12 نبيلة إبراهيم، «قصصنا الشعبي من الرومانسية إلى الواقعية»، دار العودة، بيروت، 1974، ص. 124.

13 نبيلة إبراهيم ، «أشكال التعبير في الأدب الشعبي»، دار نهضة مصر، ص 125.

14 ياسر أبو شوالي، «الرياضة في السيرة الهلالية»، الهيئة العامة لقصور الثقافة (مكتبة الدراسات الشعبية) ، القاهرة، ط.1، 2010، ص.29-30

15 ياسر أبو شوالي، م.س. ص.49.

16 د.عبد الحميد يونس،»الظاهر بيبرس»، الهيئة العامة لقصور الثقافة (مكتبة الدراسات الشعبية)، القاهرة، 1997، ص. 13.

17 حسين نشوان، « سيرة الأميرة ذات الهمة.. بطولة الأنثى وتحولات النص»، مجلة «الفنون الشعبية» الأردن، ع. 15، أيار 2015.

18 محمد وهيب، «الحكاية الشعبية الأردنية : ملامح»، مجلة «الفنون الشعبية»، الأردن،ع.19، أيار 2015.

19 محمد وهيب، م.س.

20 فاروق خورشيد، «عالم الأدب الشعبي العجيب»، دار الشروق، القاهرة، ط.1، 1991، ص.27

21 فاروق خورشيد، م.س،ص. 29

22 نبيلة إبراهيم، «سيرة الأميرة ذات الهمة.. دراسة مقارنة»، ص. 38.

23 فيحاء عبد الهادي، «نماذج المرأة/ البطل في الرواية الفلسطينية»، ص.19.

24 حسين نشوان.م.س.

25 حسين نشوان.م.س.

26 د.نبيلة إبراهيم، «البطولات العربية والذاكرة التاريخية»، المكتبة الأكاديمية، القاهرة، 1995، ص. 305-306.

الصور

1 http://art.ngfiles.com/images/445000/445 494_emartix_one-thousand-and-one-nights-of-tales-to-be-told.jpg

2 http://www.wollamshram.ca/1001/Dixon/Batten_08a.jpg

3 https://s-media-cache-ak0.pinimg.com/564x/17/83/9d/17839d614f897fc89c5cf006d524f011.jpg

4 http://4.bp.blogspot.com/-DMQLfH20HuY/TZnBmbpH1NI/AAAAAAAAA5k/NzgTrb0krXE/s1600/fairy_tale_chariot.jpg

5 https://lettersfromthetwo.files.wordpress.com/2015/05/img_0014.jpg

6 https://s-media-cache-ak0.pinimg.com/originals/12/0a/72/120a72e1ce2c2325bcdb715e91c8740c.jpg

أعداد المجلة