فصلية علمية متخصصة
رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم
العدد
60

فن سك العملة الإسلامية

العدد 6 - حرف وصناعات
فن سك العملة الإسلامية
كاتب من مصر

لا شك أن اختراع النقود كوسيط للمبادلة وأداة لاختزال القوة الشرائية وقاعدة للقيم النقدية المستقبلية قد أثر في أنماط الحياة الإنسانية من وجهة النظر الاجتماعية والاقتصادية والسياسية جميعاً، ويكفي أن نشير هنا إلى أن النقود الإسلامية بما تحمله من نقوش وأسماء وعبارات دينية أضحت وثائق تاريخية، بل سجلًّا يلقي الضوء أو ينفي تبعية الولاة والسلاطين والبلاد للخلافة أو للحكومات المركزية.

    لم يعرف الإنسان التعامل بالنقود، وهو يعيش في الغابات، ولكن بعد حياة الاستقرار واشتغاله بالزراعة، وانخراطه في سلك الجماعة، وجد الإنسان نفسه مضطرًّا إلى التفكير في الأخذ والعطاء، وساعد على ذلك رغبته الفطرية في المبادلة، وهي عنده، تقويم وقبول يخرج المسألة من مجرد استلاب لحاجة الغير إلى حيث تصير نفعاً لا غنى عنه.

    وكانت المبادلات تتم أول الأمر على أساس المقايضة، أو باستخدام مادة وسيطة للمبادلة، ففي الصين ـ مثلاً استعمل المحار على أنه الوسيلة الرسمية للتبادل حتى القرن الرابع قبل الميلاد حين ظهرت في الصين  النقود المعدنية، كما لعب «الثور» دوراً هامًّا في التبادل ببلاد اليونان، وحسبه أن كانت له القيمة الكبرى في التقديرات كما للذهب الآن، فيذكر «هوميروس» في إلياذته أن بعض الأسلحة كانت تساوي تسعة ثيران وبعضها مائة، كما قدرت الجارية بأربعة ثيران.

فالسلع النقدية كانت تفرضها ظروف خاصة  في بلد معين، فاختلفت هذه السلع من شعب لآخر، في بلد ما الأرز، وفي بلد آخر الشاي والجلود أو الخيول والعبيد، ولا غضاضة في هذا ما دامت النقود كما يعرفها الاقتصادي الأمريكي «فرانسيس ووكر» هي  «وسيلة للمبادلة أيا كانت هذه الوسيلة التي ارتضاها القوم في معاملاتهم تحقيقاً لمنفعتهم»، غير أن الخسارة وضياع الثروة كانت تتحقق تماماً في حالة النقود القابلة للتلف كالمحاصيل أو الحيوانات، وأصبح من الضروري بعد ارتقاء الاقتصاد الاجتماعي الاعتماد على سلعة تجمع بين  المنفعة والبقاء على الحوادث، وهذا في ذاته أصل الفكرة التي أوحت إلى الناس أن يتخذوا من المعادن وسيطاً للمبادلات، لأن المعادن  معيار ثابت لا يتعرض للضياع كرأس مال، ولا تحتاج إلى نفقة لحفظها، فوق أنها تتحمل عوادي الدهر، وتمتاز بسهولة الحمل والنقل، فضلاً عن قابليتها للتجزئة إلى أجزاء توافق مختلف الأغراض والاحتياجات.

وهكذا اتجهت الجماعات إلى إعداد المعادن  بأوزان معلومة مقدرة تحت مسئولية أصحابها الذين نقشوا عليها أسماءهم أو ميزوها بعلامات خاصة، وتولت الدولة الإشراف على هذه العلامات، فختمت القطعة بخاتم الدولة كي تصبح «نومسا» أي قانونية (من اليونانية Nomos  أي القانون)  ليأمن الناس الغش والتزييف في نقود الذهب والفضة.

ويجمع علماء “النميات” أن الليديين بآسيا الصغرى في عهد كرويسوس Croesus  أو قارون الليدي (561ـ 546 ق.م) هم أول من سك النقود المعدنية من الذهب والفضة استناداً إلى رأي”هيرودوت”.

وقد انتشرت هذه السبائك النقدية من ليديا عن طريق المدن الساحلية اليونانية في آسيا الصغرى إلى  بلاد اليونان حيث تطورت هذه النقود أقصى درجات التطور الفني، وانتشرت على أيدي التجار في جميع أنحاء العالم، وقد اتخذت كل دولة إلهاً لها يرمز إليها فنقشته على النقود، وعلى هذا الأساس سارت سنة الأشكال النقدية في العهد الإسلامي حين نقشت على النقود العربية شهادة التوحيد ولعل هذا قد لفت أنظار الباحثين لدراسة النقود الإسلامية في علم النميات Numisatic وهو العلم الذي يرى سوفيرSauvair أنه يبحث في النقود وعلاقتها بالتاريخ والاقتصاد والفنون 1.

 

أهمية النقود :   تُعد النقود العربية الإسلامية من أهم المصادر، وأدقها في إعادة كتابة التاريخ، لكونها لا تقبل الخطأ، لأنها تصدر من جهة رسمية، إذ أن هذا الخطأ ينعكس على صاحبه، وتسقط هيبته، وبالتالي سلطته في الحكم، لذا لا يمكن الطعن بهذه النقود بسهولة، إذا صحت أثريتها.

وأهمية النقود، تبرز في كونها إحدى أركان الدولة، وشارة من شاراتها، وعنوان مجدها، تتصل باقتصادياتها، وتشريعها، وسائر أوضاعها، وعلاقاتها بالدول المجاورة والمعاصرة لها، فهي تميط اللثام عن خفايا كثيرة، وتعد صفحة كاشفة عن حكومات الدول المتعاقبة لا يستغني عنها تاريخ حياة الدولة، وفي تعيين ميزانيتها، ولو على وجه التقريب.

ويعتقد الدارسون أن النقود العربية الإسلامية منذ ظهورها اقتصر ضربها على التعامل والتبادل التجاري، ولم يتجاوز ذلك الضرب بأي حال من الأحوال إلى أغراض أخرى، إلا أن الدراسات العلمية أثبتت أن للنقود دوراً آخر لا يقل أهمية عن الدور التجاري، ألا وهو الدور الإعلامي، حيث كان هذا النوع من النقود شبيهاً بالدور الذي تلعبه الصحافة والإذاعة والتلفزيون والمؤتمرات في الوقت الحاضر، ولنا من الشواهد النقدية المئات بل الألوف مما يضمه المتحف العراقي في بغداد والمتحف المصري  في القاهرة، والمتاحف العربية والإسلامية2

وكما تُعد النقود مدرسة للتصوير في مراحلها المختلفة، إذ تعطينا في كل فترة زمنية تصوراً كاملاً لمميزاتها العامة، والخاصة لها، ولنا من نقود الموصل، وبغداد، وديار بكر وغيرها  العشرات، بل  المئات خير دليل على ذلك، وتُعد النقود أيضاً مدرسة للخط العربي وتطوره، بأنواعه المختلفة، ومدرسة لدراسة العناصر الزخرفية بأشكالها المختلفة الهندسية، والفلكية، والنباتية، والحيوانية، والآدمية، ولا ننسى ما تضم دراسة النقود من كُنى، وألقاب، ومُدن ضرب، وشعارات تستوعب دراسة كل منها معجماً خاصًّا بها تسد فراغاً كبيراً في المكتبة العربية.

 

مصر والنقود:  وقد ظلت مصر بعيدة عن التطور النقدي فترة طويلة، فلم تضرب نقوداً طوال العصر الفرعوني، بل بقيت متمسكة بتقاليدها في المقايضات، ومن آثار المقايضات بالمعادن بأشكالها  المختلفة في هيئة حلقات من الذهب والفضة نجد رسوما بديعة تمثل وزن تلك الحلقات بالميزان في مقابر الأسرة 18، ويمكن اعتبار نقود الفرس التي ضربها الوالي Aryandos وسميت(أرياندكون) أول عهد المصريين بالنقود، ومع ذلك فلم يعترف بها الشعب، وأخضعها القوم لعاداتهم فاعتبروها سبائك معدنية يجزئونها بالمقراض بعد اختبار نقاء معدنها، وتوزن بالميزان حسب مقايضاتهم.

إلا أن المصريين قد ضربوا النقود اليونانية باسم الملك المصري (تاخوس) في عهد الأسرة3.

وكان ضرب هذه النقود تحت ضغط ظروف سياسية، لعل أهمها دفع أجور الجند اليونان المرتزقة الذين استعانت بهم مصر في طرد الفرس، وبذلك يمكن اعتبار هذه نقوداً مصرية ضربت من الذهب والفضة، ولكن مع ذلك ظلت المقايضة وتجزئة المعادن والنقود الأجنبية قائمة في مصر حتى ازداد الاحتكاك التجاري بين مصر وجيرانها من العالم الآسيوي الأوربي في عصر البطالمة، فتأثر المصريون بالتطور النقدي في هذه البلاد وخاصة بلاد اليونان، فانتقلت مصر من مرحلة تداول المعادن النفيسة بالوزن إلى مرحلة النقود، وتزخر متاحف العالم بمجموعات قيمة من النقود البطلمية المصرية المصورة.. وقد ظلت قاعدة الذهب Gold Stanard أساساً للنظام النقدي في مصر حتى بعد نهاية السيادة البيزنطية.

وتدل قطع الفخار المكتوبة Ostraca  التي عثر عليها في مصر على أن المعاملات بين الأهالي عند الفتح الإسلامي كان أساسها النقود الذهبية المعروفة بالدينار وأجزاء الدينار، وقد دفع هذا الوضع النقدي بعض المؤرخين العرب إلى الظن بأن نقود مصر هي الذهب فقط ، فيذكر المقريزي مثلاً أن مصر من بين الأمصار فيما برح نقدها المنسوب إليه قيم الأعمال وأثمان المبيعات ذهباً في سائر دولها الجاهلية (قبل الفتح الإسلامي). ويذكر في موضع آخر «من أمعن النظر في أخبار مصر عرف أن نقدها... لم يكن إلا من الذهب فقط».

والحقيقة أن قاعدة النقد Etalon Monetaire  في مصر قبل الفتح الإسلامي وبعده هي الذهب، أي أن مصر كانت تسير على “نظام المعدن  الفردي”  Monometallisme  ولكن هذا النظام لم يمنع استعمال نقود أخرى مساعدة من الفضة والبرونز، وإن كان الذهب وحده هو العملة القانونية التي كان لها قوة إبراء غير محدودة، والسبب في ذلك هو كثرة كمية الذهب قبل الفتح العربي، حتى أصبح من الممكن أن يؤدي وحده مهمة النقود الرئيسية القانونية منذ أن غمرت الدنانير البيزنطية الأسواق المصرية كنتيجة لدفع أثمان البردي الذي كانت عاصمة الدولة البيزنطية تستهلك جزءًا كبيراً منه3.

 الدينار الإسلامي ونظرة تاريخية: إذا كان الدينار الذهبي الذي أصدرته الإمبراطورية  البيزنطية، قد اكتسب تلك المكانة الدولية في صدر العصور الوسطى، فإن الدينار الذهبي الإسلامي، الذي أصدره الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان (65ـ 86هـ/ 685ـ 7.5م)، قد حظي بمكانة عالمية واكتسب، بجدارة، احتراماً وقبولاً في أرجاء العالم القديم، دون أن ينازعه في ذلك منازع، منذ أوائل القرن الثامن الميلادي (الثاني الهجري) حتى أوائل القرن الثالث عشر الميلادي (السابع الهجري).

إن إلقاء بعض الضوء على قصة (عالمية) الدينار الإسلامي يشكل موضوعاً مهمًّا وممتعاً، كان سك الخليفة عبد الملك للنقود العربية الإسلامية، الدينار الذهبي والدرهم الفضي من أهم أحداث التاريخ العربي الإسلامي، نظراً لما ترتب عليه من نتائج بالغة الأهمية، اقتصادية وسياسية.. محلية وعالمية. بل يمكن القول إن هذا الإنجاز كان إيذانا (بانقلاب) جذري في النظم المالية والاقتصادية التي كانت سائدة في عالم العصور الوسطى.

ولكي ندرك هذا الإنجاز على حقيقته علينا أن نتعرف، بداية، على الخريطة النقدية التي كانت سائدة في العالم عشية ظهور الإسلام، في مستهل القرن السابع الميلادي، فقد أجمعت المصادر أن الإمبراطورية البيزنطية  كانت الدولة الوحيدة التي تصدر العملة الذهبية، وهي المعروفة باسم (الصولدي)، والدولة الفارسية كانت تصدر العملة الفضية، وهي الدرهم الفضي الفارسي، أما المماليك الجرمانية البربرية التي كانت قد قامت على أنقاض الإمبراطورية الرومانية في الغرب الأوربي، منذ القرن الخامس الميلادي، فقد كانت لا تسك إلا عملات فضية.

وقد استخدم عرب الجزيرة، في تجارتهم مع الشام وفارس واليمن، قبل الإسلام، بشكل رئيسي، الدينار البيزنطي والدرهم الفارسي، ولم يكن أمام الدولة العربية الإسلامية الناشئة خيار سوى استخدام النقود المتداولة من بيزنطية وفارسية، خدمة لشئونها المالية والاقتصادية وحرصاً منها على مصالح الناس عامة، ولا سيما أن الهم الأول للعرب والمسلمين في تلك المرحلة كان نجاح الدعوة الإسلامية وتثبيت أركان الدولة ونشر الإسلام، في الجزيرة وخارجها، ولهذا فإن سك نقد جديد لم يكن مطلباً مُلحًّا آنذاك، كما أن الشروط  اللازمة لنجاح مثل هذا المشروع لم تكن قد توافرت بعد.

ولكن على الرغم من ذلك فقد حاول بعض الخلفاء والأمراء العرب والمسلمين، قبل عبد الملك، سك بعض النقود، ولكنها جاءت في معظمها على طراز النقود الفارسية والبيزنطية، ولم يتم تداولها رسميًّا، وعلى أي حال، فقد شكلت هذه المحاولات إرهاصات أولية لظهور النقود العربية الإسلامية4.

وقد أشار الكتاب العرب إلى علم النقود أو«علم النميات» Numismatic، ولكن في نُبذ عرضية أو فصول خاصة، فيما عدا “المقريزي” الذي خصص كتيبا أسماه «شذور العقود في ذكر النقود». وأطلقوا على النقود الإسلامية لفظ «السكة».

ولما استخلف أبو بكر الصديق رضي الله عنه، عمل بسنة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في إقرار التعامل بتلك النقود ذات الصور الآدمية والشارات غير الإسلامية، ولم يغير منها شيئاً، ولكن ما لبث العرب في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن أصبحوا سادة فارس وما بين النهرين والشام ومصر فأبقوا على نقود كانت مألوفة لديهم، ثم ضرب بعض الدراهم على نقش الكسروية وشكلها، وغير في بعضها «الحمد لله» وفي بعضها «لا إله إلا الله» وكذلك فعل عثمان ومعاوية5.

وتؤكد لنا النقود ما جاء في المصادر التاريخية أن الخليفة الأموي»عبد الملك بن مروان»(65 ـ 76 هـ) كان أول من عرّب السكة الإسلامية تعريباً كاملاً حين بدأ بتعريب الدواوين حيث وجد أن من ضرورات الاستقرار السياسي والاقتصادي إضفاء الطابع القومي والإسلامي على جميع الميادين الإدارية والمالية، والمتاحف العربية والعالمية غنية بدنانير كاملة التعريب مؤرخة من عام77 هـ.

ويقف كذلك وراء قرار عبد الملك بتعريب العملة جملة من الأسباب، ولكن السبب المباشر هو ما عُرف تاريخيًّا باسم «مشكلة القراطيس»، أي ورق البردي، وخلاصتها أن مصانع البردي، في مصر اعتادت أن تبعث بهذا الورق إلى بيزنطية، وقد كتبت عليه بسملة التثليث (الأب والأبن وروح القدس) باللغة اليونانية.

واستمر هذا التقليد قائماً بعد فتح مصر على يد العرب المسلمين، ولا سيما أن أصحاب هذه المصانع، كانوا أقباطاً، وشاءت الظروف أن يتنبه عبد الملك إلى هذا الأمر، فطلب من عامله على مصر، وهو شقيقه عبد العزيز، بأن يلغي هذا التقليد، وأن يكتب على البردي « قل هو الله أحد»، وعندما علم الإمبراطور البيزنطي، جستنيان الثاني (ت 711م) بذلك، استشاط غضباً، وبعث إلى الخليفة، أكثر من مرة، يطلب منه سحب قراره، وعندما أدرك  الإمبراطور أن عبد الملك مصمم على موقفه هدده بأن يصدر دنانير تحمل نقشاً مُهيناً للإسلام والمسلمين، فاستشار الخليفة أصحابه، واتخذ في ضوء ذلك قراره التاريخي بسك الدينار الذهبي الإسلامي، وتحريم تداول الدنانير البيزنطية تحريما كاملاً، وبذلك انتزع من جستنيان الورقة التي كان يهدد بها.

ولقد أزال عبد الملك عن النقود الإسلامية رسوم الأباطرة البيزنطيين والشارات المسيحية من الدنانير، وكذلك ألغى رسوم الملوك الساسانيين وشارات معابد النار مستعيضاً عنها بآيات من القرآن الكريم ومأثورات إسلامية خالصة، بل نجد على الوجه الثاني للعملة تاريخ الضرب واسم المدينة6.

 

تعريب العملة:  والحق أن المؤرخين العرب لا يختلف واحد منهم في نسبة تعريب النقود إلى عبد الملك بن مروان بقدر اختلافهم في الأسباب التي أدت آخر الأمر إلى ضرب نقود إسلامية خالية من الشارات المسيحية والكتابات اليونانية والنقوش المجوسية. وتتركز الخلافات في وجهات النظر في اعتناق فريق من الباحثين لمبدأ النزاع بني عبد الملك والبيزنطيين بسبب تغيير طراز البردي، من التثليث إلى عقيدة التوحيد، بينما يعتقد فريق آخر بأن ما ضربه عبد الملك من نقود مصورة بصورته هو السبب الرئيسي للتعريب.

ويأتي على رأس النظرية الأولى ما ذكره»البيهقي» في كتابه «المحاسن والمساوئ» من أن قراطيس البردي عربه عبد الملك، «فلما ثبتت القراطيس بالطراز المُحدث بالتوحيد وحُمل إلى بلاد الروم، استشاط الإمبراطور غضباً، فكتب إلى عبد الملك لتأمرن برد ما كان عليه أو لآمر بنقش الدنانير والدراهم فينقش عليه شتم نبيك»7.

ويشير المؤرخ إلى أن عبد الملك صعب عليه هذا التهديد فجمع مستشاريه، فأشار عليه محمد بن الباقر بن على بن الحسين بتعريب النقود وتسجيل شهادة التوحيد والرسالة المحمدية وتاريخ الضرب عليها مع تحديد النسبة بين الدنانير والدراهم بسبعة إلى عشرة على أن تصب صنجات من قوارير ولا تستحيل إلى زيادة مع أو نقصان لتصير عليها أوزان النقود العربية،  وتفرض عقوبات رادعة على من يتعامل بغير النقود الإسلامية» ففعل عبد الملك ذلك». وقد أورد البلاذري والمقريزي وأبو المحاسن قصة مشابهة لرواية البيهقي والدميري.

أما النظرية الثانية التي ترد أسباب تعريب عبد الملك للنقود إلى ما وقع بينه وبين الإمبراطور البيزنطي من نزاع لم يكن أساسه البردي وتعريبه، بل لأن عبد الملك ضرب نوعاً من الدنانير مصور بصورته التي حلت محل صورة الإمبراطور. ولذلك يرى باحث معاصر8 أن عبد الملك كان يقدر خطورة الميدان الاقتصادي للدولة من أن يحل به هزة عنيفة إذا ما أصدر أوامره  بإلغاء التعامل بالنقود غير العربية بين يوم وليلة، وهي نقود قد أكتنز الشعب ثرواته بها، كما قد ألف التعامل من خلالها، لذلك سار عبد الملك في تعريب النقود بطريقة مرحلية استغرقت أربع سنوات من عام74 ـ 77 هـ .

فبدأ بتحوير الصلبان في الدنانير إلى حرف (T) مع الإبقاء على كافة الصور الإمبراطورية والنقوش اللاتينية، ثم انتقل بعد ذلك إلى تحوير الصلبان إلى كرات مع تسجيل شهادة التوحيد والرسالة المحمدية في هامش الظهر، ثم جاءت خطوة تالية أكثر جرأة ألغيت فيها صورة الإمبراطور البيزنطي وأولاده وحلت محلها صورة الخليفة عبد الملك، وهو يقبض على السيف علامة الإمامة عند المسلمين مع تسجيل تاريخ الضرب عام 74هـ .

ولدينا أقدم نموذج لهذا الطراز الجريء من الدنانير المرحلية المعرَّبة في متحف كراتشي واستمرار الإصدار يؤرخ بسنة عام 76 ، 77هـ ويحتفظ المتحف البريطاني والمكتبة الأهلية بباريس بهذه الدنانير. وهي دنانير كانت في حد ذاتها ثورة إصلاحية خطيرة تسببت في نزاع أخطر بين الخليفة عبد الملك والإمبراطور جستنيان الثاني الذي كانت بينه وبين الدولة العربية معاهدات وانتهى النزاع باشتعال الحرب من جديد بين العرب والبيزنطيين، تلك الحرب التي كان النصر فيها للدولة العربية.

ومما لا جدال فيه أن هذه الحرب, لم تكن مجرد صدام بين حاكمين أحدهما هادئ رزين والآخر متهور، ولكنها كانت تحدياً وصراعاً بين حضارة قديمة تفتخر بتراثها الديني وسلطتها العالمية من ناحية وبين دولة فتية تحتم عليها أن تفسح مكاناً لعقيدتها الدينية الخاصة بها ولحقوقها الخلافية من ناحية أخرى9 .

ويرى الباحث «عادل زيتون»10 أنه إذا كانت «مشكلة القراطيس» هي السبب المباشر لقرار عبد الملك، في سك النقود العربية الإسلامية، الدنانير منها والدراهم،  فإن هناك أسباباً أخرى، ربما تفوق في أهميتها تلك المشكلة، وفي مقدمتها رغبة الخليفة في تحقيق الاستقلال المالي عن الدولة البيزنطية، وفي التخلص من الفوضى التي كانت سائدة في النقود الأجنبية المتداولة في العالم العربي والإسلامي، آنذاك، الدنانير منها والدراهم، نتيجة تنوعها واختلاف أوزانها وعيارها، وما كان على تلك الفوضى من أضرار مالية واقتصادية تلحق بالدولة والرعية على السواء.

هذا فضلاً عن رغبة الخليفة في التخلص من الغش الذي انتشر في تلك النقود، وأدى، بالتالي إلى انخفاض قيمتها الشرائية وارتفاع الأسعار وانعدام ثقة الناس بها. وجاء شكل الدينار الذهبي الإسلامي الذي سكه عبد الملك عام 77هـ على النحو التالي: نقش على أحد الوجهين «الله أحد، الله الصمد، لم يلد ولم يولد» ونقش على مدار الوجه نفسه «بسم الله ، ضرب هذا الدينار في سنة سبع وسبعين». أما على الوجه الآخر، فقد نقش «لا إله إلا الله وحده لا شريك له»، ونقش على مداره «محمد رسول الله، أرسله بالهدى ونور الحق ليظهره على الدين كله». أما وزن هذا الدينار فقد كان 25و 4جرام، وهو الوزن الشرعي للدينار  وكانت نسبة الذهب فيه نحو 96% .

وقد أخذ الدينار الإسلامي بالانتشار التدريجي، وغدا العملة الذهبية الوحيدة في العالم الإسلامي، من حدود الصين شرقاً إلى الأندلس غرباً، ووضعت الدولة العربية الإسلامية النظم والقواعد لدعمه وحمايته، ولكن لم يقتصر انتشار هذا الدينار داخل حدود العالم الإسلامي فقط وإنما اجتازها إلى مدن العالم القديم وأسواقه.

وإذا كان انتشاره العالمي قد جاء متوافقاً في البداية، مع ازدياد النشاط العالمي للتجارة الإسلامية، إلا أنه سرعان ما تجاوز في انتشاره آفاق هذه التجارة وتسرب إلى مناطق لم يصل إليها التجار المسلمون، وغدا بالتالي، نقداً دوليًّا رئيساً على امتداد خمسة قرون من تاريخ العصور الوسطى(ق 8 ـ ق 13م).

والمهم أن الطراز المعرب من دنانير عبد الملك المصورة قد أخذ مكانه في المعاملات التجارية واستقر كمرحلة رئيسة من مراحل التعريب، انتقلت بعده النقود إلى مرحلة أخرى ختامية تخلصت فيها النقود من التأثيرات البيزنطية والساسانية على السواء. وقد أخذت هذه المرحلة الأخيرة مكانها عام 77هـ واستطاعت الدول العربية الإسلامية بذلك أن توفر لنفسها نظماً خاصة بها لإصدار نقودها التي اكتسبت ثقة المتعاملين بها نظراً لجودة عيارها وانتظام شكلها وجمال نقشها، ودقة وزنها، فاكتسحت أمامها الدينار البيزنطي واحتلت مكان سمعته العالمية.

وما ساعد الدينار الإسلامي على تحقيق هذه المكانة العالمية، والسمعة الدولية سوى محافظة الخلفاء والحكام، في مشرق العالم الإسلامي ومغربه، على الوزن الشرعي للدينار وعياره ونقائه، وعلى الرغم من الفروق الضئيلة في الدنانير التي سكت في عهد هذا الخليفة أو ذاك، فإنه تمت المحافظة على السمات الأساسية لهذا الدينار خلال تلك القرون.

إضافة إلى حرص الدولة العربية الإسلامية على حماية نقدها كان عاملاً مهما في وصول الدينار إلى مكانته العالمية. فقد أدرك الخلفاء والحكام جميعاً أن سلامة الاقتصاد وانتظام مصالح الناس وسمعة الدولة في الداخل والخارج، يرتبط بسلامة النقد، ولهذا وضعوا النظم والقواعد الحمائية, وأشرفوا بأنفسهم أو من خلال من يمثلهم، على تنفيذها.

فقد تمت مراقبة دور سك العملة مراقبة دقيقة، وفرضت أقسى العقوبات على كل من يحاول سك نقد خارج دور السك الحكومية، وعلى من يحاول التلاعب في وزن الدينار وعياره ونقائه. وقد أسهم ذلك كله، بدوره، في خلق الثقة بالدينار الإسلامي، في الأوساط المالية، المحلية منها والعالمية. ومن المعلوم أنه لم يكن بالإمكان سك الدينار الإسلامي وانتشاره لولا وفرة معدن الذهب، فقوة الدينار كانت مرهونة بتدفق هذا المعدن إلى العالم الإسلامي .

وإذا كان العرب والمسلمون قد أفادوا في بداية سكهم للدينار، من غنائم الفتوحات والكميات الضخمة من الذهب الذي كان مكتنزاً في مدن مصر والشام وقصور الساسانيين في العراق وبلاد فارس، فإنهم اعتمدوا بعد اتساع رقعة الدولة واستقرار الفتوحات على مناجم الذهب في آسيا وإفريقيا، بشكل مباشر وغير مباشر، سواء أكانت تلك التي تقع داخل بلادهم أو خارجها. ولا ننسى أن قوة اقتصاد العالم الإسلامي وازدهاره من أهم العوامل التي ساعدت الدينار على تحقيق مكانته العالمية، فقد أصبح للمسلمين جميعا، في العصور الوسطى، سيادة اقتصادية على الشرق والغرب، فثرواتهم الزراعية منها والصناعية، وما تميزت به من تنوع وجودة وسمعة عالمية جعل التجار المسلمين يمسكون بأيديهم معظم التجارة الدولية آنذاك، فقد غدت الطرق التجارية الكبرى، البرية منها والبحرية، بأيديهم أو تحت رحمتهم. ويضاف إلى ذلك كله، فقد تحول البحر المتوسط، منذ مستهل القرن التاسع الميلادي (الثالث الهجري) إلى بحيرة إسلامية11.

 

العملة الإسلامية والفن: وأضحت النقود الإسلامية خير سفير لعقيدة التوحيد بما تحمله من كتابات عربية وآيات قرآنية اكتسبت الثقة بين شعوب أوربا التي أطلقت عليها لفظ «المنقوشة « Mancusus “  كما وردت في النصوص اللاتينية. بل إن بعض ملوك إنجلترا وهو الملك أوفاMercia  لم يقبل شعبه غير النقود التي ضربها تقليداً للنقود العربية المنقوشة، وما زال بالمتحف البريطاني واحد من دنانير الملك أوفاOffa  وعليها شهادة التوحيد والرسالة المحمدية والتاريخ الهجري عام 157هـ واسم الملك باللاتينية.

وأخذت النقود الأوربية المقلدة للنقود الإسلامية يزداد ضربها حتى القرن الثالث عشر الميلادي، ولم يمنع ذلك من تعامل أوربا بالنقود العربية12، كما استعارت أوربا في معاملاتها التجارية كلمة (سكة) لتصبح في الفرنسية Seguin   وفي الإيطالية Zecca   كما استعيرت من العربية كلمة (صك) لتصبح Cheque وفي المصطلح الجمركي الأوربي Tariff مشتقة من العربية “تعريفة”

ومن ناحية أخرى فإن أثر الخط العربي والكتابات العربية المنقوشة على النقود الإسلامية كان له تأثيره على النقود الأوربية، وهو موضوع قد حظي بكثير من عناية الباحثين الأوربيين ويأتي  في مقدمتهم «لونجبريه» الذي كتب بحثا عام 1845م عن استخدام المسيحيين من أوربا للحروف العربية في الزخرفة.

ومن الأمور الطريفة أنه كانت هناك نقود تضرب في العالم العربي لتُهدى أو لتنثر على الناس أو ليصلوا بها الأرحام في المناسبات الخاصة، مثل العملات التذكارية التي نصدرها الآن، لم يكن الغرض من سكها أن تطرح بين الناس لتمشية أمور التعامل التجاري، فهي تختلف في أوزانها عن الوزن الشرعي النقدي للذهب والفضة، كما أنها في الوقت نفسه تحمل نصوصاً مغايرة لما كان يُنتقش في العادة على النقد الرسمي للدولة، إن هذه النقود تعرف بنقود الصلة13.

وقد أفادت صناعة العملة وصكها من تقدم فنون الزخرفة العربية والإسلامية، فقد تميز فن العملات الإسلامية بالمزج بين الخط والتجريد، وقد حافظ التيار الرئيسي للعملة الإسلامية على نهج القرن  الرابع الهجري الذي يعرض عن الصور باستثناء قطع قليلة تأثرت بمصدر غير إسلامي.

إن إلقاء نظرة عابرة  على الدنانير الأموية والعباسية يترك انطباعاً بأنه لم يطرأ أي تغيير على شكل الدينار الإسلامي لمدة تناهز قرناً من الزمان، لكن في أوائل القرن الثالث الهجري (التاسع الميلادي) ظهر طراز جديد من العملة العباسية فيه ميل متزايد إلى النقش الزخرفي واستمر هذا الاتجاه حتى أصدر الفاطميون طرازاً جديداً من النقود يختلف عن الطراز الذي استعملوه عن الأغالبة ويتميز الطراز الفاطمي برقة خطه وأناقته وبروز النقوش الدائرية، وقد أدى الاستقرار الذي تمتعت به العملة الفاطمية إلى تقليدها ليس فقط من قبل الأيوبيين، بل ومن قبل بعض الدويلات  المعاصرة مثل الصليبيين وسلاجقة الروم.                 

وعلاوة على النقود الفاطمية ظهر نمط مبتكر آخر تميز بتصميمه بإطار مربع محاط بدائرة وقد صدر عن حركة الموحدين في الشمال العربي الإفريقي وأسبانيا الإسلامية. إن من بين مقتنيات المعرض الخاص بكنوز الفن الإسلامي في جنيف عملات ذات أهمية تاريخية خاصة مثل الدينار الأموي الذي يعود لعهد الخليفة عبد الملك بن مروان.

أيضا النقود العربية اللاتينية في الأندلس مثل الدينار الأموي الذي يعود لعهد الخليفة سليمان، وهناك النقود العربية الساسانية في العراق وإيران ومنها دراهم باسم الخليفة معاوية بن أبي سفيان ودرهم باسم الحجاج بن يوسف الثقفي، وهناك العملة الأموية المصرية والعملة العباسية في العصر العباسي الأول، والعملات المتفرعة عنها في المغرب والأندلس، وهناك النقود العباسية في العصر العباسي الثاني، ونقود السلالات التي خلفتهم في العراق وإيران، والنقود الفاطمية والنقود الأيوبية، والمملوكية المحاكية لها، وهناك المربع المحاط بدائرة وهو يعود لنقود الموحدين والنقود التي حاكتها، وهي غير النقود الإسلامية المضروبة في دوقية البندقية والنقود الذهبية التنكة في الهند والنقود ذات الصور والنقود التذكارية، وغيرها من نقود النظم الإسلامية التي صاحبت عصور الاندحار والاضمحلال في الدولة الإسلامية14.

والجدير بالذكر أن النقود الذهبية بعد التعريب لم يسمح الخليفة الأموي بضربها في غير مصر وسوريا، فانحصر إنتاج  الدنانير العربية في دار السك بدمشق والفسطاط. وأصبح من الصعب في نقود العصر الأموي التمييز بين تلك الدنانير السورية أو المصرية بعد أن وحد بينهما المظهر العربي العام الذي حدده إصلاح عبد الملك للنقود وخاصة في الكتابة العربية المنقوشة.

وإذا كان من الصعب علينا التمييز بين النقود الذهبية التي ضربت في مصر وبين تلك التي ضربت في سوريا في العصر الأموي، فإن الأمر لم يكن كذلك بالنسبة للنقود من الفلوس التي كان يسجل عليها اسم الوالي أو عامل الخراج الذي ضرب النقد على يديه وتحت إشرافه كما يحمل اسم مكان السك أحياناً، ونجد الفلس النحاس المحفوظ بالمتحف البريطاني يظهر عليه اسم الخليفة كما تظهر عليه صورته وهو واقف وتحيط برأسه كوفية ويقبض بيده على سيفه وحول الصورة كتابة نصها (لعبد الله عبد الملك أمير المؤمنين) .

ولذلك يمكن اعتبار هذا الفلس نقطة التحول إلى الفلوس العربية، فقد ظهرت بعد ذلك سلسلة من النقود البرونزية في مصر الأموية بوجه خاص كشفت عنها حفائر الفسطاط، وتزدان بها مجموعة متحف الفن الإسلامي وتحمل هذه النقود أسماء الولاة أو عمال الخراج الذين تولوا أعمالهم في مصر مثل فلوس القاسم وفلوس عبد الملك بن مروان والي الخراج في مصر عام 131 ـ 132 هـ.

وقد تميزت السبيكة المصرية بطابع خاص عن السبيكة السورية النحاسية، فالأولى سميكة ومن معدن البرونز وأقرب شبها بالفلوس التي كانت تضرب في الإسكندرية قبل الفتح العربي أما الثانية فرقيقة ومن خام النحاس.    

وفيما يتعلق بالنقود الفضية في العصر الأموي فقد وصل إلينا الكثير من الدراهم التي ضربت بعد إصلاح عبد الملك في سوريا والعراق بوجه خاص، وترجع أقدم الدراهم الأموية العربية إلى عام 79هـ ضرب»دمشق» و»الكوفة» وإلى عام 84هـ ضرب «واسط» ، وكل هذه الدراهم تحمل  بين كتاباتها اسم دار السك التي توضح مكان ضربها15.

وقد تميزت الدراهم الأموية بجمال خطها ودقة وإتقان ضربها، بالإضافة إلى صفاء ونقاء معدن الفضة الذي ضربت منه، وإن دل هذا على شيء فإنما يدل على وفرة المعادن، ونظراً لاتساع رقعة الدولة وترامي  أطرافها نجد أن دور السك بالنسبة للدرهم بلغت ما بين درا سك من الأندلس غربا إلى كاشغر في الصين شرقا.

 

أهم المسكوكات الإسلامية: هناك كثير من الدراهم والدنانير حملت أسماء الدول والعصور التي ضربت فيها، وأهم هذه المسكوكات :

 

الدراهم العباسية(132 ـ 17.هـ): جاء ضرب هذه الدراهم العباسية الأولى على الطراز الأموي من جهة الوزن والقطر والعبارات، إلا أن الخليفة العباسي (أبي العباس عبد الله السفاح) أمر بحذف سورة الإخلاص التي كانت على الدراهم الأموية، واستبدالها بعبارة (محمد رسول الله) في ثلاثة أسطر فوق بعض لأسباب سياسية وللتمييز بين النقود العباسية والأموية، وكذلك جاء تفسير بعض العلماء، تعمد السفاح رفع عبارة «محمد رسول الله « للتفاخر بأنه من أبناء عم الرسول الكريم ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو العباس بن عبد المطلب وأنه أحق بالخلافة من بني أمية لأنه ينحدر من بني هاشم.

جاءت دراهم الخليفة أبو العباس السفاح مجردة من ذكر اسم الخليفة أو كنيته، لم تدم خلافة عبد الله السفاح سوى أربع سنوات (136هـ) وخلفه أخوه «أبو جعفر عبد الله المنصور» الذي يعتبر الخليفة المؤسس الحقيقي والقوي والذي تمكن من القضاء على القائد العسكري القوي أبي مسلم الخراساني، والذي بموته أصبحت الدولة أكثر أمناً واستقراراً، كما يرجع الفضل للمنصور في بناء مدينة السلام (بغداد) التي اتخذها عاصمة له.

وقد ضرب دراهم في عاصمته الجديدة فور الانتهاء من بنائها بالإضافة إلى مدن أخرى سواء في المدن الواقعة في الحدود العراقية الحالية أو من بلاد الشام ومصر، وبعض من مدن إفريقيا والمغرب والأندلس و فارس والجبال وخراسان.

وفيما يتعلق بالفلوس النحاسية ظهرت في مدن كالبحرين وصحار (عمان) ، ونلاحظ أن الدراهم  التي ضربت في عهد المنصور أكثر جودة عن الدراهم التي ضربها السفاح، وقد تحسن الضرب في زمن المنصور مع زيادة في اتساع قطر الدراهم وذلك لاستعياب العبارات وأسماء الولاة، وقد اعتمد الخليفة اعتماداً كليًّا على أحفاد المهلب بن أبي صفرة، في إدارة الديار الإفريقية والمغربية وسط سيطرة الخلافة العباسية وبناء العديد من المدن المهمة والتي أصبحت من أهم مدن الضرب العباسية في إفريقيا مثل مدينة العباسية، وتدغبة، وطبنة، وكانت هناك طرز شرقية تعتبر أكثر جودة وإتقانا في الضرب ووضوح الخط، كالدراهم التي ضربت في مدينة السلام والري والبصرة والكوفة وأرمينية، وكانت هناك طرز غربية أقل جودة وجمالاً16.

 

درهم قرامطة البحرين: يعتبر القرامطة من فرق غلاة الشيعة في الإسلام، وقد ظهروا بعد عام 286هـ حـين اجـتمع لرجـل يدعى أبو سعــيد الحسن بن بهرام الجنابي جماعة من القرامطة وبعض القبائل العربية التي قويت شوكتها وأخذت تقــطع الطريق عــلى حجاج بيت الله وتغير عليهم. وقد تمكنت الدولة العباسية من القضاء عليهم عام 374هـ وتعـتبر جــميع نقـود القرامـطة نادرة جدًّا، وقد ضربوا نقودهم على الطراز العباسي الصرف، ورغم اختلافهم مع الخليفة العباسي، فإننا نجد أن النقود حملت اسم الخليفة واسم الحاكم القرمطي ولقبه، وعندما توفي رئيسهم أبو يعقوب يوسف بن الحسن عام 366هـ وتولى بعده حكم القرامطة هيئة رئاسية مكونة من ستة أشخاص ولقبوا بالسادة الرؤساء، لم يطرأ أي تغيير على ضرب النقود، إلا أن عبارة السيد الرئيس استبدلت بعبارة السادة الرؤساء.

ولم نجد أن القرامطة رفعوا أي شعار لدولتهم على النقود كبقية الدويلات التي نشأت والتي كانت على خلاف مع الخلافة العباسية مثل الدولة الفاطمية أو الصليحية وغيرها من الدول التي خلعت طاعة الخلافة العباسية وأعلنت استقلالها السياسي والديني17.

 

درهم بنو سلار: مؤسس هذه الإمارة هو»المرزبان الأول» محمد بن مسافر عام 3.4هـ في المنطقة الواقعة بالقرب من بحر الخرز، وقد امتد سلطانه إلى (أران وأذربيجان وجنزة) وتعد هذه الأسرة من الأسر الفارسية التي تنحدر من الديالمة.

وقد ظلت هذه الإمارة مستقلة إداريًّا عن الخلافة العباسية مقابل دفع الخراج ورفع اسم الخليفة على السكة. وقد ضرب الدراهم السلارية على الطراز العباسي ولكنها أقرب إلى طريقة وأسلوب سك النقود البويهية، حيث اقتصرت هذه الأسرة على ضرب الدراهم الفضية، مما يدل على أن هذه الإمارة كانت ذات دخل محدود، وأن إمكانيتها الاقتصادية لم تمكنها من استخدام الدنانير الذهبية، ومن الملاحظ أيضا أن معدن الفضة لم يكن نقيًّا، وأن الدراهم ليس بها تقنية، واستخدم في سكها أسلوب الطرق اليدوي18.

 

دينار بني تغلق شاه:  تعد النقود التغليقية (السلطان تغلق شاه غياث الدين غازي72.هـ) من أجمل النقود التي ضُربت في الهند قبل قيام دولة الأباطرة المغول، متقنة الضرب حسنة الخط، سكت من معادن ثلاثة (ذهب، فضة، نحاس) وكان المعدن نقيًّا خالياً من الغش، ونظراً للانتعاش الاقتصادي نرى أن النقود التغليقية يزيد وزنها عن 15 جراماً، كما أن تمسك السلطان محمد بن تغلق شاه بدينه وتعلقه بحب الله وإظهار عبوديته لله وحده قد انعكس على النقود التي نرى أنه كتب عليها عبارة (الواثق بتأييد الرحمن. الراجي رحمة ربه. الراجي عفو ربه) وغيرها من العبارات الدالة على أن لا سلطان إلا لله.

    ويعتبر دار السك بدهلي من أكبر وأشهر دور السك في الهند، وإن كانت هناك  دور مساعدة مثل (تغلق آباد، أكرا، وعشق آباد) وقد انتشرت النقود التغليقية في عموم القارة الهندية، كما أنها وصلت إلى منطقة الخليج العربي بحكم العلاقات التجارية التي تربط الهند مع موانئ الخليج العربي.

وتم استخدام هذه العملات في الإمارات وعمان، واكتشفت نماذج من هذه العملات في عمان والمنطقة الشرقية بالإمارات19.

تسمية العملات: وقد أطلقت أسماء وألفاظ على العملات العربية والإسلامية ـ مثل بقية عملات العالم ـ مشتقة من اللون، أو بالقطع والتجزئ، أو بالعدد، أو بأسماء المعادن، كما نجد أن بعضها يكنى عنها بأسماء أخرى غير أسمائها الحقيقية. فمن أسماء العملات التي اشتق لفظ اسمها من الدلالة على اللون كلمة (الأقجة) وهي عملة تركية، ضربت في عهد السلطان (أورخان العثماني) .. والكلمة تركية معناها مائل إلى البياض، وجاءت في معجم الـ( P164 Redhouse ) بمعنى: ما هو أبيض، أو شاحب، ذابل أو متلاشٍ مضمحل.

ومن أسماء العملات التي تدل في أصل معناها على القطع أو التجزيء كلمة ألتيك (أو التيق) وهي أيضا اسم عملة تركية تطلق على قطعة ذات ستة قروش، وأصل معنى الكلمة في التركية العثمانية مقسم أو مكون من ستة أجزاء .

أما أسماء العملات التي ترجع في أصل معناها إلى عدد فمنها لفظة بشليك، وهي عملة تركية ضربت إبان الإصلاح  النقدي الذي وضعه السلطان سليمان الثاني (1687 ـ 1691م) وأساسها غروش، وتأتي في التركية العثمانية بمعنى خُماس، أو أي شيء متعلق بالرقم خمسة، كما أوردها معجم الـRedhouse  (p.367) .

ويدلنا معجم آخر20 على أن أصل لفظ جنيه Guinea  الدالة على أسم عملة في كثير من البلدان العربية والأجنبية، يعود إلى الساحل الغيني الإفريقي مصدر الذهب حيث صنع الجنيه هناك أول مرة، مما يوحي باحتمال ارتباط هذه اللفظة بالذهب. كما تدل لفظتا درهم ودينار المستعملتان في العربية للدلالة على الوزن، يقول “التهانوي” في”كشاف اصطلاحات الفنون”:” وبالجملة الدرهم في اللغة اسم لمضروب مدور من الفضة، وفي الشرع يطلق على وزن ذلك المضروب في الزكاة.. على قياس الدينار فإنه يطلق لغة على المضروب، وشرعاً على وزن ذلك المضروب21.

 

الدورالإعلامي للنقود العربية:  لم يقتصر دور النقود على التعامل والتبادل التجاري فحسب، وإنما تجاوز ذلك إلى الدور الإعلامي بنوعيه الحسن والسيء أو ما  يعرف اليوم بـ(الإعلام والإعلام المضاد) ولنا من الشواهد على ذلك العشرات من الأمثلة التي تؤكد أهمية هذا الدور.

وإذا كان الدور الإعلامي الإيجابي لا يحتاج إلى مزيد من التأكيد والتوضيح لشيوعه وانتشاره فإن الدور الإعلامي  ذي الطابع السيئ يحتاج إلى تأكيد. وهذا واضح في النقود الإعلامية المضادة التي ضربها ـ مثلا ـ «الفضل بن سهل» واسم أخيه الحسن عام 2..هـ خالية من ذكر اسم الخليفة العباسي الشرعي المأمون صاحب السلطتين الدينية والدنيوية في العالم الإسلامي .

وكذلك مجموعة النقود الذهبية والفضية التي ضرب بعضها في مدينة السلام والأخرى لم يرد عليها دار الضرب، وقد نقشت بصورة أشخاص يبدو منها المنادمة وشرب الخمر، كشخص جالس وبيده كأس شراب أو آلة طرب وحوله جاريتان، أو صورة حيوان (حصان أو جمل أو بقرة صغيرة) كتب حول هذه الصورة الآدمية أو الحيوانية اسم أحد الخلفاء العباسيين المقتدر بالله والطائع بالله والقائم بأمر الله ...إن هذه النقود قد ضربت من قبل الأعداء أو المنافسين الحاقدين المقربين للخلفاء أنفسهم، بعد أن استهانوا بالخلافة العباسية في شخصية الخليفة نفسه، فهي نقود تتنافى وصفات الخليفة الشرعي الذي يمثل الجانب الديني علاوة على الدنيوي.

وفي العصر الإسلامي وعلى أرض الشام وبالتحديد مدينة عكا ضربت فيها إبان الحرب الصليبية نقود وقد نقشت عليها العبارات (الله واحد هو الإيمان واحد المعمودية واحدة) أو (لله المجد أبد الآبدين آمين آمين)  إضافة إلى عقيدة الإيمان المسيحية (الأب والابن والروح القدس) وصورة صليب داخل دائرة.

وكذلك من  نقود الإعلام السيئة بالنسبة للحاكم ما ضربه أعداء السلطان الافشاري نادرخان بعد وفاته نقش عليها بالخط العربي (ندر بدرك رفت) أي (نادر ذهب إلى جهنم) لأن هذا الحاكم ـ كما ذكرت المراجع ـ كان ظالماً وقاسياً على الرعية، وأصبح مجرماً وقاتلاً، وقد كرهه الجميع لأنه يسيء الظن بهم حتى خافه الأمراء، وتآمروا على قتله عام 116.هـ . ومن الغريب أن العبارة (ندر بدرك رفت) إضافة إلى  معناها (نادر ذهب إلى جهنم) تعطينا رقماً بحساب الجمّل (أبجد هوز) يساوي 116.هـ وهو تاريخ وفاة هذا السلطان، وفي الوقت نفسه تاريخ ضرب هذا النقد، وهذا أمر جديد على النقود23.

 

نتائج عالمية الدينار الإسلامي: أما بالنسبة إلى النتائج التي ترتبت على (عالمية) الدينار الإسلامي  فيمكن أن نشير، بإيجاز شديد، إلى بعضها، ومنها24:

1ـ انقلبت الخريطة النقدية التي عرفها العالم، عند ظهور الإسلام، رأسا على عقب، فقد حل الدينار، محل العملة البيزنطية كعملة دولية، بل تجاوز الدينار في انتشاره كل البلاد التي وصل إليها (الصولدي) البيزنطي، وأقام لنفسه (إمبراطورية) ضمت تحت سيادتها معظم بلدان العالم القديم، كما أن الدرهم الفضي الفارسي خرج نهائيًّا من المسرح الاقتصادي بخروج دولة الفرس من التاريخ، وحل محله الدرهم الفضي الإسلامي.

2ـ أسهم الدينار الإسلامي في صبغ التجارة العالمية، فالدينار كان أسرع في نشاطه من التجار، والآفاق التي وصل إليها لم يتمكن هؤلاء من الوصول إليها، ولكن الدينار خلق لهم ولمتاجرهم سمعة عالمية في المناطق التي تم تداوله فيها، وبالتالي فتح أمام التجارة الإسلامية أبواب الكثير من بقاع العالم، سواء كان ذلك بشكل مباشر أو غير مباشر.

3ـ لعب الدينار دوراً مهمًّا في نقل الأفكار والثقافات بين الشعوب، أي لم يكن الدينار خلال انتقاله بين أيادي تجار العالم ومدنه أداة نقدية فحسب، وإنما كان أداة تواصل، فما يحمله من نقوش ومضامين روحية وتواريخ، شكلت نافذة أطلت من خلالها شعوب العالم القديم على المجتمع الإسلامي وحضارته.

4ـ أسهمت (عالمية) الدينار الإسلامي في خلق المهابة والإقدام، في عيون الشعوب، للدولة التي سكته، فالدينار يرمز، في نهاية المطاف، إلى ثروة الدولة واستقرارها السياسي والاجتماعي وقدرتها العسكرية التي تحمل ذلك كله.

5ـ بعث الدينار الإسلامي على طول الطرق التي سلكها في رحلته عبر العالم، نشاطاً اقتصاديًّا وماليًّا وثقافيًّا، وتحولت المناطق التي التقت  على أرضها دنانير العرب والمسلمين ومتاجرهم وأفكارهم إلى مراكز انطلقت منها النهضة الأوربية، والآسيوية في بدايات العصر الحديث .

6ـ ثم أخذ الدور العالمي للدينار الإسلامي بالأفول منذ أوائل القرن الثالث عشر الميلادي (السابع الهجري) فالعوامل التي شكلت القاعدة الصلبة لانطلاقه، محليًّا وعالميًّا ، تصدعت تدريجيًّا، وبالتالي أخذ يفقد السمات الأساسية التي حققت له المجد والعظمة على امتداد خمسة قرون. وصفوة القول: إن عالمية الدينار الإسلامي التي تعددت عواملها، وتنوعت مظاهرها ونتائجها، ارتبطت ـ كما يقول الباحث عادل زيتون ـ ارتباطاً وثيقاً بـ(العصر الذهبي) للحضارة العربية الإسلامية، فبقدر ما كان هذا الدينار أحد مظاهر عالمية هذه الحضارة، كان في الوقت نفسه، وبما يرمز إليه، أداة من أدواتها.

 

الهوامش

1 ـ د.عبد الرحمن فهمي: تعريب النقود ومدلوله الحضاري ص383 مجلة المنهل السعودية العدد 454 عام 1987

2 ـ د . محمد باقر الحسيني : النقود العربية الإسلامية ص 7 ،8 الموسوعة الصغيرة عدد 168 بغداد 1985.                                 

3 ـ د. عبد الرحمن فهمي محمد: النقود العربية .. ماضيها وحاضرها، المكتبة الثقافية ص2.، 21 مصر 1965   

4 ـ د . عادل زيتون : عندما كان الدينار الإسلامي عملة عالمية، مجلة العربي العدد 5.8 مارس 2..1م                       

5 ـ انظر المقريزي : شذر الذهب ص 3. نشر الكرملي.

6 ـ د . عبد العزيز حميد صالح: النقود وثائق تاريخية  ، مجلة المنهل السابقة.

7 ـ شاع بين المستشرقين وفي مقدمتهم ـ على ما يقول الباحث عبد الرحمن فهمي ـ سوفير ولافوا نسبة هذا النص إلى الدميري في حياة الحيوان ج1 ص 62ـ 64 ، ولكن سبقه البيهقي في «المحاسن والمساوئ» ص 467 

8 ـ د . عبد الرحمن فهمي:  تعريب النقود ومدلوله الحضاري ص 388                                    

10 ـ الترجمة العربية ص 12 .

Lopez , Mohammed and charlemange Arevision Speculum 1943.

11 ـ د . عادل زيتون :  عندما كان الدينار الإسلامي عملة عالمية        

11ـ السابق

12 ـ د . عبد الرحمن فهمي : تعريب النقود  ص 391

13 ـ د . عبد العزيز حميد صالح : النقود وثائق تاريخية  ص 378

14 ـ محمد سعيد : كنوز الإسلام في قلب أوربا ، مجلة الدوحة العدد124 قطر ، إبريل عام 1986م

15 ـ د.عبد الرحمن فهمي محمد: النقود العربية ص 46 ، 47

16 ـ انظر عبد الله بن جاسم المطيري: الدراهم العباسية ، مجلة تراث الإمارات العدد63 ص88، 89 فبراير 2..4

17 ـ انظر عبد الله بن جاسم المطيري: درهم قرامطة البحرين ، تراث الإمارات العدد 43 يونيو عام 2..2م                      

18 ـ انظر عبد الله بن جاسم : درهم بنوسلار ، مجلة تراث الإمارات العدد 44 يوليو عام 2..2م

19 ـ انظر عبد الله بن جاسم المطيري : دينار بني تغلق ، تراث الإمارات العدد 59أكتوبر عام 2..3م    

20 ـ

 The American Heritage Dictionary p. 8.5

22 ـ أنظر ماهر عيسى حبيب: أسس تسمية العملات في اللغات الإنسانية، مجلة الفيصل العدد33. الرياض فبراير 2..4م .

23 ـ انظر محمد باقر الحسيني : النقود العربية الإسلامية ص 8. ـ 86 بغداد عام 1985م 

24 ـ انظر د.عادل زيتون : عندما كان الدينار الإسلامي عملة عالمية السابق.

أعداد المجلة