فصلية علمية متخصصة
رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم
العدد
57

حوار في المرآة المعشقة لمحمـد بن فارس - أي صدىً تركته المثاقفة مع مظانّ الفن في الخليج... وأية لقاحية!

العدد 12 - في الميدان
حوار في المرآة المعشقة لمحمـد بن فارس - أي صدىً تركته المثاقفة مع مظانّ الفن في الخليج... وأية لقاحية!

كانت الأسطوانة تدور  بقوة من خلال آلة الجرامفون منشدة عبر هواء الأثير أغنية "إن العواذل قد كووا قلبي بنار العذل كي" حين أشار رجل أسمر اللون على نادل المقهى أن يأتيه بالأسطوانة مصدر الصوت. استجاب له على عجل قبل أن يفاجأ بمسارعة الرجل الجالس الذي لم يكن قد مر وقت طويل منذ دخوله المقهى، إلى تحطيم الأسطوانة المصنوعة من الشمع وتنقيده ثمنها (عشر روبيات).

وقبل أن يخف النادل مبتعداً عن المكان، سارع الرجل إلى إسداء النصيحة الصغيرة التالية إليه بلغة فيها حزم: "اشتر أسطوانة أخرى صالحة". لم يكن الرجل الأسمر غير محمد بن فارس (1895 - 1948). وقد أزعجه صوته الصادر من خلال الأسطوانة المعبأة في آلة السماع البدائية الصنع والمؤلفة من صندوق صغير، بعد أن وجد فيه خشخشة مضرّة. أما المقهى فقد كان مقهى بو ضاحي في حي المخارقة بالمنامة.
هذه الحكاية التي يرويها لنا راشد المعاودة نقلاً عن المطرب عرفج الرفاعي الذي كان شاهداً على الحادثة، ربما نقلت إلينا جانباً من شخصية هذا الفنان المتسمة بالحساسية الشديدة والدقة حيال فنه. وهي الحساسية التي ستدعوه إلى إعادة تسجيل أغانٍ سبق له أن قام بتسجيلها في حلب، في تجربة لم تكن مرضية له إلى حد بعيد. على حين تمتد هذه الحساسية لتطبع كامل تراثه الفني. بدءاً من النصوص التي انتخبها بعناية فائقة من غير مكان، إلى الأداء المرتجل والقوالب اللحنية. وحول كل ذلك التقت "الثقافة الشعبية" بعدد من الباحثين والمتخصصين في فن الصوت وحاورتهم. فيما سيلي مقتطفات:

 

* هل يمكن أن نضع خطاطة لمديونيات محمد بن فارس في فن الصوت من خلال اللقاحية  الثقافية التي كانت تتفاعل في المنطقة أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين بين اليمن وعمان والجزيرة العربية والبحرين والعراق؟

إبراهيم حبيب: لابد من الإشارة بداية إلى أن فن الصوت عربي النشأة، وجد في بغداد العصر العباسي، وقد قام صفي الدين الأرموي  (1216 - 1294) بتدوين بعض ضروبه في كتاب "الأدوار" ما شكل ذلك أساساً لمعرفة  النوتة القديمة للصوت العربي. إلا أن ثمة حلقة  بقيت مفقودة، وتتعلق بكيفية انتقال هذا الفن إلى منطقة الخليج. ثم حين جرى الانتقال لماذا اقتصر عليها من دون باقي الدول العربية الأخرى. بعض الباحثين يرجعون أساس نشأة الصوت إلى الفنان عبدالله الفرج (1836 - 1901). الحقيقة أن الأخير ابتكر بالفعل بعض الأصوات، لكن الصوت كفن أقدم منه بكثير(1).

مبارك العماري: التلاقح لم يكن من جهة واحدة، إنما كان يسير أفقياً، أي فيه أخذ وعطاء، خاصة في الجزيرة العربية. يمكن الزعم أنه وقتذاك كانت ثمة أزمة في الكلمة الغنائية.

لم يكن هناك دواوين أو مصادر للشعر الغنائي كما أن الاتصال مع المطربين كان أشبه بالمعدوم.في قبال ذلك كان هناك شغف عند الفنانين، لا سيما محمد بن فارس في أن يأتوا بالجديد دائماً ولا يكرروا القديم.بلقاء هذين الضدين، الفقر في الكلمة الغنائية والتوق إلى الجديد، نشأت الحاجة إلى التطلع خارجاً، إلى اليمن وعمان.

لذلك وجدنا تأثيراً كبيراً للحجاز على الصوت البحريني. لدينا نصوص كثيرة كانت تغنى في الحجاز وفي اليمن وعمان. كانت الأخيرة منطقة عبور للكلمة من حضرموت حين كانت السفن المسافرة إلى أفريقيا تقف في المكلا والشحر. هناك كانت تنطلق جلسات السمر بمشاركة المطربين الخليجيين. حتى أنه  نشأ في حضرموت فن اسمه "كويتي"، إشارة إلى أخذه من الكويت(2).

 

* فيما لو أردنا صياغة معادلة تلخص هذه اللقاحية التي تفاعلت داخل تجربة محمد بن فارس وفقاً لعناصر الثقل التي شكلتها كل واحدة من هذه المناطق. هل يمكن القول إن اليمن كانت تكتب، البحرين تغني، والعراق يسجل؟

إبراهيم حبيب: صحيح ذلك. لكن أود أن أصحح أمراً هنا. نحن في البحرين لم يكن لدينا اتصال مع عموم اليمن. فأغلب النصوص أتتنا من الشمال، من صنعاء تحديداً. في حين قليل منها أتى من الجنوب. وهي أتتنا عن طريق الحجاز. وأعتقد أن عبدالرحيم العسيري (ت  1940) كان مصدرها إلى محمد بن فارس، فهو من أمده بها.

راشد المعاودة: لقد غنى محمد حوالي ثلاثمائة وستين أغنية. ويمكنني الزعم من خلال تتبعي لمصادر أغنياته أن ولعه بالكلمة مكنه من الاطلاع على كل مصادر الشعر السانحة وقتذاك، حيث مد معها جسور التواصل. الأمر لا يقتصر على اليمن وحده. إذ استطعت أن أتعرف بالصدفة على كثير من مصادر الثقافة التي شكلت الأرضية لتجربته. وقد أشرت في محاضرة سابقة لي إلى أنني شهدت صغيراً كيف كان يجري "التحريج" على كتبه في سوق الدلالين.

وهي خليط من الشعر والأدب والدين والثقافة. لقد بحث محمد عن النصوص المميزة في كتاب "الأغاني" لأبي الفرج الإصفهاني، كما في "الموطأ" لمالك، وصحيحي مسلم والبخاري، وابن عبد ربه و"ألف ليلة وليلة". وكذلك ديوان المتنبي، وشعراء التصوف والزهاد، وغيرهم كثر. لذلك تجد أن النصوص التي غناها تعود في جذورها إلى كوكبة هائلة من الكتاب. من بعض المذكورة أسماؤهم إلى بن الأشراف وحسين زايد وأبي معجب والكوكباني وعيسي بن سنجه. ناهيك طبعاً عن دراسته للقرآن(3).

 

--------------------------------

ذائقة رهيفة وشعر صعب

--------------------------------

 

* كيف يمكن تفسير أنه لم يغنّ إلى أي شاعر بحريني  استثناء  فهد باحسين المسلم(4). في الوقت الذي نعرف عن مزاملته إلى بعض من نخبة مثقفي وشعراء عصره. كما في حالتي عبدالله الزايد وعبدالرحمن المعاودة اللذين يفيد أكثر من مصدر أنه كان يسمر معهما.

هل يمكن أن يحولنا ذلك، كمحاولة في التأويل، على أن محمد بن فارس لم يكن أسير خصوصية محلية ضيقة؟

إبراهيم حبيب: ممكن ذلك. لكن ممكن أيضاً  أنه فضل النصوص المغناة من دون سواها. ذلك أنها تصبح أسهل حين التلحين. فهو كان يأخذ النصوص المغناة - التي لم تكن متوفرة في البحرين - ويعكف على إعادة تلحينها من جديد ثم غناءها. هذه العملية قد تكون أسهل من ذهابه إلى النصوص المفتقرة إلى القوالب اللحنية.

راشد المعاودة: لم يكن بحاجة لأن يغني للزايد أو المعاودة. فهؤلاء كانوا أصدقاءه صحيح، لكن لا تنس أيضاً أنه كانت توجد بين يديه أمهات الكتب العربية. في الحقيقة، إنهم هم من استفادوا منه وليس العكس.

محمد جمال: ربما لأن الشعراء البحرينيين لم يكونوا على دراية آنئذ بأوزان القصائد في الأصوات. وهي أوزان تختلف عن البحور الخليلية(5).

* ألم يكتب هو الشعر؟

راشد المعاودة: لقد وجدت من نقل عنه أغنية طريفة عن الفأر. آنذاك كانت تصنع أوتار العود من "مصران" الحيوانات. وفوجيء مرة بقضم أحد الفئران عدداً من الأوتار. فراح كاتباً:

 

البارحة بوسط الدار

والفار قصص الاوتار

يا الفار اشلك عليه

أنا ما اعملت لك خطية

 

ويروى أنه غنى هذه الأغنية في بعض جلساته.

 

* هل تعكس اختياراته لنصوص أغانيه أية حساسية معينة تحول على شخصيته الداخلية. بمعنى آخر لو أردنا إعادة بناء سيرته الذاتية من خلال الغوص داخل نصوص أغانيه. بم يمكن أن نخرج؟

مبارك العماري: النصوص لا تمثله كشاعر، فهو لم يكتبها، وإنما كمتذوق. كان ثمة خيارين أمام محمد، إما التقليد أو الابتكار. من جهة التقليد فهو لا يستطيع أن ينفي أو يتجاهل النصوص الموجودة في الساحة لأنها كانت مطلوبة من الجلساء. ومن جهة الابتكار فهو متذوق رهيف للشعر، ويريد أن يرتفع بذائقة الناس من خلال الأداء. لا تجد أياً من مطربي الخليج يفوقه حساسية في النصوص التي انتخبها.

وهو قد غنى لشعراء لم يغن لهم أحد غيره مثل صفي الدين الحلي ومحمد سعيد الحبوبي. المتنبي غنى له كثر لكن تعال انظر إلى ماذا اختار محمد منه:

أصـات الركبُ تغليسا

وزجوا للثرى العيسا

فهل يسْطيع سائقهم

يرد العيس تنكيسا

فبالأحداج لي رشأٌ

يضاهي الكمّل الميسا

 

نص صعب جدا يتعسر فهمه على القارىء العادي. وهو ما من شك يعكس جانباً من الحساسية الأدبية التي كان يمتلكها محمد. على رغم من أنه لم يأخذ العلم عن أحد إنما علم نفسه بنفسه من خلال القرآن.

--------------------------------

اليمن السعيد، ما دوره؟

--------------------------------

 

* استثناء الكلمة ألم يكن ثمة تأثير لليمن على القوالب اللحنية.  ينقل أحد الباحثين قولاً على لسان محمد بن فارس نفسه جاء فيه "إنما الصوت قد أتى إلينا من اليمن"؟(6).

إبراهيم حبيب: هذا كلام لا أساس له من الصحة. النصوص يمنية صحيح لكن الألحان لا، فهي ألحان محمد بن فارس نفسه. أنا خبير في الإسطوانات. وقدمت برامج كثيرة في الإذاعة عن ذلك عبر تتبع سير مئات الأسطوانات. وأزعم أنني ما وجدت الألحان التي غناها بن فارس لدى أي من مجايليه أو حتى السابقين عليه. في لقاء لي مع عبداللطيف الكويتي (1901 - 1975) قال إنهم اكتشفوا فرقاً كبيراً بين ما يغنونه ويغنيه بن فارس بعد قيام الأخير بالتسجيل. "فنه غير فننا"، حسب عبارته. وهذا دليل على أن بن فارس كان هو من يقوم بتلحين النصوص.

 

* بم يمكن أن نتأوّل إذن تسميات  الأصوات التي غناها بن فارس كما ترد في كاتلوجاته. من قبيل شحري ويمني وصنعاني وشامي وبحريني، إن لم تكن  مسميات تحيل على مصادر القوالب اللحنية؟

إبراهيم حبيب: الأسماء هي لتحديد لهجة الصوت، وأحياناً يتدخل في تسميتها أصل كاتب القصيدة. كأن يكون شامياً  أو حجازيا أو يمانياً. حين يقال صوت عربي، فمعنى ذلك أن لغته هي العربية. والشامي يعود إلى اللهجة الحمينية، وهي لهجة وسط، ما بين العامية والعربية. وكذا حين يقال بحريني أو بحريني رخيم، فهذا يعني أنه صوت بحريني خالص لم يعلق به أي تأثير. لقد كان محمد بن فارس حذراً جداً. فكل ما يمكن أن يمس الصوت البحريني أو يؤثر عليه كان يبتعد عنه. لقد باشرنا التسجيل في البحرين قبل اليمن، سبقناهم بنحو عشر سنين (محمد زويد 1929). ما يعني أن الألحان لم تأتنا من طريقهم. وربما أتتنا من الحجاز، من خلال مواسم الحج، حيث كان يلتقي المطربون والشعراء وعشاق الفن. قد تكون الألحان اليمنية أتتنا لاحقاً، بعد أن بدأت اليمن في التسجيل، لكن هذا لم يحصل في عهد بن فارس. وحتى حين أتت من خلال الأسطوانات الحضرمية فقد جرت بحرنتها وفقاً للإيقاع البحريني، عبر تركيبها على الصوت "المروبع"(7). كانوا يغنونها كأغنية يمنية، ولكن مبحرنة.

مبارك العماري: هناك خطأ وقع فيه كثير من الباحثين بشأن تسميات الأصوات. فقد جرى تفسير مسمياتها المختلفة، عن جهل، وفقاً للإيقاع، سداسي ورباعي، في حين أن الصحيح هو أن هذه المسميات وضعت من قبل الأقدمين وفقاً للحن. فكما أن البشر لهم أسماء والنوق والسفن، كانت الألحان كذلك. لقد عجزوا عن تحليل المسميات فراحوا يصيغون نظرية بناء على الإيقاع. وهذا خطأ. الصحيح هو العودة إلى ما كان موجوداً لدى السابقين، محمد بن فارس ومن قبله. فحين يقال حجازي أو صنعاني أو شرقين فهذه دلالة على أصل اللحن.

أحمد الجميري: في الواقع، إنني أختلف هنا، فصوت شرقين مستثنى من هذه القاعدة، ذلك أنه نوع من أنواع الغناء الحجازي  المسمى بالدانات.

 

--------------------------------

لا فرق في الأصوات إنما اللهجات
--------------------------------

 

* سبقت الكويت البحرين إلى فن الصوت من خلال عبدالله الفرج الذي يعود مولده إلى العام  1836. في حين تعود ولادة محمد بن فارس إلى العام 1895. فأي تأثير تركته  هذه الأسبقية؟

مبارك العماري: ما من شك أن كيان الكويت السياسي أقدم من الكيان البحريني. والأسر التي انتقلت من الزبارة إلى البحرين وبينهم الخليفة انطلقت أساساً من الكويت. فليس غريباً أن يكونوا قد نقلوا معهم كثيراً من الفنون وبينها فن الصوت. بيد أن المشكلة الأساسية برأيي عند الرغبة في تقرير أية حقيقة هنا، تكمن في معرفتنا بلحظة النشأة الأولى لفن الصوت، وشخصياً لا أعرف ذلك.

غير أنني عثرت، بعد أن نبهني إلى ذلك الشيخ يوسف الصديقي، على إشارة في المصادر لفنان بحريني تألق في بدايات القرن السابع عشر، اسمه إبراهيم بن أحمد المدين (1806 - 1860).

وقد أقام سمرة في العام 1826، وفق ما تشير إلى ذلك أرجوزة  الشاعر عبدالجليل بن ياسين الطباطبائي التي يصف فيها رحلة بحرية إلى جزيرة أم النعسان:

وقد أتانا العصر إبراهيم

فيها وهو ابن أحمد المدين

 

يغنيك عن سميه ونجله

الموصليين بحسن فضله

 

فن الموسيقى غدا أستاذه

مع حفظ ما نطلبه وإنشاده

 

لكن إن شئت فأنا أميل من حيث شجرة نسب فن الصوت إلى ما قاله عبداللطيف الكويتي حين سؤال محمد عبدالوهاب (1902 - 1992)  إياه عن صوت غناه له، ما إذا كان هذا من تلحينه فأجاب بالنفي. فعاد وسأله ما إذا كان لحنه له أحد فرد بالنفي أيضاً. وحين بدت علامات الدهشة على وجه عبدالوهاب، حيث همّ ضاحكاً، علق عباللطيف: هذا فن قديم يعود إلي العصر العباسي.

محمد جمال: لا نستطيع أن نجزم ما إذا كان إبراهيم  المدين قد غنى فن الصوت  أو ماذا كان يغني على وجه التحديد، نظراً لعدم وجود التسجيلات، ولكن نستطيع أن نستشف من الأرجوزة أن هناك واقعاً غنائياً كان موجوداً في البحرين قبل مجيء محمد بن فارس بدليل وجود مطرب بهذا الاسم(8). لكن إن شئت، فأنا أعتقد أن البحرين والكويت شعب واحد بالمعنى الإثنولوجي البعيد للكلمة. نعيش في إقليم واحد ونقترب كثيراً لناحية اللهجة والدين والماضي المشترك والحياة الاجتماعية. لذا فلا أرى من جدوى لاختلاق هذه التقسيمات. فهي ذات طابع سياسي وليس فنياً. وقد اطلعت على وثيقة مرئية من خلال الباحث مبارك العماري عبارة عن مقابلة قديمة في التلفزيون مع الفنان ملا سعود الكويتي (1900 - 1971)، وفيها يصف محمد بن فارس بأنه "فنان عظيم". لذا فقد امتنع عن الغناء في حضرته حينما سنح له لقاؤه في أحد المجالس، قال "لم أجرؤ على الغناء في حضوره".

* مع أخذ تجربة محمد بن فارس نموذجاً للتحليل، فيم يختلف الصوت الكويتي عن الصوت البحريني؟

إبراهيم حبيب: الإنجاز الأهم الذي رفد به محمد فن الصوت هو إزالته البطء عن اللحن، حيث كان البطء حالة سائدة وقتئذ. لقد أدخل عنصر السرعة إلى اللحن كما أضاف الإحساس. اعتمدت تجارب الصوت غير البحرينية بنسب متفاوتة على الغناء من الحنجرة في حين حلّ القلب مكان هذه الأخيرة بالنسبة إلى محمد. كان الإحساس في صوته قوياً مفعماً يلامس الوجدان. إضافة  إلى وضوح الرتم عنده. وظل كذلك حتى آخر تسجيلاته. وقد نقل مجايلوه  أنه كان يعمل من اللحن الواحد ثلاثة أشكال. الصوت البحريني يعتمد بدرجة كبيرة على الارتجال وعلى إمكانيات الفنان، وما يمكن أن يضيفه على اللحن.

أحمد الجميري: بنظري إن الصوت الكويتي لا يخلو من ارتجال، لكن حين يؤديه محمد بن فارس يختلف الأمر. الارتجال هنا أقوى. وهذا راجع إلى أن الصوت الكويتي قد أثرت فيه الصحراء  أما الصوت البحريني فقد أثر فيه البحر. الكويت بلد صحراوي يعتمد في غنائه على "السامري" و"القلطة" و"العرضة". وهذه كلها فنون صحراوية تقوم على لحن معين ويقل فيها الأداء. على العكس من ذلك فالبحرين بلد بحري يعتمد فن الصوت فيه على أغاني البحر في ال (دور) مثل "النهمة" و"الفجري". وهذه الفنون تتميز بالأداء الحر. هناك سعة كبيرة للفنان بأن يأخذ راحته في الأداء. من هنا فالصوت البحريني يزيد فيه الارتجال عن الصوت الكويتي. لكن أحداً لا يستطيع أن ينفي الارتجال عن الأخير(9). وبالنسبة لسمة البطء أو السرعة، لا أجد أن تلك سمة حقيقية، في الواقع ليس ثمة من فرق في السرعة بين الصوتين الكويتي والبحريني. إنما الفرق الحقيقي في اللهجة، أي لهجة الصوت المغنى. الأصوات أنواع، ولكل مغنٍّ لهجته المميزة على حدة، والصوت البحريني غلبت عليه اللهجة المحرقية(10).

راشد المعاودة: لقد تأثر الصوت الكويتي بالموسيقى الهندية من جراء إقامة عبدالله الفرج فترة طويلة في الهند. وهو الشيء الذي لم يتح للصوت البحريني.

 

*  لكن محمد بن فارس ذهب أيضاً إلى الهند العام  1922 والتقى هناك بعبدالرحيم العسيري الذي يدين إليه بكثير من الفضل.

راشد المعاودة: لقد ذهب إلى الهند ليلتقي بعبدالرحيم حصراً بعد لقائه به فترة قصيرة في البحرين. وهو قد ذهب مسلحاً بثقافته العربية الأصيلة.

مبارك العماري: لم ألمس أي تأثير للهند على تجربته. بل أن ذهابه إليها كان هروباً من العقوبة بعد أن اتهم بصيد الغزلان في جزيرة أم النعسان. وحتى على صعيد التسجيل تجد أن هناك أسطوانات كثيرة سجلت لفنانين في الهند من بينهم محمد زويد وعبدالله الفضالة ومحمد علاية. لكن محمد بن فارس لم يسجل في الهند. ما ينفي ذلك، استثناء لقائه بعبدالرحيم العسيري، أية مديونية للهند عليه.

محمد جمال: تأثر الكويت بالهند طبيعي تماماً، وهو أمر واضح من خلال الطور اللحني المدعو "هندستاني"، ويعود الفضل في ذلك لعبدالله الفرج، حيث غنى من خلاله صوت "السحر في سود العيون لقيته". أما محمد فقد كانت زيارته للقاء عبدالرحيم، وهذا خلفيته حجازية.

--------------------------------
بصمة  "العسيري"  الصعبة
--------------------------------

 

* ثمة خلاف بين الباحثين بشأن أستاذية عبدالرحيم العسيري لمحمد بن فارس. بين قائل أنه هو من علمه فن الصوت وقائل إن دوره  لم يتعد تزويده بالنصوص اليمنية وتعليمه العزف على العود. فأي فضل يمكن نسبته إلى عبدالرحيم؟

مبارك العماري: لقد سعيت في كتابي "محمد بن فارس أشهر من غنى الصوت في الخليج" إلى إنصاف عبدالرحيم. فإليه يعود الفضل في تعريف محمد بالنصوص اليمنية صحيح. لكن  العود لا، فقد تعلم العزف بادىء ذي بدء على يد أخيه عبداللطيف بن فارس (1887 - 1961). ثم أتت مساهمة عبدالرحيم هنا  من خلال تعليمه أسلوباً جديداً في العزف عليه. وذلك بحكم خبرته في المجال وكذلك بحكم عامل السن فهو أكبر منه. وينقل البعض عن الأخير، ومنهم محمد علاية، قوله "أنا علمت محمد ولكنه فاقني". لقد عمل عبدالرحيم انقلاباً في حياة محمد الفنية.

محمد جمال: لم يظهر إبداع بن فارس لحظة لقائة بالعسيري إنما عرف الغناء قبله. الثابت أن إبداعه ازداد جودة بعد معرفتهما ببعض. وعنه أخذ بعض النصوص إضافة إلى بعض الجمل اللحنية.

 

* لقد زار العراق غير مرة بهدف تسجيل أغانيه عبر شركتي "هيز ماستر فويس" و"سودوا" (1932 - 1938) اللتين كانتا تستضيفان وقتذاك أيضاً كبار الفنانين من العالم العربي(11). ألم يترك المقام العراقي أو الأبوذيات بصمات على طبيعة إنتاجه الفني؟

إبراهيم حبيب:  شكل  العراق في العشرينات ما يمكن اعتباره نهضة موسيقية. لقد لعب دوراً كبيراً في الحفاظ على الغناء الخليجي من خلال وجود شركات الإنتاج.  وأدت الإذاعة العراقية دوراً تشكر عليه في التعريف بالأغنية الخليجية. وبرأيي إن أكثر منطقة يمكن أن تتأثر بالعراق هي منطقة الخليج. فهي الحاضنة الطبيعية للنهضة الموسيقية العراقية. وبالنسبة إلى محمد بن فارس، فقد غنى المقام وكذلك الأبوذية ولكنه لم يضمنهما في تسجيلاته.

مبارك العماري: العراق وكذلك سوريا أثرتا ما من شك في تجربته. فضلاً عن الإسطوانات التي سجلها  فيهما، فقد تأثر بالموشحات التي كانت سائدة في حلب. أعرف أن البعض يمكن أن يكذبني وربما هاجمني على هذا الرأي لكن هذه هي الحقيقة. فقد وقع بين يدي أحد دفاتر بن فارس وكان مليئاً بالموشحات الشامية والأندلسية.

أحمد الجميري: على رغم من  أن المقامات العراقية كانت مستوطنة البحرين عهدئذ إلا أنني لم ألحظ أي تأثر لمحمد بها. وفنياً أجد أن ذلك شيء طبيعي. ذلك أن المدرسة العراقية في الغناء تقوم على المناحة بشكل رئيس، وهي مدرسة عظيمة، في حين يميل محمد إلى المدرسة الطربية، التي جسدها الحجاز وقتذاك والأزهر. فالطرب الحقيقي جسدته هاتان المدرستان.

محمد جمال: لم يكن للفنون العراقية تأثير على محمد رغم اطلاعي على تسجيل لأحد أصدقائه، وهو يوسف بن مطر، يذكر فيه أنه أول ما سمع محمد سمعه يغني الموال العراقي "واسقيتني حنظل"، وكان يسمى الشمالي. لكن بصورة عامة، لم يظهر من الآثار التي وصلتنا وجود روح عراقية في أغانيه.

 

--------------------------------
الظفر بالطريقتين
--------------------------------

 

* بمعايير التحليل الموسيقي الصرف ما هي الخصوصية التي شكلها محمد بن فارس من خلال مسيرته الفنية؟

أحمد الجميري: الخصوصية تمثلت في دمجه بين الطريقة الحجازية في الغناء والأزهرية. دمجه كل هذا المزيج العجيب، والخروج منه بنكهته الخاصة. الأزهرية كما جسدها شيوخ الغناء الذين تأثروا بأسلوب قراءة القرآن في الأزهر، عبر تكرار الأداء بطرق مختلفة، مثل سيد درويش وسيد مكاوي والسنباطي وزكريا أحمد. والحجازية التي كانت تعتمد على أسلوب هز النغمات في الإعادات اللحنية  التي عمقتها العلاقة بعبدالرحيم العسيري ذي الجذور الحجازية. لقد زاوج بن فارس بين هذين النوعين من الأداء. إضافة طبعاً إلى أسلوب غناء البحر، الفجري والنهمة، حيث عاش وسط الدور الشعبية في المحرق. وقد استطاع أن يستنبط بملكته الفذة لوناً غنائياً مختلفاً لفن الصوت.

محمد جمال: لقد أدخل محمد عناصر الحيوية على أداء الصوت من خلال الغناء المتقن، تماماً كما هو متعارف عليه في علم الموسيقى. أقول المتقن وأعني ذلك تماماً، إذ ثمة فرق بين هذا اللون من الغناء المخصص للترفيه والمتعة، والغناء غير المتقن كما عند البحارة والفلاحين والبنائين. فهذا اللون مخصص للترويح من تعب العمل أو هو جزء منه لبعث التشجيع والحركة، أي أنه ذو طبيعة وظيفية. محمد غنى اللون الأول، وقد أبدع فيه، كلمة ولحناً وأداء، من غير دافع غير الونس والترفيه.

 

* هل هذا سر ما يذهب إليه عديد من الباحثين في فن الصوت من أن الصوت البحريني صعب التنويت؟

أحمد الجميري: نعم، لكن ليس مستحيلاً. الصوت هو قالب لحني يتكرر من خلال الارتجال بأشكال مختلفة. مرة يؤديه بالطريقة الحجازية، مرة بالطريقة الأزهرية الطربية ومرة بطريقة نهمة البحر. تماماً كما يحدث بالنسبة إلى القراءات المتعددة للقرآن. حين عكفت على كتابة الأصوات التي غناها محمد بن فارس لجأت إلى كتابتها  من خلال اللحن الأصلي، أي العظمة الأساسية للحن قبل حصول الزيادات. وبخصوص الزيادات فهذه يمكن معرفتها من خلال التلقين. لكن لا بد من وجود لحن أصلي. مثلاً لقد استمعت إلى حفلة للفنانة أم كلثوم في تونس غنت فيها أغنية "انت عمري" بطريقة مختلفة جداً. فلو أنها نوتت حرفياً وفقاً لطريقة الأداء في هذه الحفلة لامتدت النوتة إلى مائة صفحة. كذلك فعلت حين رحت أضع على سبيل التجريب نوتة كاملة  لأغنية بن فارس "يا واحد الحسن" فوجدتها تأخذ مني واحداً وعشرين صفحة. في حين أن اللحن الأصلي لا يزيد عن صفحة أو صفحة ونصف بالكثير. من هنا أرى أن الصوت البحريني ممكن التدوين، لكن من قبل موسيقي مختص قادر على أن يستخرج من بين عديد الانفعالات وأشكال الأداء المختلفة عظمة اللحن الأساسية.

* بعيداً مـن ملكتـه الصوتيـة في الأداء هل يمكـن وضـع تجربتـه في العزف علـى العـود تحـت مبضـع النقـد؟

أحمد الجميري: المشهور أن محمد كان يهتم جداً بالآلات المصاحبة، العود والكمان. غير أن ثمة شك لدي أن  يكون هو عازف العود في بعض الأصوات. بل أعتقد أن أخاه صقر بن فارس هو من كان يعزف. ذلك أنه كان يغني شيئاً في حين  أن العود كان يعزف شيئاً آخر. حتى الآن ما زلت أتساءل ما إذا كانت تلك قوة في الأداء أم أن ثمة عازف آخر كان يبدع في العود في ذات الوقت الذي كان هو يبدع في الغناء! أقول إن لدي شك  حيال هذا الأمر، ولا أملك عليه أدلة.

 

الهوامش

1 -  لقاء أجري معه في منزله بالرفاع بتاريخ 21 أغسطس/ آب 2010.

2 - لقاء أجري معه في منزله بالمحرق بتاريخ 16 أغسطس/ آب 2010.

3 - لقاء أجري معه بتاريخ 24 أغسطس/ آب 2010.

4 - مبارك العماري، محمد بن فارس أشهر من غنى الصوت في الخليج، المطبعة الحكومية، ج1، ط1، 1991.

5 - لقاء أجري معه بتاريخ 18 أغسطس/ آب 2010.

6 - خالد بن محمد القاسمي، الأواصر الغنائية بين اليمن والخليج، دار الحداثة للطباعة والنشر والتوزيع، ط 2، 1988.

7 - الصوت المروبع: إيقاع لنظم القصيدة على أي لحن من لحون الشعر الشعبي. ويكون المروبع ثلاثة أسطر على قافيه واحده والشطر الرابع على قافيه أخرى. وتكون القافيه الرابعه هي الثابته أو القافيه الرئيسة التي يتم بها الشاعر  القصيدة. (انظر:  www.alnoaim.net).

8 - يشير إبراهيم حبيب  إلى أسماء مطربين في البحرين سبقوا محمد بن فارس في غناء فن الصوت  أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، حيث "شكلوا مدرسته الأولى"، وهم: صالح أنقاب وصقر بن علي وجوهر بن سعد الله وسالم عنبر ومبارك بوقيس وحمد العسمي وجبر بن سعد العماري وعلي أحمد الفاضل. (انظر: رواد الغناء في الخليج والجزيرة العربية).

9 - لقاء أجري معه بتاريخ 21 أغسطس/ آب 2010.

10 - لقاء آخر أجري معه في مركز عيسى الثقافي بتاريخ 27 سبتمبر/ أيلول 2010.

11 - يذكر مبارك العماري أنه صادف وجود محمد بن فارس في بغداد لتسجيل أسطوانته الأولى 1932 وجود الفنانة كوكب الشرق أم كلثوم من خلال نفس الشركة "هيز ماستر فويس"، حيث "كانت تقيم حفلات غنائية في ملهى الشركة" المدعو ملهى الهلال. وهو يفترض من خلال قرائن حصول لقاء بينهما، حتى أنه دعي كي يغني بديلاً عنها حين تخلفت عند إحياء إحدى الحفلات، لكن من غير أن يقطع بذلك. (انظر: محمد بن فارس أشهر من غنى الصوت في الخليج).

10 - لقاء آخر أجري معه في مركز عيسى الثقافي بتاريخ 27 سبتمبر/ أيلول 2010.

أعداد المجلة