فصلية علمية متخصصة
رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم
العدد
53

الطـب الشـعـبي والمـقـدس في الثقافة الشعبية العـربية قراءة سوسيو-انثروبولوجية في قوة المكانة

العدد 53 - عادات وتقاليد
الطـب الشـعـبي والمـقـدس في الثقافة الشعبية العـربية قراءة سوسيو-انثروبولوجية في قوة المكانة
الجزائر

إن وصول الطب الحديث ذروته من التطور، هذا لا يعني أنه قضى على الطب الشعبي، لأن هذا الأخير بأبعاده التقليدية مازال منغمسا في الذات العربية، حيث يلاحظ على الكثير من الفئات اقتناءها للنوعين الحديث والشعبي وهذا ما تؤكده نتائج الدراسات الامبريقية، التي تقر استمرارية الطب الشعبي في العلاجات المختلفة.

يدخل الطب التقليدي ضمن سجل الثقافة العالمية القديمة، إذ لا تكاد مدينة أو قرية تخلو منه، فهو ظاهرة قديمة تضرب بجذورها في أعماق التاريخ البشري، كما أنه يمثل حقلا تعمل فيه المرجعيات الدينية، الثقافية وحتى النفسية عملها.

تماما كما في باقي الظواهر الإنسانية والاجتماعية، الطب التقليدي هو حقل خصب للدراسة والبحث وفي هذا الفصل سنحاول التطرق إلى تاريخ الظاهرة عبر المجتمعات التي مرت، كذلك نتطرق إلى ماهية الطب الشعبي وأهم مظاهره وأنواعه والعناصر المفاهيمية المتعلقة به، بالإضافة إلى المعالج أو الفاعل الرئيسي وعلاقة الطب التقليدي بظاهرة المقدس.

تعريف الطب الشعبي:

يعتبر «يودر» Don yoder أن الطب الشعبي عنصر من الفلكلور، يوجد في ثقافات يذهب التقليد بين بينة صالحة لنموه وازدهاره، بالإضافة إلى المناطق الجبلية المنعزلة التي لا تربطها بالعالم الخارجي وسائل الاتصالات أو مواصلات، ضمن الناحية الاصطلاحية حدد «يودر» مصطلح «شعبي» على نحو ما حدده «رتشارد فايس» الذي توصل إلى تعريف لهذا المفهوم ليس بمعنى الطبقة أو المستوى الثقافي في المجتمع وإنما كطريقة للتفكير يعيش الأفراد في داخلها، وتتحدد في عالم اليوم مع غيرها من أنماط أخرى للتفكير.

ويعد هذا التحديد الاصطلاحي الذي يبرره «يودر» بأنه قد يساعد على تكوين خلفية تيسر للوصول إلى أكثر تعريفات الطب الشعبي بأنه: «جميع الأفكار ووجهات النظر التقليدية حول المرض والعلاج، وما يتصل بذلك من سلوك وممارسات تتعلق بالوقاية من المرض، ومعالجته بصرف النظر عن النسق الرسمي للطب العلمي»1.

العناصر المفاهيمية في الطب الشعبي:

يذهب Don yoder إلى أن الطب الشعبي بمعناه المتعارف عليه الآن، يتصل اتصالا ثانويا بالطب الأكاديمي في أجياله المبكرة، فكثيرا من الأفكار والممارسات التي تدخل الآن في دائرة الطب الشعبي، كانت متداولة ذات اليوم في الدوائر الطبية الشعبية التي تدخل في إطار الثقافة وقبل أن يتحدث عن تقسيمات الطب الشعبي يوضح «دون يودر» أن هناك ثلاثة تقسيمات وأنماط من الطب تمارس الآن على امتداد العالم:

- الطب البدائي médecine primitive؛

- الطب الشعبي médecine populaire؛

- الطب الحديثmédecine moderne .

وهناك بين المستويين : الأول والثاني أي بين الطب البدائي والطب الشعبي أوجه للشبه وأوجه الاختلاف فمن أوجه الشبه، أنهما يشتركان في عناصر شائعة من المواد العلاجية، أساليب وطرق العلاج، والنظرة للعالم.

أما فيما يتعلق بأوجه الاختلاف، فإنه على الرغم من أن النمطين يتقاسمان معا النظرة للعالم ووسائل العلاج وخاصة في الجوانب السحرية فإنهما يختلفان في السياق الاجتماعي والثقافي، إذ أن الطب البدائي هو النمط الطبي الوحيد المعروف في داخل الثقافة، بينما الطب الشعبي يحتل مكانة ويوجد جنبا إلى جنب مع الطب الرسمي وهو الطب الحديث، كما يجب ألا ننسى نقطة هامة وهي: أن الطب الشعبي أو البدائي في وسائل وأساليب علاجية مستمدة من المحاولات المتكررة عن طريق التجربة والخطأ.

تاريخ الطب الشعبي :

من المؤكد أن التطور الحاصل في الطب لم يحدث دفعة واحدة وبشكل واحد، بل حدث وفق تسلسل زمني معين وعن طريق المحاولة والخطأ. فالطب له تاريخ تماما كما للناس تاريخهم أيضا، فالإنسان الأول شعر بحاجة إلى الطب فسلم بكل ما أوحى عليه عقله عن طريق محاكاة للطبيعة وهذا عن طريق تجارب عديدة وطويلة. فلجأ في بداية الأمر إلى عبادة الأوثان معتقدا بأنها تطرد الأرواح الشريرة والتي هي مصدر الأمراض كما أوضحه «مالينوفسكي» في دراسته لمكانة ودور الأسطورة في بسيكولوجية البدائيين حول قبائل التروبرياند في غينيا الجديدة، بأن الأوثان هي الشافي الوحيد ويكون شفاؤها بالدرجة الأولى سيكولوجيا.

إن اتصال الطب في بادئ الأمر بالأوثان جعله يشوب بالخرافات والاعتقادات الباطلة فاحتكرته فئة معينة من الناس سيطرت على الآخرين سيطرة مطلقة ففرضوا أنفسهم كهنة وآلهة، ونظرا لاعتقادهم الكبير بهذه الخرافات، شيدت لبعضهم معابد تضمن استمراريتهم بعد فنائهم.

ولقد ساهم «أبقراط» كثيرا في وضع قطيعة بين هذه المرحلة والمرحلة التي تليها، فلقد فصل الطب عن الآلهة واعتمد الطب عنده على التجربة2، كما أن هذه التجارب التي كان يعتمد عليها الإنسان ترتبط ارتباطا وثيقا مع الطبيعة، فالإنسان منذ أقدم العصور كان يؤمن بقوى الطبيعة وأرجع كل ما يلحق به من أمراض إلى أسرارها، فالمجتمعات القديمة عرفت النباتات بأنواعها، وأصبحت بمرور الوقت وتكرار التجارب تفرق بين الضار والنافع، الحلو والمر..الخ. فرغبة الإنسان الأولى، هي المحافظة على صحته دفعت به منذ نشأته إلى التفكير في الأعشاب الطبية واستعمالها للمعالجة. وقد سلك في ذلك طرقا عديدة ومتنوعة منها ما كانت قائمة على التجربة والفطرة، ومنها ما كانت قائمة على أساس التقاليد والمعتقدات الدينية أو الشعوذة أو عقاب الهي يلحقه الإله بالإنسان عقابا له لما ارتكبه من الأخطاء، كذلك بحثوا عن تصرفات روحانية لدى الكهنة والمشعوذين والسحرة، ظنا منهم أن هؤلاء لهم دراية وتصرفات روحانية، وأنهم الوسطاء بين الداء والمسبب، فاستعملوا الأعشاب بشكل بخور لاستحضار الأرواح كما يعتقدون.

فالطب في هذه المرحلة الموغلة في التاريخ، كان مبنيا على العالم الروحاني للمجتمعات البدائية التي، استوحت أفكارها من خبايا وأسرار الطبيعة. والطب الشعبي كما عرفه دون يودر donyoder على أنه «جميع الأفكار ووجهات النظر التقليدية حول المرض والعلاج وما يتصل بذلك من سلوك وممارسات، تتعلق بالوقاية من المرض ومعالجته بصرف النظر عن النسق الرسمي للطب العالمي»3.

الطرق العلاجية في المجتمعات القديمة:

1) عند البابليين:

يعتبر البابليون أول من استخدم التنجيم في الطب، كما اهتمت المدينة البابلية بالطب، فبحثت في المداواة والعلاجات، كما اعتبر البابليون أول شعب أو حضارة عرفت القانون وكان ذلك على يد (حمورابي )، أما فيما يتعلق بالميدان الطبي، فلقد كانت النصوص القانونية واضحة جدا فتناولت أجور الأطباء وحددتها، كما حذرت الأطباء من الوقوع في الخطأ وجعلتهم مسؤولين عن الأخطاء التي يرتكبونها فتؤدي بحياة المريض، وكان الأطباء عند البابليين مقسمين إلى ثلاث أقسام:

- فئة المعالجين بالنصح؛

- فئة المعالجين بالأدوية النباتية والحيوانية والمعدنية؛

- فئة المعالجين الذين يستعينون بالطلاسم والاعتقادات.

وتذكر الدراسات التاريخية أن البابليين عرفوا أكثر من 250 عشبة طبية و180 عقارا معدنيا وحيوانيا4.

2) عند المصريين القدامى:

لقد كان للمصريين القدامى كذلك معرفة واسعة في ميدان التداوي بالأعشاب. ولم تكن معرفتهم تقل عن معرفة البابليين حول الطرائق العلاجية، فلقد وجدت مستحضرات وعقاقير علاجية في مصر وذلك حوالي 1550 ق.م تقريبا. ولا تزال بعض هذه المستحضرات تستعمل حتى هذا اليوم، ولقد أبدى الأطباء المصريون آنذاك مهارات وخبرات عالية في عملية اختيار المواد العلاجية وتحضيرها بدقة وإدخالها ضمن الخطط العلاجية، وحسب ما ذكره الباحث الألماني «جورج إبرس «George Ebers» واستنادا على ما قرأه في المخطوطات الهيروغليفيةالمكتوبة على ورق البردة، إن الطب المصري الشعبي ضم فترة تقدر بحوالي 2000 سنة ق.م وكانت لهم حدائق خاصة بالنباتات الطبية كما أنهم عرفوا 400 مفردة منها نباتية وحيوانية ومعدنية5 وعثر «جورج ايبرس» على وصفة طبية في الأقصر عام 1873 واعتبرت تلك الوصفة أقدم وثيقة طبية مكتوبة. فالطب كان في نظر المصريين القدامى مجالا من المجالات التي تندرج ضمن علم العبادات، لذلك اعتمدوا على الآلهة عند التطبيب.

3) عند الصينيين:

لقد عرف الصينيون الطب منذ زمن طويل، فلقد بحثوا في هذا المجال مطولا ولا زال انشغالهم في تواصل إلى حد الآن خاصة فيما يتعلق بالعلاجات التقليدية، وارتبط الطب عند الصينيين بالحياة الدينية والفلسفية حيث كانوا يعالجون الكثير من الأمراض وإلى حد اليوم بالمعتقدات الدينية فاعتمدوا على المفردات النباتية والوسائل الطبيعية والحمامات والحجامة، ولقد كان لهم الفضل الكبير في معرفة واكتشاف الوسائل والآلات الجراحية البسيطة، كما أرجع الأطباء الصينيون فيما بعد سبب العلل والأمراض إلى الطبيعة وظواهرها. فكانوا يرجعون سبب المرض إلى: البرد والرطوبة والجفاف لذلك توصلوا إلى أن الفصول مسؤولة عن الأمراض فقالوا: إن أمراض الصدر تحدث في فصل الشتاء وأمراض الجلد في فصل الصيف. كما أن الصينيين اكتشفوا كثيرا من العقاقير ك:عقاقير الكافور والشاي والأفيون..إلخ، كما وصف الإمبراطور «شيننونغ- Chen Nong» بإمبراطور الأعشاب وهذا لمعرفته وإحصائه لحوالي 365 عشبة طبية. كما يعتبر بمثابة المكتشف الأول لعملية الوخز بالإبر واستعمال نبتة الشيح والتي لا تزال مستعملة لحد الآن، كما يقومون بتصنيف الأدوية والعقاقير ويعتبرون روادا في علم الصيدلة.

 

 

تعريف الطب الشعبي الطبيعي:

يعتبر الطب الشعبي الطبيعي الفرع الذي ينظم الممارسات المرتبطة بالطب النباتي أو طب الأعشاب في العلاج كنتيجة أولية للعلاقة القائمة بين الإنسان والطبيعة،أو بين الإنسان وبيئته التي يعيش فيها، والتي تتضمن على ردود الأفعال والاستجابات المبكرة لسعيه في علاج أمراضه عن طريق الأعشاب والنباتات الطبية، مما يسر ظهور أطباء العلاج الشعبي Ard Doctors والمدلكين Rub Doctors فضلا عما عداها من ردود أفعال واستجابات أخرى تجاه عالم الحيوان، عوالم الطبيعة الأخرى كالمعادن وأوارها التي مكنت الإنسان عن طريق التراث التجريبي الطويل من اختبار كفاءته جنبا إلى جنب مع النباتات الطبيعية6.

فالطب الشعبي يعتبر جزءا من المعارف الشعبية التي تكونت عبر الأزمنة الطويلة، واستمرت بسبب ارتباطها بالطبيعة وبظروف اجتماعية وهو نوع من التداوي يقوم به محترفون أو غير محترفين باستخدام بعض النباتات وبعض من أجزاء الحيوانات.

المعرفة الطبية الشعبية المتمثلة في النوع النباتي تضم الممارسات المرتبطة بالطب النباتي أو طب الأعشاب في العلاج كنتيجة أولية للعلاقة القائمة بين الإنسان والطبيعة أو بين الإنسان وبين بيئته التي يعيش فيها والتي تتضمن على ردود الأفعال والاستجابات المبكرة لسعي الإنسان في علاج أمراض عن طريق الأعشاب والنباتات الطبية، بالإضافة إلى المعادن والأعضاء الداخلية والخارجية للحيوانات.

تاريخ الطب الشعبي الطبيعي:

لاحظ الإنسان الأعشاب الزكية وتمناها لغذائه أو يتخذ منها عطراً ليملأ نفسه انشراحاً. لما لاحظ أن هناك نباتات لا يقربها طير ولا يرعاها حيوان. تحيّر في أمرها! وكان من ملاحظاته أن أغنامه رعت كلأً ولم تمضِ سويعات حتى اعتراها الإسهال. وتكررت الملاحظة، وفي أحد الأيام انتابه الإمساك وكان شديداً فأقض مضجعه وتذكر العشب المسجل فذهب إليه وهو في خوف. قطعت يداه بعض وريقاتها ومضغها بحذر وكان سروره حين جاءه الإسهال. وزال عنه كابوس الإمساك، وبالتأكيد حمل البشرى إلى عشيرته. وبذلك اكتشفت خواص السنامكي وذاع استعماله.

تكررت المشاهدات وتعددت النباتات وكثرت المحاولات والتجارب. وكم كان بعضها مربكاً وقاسياً. بدأ حكماء العشائر يجمعون هذه النباتات ويحتفظون بنتائجها وصفاتها ليُداووا بها المرضى. وكلما كثرت هذه المعلومات وزادت عن الحصر الذهني وخُشيَّ عليها من النسيان أو يموت صاحبها بدأت الحاجة إلى التدوين. فظهرت أول الكتب الطبية.

إن أقدم التقاليد الطبية هي من الصين وبلاد سومر ما بين النهرين ومصر والهند (أما أوربا فكانت في عصور الظلمة)، ففي الصين (في حوالي 3000 إلى 2730) سنة قبل الميلاد ألّف الإمبراطور الصيني شن نونغ موسوعة تحوي على /375/ علاجاً عشبياً منها عشبة الجنسج (Gensing) ونبتة الأفيون ونبتة الافدرا.

والمخططات السومرية (2500 سنة ق.م) تعددّ كثيراً من الأدوية التي ترتكز على النباتات كما أن بعض المخطوطات (حوالي 2200 سنة ق.م) تسجل ألف نبتة طبية. وفي حوالي (2500 سنة ق.م) عدد الآشوريون /250/صنفاً من النباتات الطبية.كما أن حمورابي (الذي حكم من 1728 - 1686 ق.م) ذكر الكثير من النباتات الطبية.

وبالنسبة إلى مصر فإحدى أوراق البردي الأثرية المحفوظة بمتحف برلين توضح بجلاء أول كتاب طبيّ وضعه الملك أتوتيس خليفة الملك تارمر(حينا). وممن نبغ في الطب الشعبي هو الوزير (امنحوتب) وقد عظمّه المصريون وجعلوا تمثاله رمزاً لإله الطب وكان في أيام الأسرة الثالثة قبل المسيح بنحو 3500 وكان عالماً بالفلك والكيمياء والهندسة ولد في غنخ تاوي وكان وزيراً للملك زوسر وكان كبير الأطباء ورئيس الكهنة.

وفي زمن الملكة حتشبسوت أرسلت بعثة إلى بلاد بنت(الصومال واليمن )مكونة من أسطول من خمس سفن كبيرة وتسع سفن صغيرة لاستجلاب بذور نباتات المر والصنل والخشخاش وغيرها من النباتات الطبيعية المهمة وزَودت البعثة بهدايا نفيسة إلى ملك (بنت) وكبار مملكته وقد جلبت هذه البعثة حوالي /32/نباتاً. وفي عهد تحوتمس الثالث أُدخلت زراعة الرمان والزيتون والقرطم والعنب وكثير من النباتات الطبية والعطرية .

وتدل آثار «بني حسن» و«دهشور» وما حوته كثير من المقابر المصرية القديمة من نباتات طبية وعطرية ومما يلي بعضها :«آس، أفسنتين، بردقوش، بصل الفأر، بلوط، بيلسان، توت، تين، ثوم، جاوي، جوز، حبة سودة، قميض، حشيش، حناء، خروع، خشخاش، ختميّة، زعفران، زنزلخت، زيتون، سليخة، سماق، شنبل، سمسم ،سنط، سنامكي، شبت، شعير، شمر ،شوكران، شيبة، صبّار، صفصاف، صنل، ضرو، عرعر، عنب، غار، فلفل أسود، قصب النديرة، قرطم، قرفة، كافور،كتان، كراوية، كرفس كزبرة، كمون، لوتس، لوز، ليمون، مصطكي، مر، صيعة، وزنجبيل، فردين».

لقد اهتم القدماء المصريون بالنباتات الطبية وكانوا يؤلهون النيل ويسمونه «هابي» أي المحسن لمصر وقد رفعوه إلى مصاف الآلهة . وكان الإله «رع» أو «آمون رع» هو خالق النباتات . وفي الأساطير المصرية إن هذه النباتات هي الدموع التي تسقط من عيون الآلهة أو الريق الذي يخرج من أفواههم فإذا دمعت عيون «حوريس» نبتت روائح زكية أما دموع «رشو وتفنوت» ابن وابنة الشمس فتتحول إلى أشجار البان أما الريق الذي يخرج من «رع» فيخلق البردي.

ولقد اشتهر القدماء المصريون باستخدام النباتات الطبية في البخور والعطور وكانت هي الطقوس الأساسية في ديانتهم . فكان الكهنة يحرقون البخور لكي يطردوا الشياطين والأرواح الخبيثة وكانوا يطلقونه حين الاستعانة بالآلهة واستعطافاً لها ،وكانوا يعتقدون أنه يساعد الروح في صعودها الأخير.. تعود تفاصيل الطب المصري إما إلى ما ذكره علماء اليونان في كتبهم عن علوم المصريين القدماء وذكروا النباتات التي استعملوها والمركبات الطبية التي أخذت عنهم ومن هؤلاء العلماء اليونان ديودور وهيرودوت وسترابون وأرسطو ، ديسكوريدس، وثيوفراستوس. أو إلى الكتب المصرية التي بقيت من عهد قدماء المصريين وهي المعروفة بالقراطيس الطبية.

إنه طب شعبي متوارث جيلا عن جيلا وقد يتخذ تسميات أخرى كالطب الشعبي، وهذا النوع يهتم اهتماما كليا بالأعشاب سواء البرية أو التي تزرع في البيوت، بحيث أن هذا النوع يمثل ردود الفعل المبكرة لاستجابة الإنسان لبيئته الطبيعية التي تتضمن جهد الإنسان وسعيه في علاج أمراضه عن طريق الأعشاب والنباتات والمعادن والمواد الطبيعية من جسم الحيوان7، حيث كان الإنسان يلجأ حينها إلى البساتين سواء البرية أو التي يغرسها هو، فيرعاها ويستخدم تلك الأعشاب الطبيعية والنباتات التي تغلى وتشرب عن طريق الشاي، لعلاج دائه فمثلا: لا يعد أوراق التبغ كما يعد أوراق الشاي لأن هذه الأوراق تنفع كثيرا آلام البطن. فهناك الكثير ممن ينشغلون بالنباتات ويدعون أطباء العلاج بالأعشاب8.

المقدس والطقس:

ارتبطت الجذور الأولى للاهتمام بصحة الإنسان وتفسير الأمراض ومصادر نشأتها بالجوانب الخرافية، وإن ما يصيب الإنسان من مرض يعود في الأصل إلى الأرواح الشريرة وغضب الآلهة لهذا انتشرت الممارسات السحرية، وزيارة الأماكن المقدسة والنداء على آلهتها، ومحاولة كسب رضاها ودفع الأرواح الشريرة المسببة للمرض فوقف الإنسان عاجزا أمام ظاهرة المرض، أي فقدانه للتوازن مع قوانين الطبيعة بحيث سعى للتوفيق بين نفسه وبين القوى التي تحكم حياته، وذلك لإعادة هذا التوازن المفقود مستغلا الطبيعة المحيطة به ومنتجها طرق علاج طبيعية ممتدة من البيئة الطبيعية ( أعشاب – وعقاقير نباتية وحيوانية) فاستمرار هذا البحث عن العلاج منذ العصور القديمة إلى يومنا هذا بحيث أصبح الطب الشعبي له خاصية تضمن له الاستمرارية والتطور. وأصبح ينافس الطب الرسمي، رغم التحولات والتغيرات الطارئة على المجتمع، إلا أن التصورات الاجتماعية مازالت تتقاسمها القضايا الغيبية والموضوعية، وهذا راجع إلى العوامل الاجتماعية والثقافية والاقتصادية للمجتمع، دون إغفال أهمية الأوضاع الطبقية التي تلعب دورا بارزا في تحديد أساليب مواجهة المرض، وهذا يثبت كذلك سوسيو ثقافة المجتمع وظلت هذه التقاليد حية حتى الآن في وجدان كافة الشعوب ففي المجتمع الجزائري مازال الإقبال على الطب الشعبي متداولا بكثرة ودون أي اصطدام أو تناقض مع الطب الحديث، إذ يتم بشكل موازٍ له أحيانا أو كبديل له أحيانا أخرى، إذ نجد الأفراد يتوجهون إلى الأضرحة والطلبة أو إلى أناس عرف عنهم وراثتهم أبا عن جد لقدرات شفائية لبعض الأمراض.

المقدس:

إن التاريخ الديني القديم أو الحديث يكشف لنا أن الشعوب على اختلاف عقائدها الدينية من حيث رموزها وتمثلاتها وطقوسها. احتاجت إلى تعيين الأشخاص والأشياء وفق معيار التفاضل ووضع بعضهم فوق النظام المألوف والعادي للحياة الاجتماعية، يمنحهم قيمة ودرجة في الوجود أعلى استنادا إلى مرجعية دينية بحتة أساسها فكرة المقدس.

«إن هذا المصطلح ينتمي إلى جهاز مفهومي غربي مخالف لنظام المفاهيم العربي الإسلامي»9 لكن إذا عدنا إلى كلام العرب نجد أن مفهوم القدس: «التقديس، تنزيه الله عز وجل وفي التهذيب القدس تنزيه الله تعالى وهو المتقدس، القدوس، المقدس ويقال القدوس فعول من القدس الطهارة والتقديس، التطهير والتبريك وفي التنزيل ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك معنى ذلك نطهر أنفسنا لك. والقدوس هو الله عز وجل والقدس البركة.ويقال للراهب مقدس. والمقدس الحبر.

وبهذا تتمحور حوله ثلاثة معني وهي « التنزيه – الطهارة – التبريك» فإن المقدس من أولى دلالاته أنه يوحي لنا على الذات الإلهية المفارقة للموجودات وعلى الحقيقة المطلقة اللازمة المتعالية عن كل الكماليات.

مصطلح المقدس متعلق بالصفات الألوهية والتجلي والبركة والطهارة والسمو الإلهي، ارتبط مرة أخرى بالإنسان «ولكن بنخبة هذا العالم وصفوته من البشر الطاهرين المنزهين من العيوب والنقائص أو يتخيل أن يكونوا كذلك»10، إنما ما يثير انتباهنا هو لفظة المقدس في اشتقاقاتها المختلفة غائبة عن الشعبي فاللهجات العامية الجزائرية أقصته نهائيا من قاموسها اللغوي لأنه يعني في، ارتباطاته الذهنية عند عامة الناس في شخص ومن ثم العبادة والتأليه، فهو دال على معناها في المخيال الشعبي.

وتندرج تحت هذا المصطلح شحنة دينية سلبية لا تخلو من دلالات مسيحية «فالديانات المسيحية نقلت العبادة من القديس الصنم إلى عبادة الرجل، فكان عصر المسيح عصرا صار فيه الرجل إله النصارى»11.

وهذا تصور المسيح عليه السلام والقديسين الذين جاءوا من بعده. حذر الرسول ﷺ منه وأنه لا يجب تقديس وعبادة الشخص مهما كانت درجته من التقوى فهي تعد نقيضا لركن التوحيد لأن هذا الأخير يعتبر عند علماء الإسلام هو أعظم ركن عقيدي جاء به الدين الإسلامي وهو أعظم من الصلاة والزكاة والحج والصوم أما مصطلح المقدس في اللغة الفرنسية فمقابله هو «Sacré» يعني عموما كل ما هو متعلق بالشعائر والطقوس الدينية وكل ما يدفع إلى الاحترام والتبجيل الديني .حسب OTTO يشير إلى الرهبة والاندهاش المرتبط بالذهول أمام المجهول، أما كلمة «Saint» تشير إلى القديس الذي خصته السماء بتقدير عظيم وأقرته الكنيسة12.

نستخلص من هذه التعاريف أن المقدس «Sacré» هو تجل ديني والمقدس في كل من الفرنسية والعربية يؤكد على الاحترام والتبجيل وعدم الانتهاك وعلى الإرتهاب من المجهول وعلى الديني، أما التقديس في اللغة العربية تتجه به إلى الذات الإلهية ونجد أن دلالته في اللغة الفرنسية تميل إلى الذات البشرية .

المقدس فيما يبدو هو مرتفع وفي درجة أعلى ويستوجب من الإنسان قدرا من الاحترام الكبير اتجاهه وشعورا عميقا بالتبعية هو ما يسميه OTTO بحالة المخلوق «الذي يشتمل على مشاعر طمس وتضاؤل واضمحلال الذات»13 أمام ما يعتبره مقدس .

ومن ثم كان المقدس هو المقولة «التي تتوقف عليها حالة التدني فهي التي تعطيه خاصيته النوعية»14 ويحددها Caillois «كايوا» «مقولة مقدس في بعض الأشخاص» ملوك – كهان – وبعض الأشياء أدوات العبادة وبعض الفضاءات

وبعض المواقيت « الأحد، يوم الميلاد»15. ولقد أشار دور كايم «أن دائرة الأشياء المقدسة لا يمكن أن تكون محددة بشكل نهائي»16.

مارسال موسMAUSS يعتبر المقدس في صورته العامة وليس المشخصة «فليست فكرة الإله أو فكرة شخص مقدس هي التي نجدها في أشكال وأنواع الدين بل فكرة المقدس بشكل عام»يقول جوزيف شيلهود:«إن الغموض اللغوي هو صفة من صفات المقدس فلدى نفس الكاتب وفي نفس السياق يحمل المقدس معاني مختلفة القديس، الولي، الديني، المدنس، السحري، الممنوع»، ويردف شيلهود قائلا «يحدث كل هذا التداخل دون شعور مسبق أو ينتبه إلى التغيير المفاجئ، ولكن بصفة عامة فالمقدس يعبر عن هذه الدلالات في الوقت نفسه»17.

و بما أن المقدس لغة يحيط بها الغموض فإن التطرق لمعالجته يختلف من باحث لآخر سوى تطابق تخصصهما أو اختلفا، فالأنثروبولوجي يتعامل معه بارتياح واستقرارية أكثر، أما رجل الدين اللاهوتي فإنه يجد صعوبة في ذلك فهو مثل لغز لا يقوى على فكه18.إذ يوجد من رجال الدين من يرفض دراسته، مثلا يقول ماركيوس «هي في حد ذاتها شكل من أشكال انتهاك المحرم»19.

وباعتبار المقدس من المصطلحات الأكثر تعقيدا وجب على الباحثين العرب عند دراستهم له، فالغموض الذي يحف به يحدو بنا إلى التأكيد على وجوب تحاشي القيام بإسقاطات اصطلاحية وابستيمولوجية مرتبطة بنظام ثقافي مغاير لنظام ثقافتنا العربية الإسلامية، فقد ارتأت جماعة من علماء الاجتماع والأنطولوجيا على البحث في تمظهراته الخارجية وانعكاساته على ذات المؤمن بدلا من الخوض بلا جدوى في متاهات المصطلح20.

 

 

إشكالية المقدس في الثقافة الغربية :

يرى عبد الرحمان موسوي أن مفهوم المقدس أثار اهتماما لدى الباحثين وكان ذلك في القرن 19، حين اتصل العالم الغربي المتطور بالشعوب المتخلفة والمتوحشة فكان يرى اعتمادا على النظرية النشوية الرائجة أنه ما على الشعوب إذا أرادت أن تتطور أن تثور على موروثها الثقافي، الأسطوري، البدائي، وبأن شعورهم الجماعي لم يتشكل دينيا، فما زالوا تحت وطأة الفكر الأسطوري وتعوزهم تلك الفقرة للمرور إلى الفكر االديني ومن ثم الوصول إلى الفكر الوضعي21 وهذا ما اعتمد عليه دوركايم .

كما يرى عبد الرحمان موسوي أن نظرية أوغست كونت النشوئية وتدرج مراحلها «الأسطورية، الدينية، الوضعية» مركزا على أراء وملاحظات Cordignon في ما يخص العقائد البدائية للميلايترسين التي لاحظ أنها تقوم على التمييز بين المقدس والمدنس فأصبح بذلك الطوطم رمزا للمقدس. وهذا الأخير بمثل قوة خفية مبهمة وهذه القوة ليست حكرا على أحد منهم بل عند كل أفراد القبيلة فالطوطم إذن هو رمز أو شعار للجماعة وهو تجلى للإله الطوطمي والرمز الحسي لحقيقة روحية هي «المانا»، والمانا عند دور كايم هي تلك المادة الأولية التي نشأت بها الكائنات المتنوعة وعبدتها وقدستها الديانات في جميع العصور.إن الأرواح والشياطين والآلهة واختلاف مراتبها ودرجاتها ليست إلا أشكالا تجسيدية لهذه الطاقة وعند «مارسال موس» الطوطم يعبر عن جوهر المقدس ويعتبر المانا أنها هي التي تمنح القوة والقيمة الدينية السحرية والاجتماعية للأشخاص والأشياء22. من خلال هذا يظهر تعريف الدين عند «محمد الجوة» بأنه «ما كان قائما في الوجود إله أو آلهة لا يكون مستغرقا ومستوعبا لتعدد الأديان وأشكال العبادات كما أن الطقوس المتنوعة والملازمة للأديان ليست كفيلة بمفردها بتحديدها تحديدا متكاملا.لأنها تغفل عن الصيغة الوثيقة بين البعد المتمثل في الطقوس والبعد القائم على الإيمان والاعتقاد»23، وعلى هذا يعرف دوركايم الدين «أنه منظومة متماسكة من العقائد والطقوس المتعلقة بالأشياء المقدسة».

إن هذه العقائد والطقوس تؤلف بين قلوب أتباعها جميعا في إطار اتحاد معنوي يعرف «بالملة»24 وعلى هذا فإن علم الاجتماع الدور كايمي اختصر المقدس في تموضعه الاجتماعي وعرف الديني بالمقدس وجعله متعارضا مع المدنس،فدوركايم جعل من المفهومين المتضادين جدليا. فالمقدس هو «الحقيقة المطلقة، والمدنس هو عالم كل ما فيه متسخ ومفارق للعالم الرباني، وبلغة الفلاسفة المقدس جوهرا والمدنس عرضا»25، ويوضح دوركايم هذا التقابل بشكل جلى فيقول: «ليس في تاريخ الفكر البشري مثل آخر على مقولتين تتقابلان تقابلا تاما، فالمقدس والمدنس أشبه بجنسين مختلفين»26.

المقدس هو كل طاهر وكامل وسام، أما المدنس فهو دنس ونجس والدنس يميل إلى الدنيا. الدنيا من الدناءة والحقارة والرجس، ومن الدنو أو القرب الذي يوحي بالانجاز والتحقيق أي الزوال والانتهاء27، وهو ما أكده أبو حامد الغزالي في «إحياء علوم الدين» معتبرا أن الدنيا عدوة الله وعدوة لأوليائه واستند في ذلك على أحاديث منها حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه وقف على مزبلة فقال «هلموا إلى الدنيا واخذوا خرقا قد بليت على تلك المزبلة وعظاما قد نخرت فقال: «هذه الدنيا»28 وهذا هو الشكل الذي اتخذه المقدس والمدنس في الثقافة الصوفية فهما لا يلتقيان إلا لكي ينتفي أحدهما ويظل الآخر قائما.ونستنتج عنصرين أساسيين في البحوث البعدية.

العنصر الأول متمثل في إبهامية المقدس، أما الثاني فيتمثل في أن هذه الإبهامية المصاحبة للمقدس، فكل سؤال عن المقدس يتحول إلى سؤال عما يعارضه ويخالفه29.

إذا أردنا تحديد مفهوم المقدس يتبادر إلى ذهننا السؤال عن نقيضه ألا وهو المدنس «الدنيوي»، فلقد جاءت دراسات بعد التي جاء بها دوركا يم أن تخفف من وطأة التعارض القائم بين المقدس والمدنس وتعريف المقدس بالديني لم يلق تجاوبا عند الباحثين لأنه لا يأخذ بعين الاعتبار الفروقات العمودية الحاصلة بين الديانات السماوية، ووظفت الكتاب كواسطة بين المؤمن وبين كل ما يحيط به وبين الديانات الأولية، أما الاعتراض الثاني في إغفال الفروق الأفقية خصوصا بين ما يتعلق الأمر بالديانات الكتابية الثلاث «اليهودية، المسيحية، الإسلام» ويعود هذا الإغفال إلى العلاقة بين المقدس والديني وتعميمهما على جميع الديانات الثلاث بحجة ديانات كتابية30.

وما يواجه الباحثين هو إيجاد مصطلحات التعبير في لغات أخرى.

فمثلا مفهوم « Profane» باللغة العربية هل هو المدنس، النجس التاريخي، العادي؟ وبعد الاضطلاع على ترجمته في قاموس المنهل نجد المصطلحات الآتية: الدنيوي، عالمي، مدنس القدسيات ومنتهك الحرمات31، فمصطلح الدنيوي لا يعد نجاسة عند المسلمين على خلاف بعض المتصوفين الذين تأثروا بالرهبنة واعتبروا شر وبلاء،كما نبه الفيلسوف «كانت» إلى تمييز أساسي وهو الفرق بين المقدس والقداسة، فالمقدس في نظره علاقة بين ذوات وأشياء وموضوعات، أما القداسة فهي علاقة بين ذوات، ويتجلى ذلك في ذات الإلهية وذوات المؤمنين 32، أما «مرسيا الياد» لديه فكرة أخرى وهي التجلي القدسي «Hiérophanie» فهو يرجع نشأة الديانات البدائية والسماوية إلى تراكمية التجلي القدسي، وهذا التجلي يظهر مثلا في الجماد أو النبات ومثال على ذلك في المسيحية يظهر ذلك في تجسيد الله في المسيح وبأن كل شيء قابل لأن يكون مقدسا فالزمان والمكان والجماد كلها منخرطة ضمن فضاء المقدس. يقول «م.الياد»: «إن كل شيء تعامل معه الإنسان وأحبه يمكن أن يصبح تجليا قدسيا»33، وهذا ما يشير إليه أبو الحسن النووي في تحليله لظاهرة الوثنية «وقد أصبح شيئا رائعا وكل شيء جذاب وكل مرفق من مرافق الحياة إله يعبد»، وهكذا جاوزت الأصنام والتماثيل والآلهة والآلهات الحصر فهناك أشخاص تمثل الله فيهم ومنها جبال تجلى عليها بعض آلهتهم، ومنها معادن كالذهب والفضة تجلى فيها اله، ومنها نهر «الكينج» الذي خرج من رأس «مهاديو» الإله ومنها آلات الحرب وآلات الكتابة وآلات التناسل وحيوانات أعظمها البقرة والأجرام الفلكية وغيرها. هذا يدل على أن المقدس يتمثل في فكرة التجلي الإلهي.أوشك كل من دراسي الديانات والباحثين الأنتروبولوجيين على أن تطور الإنسان الديني من الحالة البدائية إلى الحالة السماوية خضع لتطوير إدراكه للأشياء. ففي بدايته «اكتفى بكائنات أكثر تواضعا كالأشجار، الحيوانات. فكانت لها قوة وروعة تثير بها دهشة الإنسان وكان لكل من الشمس والقمر انتباها خاصا من قبل الإنسان»34.

من خلال ما تطرقنا إليه بدا لنا أن نظرة الإنسان للمقدس منذ القدم لم تكن ثابتة ومستقرة بل تطورت حسب معرفته بالعالم الخارجي، وعلى هذا من المستحسن أن نتطرق إلى المقدس ودلالاته في الثقافة العربية بعد ما تناولناه في التصور الغربي وهو ما سندرسه في المبحث التالي.

 

 

إشكالية المقدس في الثقافة العربية الإسلامية:

نظرا لخصوصية المقدس في الثقافات القومية واختلافها وعدم تطابقها تبادر إلينا تخصيص مبحث بالمقدس في الثقافة الإسلامية.من بين الباحثين الذين أكدوا على ضرورة تميزالمقدس «Sacré» عن القداسة «Sainteté» جوزيفشيلهود وذلك داخل الثقافة العربية الإسلاميةعلى اعتبار أن المقدس ممايز للدين إذا اعتبرنا المقدس يشير إلى كل من الطاهر «Le pur» والمدنس «Impur»، فإن الدين موجه نحو القداسة35وشيلهود يعتبر:أن المقدس يظهر تحت أشكال متعارضة متضادة «Antagoniste»، فهو يعتبر أن الطاهر مرتبط بالسماوي والديني، أما الدنس فيرتبط بالسحر والجني فهما عنصر أن أساسيان للمقدس، وقد اعتبر الدين كما أشرنا سابقا موجه نحو القداسة الطهارة التي هي إحدى أقطاب المقدس فـ «ج. شيلهود» يقول أن الإسلام قد عقلن المقدس ومحوره حول الله»36 وهذا يدل أن القداسة قد هجرت الأرض لأنهاأضحت مرتبطة بالله بخلاف بعض المقدسات التي نزلت من السماء مثل القرآن، فهو ينفي وجود القداسة على الأرض.

وبما أن فكرة التجلي الإلهي مرتبطة بالقداسة، فالقرآن الكريم يعتبر تجلياً للحقيقة المطلقة، وهو ما أشار إليه محمد الجوة في قوله «الذي يقرأ ويرتل وما لم يكن بوسع إنسان أن يأتي بمثله إنه الإعجاز والمعجزة وهو ما يمنع محاكاته لأنه كلام الله وبهذا الاعتبار يرتبط المقدس بالحقيقة بمعنى أن النص الديني هو موضع الحقيقة الذي يقع تبليغها من حيث هي حقيقة المقدس والحقيقة المقدسة»37 وبما أن القرآن الكريم هو تجلي الله فإن قراءته لها منافع وميزات كثيرة وخاصة وهي الصحة، الراحة النفسية والذي لا مثيل له أن تكسب الأجر للذي يتلوه ودليل هذا كله مثلا في التداوي بالقرآن الكريم «الطب النبوي» لابن القيم الجوزية والطب النبوي للإمام الذهبي وإحياء علوم الدين للإمام أبي حامد الغزالي وغيرها كثيرة.أما الأماكن المقدسة في الإسلام فهي أرض انعكاس للتجلي الإلهي ويظهر هذا في حديث الرسول ﷺ «مكة حرم حرمها الله»، وأن الناس لم يحرموا مكة ولكن الله حرمهالقد أسس «ج. شيلهود» حول مقولة الحرام المزدوجة الدلالة لبنية المقدس، فبدلالاتها على الطهارة أو القداسة تحيل على ما ينظم العلاقة بين المقدس وما يعارضه مجسدا في ما الحرم أكثر من مقولة المقدس الازدواجية والبناء الداخلي للكيفية المتصوربها الإسلام مقولة المقدس»38.

نفهم من أن الحرام يشير إلى المحرم وهو «الأمر الذي ينهى عن فعله نهيا حازما»، وقد جاء ذلك في القرآن الكريم «قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله»39.

وهو المباح الذي أذن الشارع والطهارة والإحرام في قوله تعالى: «يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا». وهما الانتهاك والبركة40 فالإنهاك مرتبط بالمتصوفة اللذين أرخوا العنان لملكات التخيل فأصلوا مفاهيم اخترقت نظام المعرفة الإسلامي واستطاعت هذه المفاهيم أن تجد طريقها إلى عامة الناس. وظهر ذلك من خلال طقوس احتفالية «شطحات وحضرات»، «فانساق التصوف في تيار عظيم جارف كاسر السدود التي كانت تجس موجة الإحيائية المكبوتة قبلا في ما تحت الشعور، ذلك التيار الذي عجز عن السيطرة عليه متصوفوا السنة أنفسهم»41 فهي بعد آخر للمقدس الإسلامي: فتعني الزيادة والخير الكثير أما في المخيال الشعبي والتصوف العملي الطرقي فتعني استمرار الخير والاستزادة من عند الولي الصالح.

ومن الخصائص التي يمتاز بها المقدس الإسلامي إقراره بوجود قدسية في الزمان والمكان والذوات. هذا لا يعني المحايثة كما جاء به بعض المتصوفة فالحجر الأسود مقدس لأن مصدره الجنة، والقرآن الكريم مقدس لأنه كلام صادر من الله عز وجل بالرغم من ذلك فإنه لا يوجد تعارض بين القدسي والدنيوي فالإسلام ألف بينهما وكل سلوك يوافق مقولات الشرع ولا يخالفها فهو مقدس، وإن كان دنيويا طالما لم ينتهك القواعد الشرعية «فالحقيقة القصوى في نظر القرآن روحية وجودها يتحقق في نظامها الدنيوي والروح تجد فرصتها في الطبيعي والمادي والدنيوي فكل ما هو دنيوي إذن هو طاهر وديني في جذور وجوده. فليس ثمة دنيا دنسة وكل هذه الكثرة من الكائنات المادية إنما هي مجال لتحقيق الروح وجودها فيه»42، فالزواج على سبيل المثال دنيوي والدين يعتبره عملا مأجورا وواجبا اجتماعيا وأخلاقيا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه «وفي بضع أحدكم صدقة قالوا: أيأتي أحدنا شهوته يا رسول الله ويكون له فيها أجر؟ قال: أليس إن وضعها في الحرام كان عليه وزر؟فكذلك إن وضعها في حلال كان له أجر»، لذلك فالمقدس والدنيوي ليسا حالتين متضادتين في الإسلام وهذا يقودنا إلى انه لا يوجد مقابل في اللغة العربية لفظه «CLERC» أو «Clergé» أي رجل الدين، وهذا موجود فقط عند المسيحيين العرب «أكيلروس»، وهذا إن دل على شيء فإنه لا وجود لرجل دين في الإسلام يقول محمد عبده «ليس في الإسلام سلطة دينية سوى الموعظة الحسنة، والدعوة إلى الخير والتنفير من الشر وهي سلطة حولها الله لأدنى المسلمين يقرع بها أنف أعلاهم،كما حولها لأعلاهم يتناول بها من أدناهم»43. ما يمكننا استنتاجه هو «وجود تناقض بين المقدس الإسلامي ومفهومالمقدس العربي إلا في بعض الخصوصيات النظرية، فالمقدس الإسلامي الرسمي لا يقابله الديني بل يتداخل معه، والفصل بينهما يعد جهلا لحقيقة العقيدة الإسلامية، وهو ما يستحيل إن نظرت إلى أصلها كانت الله الروحانية، وإن نظرت إلى مظهرها كانت العالم المادي الواقعي، وتحقق الروحانية هو تحقق العالم ووقوعه»44، كما يقول نور الدين الزاهي أيضا «المقدس هو أشمل حقل القداسة لأنه بثرائه الدلالي لا يقتصر على الذوات، بل يحيل إلى الزمان والمكان وهذا يؤدي إلى تلاحمه وترابطه ومن ثم مع الإله الذي لا يجعله متناهيا معه»45.

إن المقدس أشمل وأعم من كل المصطلحات فرأيناه في لسان العرب يحيلنا إلى صفات الألوهية «وتنزيه وتبريك وتطهير» ويرتبط بالأشخاص ذوي الصلاح والصفاء الروحي «يعني أولئك الذين استطاعوا الجمع بن الطهارة الذاتية والعربية وقد يطلق على الزمان في صيغة الأشهر الحرم ليعني الحظر وكذا الاحترام الناتج عن حرمة الأوامر الإلهية»46، ويتجلى المقدس الإسلامي في المكان والزمان والذوات والأشياء.

1) المكان المقدس:

لقد أعطى القرآن الكريم والسنة الشريفة خصوصية المقدس لبعض الأماكن فيقول ابن خلدون منوها بها «اعلم أن الله سبحانه وتعالى فضل من الأرض بقاعا اختصها لتشريفه وجعلها مواطن لعبادته ليضاعف فيها الثواب وينمو بها الأجور. وكانت المساجد الثلاث هي أفضل بقاع الأرض حسب ما ثبث في الصحيحين وهي مكة والمدينة وبيت المقدس»47 وقد عمد الإسلام إلى تقسيم المكان قسم طاهر مبارك، وقسم ثان يفتقر إلى تلك الطاقة الروحية، فالإنسان الديني حسب «م.الياد» يرى أن المكان المقدس غير متجانس فهو يتوق للعيش داخله ليتشبع من قدسيته دون أن يتخلى عن فضائه الموضوعي الطبيعي48.

مما سبق ذكره يمكن القول إن قدسية المكان تعود بالدرجة الأولى إلى التجلي الإلهي الذي يفيض على المكان إشعاعا روحيا وهو ما أشار إليه بعض الباحثين في حصرهم للأماكن المقدسة الإسلامية في مكة وبيت المقدس.

في حين أنهم أغفلوا فضاء مقدس آخر له فعاليته الروحية أمثال الباحث «شيلهود»، ومن هذه الفضاءات المسجد الذي يستمد قدسيته أولا من مبدأ طهارة الأرض في الإسلام لقوله تعالى: {في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه، يسبح له فيها بالغدو والآصال}49 وهذا دليل على قدسية المكان لما خصته الآيات والأحاديث الشريفة.

هذا هو المقدس في نظر الإسلام إلا انه برز مقدس آخر شكلته جملة الاعتقادات الصوفية تراث الثقافات الإنسانية القديمة، وكان للمخيال الشعبي إسهام في بلورة ملامحها، إنها أضرحة الأولياء فيكفي حضور الولي الصالح في مكان ما لتزيد عظمته من طرف الناس ويصبح بعد وفاته مزارا يتطلب الطهارة الروحية والجسدية «حسن النية» وطقوس خاصة وتكون الحرمة بكل ما يحيط به من منابع، أحجار، أشجار. كما يحرم على الزائر انتهاكها، وبهذا أصبح الضريح حصنا ومأوى لكل من يلجأ إليه ومحرما التعرض له كما أشرنا سابقا إن حضور الولي في أي موضع يجعله مكانا حاملا لقوى تطهيرية استشفائية، ففي هذا الصدد يروي لنا بن مريم قصة توضح هذا الأمر بجلاء «إنه كان لسيدي حمزة بن أحمد المغراوي فرنس وهي حامل، فطلع بها «عقبة» جبل فأتعبها، فنزل عنها وخلى سبيلها50 فأصبح ذلك المكان الذي نطقت فيه الفرس مكانا مقدسا ومباركا وتربته أصبحت تشفي كل عليل». إن إعطاء صفة القداسة على بعض الأمكنة «أضرحة» يدل على أن التصوف قد اخترق مفهوم الأماكن المقدسة وتجاوز الاحترام والإجلال والتقدير لهذا المكان إلى أن أصبح الولي أو الضريح يحمي ويدافع عنه وينتقم من مدنسه ويمنح بركته لمن يقدسه ويحترمه.

من خلال هذا يصبح الضريح مكانا مقدسا في المخيال الشعبي ذا بعد روحي مهيب مشابه للأماكن التقليدية الدينية، وربما يتجاوزها قدرا في اللاوعي الجمعي.

2) الزمان المقدس:

لقد أوضح «م. الياد» في ما يتعلق بهذا الأمر بأن الإنسان الديني لا يخطر بباله إطلاقا وجود زمن واحد وإنما قسمين من الزمن مقدس ودنيوي. فهي حتمية يفرضها التقسيم الانشطاري للكون51، فالزمن الديني يمكن للمؤمن أن يسترجعه ويستعيده وذلك بواسطة الطقوس52 والزمن القدسي يعبر عن الأحداث العظيمة التي عرفها العالم الإسلامي فكل زمن له حدث ودلالة فشهر رمضان شهر أنزل فيه القرآن، وشهر ربيع الثاني شهر ولد محمدﷺ وغيرها من الأشهر، كل هذه الأزمنة لها دلالتها «زمن الأحداث والمظاهر» أي الزمن الغابر، معنى أن هذه الأزمنة النبوية تقابلها أزمنة تاريخية، ويرى «م.الياد» بأن الزمن الموضوعي هو الزمن التاريخي،إذا مر فإنه يعود لينتهي بانتهاء فترته وذلك عكس الزمن الديني فيتحرك دائريا53. إن الزمن القدسي في الإسلام مرتبط بأوامر إلهية وضحتها الأحاديث النبوية، أما بالنسبة للخيال الشعبي فقد صنع لنفسه زمانا آخر مقدسا ربطه بحضور الولي وهذا يدل على أن الخيال أمكنه أن يحضر «شخصا مقدسا ويضعه في مكان مقدس ويحدد له زمنا مقدسا ويجعل الناس ذلك الزمان والمكان بعيدين عن الواقع التاريخي ويربطهما بطقوس معينة واحتفالات رقصية».

فالزمن الشعبي متشابه مع الزمن الديني في قابلية الاسترجاع فهو زمن أسطوري ذو بنية دائرية فكل منطقة تختار يوما خاصا بها للاحتفال بولي وهو ما يعرف: «بالوعدة» فهي مشتقة من وعد أي تعهد بشيء ما أخذ على عاتقه54 وبما أن هذا الطقس الاحتفالي يعاد كل سنة فإنه يرجع إلى معنى العودة.

فإن الزمن الشعبي يعرف من خلال طقوسه وحفلاته، يقول نور الدين طوالبي في هذا الصدد «كل تضرع بشري يتمفصل حول المقدس يحمل في طياته صلاة دينية لكن في نفس الوقت مناقض للدين الرسمي جذريا عندما لا تكون القدرة ملتمسة هي الله بل رجل. الذي ادعى لنفسه مزايا إلهية في المعتقدات الشعبية»55، من خلال هذا تبين لنا أن اليوم الذي تقام فيه الوعدة يوم منفرد عن باقي الأيام ببركة عظيمة اختص بها لكونه إحياء لذكرى الولي الذي تقدست بروحه الأمكنة التي ضمت جسده الطاهر وهو يوم مبارك فيه تقدم الأطعمة وتنحر الذبائح ويبدأ ذوو العلل التي عجز الطب عن مداواتها، وتفرج الكروب ومن خلال هذا تبرز وترتسم ملامح اليوم القدسي في الخيال الشعبي.

3) الذات المقدسة:

لقد انحصر المقدس الإسلامي وتمظهر في الزمان والمكان مقارنة مع الخيال الشعبي الذي أطلق لنفسه العنان متجاوزا الحدود التي تفصل بين ما هو قدسي ولا قدسي في الإسلام إلى تقديس ذوات الأشخاص فهو يرى بأنها نماذج للخير والحق والعدل.

إن الإسلام يرفض كل غلو في تعظيم الأشخاص مهما سما شأنهم، والإسلام ينهى عن تعظيم البشر تعظيما يدنو من العبادة وروي عن الرسولﷺ أنه نهى عن إطرائه. وحديث عن نهي الرسول عن ممارسة طقوس التعظيم لا تقوم كما تقوم الأعجام بتعظيم بعضها بعضا « لقد رفض الإسلام فكرة الخضوع والانحناء أمام العظماء فالعبادة والسجود حق الله وحده لا ينازعه فيه أحد من البشر في التصور الإسلامي.وقرنت عبادة وتقديس البشر لشدة التعلق المفرط بالأنبياء والقديسين وهذا جعل اليهود والنصارى ينسبون لله أبناء، قال تعالى:{وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله}56.

لقد حارب الإسلام هذه الظاهرة المتمثلة في تقديس البشر وعبادتهم حيث عاد أهل التصوف الطرقي وربطوا آمالهم بقبور مشايخهم يعظمونهم ويتبركون ببركتهم ويقدمون لهم النذور والقرابين فعادت عبادة الأسلاف والأولياء من الباب الواسع، وقد ربط الكثير من الباحثين تقديس الأشخاص بالديانات البدائية التي أصلها يكمن في عبادة الأموات حيث كانت تختص بالأفراد الأقوياء والأبطال «والملوك الشجعان الدين ألهمهم أتباعهم المعجبون بهم وبعد وفاتهم»57.

وإن كان الإسلام قد نفى جملة وتفصيلا فكرة الحلول والمحايثة فإنه لا ينكر فكرة الكرامة لأوليائه المجتهدين في طاعته المقبلين على الله بشغف، فقد يهبهم من لدنه كرامات معينة والولي الصادق هو الذي يتعالى عنها ويزدريها ويخالها من فعل الشيطان.

4) الأشياء المقدسة:

لقد أضاف المخيال الشعبي كل ماله علاقة بقضاء الولي سواء أحجارا أو تربة أو تابوت أو مياه فكلها مقدسة، فقد أصبح كل شيء في فضاء الضريح له فاعليته فيجلب خيرا أو يدفع مكروها،فالحجارة الموجودة داخل الأضرحة تحمل قداسة وطهارة فيتم التبرك بها، ويطال التقديس أيضا الأعلام وقطع القماش(الخضراء والبيضاء) التي تغطي التابوت، وهكذا فالتبرك في أشياء الولي يزكي الزائر ويطهره ويكفر عن ذنوبه، كما أن الأشجار المجاورة لضريح الولي لها حرمتها وقداستها الخاصة فلا يجوز إطلاقا قطعها أو كسر إحدى أعضائها، حتى الطيور التي تستظل بها يحرم صيدها أو إفزاعها، وأكثر أنواع الأشجار تواجدا بفضاء الضريح هي النخلة، فالنخلة في الخيال الإسلامي الشعبي تمتلك القدرة العلاجية إذ لها أثر في مداواة الكثير من العلل والأسقام كالعقم مثلا، فتكتسي النخلة أهمية بالغة في الخيال العربي، حيث أن العرب أكرموها كثيرا، إذ روي عنه ﷺ «أكرموا عماتكم النخل» وقال القزويني إنما سماها عماتنا لأنها خلقت من فضلة طينة آدم عليه السلام وأما الضمير في عماتكم يدل على إظهار عقلية الجاهلية فكلم الناس على قدر عقولهم58.

5) قداسة الحيوان:

لقد احترم الإسلام بعض الحيوانات ورأف بها، إلا أنه لم يبالغ بتعظيمها إلى درجة التقديس، فالحيوانات لم تخلق إلا لخدمة الإنسان كما حرم الإسلام أكل بعض الحيوانات كالخنزير.

مع مجيء التصوف العملي أضيفت على الحيوانات قداسة خاصة فأصبحت بقدرة الله تنطق وتشكو همها للولي فهناك روايات الأولياء وعلاقاتهم بالحيوانات59، لقد كانت تمر الطيور وأبي مدين يتكلم فتقف لتسمع، وفي رواية عن الشيخ بن عودة كان يروض السباع فكان السبع يجري نحوه حتى يصل عنده فصبح أليفا لا يؤذي.

أما قداسة الكثير من الحيوانات عند أهل التصوف العملي فمرجعه إلى أن كل شيء ارتبط بالولي من جماد أو نبات أو حيوان إلا وتقدس، إن الإسلام قد عقلن المقدس ومحوره حول الذات الإلهية، وأن الديانة الإسلامية هي الديانة الوحيدة التي أنجزت قطيعة نهائية مع تأليه الإنسان أو أنسنة الإله، فأنكرت أي إمكانية اتحاد بين الخالق والمخلوق.

مع مرور الزمن واحتكاك بعض المسلمين بالثقافات الأخرى أصبحت أضرحة الأولياء تنافس في قدسيتها وطهرها الأماكن والبقاع المقدسة وأصبحت العبادة فيها أفضل والمعاصي أشد، ومن هناك لم يترك المخيال الشعبي أي شيء يرتبط بالولي إلا وقدسه فغدا الضريح والزاوية أهم من المسجد ولم يعد التصوف إلا كرامات وخوارق فخالف جوهر التصوف السني فقد عرفه «سري الصقطي» على أنه لفظ دال على ثلاثة معان: «المتصوف هو الذي لا يطفئ نور معرفته الإلهية نور ورعه، ولا يضمر مذهبا باطنيا ينقض ظاهر معاني القرآن والسنة وإن الكرامات التي اختص بها لا تدفعه إلى «مخالفة تعاليم الله القدسية»60.

 

 

وظيفة المقدس الاجتماعية:

في مقدمة المقدس البدائي «لروجيه باستيد - R.Bastide» يتساءل « ه.ديروشيه - H.Deroches» عن معنى تأسيسية المقدس فهو يسأل نفسه هل أن مؤسسة المقدس تعني «إحصاءه، تدجينه، استرجاعه، التعامل معه؟ أو أيضا قولبته، ضبطه، تنظيمه. تجسيده؟»، هذه التساؤلات تدل على الغموض ولسوف يتضاعف هذا الغموض لأنه من الصعب دائما فصل جانب المقدس البدائي «السحري» عن المقدس المألوف «الديني» فإن كل تضرع بشري يتوجه إلى المقدس أو يتمفصل حوله يحمل في طياته صلاة دينية لكنه في نفس الوقت مناقض للدين جذريا طرح «باستيد» فكرة الارتباط، يؤكد إضافة إلى ذلك أن «موت الله» أو التراجع الديني لا يدل بالضرورة على موت المقدس، والدليل على ذلك في تحولات الحياة الدينية الغربية، فهو يرى في ذلك تعبيرا عن تسوية بين العقلانية هذا يدل على أن السعي وراء المقدس المغلق والمتأنس61.

يرى «ج.م دور كريت - J.M Derkreet» و«أ.مولفوردسبيرو - E.Mellfordspiro» عن حاجة نفسية التي تنظم التوترات الداخلية عن فرد يحن إلى الوجود فالمقصود مثلا هو العمل بصورة جماعية على إعادة توازن العالم النفسي المشوش، إن الحاجة إلى المقدس تتجاوز الفرد لتخص الجماعات سوف تبحث في الماضين التوازن الذي تحن اليوم إليه وقد أخذ البحث عن الماضي طرقا عدة ففي تصور المقدس نظم الإنسان علاقته الاجتماعية بشكل أدى إلى إحداث فوارق تراتبية ذلك أن الهدية هي محور تلك العلاقات، فحصول الإنسان على الاحترام ليس مرده إلى ما يملكه بل بما يقدمه من هدية، والهدية في هذا الاتجاه وحده هي التي توجد التراتبية فتعلي من مكانة المهدي وتقلل شيئا من شان المهدي إليه، في دراسة «تستار - TESTAR» للقبائل الجبلية التي تسكن الجنوب الشرقي لآسيا، عماد الحياة الدينية لديها هو تقديم القرابين «الضحية والحيوان المتقرب به هو الجاموس والقوى ما فوق الطبيعية المتقرب إليها هي أرواح الأسلاف التي تظهر في الأشياء والنبات دون الحيوان»، لاعتبارهم الحيوانات علامة تدل على الدونية والتبعية.

مما سبق ذكره يظهر لنا مدى تدخل المقدس في تنظيم العلاقات الاجتماعية وخلق التراتبية والتفاضل، في هذا يقول «مارسال موس - M.Mauss» المقدس متصور بالنسبة للجماعة وأعضائها في كل مايعلو بالمجتمع ويؤهله إلى التماسك ويحميه من التشتت أو تعارض في المصالح، فكل ما هو اجتماعي يتم بشكل حتمي وفق أساليب وطرق دينية، هو ما فتح مجالات الحياة الاجتماعية لوجود المقدس، وبالتالي تأديته الوظيفة الاجتماعية التي ركز فيها «دوركايم» على وظيفة التكامل والتماسك من خلال الطقس الذي ينظم التنافذ أو العلاقات المتبادلة بينها62، فهناك الطقوس التي تمارسها في نطاق واسع في الأوساط المدينية الحضرية يطالها التغير الاجتماعي أكثر بكثير مما يطال الأرياف، فنجد اللجوء إلى الطقس من خلال سلوكات مذهلة مأخوذة من الماضي63، لنستقي منه نماذج قادرة على إعادة توازن نظام الوجود الجديد فهي ترمز إلى القاسم المشترك بين كل المجتمعات الاستعمارية وما بعد الاستعمارية يعطي علماء الاجتماع مثلا قليلا أهمية للأشكال الثابتة والمستمرة من الوقائع الاجتماعية لصالح الاحتمالات الأكثر دينامية، كتلك التي تنطلق من دراسات تتناول المجتمعات السريعة التغير في مقدمتها مجتمعات العالم الثالث، تناول «دوفينيو» مسألة التحولات وهي تعبير جديد وثيق الصلة بالموضوع أدخله «سيكار» 1970 الذي أشرف على الوضع الاجتماعي الثقافي في الجزائر يدعو إلى الاهتمام أكثر بأسباب «عودة» أو «استمرار» آثار الماضي في المجتمعات النامية، طرح «دوفينيو» مسألة المشاكل الاجتماعية التي فرضها التغير السريع وهو مفهوم دوركهايمي تجدد الاهتمام به من خلال مختلف الكتابات.

يرى «باستيد» أن ظاهرة شعائر الامتلاك في المجتمعات البرازيلية والأفريقية هي الأكثر أهمية، وجهات النظر تختلف فإن المتغير السوسيولوجي للتبدل يكون فيها مهما أيضا «الحلم، الرعب، الجنون» 1972 - والمقدس البدائي 1975 يعبران عن خاصة التغير الاجتماعي وهي آثار ذات اختلال وظيفي وفوضوي بالنسبة للكثيرين64.

قام «باستيد» 1975 بتعداد الأسباب التي تشكل تطور شعائر الامتلاك في المجتمعات الخاضعة للاستعمار ومجتمعات ما بعد الاستعمار، يمكن القول أن أولها تقليدي يرتكز إما على تجسيد الآلهة كي تتمكن هذه الأخيرة من إنجاز مهماتها، إما على النبوة لتخليد رسالات الآلهة، وإما أخيرا على الشفاء من الأمراض، وعلى هذا الأساس يقيم تصنيفا لوظائف الشعائر وهي وظائف قابلة للتغيير في ما بينهم أدوار اجتماعية مختلفة وتخضع لتنوع الدوافع، وتكتسب الشعائر المزيد من الأهمية عند المجتمعات الخاضعة للاستعمار إن هذا الأخير يتوصل إلى ممارسة الشعائر كوسيلة لحل صراع القيم أي إدخال الثقافة الإفريقية في مجموعة مسيطرة من القيم الغربية وهو ما سماه «باستيد» انسلاخا ثقافيا شكليا وأثناء إعادة تقييم بعض السلوكات الأصلية الثقافية، يتم حل صراع التقاطب والتسوية حيث يتكيف المرء مع ظروف حياتية جديدة،فيختلف الانسلاخ الثقافي دون أن ينكر ذاته كليا.

أكدت أبحاث «ف.فانون - F.FANON» أنه مقابل كل محاولة للانسلاخ الثقافي ثمة ردة فعل من انسلاخ ثقافي معاكس، وقد كانت عبادة الأجداد الإحياء المستمر للطقوس والتعلق الكبير بالمعتقد الديني، وسائل جماعية لمقاومة الاستعمار، إذن كلما كان يزداد توكيد أصالة الثقافة المحلية كلما اشتد الانسلاخ عما هو غريب ويشعر هذا الأخير بأنه منبوذ وبالتالي مهان.

ومن هنا فالحاجة الملحة للاتصال بالمقدس وحتى للاتحاد معه لحماية الذات من حالات القلق التي يسببها وجود الاستعمار.

«مولفوردسبيرو» 1966 الذي يلاحظ أنه لو لم يكن للطقس أية فعالية في القضاء على الفقر، الشفاء...فهو له وظيفة سيكولوجية مهمة «حقيقة» تكمن في تقليص القلق،اليأس الناتج عنه65.

يرى «رونيه باستيد» أن للطقس وظيفة الاسترجاع المستذكر لأصول الأسطورة والدين66، أما «كازانوف - Jean cazaneuve» فيقول إن الطقس يظهر كفعل مطابق لعرف جماعي تندرج فعاليته على المستوى ما فوق الطبيعة وهو يتجلى بكل خصوصية في العادات والتقاليد العرفية التي تبرز ذاتها، ليس فقط داخل العالم الطبيعي بل وكذلك في علاقة الإنسان بالعالم ما فوق الطبيعي67.

 

 

وظائف الطقس الدينية:

لم تعد علاقات الطقس مع ما هو ديني بحاجة إلى برهنةفكل ديني فرز طقوسا خاصة به ويستخدمها، فالحدث الأول هو الذي أوجد الطقس وجعله آنيا ومبجلا حيث يبحث الاحتفال الطقسي عن مناسبة للتقرب من القدرة الفوق طبيعية التي تقلق وتهيمن في نفس الوقت68.

لقد اعتقد «ليفي برول» 1931 أنه وجد في موقف الارتباك الثابت هذا عند الإنسان إزاء الفوق طبيعية، مظاهر أو بقايا «عقلية منطقية» وهو مفهوم سيطابقه «ج.ديفرو» 1970 لاحقا مع المفهوم الفرويدي حول العمليات الأولية.

بالنسبة لـ«كازانوف» 1971 تجد القصدية الدينية للطقوس حقيقتها أو بالأحرى سببها في تحولات الوضع البشري بين هذه التحولات والأكثر إرباكا إلى حد بعيد هناك الشعور الذي يدركه الإنسان حول المقدس وبالتالي فسبب كونه خاضعا للمقدس يسعى الإنسان عن طريق الطقوس للتقرب من عالم المقدس ويكون الطقس بمختلف بدائله التطهير منها المساري أو السحري ذا اتجاه واحد في كل وظائفه لا هدف له سوى إعادة التوازن الداخلي للإنسان الذي يمزقه اتصاله مع تقلبات العالم الخارجي.فوظيفة الطقوس الدينية دفاعية قبل كل شيء لذا يقال إن. كل تغير يضع الإنسان في وضعية قدسية، لقد انغلق عبثا في منظومة من القواعد، وهو يشعر بنفسه مستقرا فيها. إنه يجد نفسه بالتالي في مواجهة عالم القدرات المتفلتة من القاعدة ويشعر أنه قلق لأنه يواجه سره الخفي الخاص به مع ما يتضمنه من غموض، عندئذ يلجأ إلى الطقوس لاستعادة التوازن المفقود ليلتقي الدنس أو يتخلص منه69.

وهنا نريد معرفة ما هي الوسائل الطقسية القادرة على تحقيق التقارب بين القوى العليا الملتمسة فعلا. سنتناول حالتين باعتبارهما تستعيدان البعد الديني في الطقس: الصلاة والتضحية، حيث يمكن اعتبار هاتين الخبرتين كقطبين متينين لذات التحرك الديني فبينما ترتكز الصلاة- وهي طقس شفوي- على التماس خطوة ما أو تحقيق أمنية معينة،تستخدم التضحية- وهي طقس عطائي- كدعامة لهذه الصلاة وتضمن تقريبا شروط تأثيرها الرمزي والديني.

ومن هذا فصلوات الالتماس «ر.باستيد» 1975 التي تستخدم فيها الضحية التي تقدم قربانا كموضوع تبادل بين المتضرع والمتضرع إليه حيث يرى «باستيد» في هذا التبادل التداخل القوي بين الإنسان والألوهية التي يناشدها، فدم الضحية القربانية هو شراب الآلهة المفضل. إنه الغذاء الذي يؤدي إلى تجديد قوى المقدس وطقس التضحية كان في الأديان القديمة إن الأديان الإحيائية70، ومع مجيء الأديان التوحيدية راحت الطقوس التوحيدية تتلاشى تدريجيا لتختفي نهائيا في غالبية الأديان التقليدية حيث تصطدم مبدئيا بما هو محرم.

لقد حاربت كل من اليهودية، النصرانية، الإسلام، تعددية الآلهة من أجل تمجيد الوحدانية الآلهة، وكانت غالبية السلوكات الطقسية الموروثة عن المذهب الإحيائي تعارض هذه الوحدانية على هذا الأساس قد نقضها يهود موسى ورب يسوع والله محمد غير أن الإسلام سيكون الغريم الأكثر عنفا العبادات والطقوس التي دعت إليها أو أوحت بها التعددية الإلهية71، التي نعلم أنها غير دينية وبهدف تبيان، من خلال هذين الطقسين النموذجيين نقاط تبلور بعض الصراعات التي تشجع في المجتمع الجزائري على تفكك الرابط الزوجي أو تعقد العلاقات بين الجنسين فالختان والإفتراع الزوجي يؤكد كذلك بعض التنظيم في مسارنا ولا يرتكز لإسهام العوامل التي تحدد النشاط الطقسي والديني.

مهما تكن الأسباب النفسية والاجتماعية ثمة أسباب أخرى لا واعية تتداخل فيه، تعليمات فرويد في ما يتعلق بدور اللاوعي في كل موقف ديني وطقسي وقد يتوجب علينا أن ندرك مواقف «الصدمة الثقافية» وتساؤلات حول الثقافة الأصلية72، فالزواج هو بالطبع الرباط الشرعي بين الجنسين وممارسة الرغبة بحرية لكن الزواج غير مقبول، بالحرية في مجتمعات كالمجتمع الجزائري إلا بشروط وجود تكليفات مسارية واجبة. ثمة تكليف ذو قيمة رمزية توجز هذه العبارة ليس جديرا بعقد الزواج إلا الذي أو-التي- يدفع ضريبة ذلك من دمه الخاص، دم الختان بالنسبة للرجل ودم الاقتراع في ما يتعلق بالمرأة وهذا ما سوف يبين العلاقة الرمزية بين الطقوس الزواج والختان73، في بعض النصوص التوراتية التي كتبها «ب.غوردن» 1946 تكشف أن الختان في الديانة اليهودية شرط زواج بشكل أنه يطالب بالزواج إلا الرجل المختون الذي ارتبط بالله مضحيا له بدمه. فدم الختان كونه يشبه هبة تمنح ﷲ ويعد دلالة على هذا الارتباط، فيجد الرجل نفسه مطهرا ويتلقى بالمقابل منحة إلهية: إمكانية عقد الزواج أي إنشاء علاقة سببية بين الفعل الطقسي وفعل الافتراع.

وعلم تطور الكائن الفرد كما يوضح «س.فرويد» 1967، أن قتل الأب كنتيجة رغبة الابن الجنسية، إن حادثة قتل الابن هذه أجبرتهم على تحديد أطماعهم وحصر الليبيدو خاصتهم في موضوع حب واحد: المرأة التي سيختارونها في إطار الزواج الشرعي والتي سيكونون معها أول أسرة في تاريخ البشرية غير أن حادثة قتل الأب قد تتلاشى مع الزمن من ذاكرة البشر وتتطلب اتفاقية الزواج74 بالذات مستلزمات كالختان التي يبدو وكأنه خصاء رمزي، كما أن فرويد نفسه يفسره بهذا الشكل من خلال سياق الأفكار، هذا أن تصور احتفال الختان الطقسي وكأنه الدلالة على الندم المرتبط بالخطيئة الأولية حيث أنه عندما يختن الولد حتى في أيامنا هذه فإن ذكر الأب الحالي والقديم هي تطالها القداسة عن طريق هذا السلوك الرمزي، والختان يخلص الولد باكرا من حالة القلق إزاء الأب ويفتح أمامه آفاقا مبشرا، أوله الزواج الذي يدمل الجرح الحاصل في عضوه الذكري يغني الشيء نفسه بالنسبة لابنه عندما يمنحه مغفرته ليفتح له سبلا في ملذات الحياة الزوجية عندما يقوم بتزويجه، وتشمل أول الملذات الزوجية على الافتراع الذي أصبح الآن شرعيا حدثا تافها ظاهريا لكنه مفعم بالدلالة75.

هو ما يدعو إلى القول إن الطقوس الوحيدة المسموح بها هي التي تنص عليها التقاليد الدينية كطقس تقديم الضحية في العيد مثلا.

ما طرح سابقا يستلزم إقامة رابط غير مسلم به سوسيولوجيا الدين والتحليل النفسي للدين. عرفنا به «س.فرويد» بالذات 1948 بدءا من موسى والتوحيد، هذا هو الرابط الذي سنحاول إثباته في الفقرة التالية سترتسم فيه وظائف الطقوس الرمزية76.

وظائف الطقس الرمزية:

إن المقصود في هذا المنظور هو تبيان أنه مهما تكن الدوافع الاجتماعية والدينية يوجد دائما واحد سيكولوجي، لذا يجب بالضرورة أن تتوضح الدوافع السيكولوجية التي تتضمنها السلوكات الطقسية التي تنبعث فجأة في فترات الأزمة الاجتماعية.

أولا نعود إلى التحليل النفسي الذي يقترحه «إريك فروم» 1968، «الجذور السيكولوجية لمقتضى الفعل الطقسي» وهذا لنبين أن الطقس ليس في النهاية سوى تعبير رمزي عن الأفكار والمشاعر بواسطة الفعل، وقد وضح هذا البعد الرمزي للطقوس من خلال مشابهة رمزية بين طقوس الزواج وطقوس الختان في كل من الجزائر والمغرب وذلك بهدف تفسير أسباب تعميم الفعل الطقسي.

 

 

فضاء ممارسة الطب الشعبي(المأسسة) :

تعني كلمة المؤسسة في علم الاجتماع مجموعة الأحكام والقوانين الثابتة التي تحدد السلوك والعلاقات الاجتماعية في المجتمع وفي مجالات ونواحي كثيرة خلال القرن 19 نتكلم عن المؤسسة العائلية والاقتصادية والمؤسسة الثقافية والتربوية كما استعمل هذا الاصطلاح بدقة متناهية العالم الاجتماعي هربرت سبنسر في كتابه السلوك الشعبي ، فيقول بأن المؤسسة الاجتماعية وليدة الفكرة والهيكل الذي ينسجم مع إحداهما معه الآخر ولا تلبث أن تتحول إلى فرقة اجتماعية وهذا سرعان ما يتحول إلي أحكام وقوانين ثابتة تفسر طابع التركيب الاجتماعي الذي يتكون حسب آراء سبنسر من أدوار اجتماعية مترابطة وبظهور التركيب الاجتماعي تظهر المؤسسات التي هي في الحقيقة وصل بين الأدوار والتركيب إذن مؤسسة حسب آراء سبنسر هي نوع من السلوك المهذب الذي يتميز بالرقي والسيادة ويتسم بالديمومة والوعي العقلي الذي يبتعد كل البعد عن المبررات العقلية ولا يتميز بالديمومة حسب أراء سبنسر ليست نوعا معينا من السلوك أو المقاييس، وإنما هي مجموعة أعراف اجتماعية مبتورة ومتفق عليها77، ويعتبر تشارلز كولي وديفز المؤسسات بأنها مجموعة مقاييس معقدة تعتمد عليها المجتمعات في مواجهة حاجاتها الأساسية بطريقة نظامية وعقلية، فالمؤسسة الاجتماعية هي التي تنشأ أو تؤسس من قبل الدولة أو من قبل الأفراد أو من قبل الاثنين مع أي القطاع العام والقطاع الخاص، وفق القوانين والتشريعات المعمول بها، والإدخال إلى الطريقة والمريد يمر بمراحل تبدأ بدخوله إلى الطريقة حتى مرحلة الجدب وهي أعلاها .وهذه الطريقة تشترك فيها الكثير من الطرق وعدد المراحل ما يمكن قوله عن الطقوس التي رأينا أنها تشكل كلا غير متساوٍ بالطبع لكنه بكل حال كل مع التقليدية وتقتضي ممارسته أحيانا كما هو الحال في الوطن العربي.

الخاتمة:

من خلال مما سبق حاولنا التطرق إلى ظاهرة الطب التقليدي الذي لازال مستمرا منذ العصور القديمة إلى يومنا هذا فبالرغم من مختلف التطورات التي عرفها الطب خاصة من النواحي التكنولوجية، إلا أن الطب الشعبي أصبح يتميز بالاستمرارية والتطور وينافس الطب الرسمي، في ظل هيمنة الثقافة المجتمعية ومختلف التصورات المتعلقة بالقضايا الغيبية والموضوعية، أضف إلى ذلك الظروف الاقتصادية للمجتمع، فالوضع الاقتصادي يحدد بدرجة كبيرة الأساليب العلاجية المتبعة من طرف الأفراد، وفيما يخص المجتمعات العربية فالإقبال على الطب الشعبي لازال متداولا بكثرة بمختلف الأشكال سواء بالتصادم أو بالتوازي، هذا الوضع يعبر عن العمق الثقافي للظاهرة من جهة وكذلك حدود المسار التحديثي للمجتمع من جهة أخرى.

الهوامش

1. د. خولي حسن – المدينة و الريف في مجتمعات العالم الثالث – دار المعرفة، الطبعة الأولى . 1982ص32.

2. موفق الشطي ،السفر الأول من تاريخ الطب – الطبعة الأولى – دمشق، 1956 .

3. حسن الخولي ،مرجع سبق ذكره، ص 161.

4. المرجع نفسه، ص 12 .

5. موفق الشطي : مرجع سبق ذكره، ص 13 .

6. د.عباس إبراهيم: الطب الشعبي و العادات الشعبية، دار الإسكندرية، الجزء الأول، بدون سنة.

- محمد عباس ابراهيم. الأنثروبولوجيا الطبية .ج1 الثقافة والمعتقداتالشعبية.دار المعرفة الجامعية.الاسكندرية 1996. ص 182.

7. حسن الخولي: مرجع سبق ذكره، ص 45.

8. أمين رويحة : التداوي بالأعشاب، دار الأندلس، الطبعة الثانية، بدون سنة.

9. محمد الجويلي "الزعيم السياسي في الإسلامي في المخيال الإسلامي بين المقدس والمدنس"، المؤسسة الوطنية للبحث العلمي، دار سراس، تونس، د، ط، 1992، ص 18

10. المرجع نفسه، ص35 .

11. محمد عبد المعيد خان "الأساطير والخرافات عند العرب"، دار الحداثة، الطبعة3، 1981، ص 152.

12. Dictionnaire Encyclopédique "La rousse en trois volumes.", P27.

13. OTTO Rudolf : Le sacré (traduit de L'allemand par Jundt André ) payer Paris . 1998 p 27.

14. Caillois Roger : " L'homme et le sacré "Ed Gallimard . Paris .1963 p 17.

15. Ibid , p 19.

16. Durkheim " Les formes élémentaires de la vie religieuse" Alcan ,Paris 1937, p 284.

17. Joseph Chellhod : " Les structures du sacré chez les arabes" Maisonneuve .Paris.1986, p 16.

18. Voir encyclopédie universalis, Sacré, p 456.

19. نقلا عن نور الدين الزاهي "المعايير"، مجلة الفكر العربي مركز الإنماء القومي بيروت- باريس- عدد 108 – 09 - 10 - 1999، ص29.

20. Joseph cholhod ,op.cit, p17.

21. MoussaouiAbdelrahmane. "Logique du sacré et mode d’organisation de l’espace dans le sud-ouest Algérien ,Thèse de doctorat en sociologie, EHESS .Paris, 1996 ,p05.

22. Ipid, p09.

23. محمد الجوة و آخرون . الإنسان والمقدس، دار محمد على الحامي للنشر والتوزيع صفاقس، ط1، 1994، ص06.

24. العوا عادل جيب "علم الأديان وبنية الفكر الإسلامي"، منشورات عويدات، بيروت – باريس، ط2، 1989، ص 68 – 69.

25. محمدالجويلي، مرجع سبق ذكره، ص37.

26. العوا عادل جيب، مرجع سبق ذكره، ص67 .

27. محمد الجويلي، مرجع سبق ذكره، ص38 .

28. أبو حامد العزالي "إحياء علوم الدين، ج الثالث، دار الثقافة للنشر والتوزيع، طبعة1، 1991، ص365 - 366 .

29. نور الدين الزاهي "المقدس في الثقافة العربية الإسلامية" مرجع سبق ذكره، ص29 .

30. المرجع السابق، ص30.

31. قاموس المنهل فرنسي عربي دار الأدب، بيروت،دار العلم للملايين، ط9، 1987 مادة "Profane".

32. نور الدين الزاهي، مرجع سبق ذكره، ص31 .

33. إلياد مرسيا :"المقدس والمدنس" ( تر: خياط نها ) الغربي للطباعة والنشر، دمشق ط1، 1987، ص17 .

34. جيب، وعادل العوا، مرجع سبق ذكره، ص73.

35. نور الدين الزاهي، مرجع سبق ذكره، ص34 .

36. JOSEPH chelhodm, Les structures du sacré ,opcit,pp 57-58.

37. محمد الجوة، الإنسان والمقدس، مرجع سبق ذكره، ص07 .

38. نور الدين الزاهي، مرجع سبق ذكره، ص35 .

39. سورة التوبة، الآية 28 .

40. نور الدين الزاهي، مرجع سبق ذكره، ص35 .

41. العوا وعادل جيب، مرجع سبق ذكره، ص146 .

42. عطية سليمان عودة أبو عادرة"مشكلتا الوجود والمعرفة في الفكر الإسلامي"دار الحداثة للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، ط1،1985،ص228.

43. نفس المرجع، ص184 .

44. نفس المرجع، ص148 - 149 .

45. نور الدين الزاهي، مرجع سبق ذكره، ص37 .

46. المرجع السابق، ص 35 .

47. ابن خلدون عبد الرحمان" المقدمة"، دار القلم، بيروت، لبنان، ط7، 1987، ص 349 - 350.

48. م .الياد، مرجع سبق ذكره، ص28 .

49. سورة النور، آية 36 .

50. ابن مريم التلمساني،" البستان في ذكر الأولياء والعلماء بتلمسان"، ديوان المطبوعات الجامعية- الجزائر 1986- ص94.

51. م. إلياد، مرجع سبق ذكره، ص15.

52. encyclopédie ,OPCIT , pp 460.

53. م. إلياد، مرجع سبق ذكره، ص16.

54. نورالدين طوالبي،"الدين والطقوس والتغيرات"، ديوان المطبوعات الجامعية الجزائرية، منشورات عويدات ط1(1988)، ص124 .

55. نفس المرجع، ص54.

56. سورة التوبة الآية 30 .

57. العوا عادل جيب، مرجع سبق ذكره، ص07

58. محمد عبد المعيد خان، مرجع سبق ذكره، ص، ص60-59 .

59. انظر البستان، مرجع سبق ذكره، ص108.

60. العوا عادل نجيب، المرجع السابق،ص141 .

61. يمكننا تبيان الفرق بين المقدس الأليف والمتأنس الذي يرجع إلى سلوكات دينية مطابقة لمبادئ الأديان التوحيدية مثلا، المقدس الهمجي أو المغلق الذي يتحدد من الاحيائية والتي يكون فيها السحري العامل الأساسي كما أنهليس من السهل إقامة هذا التفريق بصورة دائمة إذ غالبا ما تؤذي الممارسة إلى توفيقية دينية تنصهر فيها البدعية مع التقليدية .

62. بن عتو بن عون" الدين وتجلياته في السلوك الاجتماعي للمجتمع الجزائري بعد الاستقلال" أطروحة دكتوراه، قسم علم الاجتماع، جامعة الجيلالي اليابس 2007-2008.

63. نور الدين طوالبي"الدين والطقوس والتغيرات" ديوان المطبوعات الجامعية الجزائرية منشورات عويدات، ط1، 1988ص، ص51 –52.

64. نور الدين طوالبي، مرجع سبق ذكره، ص، ص52-53.

65. المرجع السابق، ص، ص56-57 .

66. بلعربي خالد "ظاهرة زيارة الأولياء في المجتمع الجزائري" دراسة انتروبولوجية تاريخية للولي سيدي عبد الله بن منصور الحوبي رسالة لنيل شهادة ماجيستر 99/2000ص88 .

67. بن عتو بن عون "الإطار المعرفي لظاهرة التبرك" حامل بيداغوجي 2004 - 2005، ص30 .

68. نور الدين طوالبي المرجع السابق ص37 .

69. المرجع السابق، ص38 .

70. المقصود بالإحيائية هو الأديان القديمة التي كانت تعتقد بوجود روح محركة للقوى الطبيعية (الشمس، الريح، المطر) .

71. نور الدين طوالبي، مرجع سبق ذكره، ص39،40.

72. المرجع السابق،ص41، 42 .

73. نفس المرجع، ص 44.

74. الزواج في منظور"ج.ديفرو" 1965، باعتباره..."حل تسوية للصراع بين نزوات الأوديبية من جهة، والمحرمات المانعة لكل العلاقات الجنسية من جهة أخرى".

75. نور الدين طوالبي، مرجع سبق ذكره، ص45.

76. نور الدين طوالبي،مرجع سبق ذكره، ص41.

77. ميشيل دينكن :معجم علم الاجتماع، تر إحسان محمد الحسن ،ط 2، دار الطليعة، بيروت،1986، ص 127.

الصور

1. https://ic.pics.livejournal.com/tanjand/44781189/3686126/3686126_original.jpg

2. https://i.pinimg.com/564x/7e/4a/8c/7e4a8c62a6623b021176ea3d6def508c.jpg

3. https://www.crystalinks.com/egypthealing102.jpg

4. https://pmdvod.nationalgeographic.com/NG_Video/356/323/lgpost_1544561462545.jpg

5. https://sites.google.com/site/annodomini1064/_/rsrc/1455973431769/HomeSweetGnome/home/medieval-wound-treatment/Medieval-medicine.png

6. https://quatr.us/wp-content/uploads/2017/08/dentist.jpg

7. https://www.ultrasawt.com/

8. https://www.bl.uk/britishlibrary/~/media/bl/global/the%20middle%20ages/collection%20items/circular-zodiac-chart-egerton2572.jpg

 

أعداد المجلة