فصلية علمية متخصصة
رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم
العدد
47

جامع القرويين بمدينة فاس دراسة تاريخية وفنية ومعمارية

العدد 47 - ثقافة مادية
جامع القرويين بمدينة فاس دراسة تاريخية وفنية ومعمارية
كاتبة من المغرب

جامع القرويين
أهم أثر معماري ديني بمدينة فاس

تعد المساجد والجوامع بمدينة فاس من أهم الآثار المعمارية الدينية، لما تتضمنه من نقوش وزخرفة وكتابة وأساليب فنية تعكس روح العصر الذي أنشئت فيه، وأهم هذه الآثار جامع القرويين الذي يعتبر من طرف دارسي الآثار الإسلامية نموذجا أصيلا من أرقى الأشكال المعمارية الإسلامية، لذلك عدوه من أكبر المراكز الدينية بشمال إفريقيا، وقد تمكن من لعب دور رائد على المستوى الديني والثقافي والفكري، وذلك لاحتضانه جامعة تحولت إلى مركز للإشعاع الثقافي ومنبر للحضارة العربية .

1) فاطمة الفهرية وأسباب بناء جامع القرويين :

تؤكد المصادر التاريخية بأن هذا الجامع من الأعمال العمرانية التي أنجزتها إمرأة مسلمة تدعى فاطمة بنت محمد بن عبد الله القيرواني، وكان قد قدم من القيروان إلى فاس في بداية القرن الثالث الهجري. ولما توفي ترك مالا جليلا كان أساسا ماديا ساعد على إنجاز هذا المشروع المعماري الديني الذي رفع من شأن صاحبته وأبرز مساهمتها في إغناء الحضارة المغربية .

وكان لها من وراء هذا المشروع هدفان أساسيان ندرجهما كما يلي:

- هدف ديني: إيجاد فضاء للعبادة وطلبا للأجر والثواب في الآخرة، يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا1.

- هدف اجتماعي : تقريب جامع من المصلين في عدوة القرويين، الحي الناشئ بمدينة فاس، وتخفيف الضغط على جامع الأشياخ وجامع الأشراف الموجودين بنفس المدينة2.

2)الموقع وتاريخ التأسيس :

يقع الجامع وسط المدينة القديمة لفاس، أو ما يعرف بالعدوة الغربية أو عدوة القرويين، التي تنتسب إلى الوافدين عليها من القيروان في موضع كان في الأصل أرضا لعمل الخضر وفيه أشجار لرجل من هوارة كان قد حاز ذلك أبوه بوجه جائز صحيح3.

وفرت هذه القطعة الأرضية مواد البناء والمياه لتشييد الجامع «فحفرت في وسطه، فصنعت كهوفا اقتطعت منها الكذان وأخرجت منها التراب والحجر والرمـل الأصفر الطيب، فبنت به الجامع المذكور كله حتى تم، ولم تدخل فيه من تراب من غيره وحفرت البئر التي في الصحن، فكان البناؤن يسقون منها الماء لبناء الجامع المذكور المكرم حتى فرغ من بنائه»4.

ابتدأ العمل في الجامع على حد قول ابن أبي زرع وعلي الجزنائي وابن القاضي، «يوم السبت مهل شهر رمضان المعظم سنة خمس وأربعين ومائتين»5.

يوجد جامع القرويين اليوم، في موقع يعج بالمنشآت التعليمية كمدرسة الصفارين ومدرسة العطارين والمدرسة المصباحية والمدرسة البوعنانية. كما تكثر بهذا الموقع منشآت ذات منافع عامة كالحمامات والفنادق، ويفهم من هذا المحيط انه كان مركزا مهما في مدينة فاس، يستمد قوته ومكانته من جماليته المعمارية، كما يعد مرفقا حيويا في عدوة القرويين التي لاتزال تعرف بفاس البالي .

3)قراءة في التخطيط الأصلي للجامع :

يظهر من خلال النصوص العربية للعصر الوسيط، أن هذا الجامع كان في بدايته صغير الحجم، بسيط الشكل على نحو ماعرف في المساجد الإسلامية المبكرة، يتشكل من بيت الصلاة وصحن وصومعة، وقد وصفه ابن أبي زرع بأنه أربعة بلاطات وصحنا صغيرا وجعلت محرابه في موضع الثريا الكبرى الآن، وجعلت طوله من الحائط الغربي إلى الحائط الشرقي مئة وخمسين شبرا، وبنت فيه صومعة غير مرتفعة بموضع القبلة التي على رأس العنزة و اصبح الجامع يتكون من أربعة بلاطات وصحنا صغيرا6.

أقيم الجامع الأول على فضاء مستطيل تبلغ مقاييسه 30.80م في الطول و46.40 في العمق. ويتألف من أربعة بلاطات nefs وأثني عشر أسكوبا travées، وصحن صغير المساحة يوجد في نهاية قاعة الصلاة، وصومعة قليلة الارتفاع بنيت على النموذج المألوف في القرون الثلاثة الأولى للإسلام.

شهد جامع القرويين زيادات وتوسعات وإصلاحات على مر العصور، قد حاولنا سرد بعضها من خلال النصوص التاريخية والدراسات الأثرية .

4)الزيادات والتغييرات المعمارية في جامع القرويين:

بعد مضي قرن على تأسيسه، وبالضبط سنة 345هـ/ 956م قام الأمير أحمد بن أبي بكر الزناتي، وبإسهام من الأمويين، الأندلسيين بتوسيع المسجد، وأضافوا خمسة أساكيب من الشرق وأربعة من الشمال، وأصبح تخطيط الجامع في عهد دولة بني زناتة يشتمل على قاعة للصلاة تحتوي على إحدى وعشرين بلاطة، بعد أن كان اثني عشر بلاطة أيام الأدارسة، كما اشتمل على سبعة أساكيب عقودها موازية لحائط القبلة بعد أن كان يشتمل على أربعة أيام الأدارسة. كما أعادوا بناء الصومعة بالحجر وجعلوا لها بابا من جهة الجنوب وغشيت بعد ذلك بصفائح النحاس الأصفر، وجعل في أعلاها قبة صغرى ووضع في زاويتها تفافيح مموهة بالذهب تنتهي بسيف الإمام إدريس بن إدريس تبركا8.

وفي عهد المرابطين تمت توسعة الجامع مرة أخرى، بحيث زاد امتداده في كل الاتجاهات وأضيف إلى قاعة الصلاة ثلاثة بلاطات، وزين البلاط الأوسط الموازي للقبلة، كما زود المسجد بمحراب في غاية الإتقان وبنيت قباب بالجبس المقرنص الفاخر الصنعة والنقش، وركبت شماسيات زجاجية ملونة . ويقول ابن أبي زرع عن هذه الإضافات «فشرع في بناء المحراب والقبة التي عليه منقوشين بالذهب والازورد وأصناف الأصبغة، وتم ذلك على غاية الجمال والكمال، وكان يبهت الناظر إليه من حسنه ويشغل المصلين»9.

ومن زيادات المرابطين كذلك الباب الغربي الكبير الذي بسماط الموثقين، وقد بني من مال الأحباس في أيام القاضي محمد بن عيسى السبتي سنة 505هـ، وكذلك باب الشماعين أيام القاضي محمد بن داود سنة 518هـ .

كما بنوا جامع الجنائز، وزودوا بيت الصلاة بمنبر من عود ثمين، وهو حسب عبد الهادي التازي، أول تحفة في العالم الإسلامي صنعت في مدينة فاس10.

وفي القرن السابع حافظ الموحدون على التصميم العام للجامع، ومن أهم الإضافات المعمارية والزخرفية التي خصوا بها الجامع الخصة الحسناء، وهي الخصة الأولى التي اكتسبها صحن جامع القرويين، وتتكون من بلية مستطيلة من رخام. وقد بنيت سنة 599هـ على يد موسى بن حسن بن أبي شامة، وكان من أهل الهندسة والمعرفة بالبناء وكان الذي أنفق فيها ماله الفقيه المبارك أبو الحسن السلجماسي11. كما شيد الموحدون مستودع (خزينة) بالركن الشرقي الشمالي للجامع. كما جهزوا الجامع بثريات من نحاس كان البعض منها في الأصل نواقيس جلبت كغنائم من الأندلس.

ولما جاء المرينيون إلى الحكم، قاموا بترميم الجامع، فأصلح السلطان يعقوب بن عبد الحق الحائط الشرقي مع سقف البلاطين المتصلين به سنة 682هـ.

وجاء يوسف بن يعقوب، فأصلح الحائط الجوفي، ورمم المئذنة وكساها بالجبس، وسمرها بالمسامير لتثبيت بنائها، وكان القائم على هذه الإصلاحات القاضي أبا عبد الله ابن أبي الصـبر12.

كما أقام السلطان المريني يوسف بن يعقوب عنزة، وهي عبارة عن حاجز يحمي واجهة بين الصلاة على الصحن، وكان كل ذلك في حدود سنة 689هـ .

وزود أبو الحسن المريني الجامع بناقوس علق بالبلاط الأوسط، وعنه يقول الجزنائي « وزينه فيما يذكر الدين جلبوه عشرة قناطير بأسفله أوصال، وكل ذلك بالنحاس الأصفر المنقوش بالصناعة المحكمة»13. أما أبو عنان فقد أضاف خزانة للكتب وخزانة للمصاحف وذلك سنة 750هـ .

ولما جاء السعديون وجهوا عناياتهم الى الصحن، فبنوا الخصة الشرقية سنة 996 هـ ويقول اليفرني، اعتمادا على المنتقى المقصور، أن المنصور في سنة ست و تسعين و تسعمائة بعث الخصة العظيمة لجامع القرويين مع كرسي من المرمر14.

كما أنشئت خصة أخرى سنة 1018 ه في الجانب الغربي من الصحن زمن عبد الله الشيخ، وعن هذا يقول الناصري،«ومن آثار عبد الله الشيخ القبة التي على الخصة الكائنة أسفل المنارة والتي بوسط صحن جامع القرويين فإنه لم يكن في القديم، إلا الخصة المقابلة لها شرقي الجامع المذكور»15.

أما المغالطة الكبرى فهي التي يوردها كل من هنري سترلن Henri Stierlin جون هوج John D. Hoag وهما يصفان صحن القرويين، فقد نسبا القبتين الموجودتين بالصحن إلى عبد الله الشيخ مابين 1613 - 1624.

ولم يغفل السعدييون الاعتناء بجامعة الجامع فقد زودوها بخزانة جديدة، وحبسوا عليها الكتب والمخطوطات لطلبة العلم.

ومع الملوك العلويين عرف الجامع مزيدا من الاهتمام والإصلاحات والزيادات في جوانبه الفنية، كصيانة الثريا الكبرى في عهد المولى إسماعيل، وإضافة الساعات الشمسية في عهد الحسن الأول وتجديد القبتين في عهد المولى يوسف، ووضع مصابيح أمام أبواب الجامع في عهد الملك الحسن الثاني، وترميم الجامع في عهد محمد السادس وبالضبط سنة 2006م.

 

 

جامع القرويين:

الخصوصيات المعمارية والسمات الفنية

1) عمارة المسجد الحالية :

يكون جامع القرويين وملحقاته مجمعا معماريا تقدر مساحته حسب التازي بـ(5846م2). مما يجعل منه الجامع الأعظم بمدينة فاس.

للجامع تصميم غير متوازن في تقسيمه وذلك راجع لكثرة الترميمات والزيادات التي طرأت عليه من قبل الدول التي تعاقبت على حكم المغرب .

فضاء المبنى الداخلي للجامع ينقسم إلى قسمين:

- قسم مسقوف وهو بيت الصلاة.

- قسم مكشوف وهو الصحن .

- قاعة الصلاة :

وتتخذ شكل مستطيل (3668م2)، وتتوفر على عشر أساكيب وإحدى وعشرين بلاطات موازية للقبلة، شأن المساجد المبكرة بالشرق وسوريا بمسجد دمشق وبعلبك، ومصر في مسجد ابن طولون، ولاشك أن نظام العقود الموازية كان أوفق للعبادة بمساعدة المصلين على تنظيم صفوفهم كما يرى جورج مارسي Georges Marcais. 

صفوف هذه القاعة متفاوتة المقاييس، ويتميز الصف المحاذي لجدران القبلة بمقاييس كبرى، وهو أهم عنصر معماري وزخرفي بهذه القاعة. والاهتمام بالرواق المحوري خاصية ظهرت في قرطبة ونقلها المرابطون إلى فاس وتلمسان، تم من بعدهم الموحدون إلى مسجد الكتبية، وهي من أهم مميزات العمارة الدينية المرابطية.

تتخلل هذه القاعة أعمدة اسطوانية ودعائم مربعة الشكل مبنية بالأجر، تتميز بقصرها وجمودها. عقود هذه الدعائم والأعمدة من النوع المتجاوز كامل الاستدارة، أو ما يسمى بالعقود الحدوية المتجاوزة arcs en fer à cheval outrepassés، وكذلك العقود المتعددة الفصوص arcs polylobés، وهي عقود ميزت العمارة المغربية القرطبية بشكل خاص في عهد الحكم في النصف الثاني للقرن الرابع الهجري .

وفي نهاية بيت الصلاة يقع المحراب، وهو عبارة عن حنية مجوفة متعددة الأضلاع، تعلوه قبة زاهية مغطاة بالجبس ومكسوة بزخارف نباتية وكتابية ومحمولة على سويرتين من رخام، تعلوهما تيجان رشيقة من نفس المادة . وفتح المحراب بقوس متجاوز ومحاط بزخارف منقوشة على الجبس، تحتل فيها الأشكال النباتية والهندسية والخطية مكانة راجحة.توج الكل بثلاثة أقواس مزخرفة يتوسطهما قوس عرف باسم المقرنص20.

كللت هذه الزخارف بشماسيات أو نوافذ من الجبس المعشق بالزجاج الملون، لايتعدى علوها 60.0م، ويغلب عليها الأزرق والأحمر والأخضر والأصفر .

ملئت المساحة العالية من جدار القبلة بمقرنصات جبسية، أدت وظيفة جمالية وزخرفية.

ويعتقد بعض مؤرخي العمارة الإسلامية وفنونها أن واجهة المحراب بتفاصيلها المعمارية والفنية تعود إلى ترميمات عرفها المسجد في القرن الثامن عشر21.

وتتميز البلاطة المحورية nef axiale في هذه القاعة بقبابها التي تعد نماذج رائعة من القباب في العمارة الإسلامية المغربية. ولعل وجودها في هذا الجامع كانت الغاية منه إضفاء جو إيماني مهيب .

تقوم هذه القباب على قواعد مربعة أو مستطيلة، محمولة على سواري وهي إما قباب مقرنصة coupoles à mouqarnas أو قباب مضلعة coupoles nervées.

كل قبة تحمل إفريزا، يلهم الناظر بفضل النقوش والزخارف التي تزينه، من رسوم هندسية وتفريعات نباتية وكتابات كوفية ونسخية بالجبس المنقوش بدقة متناهية23 كما تغطي هذه القاعة سقوف هرمية ذات هياكل ظاهرة سقفت بالقراميد.

ومن أجمل الأثاث في هذه القاعة، المنبر الذي يشكل تحفة فنية وأثرية، ولذلك يعده الأثريون والباحثون من أجمل وأقدم المنابر الأثرية، صنع من خشب أسود صلب يدعى الأبنوس ébène قلما استعمل. ويرى هنري طيراس Henri Terrasse أن منبر مسجد علي بن يوسف بمراكش (1120م) ومنبر القرويين (1144م) قد صنعا بقرطبة24.

وضع المنبر المتحرك بجانب المحراب، يبلغ ارتفاعه60.3 م وعرضه 91.0 م ويحتوي على تسع درجات وهو مرصع بالعاج.

ولقد أبدع المرابطون في زخرفته التي قوامها أطباق نجمية وزخارف نباتية .

وفي هذا المنبر افريزات مطعمة بالعاج، تزينها آيات قرآنية بالخط الكوفي والنسـخي.

كما تتوفر هذه القاعة على مقصـورة من خشـب الأرز، أنشئت سنة 722هـ موافـق 1322م .

نصبت وسط هذه القاعة ثريات مختلفة الصناعات والمصادر، وينقل لنا الحسن الوزان بعض التفاصيل عن إنارة قاعة الصلاة في عصره، قال «وفي الصف المكون من أقواس الوسط بالأخص التي تؤدي إلى المحراب، فيه وحده مائة وخمسون مصباحا، وهناك ثريات عديدة من البرونز في كل واحدة منها ألف وخمسين مائة مصباح، صنعت من نواقيس بعض المدن المسيحية التي فتحها ملوك فاس»25.

-الصحن:

لقد أجمع دارسو الآثار الإسلامية على أن صحن جامع القرويين يعد تحفة خالدة بهندسته المعمارية وفنون زخرفته، وهو عبارة عن ساحة مكشوفة وفسيحة، لكنها تبقى أصغر من صحون الشرق، وتتخذ شكل شبه مستطيل barlong، وتحيط به أربعة أروقة أكبرها أروقة القبلة، وتحتوي هذه الأروقة على عقود نصف دائرية متجاوزة رفعت على ركائز ضخمة. جعل في أرض هذا الصحن والنصف الأسفل من جدرانه مربـعات مـن الخـزف ( الزليج).

أول ما يثير الانتباه في هذا الصحن الجناحان والخصة الوسطى المخصصة للوضوء.

الخصة الوسطى تتوسط الساحة وهي مستطيلة الشكل مبنية بالرخام تتوسطها فسقية أسطوانية من رخام، وقد وصفها لنا الحميري في كتابه الروض المعطار قائلا: صنع بجوف جامع القرويين سقاية متقنة البناء ومياه جارية، مع عتبة الباب الجوفي، وفوارة مرتفعة نصف قامة داخل الصحن26 وحسب المعاينة الميدانية، فهذه الخصة في صورتها الحالية تعود إلى العهد العلوي.

أما الجناحان فيتقابلان في طرفي الصحن، لهما تصميم معماري فريد في المغرب مقتبس من الأندلس ويذكر بساحة الأسود بغرناطة.

وخلافا للزخرفة المرابطية والموحدية التي انحصرت جماليتها في المحراب وفي قباب قاعة الصلاة، فإن الزخرفة السعدية تبدو كثيفة على القبتين وتشكل أجمل إبداعات المسجد .

تتميز القبتان بثراء فني يجمع بين التشبيك الهندسي والزخرفة النباتية والزخرفة الكتابية على الجبس وعلى الخشب. وفتحات القبتين عبارة عن أقواس منقوشة متعرجة يتوسطها قوس مقرنص، وتزينها من الداخل تلبيسة من الزليج، يعلوها إفريز يحمل كتابات وأقواسا عمياء من الشكل النصف الدائري القليل الانكسار. مجموع القبتين مسقوف بهيكل هرمي.

ولا تختلف القبتان إلا في تيجانهما اللذين يعلوان سواري رشيقة، فالقبة التي تقع في الواجهة المقابلة للصومعة تحمل تيجان كورنيتية بينما القبة التي تقابلها، زينت بتيجان صقيلة ذات الطابع المغربي الأندلسي. وتحتوي كل قبة على مكان من الرخام مخصص للوضوء.

وفي هذا الصحن نشاهد العنزة أو المحراب الإضافي، وقد صنع زمن أبي يعقوب يوسف (685هـ - 706هـ) موافق (1328م - 1306م) على يد الفقيه الخطيب قاضي الجماعة وخطيبها محمد بن أيوب( أبي الصبر)، أيام ولايته القضاء بمدينة فاس وأنفق فيها من مال الأحباس، وابتدأ العمل فيها عام (687 هـ - 1288م). وفرغ من عملها وركبت في موضعها عام (689هـ - 1290م)27.

تتميز هذه العنزة بثراء زخارفها وفنون نحتها، فهي مصنوعة من قطع خشبية زينت بمضلعات مفرغة، تأخذ شكلا هندسيا مستطيلا أو مربعا من خلالها تصل أشعة الشمس إلى قاعة الصلاة متسللة من تخريمات المضلعات. وتنفتح في جانبي هذه العنزة أبواب ذات مقاييس صغيرة.

تعلو هذه العنزة واجهة منقوشة من الجبس الملون تغلب عليها الصفة التزينية المفرطة. تتوج هذه الواجهة صفوف من العقود: الأول عقد حدوي مكسور، والثاني عقد مفصص، والثالث عقد مقرنص، والرابع عقد متجاوز، وهي محمولة فوق ركائز متينة . حليت الواجهة بأشكال نباتية تتضمن وريقات تشبه أنصاف المراوح النخيلية والصنوبريات والزهيرات والرصيعات، وتحيط بها أفاريز جصية تحمل كتابات وتقوم بتحديد إطارات العنزة.

وتوجد في أعلى الواجهة زخرفة من المقرنصات الجبصية، تذكر بابتكار المرابطين بالمغرب، ينتهي الكل في القمة بشواف مسقف بالقرميد الأخضر .

وللإشارة، فقد تعرضت هذه العنزة إلى ترميمات في عهد السلطان المولى إسماعيل والسلطان سيدي محمد بن عبد الرحمن.

2) الصومعة:

يجمع الباحثون والمهتمون بالعمارة الإسلامية على أنها أقدم صومعة في المغرب، وقد كانت قدوة لسائر المآذن المغربية ويعتبر تخطيط الصومعة المربعة وهو الشكل الغالب على مآذن مساجد الغرب الإسلامي مثالا أوليا تاريخيا، حذا حذوه البناؤن اللاحقون، بحيث لم تعرف صومعة أخرى، قائمة على نحو ذلك التخطيط في المغرب العربي سابقة على صومعة القرويين،غير صومعة المسجد الجامع بالقيروان والتي تعتبر مصدر اشتقاق صومعة القرويين حسب عثمان إسماعيل28.

ولا تزال الصومعة محافظة على شكلها منذ القرن الرابع الهجري، بالرغم من التعديلات التي طرأت عليها، ويرى المعماري مطلسي Metlassi أن «هذه التغييرات شوهت شكلها الداخلي»، ويضيف «ثم إن هذه الصومعة بنيت من دون تصميم»29.

بينما يرى الباحث في الفنون الإسلامية ريكار Ricard أن الصومعة لها مقاييس مضبوطة 27 شبرا في القاعدة أي ما يعادل 40.5 م، وعلوها 108 شبرا أي 60.21 م معادلة لمحيط القاعدة وهذه المقاييس مطابقة لقواعد الهندسة30 أما سمك جدرانها فلا يتجاوز 1م. بنيت الصومعة في مجملها بالحجارة المغطاة بالجير الأبيض .

تتكون هذه الصومعة من جزئين :

- الجزء الأعظم وينتهي بإفريز أفقي يتكون من مجموعة من الشرفات المسننة.

- المنور Lanternon أو ما يسمى بالعامية المغربية العزري أو الفحل، وينتهي بقبة اسطوانية الشكل coupole sphérique.

وعلى واجهة الصومعة توجد فتحات ذات أقواس متجاوزة، وفتحات صغيرة مستطيلة الشكل لإدخال الضوء إلى الداخل.

نصعد إلى الصومعة من جهة الجنوب، عبر باب ضيق، مغشى بالنحاس، فتحته عقد نصف دائري منكسر، وتتخلل هذه الفتحة عناصر زخرفية على شكل مقرنصات وعناصر هندسية ونباتية وخطية، ويحدها إطار مستطيل يحيط به إفريز تزينه الكتابات المنقوشة على الجبس التي تحمل تاريخ تأسيسها 344هـ - 345هـ.

ينفد هذا الباب إلى درج حلزوني يدور حول القاعدة المربعة.

للصومعة غرفة للمؤذن، أضيفت إلى الجامع عام 688هـ، زمن أبي يعقوب يوسف المريني.

3) مصلى الجنائز:

استنادا إلى أعمال الباحث موريس ماسلوMaslow Moris حول مساجد فاس وشمال المغرب، فإن المساجد المغربية عرفت مصليات الجنائز منذ الفترة المرابطية31.

ويؤكد الأستاذ التازي أن أقدم جامع للجنائز في المغرب هو الذي يوجد بجامع القرويين وقد خططه «القاضي ابن معيشة عبد الحق سنة 537هـ»32.

وإذا كانت مصليات الجنائز في المساجد أكثر بساطة ولا تتميز بأي عنصر معماري مهم، فإن مصلى الجنائز في القرويين عبارة عن غرفة منحرفة الشكل، تتخذ شكل بيت الصلاة تنتظم في مخطط يتكون من بلاطة تشبه البلاطة المحورية لبيت الصلاة بالجامع. وتتكون من رواق مسقوف يرتكز على أقواس تحمل نقوشا خطية تعلوه قبة مربعة القاعدة و مقربصة ذات أقواس، تستند على سواري ذات تيجان من المرمر. وأهم ما يميز هذه القاعة أو مصلى الجنائز من الناحية الفنية احتواؤها على خصوصيات فنية أولها :

- استعمال القوس المتعرج أو المزين بالزهور الثلاثي الفصوص l’arc à festons trilobés والعقود الثلاثية الفصوص نادرة في العمارة المغربية33، وقد ظهرت في عهد المرابطين في هذه القاعة لأول مرة34. 

- استعمال الشكل الملفوف أو الثعباني serpentiforme، وهو نظام زخرفي معماري يحمل منابت العقود استعمل مابين القرن الحادي عشر والقـرن الرابع عشر35. وقد ظهر هذا العقد عند الفاطميين في ضريح أم كلثوم وفي باب زويلة Zuwayla بالقاهرة سنـة 109م. وفي القيروان بقلعة بني حماد في القرن الحادي عشر،و كذلك استعمله المسلمون في اسبانيا في قصر الجعفرية في سرقسطة، ثم عندما صقل أخذه المرابطون واستخدموه في تلمسان والقرويين، ثم الموحدون في (باب الاودايا وباب الرواح) من بعدهم36. 

ويحتفظ جامع الجنائز ببابه الذي لم يعرف تعديلات، ويتكون من مصا ريع مكسوة بصفائح من البرونز، تعتبر أقدم ما وصل إلينا في ميدان الصناعة البرونزية المعدة للعمارة في العالم المغربي الأندلسي على حد تعبير الأستاذ توري37.

شيدت هذه القاعة المخصصة لاستقبال نعوش الموتى خلف جدار المحراب .

4) الخزانة:

كان صرح القرويين مسجد اجامعا ومن البديهي أن يضم هذا الصرح خزانة كتب للقراء والطلبة.

أنشأت الخزانة من طرف السلطان أبي عنان المريني سنة 750هـ، وكانت موضع عناية الملوك والمحسنين الذين حبسوا عليها نفائس، وأوقفوا عليها مصنفات وأصدروا ظهائر بإصلاحها والعناية بشؤونها، وتضم محتوياتها أجزاء من كتاب العبر لابن خلدون، ونسخة نادرة من كتاب البيان والتحصيل لابن رشد على رق الغزال ونسخة من مختصر أبي مصعب38.

تقع هذه الخزانة خلف قبلة المسجد، وهي فضاء شبه مربع (50.5م)(50.5م). ما يميز هذه القاعة قبتها ذات فتوحات على هيئة عقدين توأمين حدوية مكسورة39.

يمكن الدخول إلى الخزانة من مدخل فوق المستودع الموحدي السالف الذكر .

5) أبواب الجامع:

يتوفر جامع القرويين على أبواب استطاع الصناع والحرفيون أن يتفننوا في كل جزء من أجزائها، وكل عنصر استعملوه كالمطرقة النحاسية والمسامير الكبيرة الموزعة... وجعلوا من بعضها تحفا ظلت محطة انتباه من حيث ضخامتها وتنوعها .

للمسجد 18 بابا وهي مداخل متفاوتة المقاييس، وتتميز بمصاريع مكسوة بصفائح برونزية، وحسب الأستاذ التازي، فإن أقدم باب عرف للقرويين هو باب الحفاة باب الموثقين وباب الشماعين وباب الوراقين، وباب الأولياء الغربي وباب الصفر الأعلى، وباب الخلفاء، وباب مجلس القضاة، وباب الفرخة، وباب الحدودي وباب الخلوة وباب الصالحين الشرقي، وباب ابن حيون، وباب ابن عمر، وباب الساباط، وباب الخصة والباب الأصغر، وباب الصفر الشمالي40.

6) مواد البناء والتزييــن :

اتسم الطابع العام لجامع القرويين قبل العصر المرابطي بالبساطة في البناء. فقد اعتمد في بنائه في بداية الأمر، على المواد المتوفرة في عين المكان .ونظرا لكثرة الزيادات والترميمات التي عرفها الجامع، فقد تنوعت مواد بنائه وتزيينه.

ونجمل هذه المواد فـيما يلي:

- الطابيــــة:

عرف المغرب استعمال هذه التقنية في عملية البناء منذ الفترات الرومانية41. والطابية هي مادة البناء الرئيسية في أكثر مناطق مدن المغرب وخاصة مراكش ومكناس وفاس والصويرة وتافيلالت. والطابية تراب مدكوك مخلوط بالكلس والمصبوبين في قوالب خشبية، يلخص لنا ابن خلدون الطابية وتقنية البناء بها بقوله «ومنها البناء بالتراب خاصة، يتخذ لها لوحان من الخشب مقدران طولا وعرضا، فينصبان على أساس وقد بوعد ما بينهما، يوصل بينهما أدرع من الخشب، ثم يوضع فيه التراب مخلطا بالكلس، ويركز بالمراكز المعدة حتى ينعم ركزه وتختلط أجزاؤه. ثم يزاد التراب ثانيا وثالثا، إلى أن يمتلئ ذلك الخلاء بين اللوحتين، ثم يعاد نصب اللوحين، إلى أن ينتظم الحائط كله ملتحما كأنه قطعة واحدة ويسمى الطابية وصانعه الطواب42.

-الآجــــــــر :

وهو الطين المشوي، وهو من أقدم المواد التي استعملت في البنايات سواء في فاس أو في باقي المدن الداخلية كمكناس ومراكش.

تتوفر مدينة فاس على أرضية طينية تصلح لإنتاج الآجر، ونظرا لقلة الحجر فيها، فقد وظف الآجر بكثرة في البنايات الدينية (مسجد الأندلس) لإقامة الأعمدة والأقواس.

يصنع الآجر من الطين المذاب والموضوع في قوالب، تتراوح قياساتها من 20 سنتمتر إلى 25 سنتمتر طولا، ومن 10 سنتمر إلى 12 سنتمتر عرضا، بينما يتراوح سمكها من 3 إلى 5 سنتمتر، تجفف بالشمس، وتشوى في النار لصنع الآجر43.

وظف الآجر في جامع القرويين في السواري والدعامات والقباب والأقواس، وفي بناء بعض الجدران وفرش الأرضيات، وقد استعمل مشويا مشدودا بعضه إلى بعض بملاط الرمل والجير، أو مغطى بالخزف المطلي ليصبح أكثر صلابة ومقاومة .

وقد أحصى ابن أبي زرع عدد الآجر الذي استعمل في فرش الصحن زمن المرابطين والمعروف باسم البجماط، أو كما عرفه نفس المؤرخ بأنه نصف آجرة في الطول . ويقول «وكان جملة ما دخله من الأجر لفرشة أربعة وأربعين ألف آجرة لأن طول الصحن احد عشر قوسا، في القوس الواحد من القبلة إلى الجوف عشرون صفا في كل صـف مئتا آجرة . فيتحمل في كل قوس أربعة ألآلف آجرة ويتحمل في أحد عشر قوسا أربع وأربعون ألف آجرة. وحول طرد دائر فيه ثمانية آلاف آجرة فيجتمع في الجميع كله اثنان وخمسون ألف آجرة دون شك ولا ريب»44.

-الحجــارة :

شكلت الحجارة إحدى العناصر الأساسية في بناء هذه المعلمة، إذا استخدم أولا ما سماه الجزنائي وابن أبي رزع بالكذان pierre calcaire، وهو نوع من الحجارة البيضاء يستعمل في بناء الجدران، وقد استعمل هذا النوع من الحجارة في شمال إفريقيا منذ الفترة الرومانية.

يقول ابن أبي زرع عن استخراجه«وكذلك الكذان الذي بنيت به، إنما قطع منها، لأنه حفر في وسط البلاط الثاني، فظهر كهف بعيد الغور. فكان الفعلة يقطعون الكذان منه ويحفرون التراب ويخرجه الرجال على رؤوسهم للبنائين فيبنون به»45.

استغل الأدارسة طبيعة أرض الموقع، فاستعملوا الحجارة التي به (الكذان) في الجدران الخارجية والداخلية وهذه الجدران غطيت بالملاط الذي يطلى بالجير.

وفي القرن الرابع، استعمل الزناتيون الحجارة المتوسطة الحجم في بناء الصومعة التي ماتزال تحتفظ بمتانتها.

-الزليـــج :

وهو عبارة عن قطع من الخزف تستعمل لتبليط البنايات، وقد تفنن المغاربة في صناعة الزليج وزخرفوه ولونوه وبلطت به الأرض والجدران في المنازل والرياض وغيرها.

شاع استعمال الزليج في بداية القرن الرابع عشر إبان الفترة المرينية، واستعمل لتزيين جدران وأرضية المدارس والصوامع والأعمدة.

كانت أرض الجامع في البداية من الدص التقليدي، وهي أرضية ملساء مكونة من الرمل والجير، عرفت في العمارة المغربية منذ القرن الثاني عشر، وبعد ظهور الزليج فيما بعد، غطيت به جدران وأرضية الصحن والجناحان وبعض الدعامات واستعملت فيه الألوان الزرقاء والبيضاء بكثرة، وأدخلت فيه أشكال هندسية كالمربع والمعين والمسدس والمثمن والأشكال المتعددة الزوايا المعقدة46.

-الرخــــام:

وهو نوع من الحجارة الناعمة يكون أبيض أوملونا، وقد عرفته العمارة المغربية منذ الفترات الرومانية ( شلا وليلي )، وهو مادة متينة استعملت للبناء والزخرفة، استعمل الرخام في الجامع بأشكال وأحجام متفاوتة، فنجده في غاية الإتقان في السواري داخل قاعة الصلاة وفي مؤخر القبة الموالية للصومعة، وفي الفسقية والصهريج والخصة والقبة الغربية، وهو رخام جلب من إيطاليا وخاصة في عهد الدولة السعدية، حيث شاع استعماله بكثرة لأنها كانت تشتري الرخام من النصارى بالسكر.

-الجبس:

الجبس مادة تصنع من الجير والماء، استعمل المغاربة الجبس لتلبيس الجدران وكوسيلة تزينيه لتغطية الدعامات والمحاريب. وقد استعمله المغاربة منذ القرن الثالث عشر . وقد تحدث ابن خلدون في مقدمته عن طريقة تحضيره سواء للتلبيس أو للتشكيل والنقش بقوله: «يحل الكلس ويخمر أسبوعا أو أسبوعين على قدرما يعتدل مزاجه عن إفراط النارية المفسدة للإلحام، فإذا تم له ما يرضاه من ذلك علاه من فوق الحائط وذلك إلى أن يلتحم. كما يصنع الأشكال المجسمة من الجبس يخمر بالماء، ثم يرجع جسدا وفيه بقية البلل فيشكل على التناسب تخريما بمثاقب الحديد»47.

استعمل الجبس في الجامع لتزيين الجدران والإطارات والأفاريز الجبسية، وواجهة المحراب وواجهة العنزة والشماسيات.

- القرمــــيد :

وهو نوع من الآجر. وقد استعمل في العمارة المغربية بشكل عام، يغطي سقوف المساجد والأضرحة والقباب والمنارات. واستعمل كذلك في حلقات الدور التقليدية ذات الصحون المكشوفة، وفي جامع القرويين استعمل لتغطية السقوف السنامية أو المنحدرة وفي القباب.

وضع القرميد في البناء على شكل مقعرات مغطاة بطلاء أخضر اللون لصرف ماء المطر.ويفيدنا ابن أبي زرع، بإحصاء لعدد القرميد المستعمل في الجامع في القرن الرابع عشر بقوله «وعدد القرمود الذي في سقف الجامع المكرم، أربعمائة ألف قرميد وسبعة وستون ألف قرمودة وثلاثمائة قرمودة»48.

- الخشـــب:

نظرا لوفرة الأشجار بجبال المغرب وفي ناحية فاس، فقد استعمل خشبه بأنواعه في جامع القرويين. ويعتبر شجر الأرز من أكثر أنواع الخشب تداولا في هذه المعلمة، فنجده في العنزة وفي النوافذ والأفاريز والسقوف.

كما ساهم الحرفيون في جامع القرويين في إنجاز بعض الأعمال الخشبية التي بحق انجازا فنيا وتحفا نادرة، وخاصة المنبر والأبواب والمشربيات. فالمنبر صنع من شجر الأبنوس، وهو خشب ثمين قليل الاستعمال، وقد أدخل عليه هؤلاء الحرفيون الخط والرسم وطعموه بالعاج. أما مصاريع الأبواب فقد صنعت من خشب وغشيت بصفائح من النحاس الأصفر وزينت بمسامير حديدية. «وركبت عليه أبواب عظيمة»49.

كما نجد الخشب المخروط في المشربيات، وقوام هذه الطريقة تجميع قطع صغيرة من الخشب المخروط على أشكال بها فتحات.

7) أنواع الزخرفة:

لقد تعددت أنواع وأشكال وألوان الزخرفة في جامع القرويين، وهي كلها مستمدة من الموروث الحرفي الذي يتميز به العالم الإسلامي والمغرب خاصة، كالنقش على الجبس والحجر والخشب والبرونز.

طبقت الزخرفة الهندسية والنباتية والخطية على الجدران والأسقف والأقواس.

وتجدر الإشارة إلى أن بداية هذه الزخرفة تعود إلى العهد المرابطي الذي اتسم بالإبداع في صنع القباب ووضع الأقواس وكتابة الخطوط. تم فيما بعد إلى صناع وفناني الدول المتعاقبة، الذين وظفوا أشكال متنوعة سابقة عليهم وابتكروا أخرى، وخلقوا جوهرة العمارة المغربية «جامع القرويين».

-الزخرفة الهندسية:

يتكون هذا النوع من الزخرفة من رسوم هندسية منبثقة عن أشكال أساسية متماثلة، لتشكل شبكة من الخطوط والأشرطة والمضلعات والمربعات والمثلثات.

ومن أكثر الزخارف الهندسية التي لاحظنها في جامع القرويين:

- الأطباق وتحتل البلاطات الجدارية الخزفية (الزليج) والأعمال الخشـــــبية (المنبر). وتتعدد أشكال الأطباق النجمية بحسب عدد أطرافها، فمنها طبق نجمي ثمانية، وستة عشر، وأربعة وعشرون وتتألف من شكل رئيسي دائري مسنن الأطراف على هيئة نجمة، ويشكل مركز الطبق النجمي وتتولد فيه أعداد لامتناهية من النجيمات.

- الشكل الرباعي أو المربع البسيط، خاصة في الإطارات وتنفذ فيه خطوط أو رصيعة، ونجده في واجهة المحراب وواجهة العنزة.

- المعين، وقد نفذ في الخزف والجبس ونجده في أرضية الصحن، وركنيات واجهة العنزة.

ومن أكثر المضلعات استعمالا في الجامع نجد المستطيل والمثمن والمربع والخماسي الزوايا، وقد أحيطت هذه المضلعات بالقبب أو بالواجهات.

وتجدر الإشارة أن هناك عنصرا هندسيا استعمل في أحدى قباب قاعة الصلاة ،وهو تضليعة تتخذ شكل ضلع زخرفية مقعرة بارزةles godrons في الزخرفة الهندسية50.

-الزخرفـة النباتية :

وهي عبارة عن أشكال نباتية، تشهد على براعة الفن الاسباني المغربي المنجز من طرف مزخرفين وضعوها بمقدار وقواعد دقيقة، ونمنمة متقنة على الرغم مما قد يظهر من تعقيد في خطوطها .

تتشكل الزخرفة النباتية في المعلمة من عناصر متداخلة مع بعضها، ومزدوجة ومتكررة تاركة فراغات قليلة، ينبعث منها إحساس بالحركة والتعاقب والإيقاع. كما أن بعضها يغطي مساحات متفاوتة القياسات51. زودت هذه الأشكال بألوان ناصحة، وضعت بمهارة في الأرضية الخلفية للزخرفة.

وأهم هذه الأشكال:

- السعف les feuilles de palmier تجمع بين السعف البسيط والمزدوجة والمتراكبة والمتكررة، وتتحكم في زخرفة الركنيات والمأطورات .

- السعيفات les palmettes الحلزونية الشكل والمتداخلة والغير متناسقة، ترافقها في بعض الأحيان نماذج هلالية تزين الواجهات ( واجهة العنزة ) .

- زهرة الأكانتس l’acanthe أو أقنثة ونجدها في حنيات القباب، كما نجدها في تزيين الكوابيل .

- الصدفيات ومنها البسيطة والمضلعة les coquilles cannelées ونجدها في ركنيات العقود والقباب.

- جوز الصنوبر les cônes ونجده في القبب.

تلتحق الرسومات النباتية بالأشكال الزخرفية الأخرى، وقد نفذت على الخشب وعلى الجبس.

-الزخرفة الكتابية:

تنفرد العمارة الإسلامية دون سائر عمارة الحضارات بعنصر زخرفي وهو الخط العربي، الذي يعد عملا إبداعيا ينطوي على مقاييس وقيم جمالية، كما يعد أداة للزخرفة في مجال صناعة الفن الإسلامي.

ولقد شكل الخط العربي في جامع القرويين ( الكوفي والنسخي )52، عملا فنيا من خلال الخطوط والحروف، فقد استعمل لأغراض وغايات منها:

- تقديم نصوص وآيات قرآنية معبرة عن رموز.

- توثيق وتسجيل تواريخ وأسماء وأقوال.

- تزويد الجامع بإشارات جمالية تزيد من رونقه وتبرز مكانته في مدينة فاس.

وضعت الزخرفة الكتابية في الجامع في أرضية منقوشة بالجبس أو بالخشب أو بالحجر، ورتبت في مأطورات وأفاريز وداخل الأقواس . ويتضح من خلال شكلها أنها خطوط وضعت في فترات مختلفة .

ويتجسد الخط العربي في عدة عناصر معمارية بجامع القرويين، فنجده في قاعة الصلاة،و في القباب، وفي المحراب،و في الثريات، وفي المنبر، وفي أفاريز الصحن، وفي العنزة وفي حيطان الأروقة ...

ونجد نوعين من الخطوط العربية : الخط النسخي والخط الكوفي .

- الخط النسخي: وقد اتسم بالبساطة والليونة وجاءت حروفه مدورة، ويعتبر خط الثلث والمجوهر من أشهر أنواع الخطوط المتأصلة في الخط النسخي، وقد وجدت بشكل مكثف بالجامع .

- الخط الكوفي: وقد تميز بالثبات في حروفه المستقيمة والمتصلة، وقد تنوع بين الكوفي القائم الزوايا والكوفي المربع والكوفي المورق المزخرف.

وندرج بعض النقائش الخطية الموجودة بالجامع.

نصوص بالخط النسخي :

- بسم الله الرحمن الرحيم .

- صلى الله على محمد وعلى آله .

- ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها.

- العز لله.

- آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه...

نصوص بالخط الكوفي:

- وقل ربي أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق.

- توكلت على الله.

- حسبي الله.

- ومن يتق الله يجعل له مخرجا.

- «إن ربكم الله خلق السموات والأرض في ستة أيام»

- أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.

- الله نور السموات والأرض.

- يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد.

كما تجدر الإشارة أن هناك مجموعة من الخطوط المكتوبة بالحروف اللاتينية توجد في الثريات التي كانت في الأصل نواقيس53.

قراءة في النقائش الخطية

من خلال تفحصنا للنقوش الخطية يمكن أن تستخلص مايلي :

- طغيان الخط الكوفي.

- إن هذه الخطوط لاتخلو من أصالة استمدت عناصرها من الكتابة الكلاسيكية .

- التميز بالنعومة والخشونة والتكامل الفني الناتج عن التوزيع الإيقاعي .

- عدم الانسجام في بعض الأحيان في حجم خطوطها خلو بعض الحروف من الدقة والإتقان.

- إدماج أساليب الخط مع الزخارف كالتوريق والتشجير.

خاتمـــــــة

بعد تطرقنا لمحاور الموضوع، ننتهي بخلاصتين :

- الخلاصة الأولى: هي أن جامع القرويين، معلمة دينية شاهدة على ما بلغه فن العمارة المغربية الإسلامية من ازدهار ورقي في كل عصر من العصور التي مرت بها. فقد جمعت بين مواد البناء التقليدية وبين الزخرفة الهندسية والنباتية والكتابية، التي نفذت على الزليج والجبس والخشب والبرونز.

- الخلاصة الثانية: هي أن هذه المعلمة من آثار البنائين والحرفيين، وجهودهم في مجال العمارة، شاهدة على ما قدموه من إنجازات في صرح الحضارة العربية الإسلامية.

 

الهوامش

1. على ابن أبي زرع الفاسي، الأنيس المطرب بروض القرطاس في أخبار ملوك المغرب وتاريخ مدينة فاس، دار المنصور للطباعة والوراقة، الرباط 1972 م، ص. 54 .

2. جامع الأشياخ هو الجامع العتيق بفاس، بناه الإمام إدريس عام 193هـ /809م بعدوة الأندلس، وأقام به الخطبة إلى أن نقلت إلى جامع الأندلس سنة 321هـ/933 م .أما جامع الشرفاء فهو الذي يوجد بعدوة القرويين، وقد تأسس السنة التي تأسس فيها جامع الأشياخ ( انظر ابن ابي زرع، نفس المصدر ص 38. ) .

3. ابن القاضي المكناسي، جذوة الاقتباس في ذكر من حل من الإعلام بمدينة فاس، دار المنصور للطباعة والوراقة، الرباط، 1973، ص 52.

4. ابن أبي زرع ،نفس المصدر، ص 54- ص55 .

5. نفسه ص 54، ابن القاضي نفس المصدر ص 52، وعلي الجزنائي، جني زهرة ألآس في بناء مدينة فاس، تحقيق عبد الوهاب بن منصور، المطبعة الملكية، الرباط، 1991، ص 45 .

6. ابن أبي زرع، نفس المصدر، ص 55.

7. Mohamed Metlassi , Fès , La ville Essentielle. ACR. 2003, p. 168.

8. الجزنائي، نفس المصدر، ص .47.

9. ابن أبي زرع نفس المصدر، ص. 61.

10. عبد الهادي التازي، جامع القرويين، المسجد والجامعة بمدينة فاس، دار الكتاب اللبناني، بيروت 1972 ج I، ص. 75 .

11. ابن أبي زرع، نفس المصدر، ص .64.

12. الجزنائي، نفس المصدر، ص .54، وابن أبي زرع، نفس المصدر، ص 57 .

13. الجزنائي نفس المصدر، ص 75-76.

14. محمد الصغير الافراني، نزهة الحادي بأخبار ملوك القرن الحادي، تحقيق هوداس 1888،ص 160 .

15. أحمد بن خالد الناصري، الاستقصا لأخبار المغرب الأقصى، دار الكتاب، الدار البيضاء، 1955 ج6 ص ص 59-60 .

16. John D.Hoag, Architecture Islamique, Paris, 1982, p104 et Henri Stierlin, Architecture de l’Islam, office du livre, Fribourg, Suisse 1979, p. 183

17. عبد الهادي التازي، جامعة القرويين، الجزء 1/1989، دار النشر المغربية، الدار البيضاء، ص45 .

18. Metlassi, op; cit, p .182

19. Georges Marçais, L’Architecture musulmane d’Occident, Arts et Métiers graphiques, Paris, 1959, p., 197.

20. المقرنص: عنصر معماري يشبه خلايا النحل، يؤدي وظيفة معمارية وزخرفية.

21. Hoag ,op. cit., p . 104

22. 22)- Lucien Golvin, Essai sur L’architecture Musulmane. Edition, Klincksiek, Paris, 1970, p., 113 et p. 157.

23. تذكر بعض الدراسات التي تناولت جامع القرويين، أن هذه الزخارف غطيت بالورق والجبس لطمس معالمها، وقد أزيلت في أواسط القرن العشرين على يد مدير المباني التاريخية بالمغرب، هنري طيراس Henri Terrasse انظر هوج Hoag المرجع السابق، ص 103، وعبد الهادي التازي، جامع القرويين، المسجد والجامعة بمدينة فاس، ج3، ص ص .654-655 .

24. 104 Hoag, op., cit., p.

25. الحسن الوزان، وصف إفريقيا، منشورات الجمعية المغربية للتأليف والترجمة والنشر، الرباط 1980، ص 177.

26. عبد المنعم الحميري، الروض المعطار في خبر الأقطار، مطابع هيد لبرغ بيروت 1984، ص 434 - 435.

27. ابن أبي زرع، نفس المصدر، ص 65.

28. عثمان عثمان إسماعيل، تاريخ العمارة الإسلامية والفنون التطبيقية بالمغرب الأقصى، الهلال العربية للطباعة والنشر، الرباط، 1992، ص 268..

29. Metlassi, op , cit., p., 180 .

30. Ricard, P . Pour comprendre l’art musulman dans l’Afrique du jNord et en Espagne, Librairie Hachette, Paris 1924, p. 200.

31. Maslow Boris, Les mosquées de Fès et du Nord du Maroc. P., de l’Institut des Hautes Etudes Marocaines, TXX, Paris 1937, p 140

32. عبد الهادي التازي، جامع القرويين، ج1 ص 74.

33. عبد الرحيم غالب، موسوعة العمارة الإسلامية،جروس بريس بيروت 1988، ص 281.

34. Maslow,op.cit., p., 140.

35. Ricard P, op.cit., p ., 163

36. Georges Marcais, op .,cité, p., 232 fig. 50à51, et Lucien Golvin, op. cit., p,. 98.

37. عبد العزيزرتوري،«مادة باب». معلمة المغرب ج 3،1991 ص. 945-949

38. أحمد شوقي بنبين، مادة «مكتبة». معلمة المغرب، ج 21، 2005، ص 7240.

39. Georges Marcais, op. cit., p.,200.

40. عبد الهادي التازي، نفس المرجع ،ج 1 ، ص 90-98

41. انظر مقال:

- Maurice Lenoir,  l’architecture de terre dans le Maroc antique

- VIIIe. Av.J.C.-Ve s .ap.,J .-C.

- ضمن ندوة « المعمار المبني بالتراب في حوض البحر الأبيض المتوسط، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط 1999، ص 71 - 91 .

42. ابن خلدون، المقدمة، دار الرائد العربي، بيروت، 1982، ص ص 407 - 408.

43. Ricard. P. , op. cit., p. 91

44. ابن أبي زرع، نفس المصدر ص 63.

45. نفس المصدر، ص61 .

46. Metlassi .M., op. cit , p. 180.

47. ابن خلدون، نفس المصدر، ص 408 .

48. ابن أبي زرع، نفس المصدر، ص. 66

49. نفسه ص. 60، الجزنائي، نفس المصدر ص .65، وابن القاضي، نفس المصدر، ص66 - 67.

50. Terrasse Henri, La mosquée al- Qarawiyin à Fès, Archéologie Méditerranéenne, III, Klincksieck,Paris 1968, p. 35 et Golvin L. op. cit., p., 157.

51. Jean- Marc Castéra, Arabesque , Art décoratif au Maroc , A.C.R, édition, 1996, p p., 54-55.

52. للمزيد من المعلومات عن المنقوشات الكتابية بجامع القرويين انظر:

- Terrasse Henri, op., cit وعبد الهادي التازي، نفس المرجع، أيضا الحاج موسى عوني، فن المنقوشات الكتابية في الغرب الإسلامي، مؤسسة الملك عبد العزيز، الدار البيضاء. 2010.

53. انظر، عبد الهادي التازي، نفس المرجع ج3 ص. 546.

الصور

1. https://www.algardenia.com/images/sampledata/Korawyen.Jm.jpg

2. https://upload.wikimedia.org/wikipedia/commons/5/51/Al-Karaouine_University%28js%29.jpg

3. https://images.squarespace-cdn.com/content/56c13cc00442627a08632989/1470097153334-MGGM419DR8VA4VZ9Z584/collegemosque?content-type=image%2Fjpeg

4. https://www.fotoartbook.com/wp-content/files/2018/09/1be0b875643740c48d5db06376e21a4d-660x330.jpg

5. https://upload.wikimedia.org/wikipedia/commons/7/74/University_of_Al_Qaraouiyine.jpg

أعداد المجلة