فصلية علمية متخصصة
رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم
العدد
47

نحن والزمان/الوقت من خلال أمثالنا مقاربة أنتروبولوجية للأمثال الشعبية الجزائرية

العدد 47 - أدب شعبي
نحن والزمان/الوقت من خلال أمثالنا مقاربة أنتروبولوجية للأمثال الشعبية الجزائرية
كاتب من الجزائر

الزمان هو التجربة الأكثر حميمية، ذلك أن الإنسان يحمله بين جنباته كإيقاع داخلي، ويخضع لتدفقه، وفي إطاره يتشكل فعله الحضاري. فالزمان يرتبط بصميم الحياة الإنسانية والوجود البشري.

وقد شعر الإنسان بأهميته في حياته منذ ظهوره على الأرض، من خلال تجارب مختلفة وملاحظات متنوعة كتعاقب الليل والنهار وتتابع الفصول الأربعة، وتجربة الموت والحياة والطفولة والشباب والشيخوخة، وغير ذلك من الظواهر الزمنية. والتجربة الزمانية الأصلية اصطبغت بمختلف التصورات و المعتقدات التي تشكلت عبر مراحل تاريخ تطور الفكر البشري، ولذلك فإن الشكل الذي يتصور به الزمان ويدرك يختلف باختلاف الثقافات والمجتمعات وبحسب التطور العلمي والتقني لهذه الأخيرة، ولذلك نجد التصور الدائري يسود في المجتمعات التقليدية حيث يهيمن الماضي، بينما المجتمعات الصناعية المتقدمة تتصور الزمان تصورا خطيا، يتجه سهمه دوما نحو المستقبل. نحن العرب أدركنا الزمان منذ القدم على أنه قوة مبيدة غاشمة ومتسلطة هي الدهر. ولكن ما هو التصور الذي يسود عندنا اليوم؟ وكيف نتعامل مع الزمان؟ وكيف ننظمه ونديره؟ ذاك ما تحاول في هذه المقالة اكتشافه معتمدين منهجية تقوم على اتخاذ المثل الشعبي كمدخل للدراسة. وذلك لما يتميز به الجنس الأدبي من خصائص كالإيجاز والبلاغة والحمولة التراثية، بالإضافة إلى أنه يعبر تعبيرا صادقا عن المجتمع بسيئاته وحسناته. والمثل لا يخلو منه أي مجتمع وهو يلعب دورا تربوا وتوجيهيا لسلوك الأفراد. وقد اخترت الأمثال الجزائرية كعينة للدراسة إلى جانب أمثال عربية أخرى مشابهة في مجتمعات عربية أخرى. وأعتقد أن هذه العينة بإمكانها أن تسمح لنا بتعميم الأحكام التي توصلنا على كافة المجتمعات العربية بحكم التشابه في المستويات العلمية والاقتصادية والتكنولوجية لهذه الأخيرة.

وقد اعتمدنا في تحليلنا على بعض الدراسات الاجتماعية والأنتروبولوجية التي تناولت موضوع الزمان سواء في المجتمع الجزائري أو مجتمعات أخرى، وكان المنهج المقارن هو الأسلوب الذي اتخذناه سبيلا لنا في الكشف عن العقلانية الزمانية في مجتماتنا العربية، محاولين الإجابة عن إشكالية كبيرة هي: هل تشكلت لدينا ثقافة الوقت التي هي نتاج المجتمع الغربي وحضارته الصناعية والتكنولوجية؟

الأمثال: مفهومها وخصائصها ووظائفها: الأمثال أقوال مختزلة ومقتضبة لمفاهيم تخص مختلف حالات تعامل الفرد، ولا سيما مع الفرد الآخر. وهي مفردات لا تؤلف بحد ذاتها منظومة . فالفرد ينتقي من هذه الأقوال حسب الظروف وحالة التعامل، وعن طريقها يتمكن من تنظيم سلوكيات التعامل، وخاصة تلك المتوافقة مع متطلبات التضامن الاجتماعي1.

لقد ظهرت الأمثال في المجتمع البدائي كنمط فكري في تنظيم سلوكيات تعامل الأفراد، وانتقلت من ثم إلى المجتمعات اللاحقة. فهي تمثل تجربة الإنسان مع بيئته وأقرانه، لذا فهي تعبر عن مشاعر وأخلاق وضروب تفكير الجماعة التي ابتكرتها وسخرتها من أجل تنظيم سلوكيات الأفراد. فهي إذن وليدة التجربة الإنسانية في المجتمع. وبسبب بساطتها وبلاغة أسلوبها يستحسنها الناس شكلا ومضمونا.

وظهور المثل يرتبط بحدث معين في معيش الجماعة أو القبيلة أو كتجربة لفرد معين، تتكرر بشكل معين فيجري التعبير عنها بمثل سائر يغدو مرجعية في مخيلة الجماعة. وتمثل الأمثال صورا لأحداث ولعلاقات مرغوبة ومفضلة، أو فاسدة ومؤذية. فتنتظم هذه الصور في المخيال الجمعي بموجب هاتين المقولتين: الأولى تدعم سلوكيات تعامل يؤمن التضامن الاجتماعي وإدامته بينما الأخرى تصور السلوكيات التي تمزق المجتمع وتفسده. ولذا فهي تؤلف صورا مكروهة يتعين نبذها.

والأمثال الشعبية لا يكاد يخلو منها مجتمع، فهي دائما موجودة وإن بدرجات متفاوتة حسب حجم التطور والتقدم الفكري والعلمي.

وللمثل صفات وخصائص تؤهله للدور الذي يلعبه في حياة الجماعة. فهي أولا صيغ مختصرة وبليغة وقصيرة. وهي بعد ذلك قول له دلالة تناقض دلالة أخرى، من دون أن يؤدي هذا التناقض إلى إبطال الدلالتين، أو تعارضهما. لأن المثل إنما ينتقى للمناسبة أو الحالة التي يرغب الفرد في أن يصفها أو يعبر عنها أو يؤكدها ويبررها. ولها خاصية أخرى تتمثل في حدة القول وفتنته، والتي تمثل الناحية الجمالية في المثل. والمثل بعد ذلك يرجع إلى التجربة الجماعية ولذلك فإن دلالته فعالة على الصعيد الشعبي.

أما بالنسبة للوظيفة أو الوظائف التي يضطلع بها المثل فهي متعددة منها: إزالة شكوك فرد ما تجاه سلوك معين، ولذلك فهي تبرر هذا السلوك. كما أنه وسيلة تسلي عن المآسي والفواجع وتخفف من وقعها على نفسية الجماعة. وللأمثال وظيفة تربوية وتوجيهية، فهي أقوال تتضمن حكما سارية تعلم للفرد يلجأ إليها وقت الحاجة في شتى صنوف الحياة ومجالاتها. يقول عنها عبد الرحمان التكريتي: «فأمثال كل أمة خلاصة تجاربها، ومستودع خبراتها، ومنال حكمتها، ومنار ذاكرتها، ومرجع عاداتها، وسجل وقائعها، وترجمان أحوالها، ومصدر تراثها، ومتنفس أحزانها، ومتحكم منازعاتها، فهي مرآة الأمة، تعكس واقعها الفكري والاجتماعي بصفاء ووضوح»2. ويقول عنها ديمقريطس الفيلسوف اليوناني «المثل ظل العمل»3 كما يقول عنها جاك فاردي «كل مثل هو بدرجات متفاوتة حامل لقيم المجتمع، وهذا أحد الأسباب التي تجعله ينتقى بواسطة التقليد لجعله جزءا من الذاكرة المشتركة للجماعة. إن المثل يحمل جزءا من معايير الجماعة، وقيمه، وقوة التقاليد، ومثل الأجداد، وصورة المجتمع المثالي تعطى للفرد بواسطة المثل»4.

الزمان بين الدلالتين العلمية والعامية

إلى جانب الدلالة العلمية للزمان التي تتمثل في السنين والشهور والأيام والساعات وهي معروفة للجميع ، حتى بالنسبة للأطفال، هناك دلالة شعبية وجدنا الأمثال الشعبية تكرسها وهذه الدلالة هي التي تهمنا هنا وهي التي تتضمنها كلمة الزْمان، فهذا الأخير يعني الشر والفاقة والظروف القاسية. ولهذا ليس من الغريب أن يتم تشبيه الإنسان السيئ الحظ بالزْمان. ولقد وقع في سمعي هذه العبارات «داير كِالزْمان» «هو مثل الزمان»، «وَجْهُة اكْحَلْ كِالزمان» «وجهه أسود مثل الزمان»، وهذا يعني أن الزْمان شيء قبيح وسيئ وهو مجمع الشرور، وهذا المعنى الذي يشخصن الزمان أو يؤنسن الزمان فيلحق به صفات قبيحة نلفيه في هذه الأمثال الشعبية الجزائرية:

- «الله لا يغلَّب علينا لا زْمان ولا رجال»

- «الزْمان غدَّار وْكْسَرني من ذراعي، طيَّحت اللي كان سلطان وركَّبت من كان راعي».

- «أربعة يا إنسان ما فيهم أمان: المْراَة والسلطان والبحر والزْمان».

- «اللي ما يَقْرَا للزمان عقوبة على وجهو يْجي مكبوب».

- «لا تَدٍّيش المْراَة المعْفونَة تتعاون هي والزمان عليك».

وهناك أمثال شعبية تونسية مشابهة لها:

- «أنا وانت والزمان طويل».

- «الدهر فراق والزمان لحاق».

- «ما يعجبك في الدهر أو الزمان كان طوله».

- «الرجال والزمان ما فيهم أمان»5.

الزْمان في هذه الأمثال وما يدل عليه من أسماء أخرى كالدهر والأيام يتم تصوره على أنه غير مأمون الغوائل ولا يخلو من الشرور، ومن التسلط على الإنسان؛ ذلك أنه كثير التقلب والتغير ولذلك يجري تشبيهه بالسلطان وبالمرأة لأن السلطان قد ينقلب ويتحول، والمرأة كذلك قد تخون من أحبت وتتحول عنه، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فالمرأة المعفونة أي الوسخة تمثل شرا قد ينضاف إلى شر الزمان.

ولا شك أن هذه النظرة المزدوجة للزمان؛ إذ هو شر بالنسبة للبعض، وخير بالنسبة للآخر، هي استمرار لذلك التصور الذي ساد في الجاهلية قبل الإسلام وعبر عنه الشعراء أحسن تعبير، وهو تصور ينم عن نوع من العجز أمام هذه القوة العاتية التي هي الدهر6، وقد جاء الإسلام مصححا هذه النظرة.

وهكذا فإننا إزاء معان كمية ومجردة للزمان أو الوقت من جهة، ومعان كيفية وشخصية إذا أخذناه بالتسمية العامية «الزْمان» من جهة أخرى، ويبدو لي أن الإتنولوجيين الغربيين وقع تركيزهم على هذه الناحية الأخيرة فقط. فديبارميه الإتنولوجي الفرنسي ذهب إلى القول في بداية القرن العشرين أن مفهوم الزمان لدى الشعب الجزائري مفهوم مشخص ولا يمثل اللحظة الهاربة، أي اللحظة المنقضية ولا هو قوة مبيدة، بل يتصور لدى أهالي المتيجة في الجزائر وهذا اعتمادا على حكاية شعبية بطلها الزمان والسعد والحظ، ولذلك يجري تصوره بوجهين، فهو إما مصدر للشرور وإما مصدر للمِنَح والخيرات والسعادة، أي إنه يكون مع هذا وضد ذلك، وهذا بخلاف السّعد الذي يمثل دائما الحظ السعيد. فالزمان له دلالة سلبية مقابل الدلالة الإيجابية دائما للسعد، وهذا ما توضحه عبارة «هذه المرأة هي زمانه» بمعنى سوء طالع بالنسبة له، يقول ديبارميه7.

قيمة الزمان / الوقت

إن مفهوم الزمان وتصوره يحدد المواقف منه المثمنة والمستغلة له، أو تلك التي لا تعرف قيمته وتبدده، ويكفي برهانا على هذا أن المجتمعات البدائية لم تكن في حاجة إلى قياس الوقت وحسابه لأنه لم يكن لديها إدراك أصلا للزمان كمفهوم مجرد، فالزمان يعاش في هذه المجتمعات كتجربة حية من خلال الخضوع لتعاقب الليل والنهار، أو تغيرات القمر وحركة الشمس، وتغيرات الفصول وكذلك من خلال الاستجابة للإيقاعات الداخلية أو ما يسمى الزمان البيولوجي الذي يتحكم في الأفعال الطبيعية مثل النوم والأكل. ولذلك فإن الإنسان البدائي والتقليدي محكوم بإيقاعات طبيعية تتكرر بانتظام وهذا بخلاف الإنسان في المجتمعات الحديثة التي تتمتع ثقافتها وحياتها الاجتماعية بدرجة عالية من التعقيد فتنشأ الحاجة الملحة إلى تنظيم الوقت وضبطه.

ولا شك أن المجتمع الجزائري الذي يخوض حداثته يندرج ضمن المجتمعات الحديثة هذا إذا انطلقنا من المؤشرات التي تميز المجتمع الحديث عن المجتمع التقليدي في مختلف مناحي الحياة ومستوياتها، فإذا ركزنا على الجانب التكنولوجي فإن الجزائر تمتلك اليوم من الوسائل التقنية ما يمكنها من قياس الوقت وتوفيره. فإذا لم يكن هناك ساعات في بداية القرن كما أخبر بذلك ديبارميه فإن هذه الأدوات اليوم هي بأيدي أطفالنا، علاوة على الجداول الزمنية ووسائل توفيره مثل الطائرة والسيارة والتلفزيون والهاتف والفاكس والإنترنيت، وكلها وسائل تختزل المسافات وتقلص الزمان، وتخلق نوعا من التأني في الحصول على المعلومات رغم بعد المسافات وتساعد في إجراء المعاملات الاقتصادية في أزمنة ضيقة جدا. إن توفر كل هذه الوسائل وبالتالي هذا الجانب المادي من الثقافة يفرض التساؤل إن كان ذلك قد خلق ثقافة الوقت لدى الإنسان الجزائري، ونقصد بعبارة ثقافة الوقت سلوك الأفراد تجاه الوقت باعتباره موردا نادرا ينبغي الحفاظ عليه واستغلاله وتنظيمه وإدارته وتقسيمه وربحه. وهذا التساؤل مشروع بالنظر إلى ثقافة الوقت السائدة في المجتمعات الغربية القائمة على القول المأثور لبنيامين فرانكلين «الوقت مال». هذه الثقافة التي تكرسها أيضا بعض الأمثال مثل: « اليوم يمتلكه من يستيقظ باكرا» و«لا تؤجل عمل اليوم إلى الغد» هذان المثلان تقول عنهما سيمونيتا تابوني: «يشجعان الفعالية الخاصة بالمجتمعات الصناعية»8.

ولمعالجة هذا التساؤل وبالتالي معالجة البعد الذي نحن بصدده وهو قيمة الوقت، يمكننا أن نقسمه إلى بعدين فرعيين:

«الأول يتعلق بندرة الوقت والثاني بتضييع الوقت».

ندرة الوقت سمة أساسية تميز التصور الغربي للزمان، فهو يمثل عملة نادرة وعنصرا ثمينا، إنه مال وهذا التطابق بين الزمن والمال يجعل في الإمكان إنفاقه وتوفيره أو إهداره وتبذيره كما هو الحال بالنسبة للنقود. وهذه الأهمية الكبيرة للزمان هي المسؤولة عن خلق الشعور بضغطه وبعدم توفره.

وكون الوقت مالا أو أكثر من مال لا يجهله الفاعلون الاجتماعيون عندنا، والدليل على ذلك هذه الأمثال التي وجدناها تتردد على ألسنة الجزائريين:

- «الوقت من ذهب»

- «الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك».

- "Time is money" - «الوقت مال».

- «الوقت كالذهب إن لم تحافظ عليه ذهب».

- الوقت هو الحياة والاستغناء عنه يساوي الممات».

- "Le temps c’est la vie" - «الوقت هو الحياة».

قلنا سابقا إن الأمثال الشعبية والأقوال السائرة لا تخلو من توجيه للسلوك وتكريس للقيم، وقد حاول ماكس فيبر الربط بين الموعظة الروحية والأخلاقية وبين الرأسمالية القائمة على منطق المنفعة والربح. فهذا النظام الاقتصادي يرتد بقيمه في نظره إلى الأخلاق البروتستانتية التي تمثل نصيحة فرانلكين: «الوقت مال»، التعبير الأكمل عنها9. وإذا عدنا إلى الأمثال فإننا نجد المقولة نفسها تتكرر على لسان الجزائري: الوقت من ذهب، الوقت هو الأموال، الوقت مال بالإنجليزية، ومن الملاحظ أننا لا نعدم في تراثنا العربي الأقوال والأمثال التي تعطي أهمية خاصة للوقت والفاعل الجزائري على دراية بها. وهكذا فإننا لا نعدم الأقوال والأمثال التي تؤكد على قيمة الوقت والتي تتعدى كونه مالا أو ذهبا أو سيفا، إذ هو فوق ذلك بأهمية الحياة أو هو الحياة نفسها. ولو انطلقنا من الحياة اليومية للجزائري فإننا لا نجد كبير فرق بينه وبين الإنسان الغربي. فهذا الأخير نظرا لهيمنة مبدأ الإنتاج والمردودية صار شغله الشاغل هو عمله أولا وقبل كل شيء، بحيث تحول العمل فاعلية محورية على أساسها يتم تنظيم مختلف الفاعليات اليومية أو الأوقات الاجتماعية الأخرى، وخاصة الوقت الحر الذي لم تتحدد قيمته ومفهومه وغاياته إلا لكونه نشاطا محررا من التزامات العمل وتعويضا بعد العناء والجهد المبذول10. فنحن إذن إزاء وقت محوري وأوقات اجتماعية تدور حولها، ينبغي تنظيمها والوفاء بما تفرضه من التزامات، ولذلك وجد الإنسان الغربي نفسه موزعا بين تلك الأوقات وطبيعي والحال هذه أن لا يجد الوقت الكافي لتحقيق كل تلك الالتزامات والواجبات، ويصير عندئذ الوقت عملة نادرة وموردا ثمينا لا ينبغي تبديده وإهداره.

وفي المجتمع الجزائري نجد أيضا تعددية في الزمن الاجتماعي، فهناك وقت للعمل من جهة، العمل في المصنع وفي الورشة، وفي الإدارة والمؤسسة التربوية والتعليمية، وفي الحقل والمزرعة... وهذا يعني أن غالبية الجزائريين لم يعودوا فلاحين، ومعلوم أن وقت الفلاح لا مجال فيه للحديث عن تمايز بين الأوقات الاجتماعية، إذ عمل الفلاح يختلط فيه الترفيه والالتزام العائلي.

هكذا فإن الحياة اليومية للفاعل الجزائري لا تختلف من الناحية المبدئية عن حياة الفاعل الغربي من حيث تعددية الأزمنة الاجتماعية، فهناك وقت للعمل وآخر للترفيه، ووقت للوفاء بالالتزامات العائلية، ووقت شخصي أيضا. ويحق لنا عندئذ علاوة على الأقوال والأمثال التي رأيناها في أهمية الوقت أن نتساءل: هل الفاعل الجزائري يشعر هو أيضا بندرة الوقت وما يترتب على هذا الشعور من هوس بالوقت؟ وهل هو يحول تلك المعرفة بأهمية الوقت التي تتضمنها أمثاله وأقواله إلى ممارسة؟

إن أهمية الوقت أو الزمن لدى الفاعل الجزائري يمكن اختبارها على مستوى دلالة الموعد التي يمكن أن نبحثها من خلال ثلاثة أوجه.

الدلالة الاجتماعية للموعد

ثمة ارتباط بين كلمة وعد وموعد لأن كليهما ينبغي الوفاء بهما، وضرورة الوفاء بالوعد من الأمور التي أكدت عليها الثقافة الشعبية. يقول المثل الشعبي: «الراجل بالكلمة» ويقول المثل التونسي أيضا «الراجل على كلمته»، ومن الواضح أننا هنا أمام تلازم بين مفهوم الوعد أو الكلمة وبين مفهوم الرجولة، فهذه الخصلة مشروطة بخصلة أخرى هي الوفاء بالوعد، فالوفاء بالوعد هو معيار الرجولة التي هي ضد الأنوثة وبين الرجولة والأنوثة تناقض يغذيه المتخيل الشعبي، تترتب عنه نتائج أخلاقية واجتماعية وحقوقية ونفسية، فحينما يكون الرجل مقابلا للمرأة يصبح هو الحر والأقوى، وصاحب السلطة والاحترام، أما الأنثى فهي الأضعف وهي المقيدة والخاضعة المطيعة.

وحينما تتحول الرجولة معيارا فإن القيمة التي تعطى للوعد والموعد تصبح اجتماعية، إذ هي أساس التمييز بين الرجل والمرأة كفئتين اجتماعيتين متمايزتين في مجتمع تهيمن فيه الثقافة الذكورية.

الدلالة الأخلاقية

ينطوي الوعد/الموعد على دلالة أخلاقية أيضا، ذلك أن الأمر يتعلق بعلاقة تنشأ بين الواعد، بمفهومه الواسع فردا كان أو جماعة أو مؤسسة والموعود، لن تكون سوى علاقة شرف، وقد بين بيار بورديو في إطار تحليله للمجتمع الجزائري كيف أن مفهوم الشرف يتحكم في العلاقات الاجتماعية، بل هو يحكم أيضا الفكر الاقتصادي السائد في المجتمع التقليدي الذي يتعارض تماما مع مفاهيم الاقتصاد الرأسمالي. فالوعد في هذا المجتمع التقليدي بمثابة دين، يقول المثل الشعبي: «اللي خرجت من الفم تسمى دين» وهذا المعنى يؤكده المثل التونسي «الوعد دين»، والدَيْن في المجتمع التقليدي لا يخضع لآليات التسديد في المجتمع الرأسمالي بل يتحكم فيه مفهوم الشرف.

الدلالة الدينية

وثمة دلالة أخرى علاوة على الدلالتين الاجتماعية والأخلاقية هي الدلالة الدينية، فالوفاء بالوعد يندرج ضمن دائرة الإيمان، يقول المثل الشعبي: «المؤمنين عند أقوالها»، فالوفاء بالوعد من صفات الإيمان وعدم الوفاء به يخرج صاحبه من الإيمان ويدخله دائرة النفاق والمنافقين، يقول الحديث: «آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان»11. ولقد كان الإسلام حريصا على الوفاء بالعهود والوعود.

إن هذه الدلالات للموعد الوعد في الثقافة الشعبية المغذية بالدين تقابلها الدلالة الاقتصادية في الثقافة الغربية، فاحترام المواعيد وتقديسها هو سمة الثقافة الأمريكية أحادية التوقيت التي تقوم على أساس المدة والتقييم باعتبارهما علامتين رسميتين تميزان الزمان الرسمي في الولايات المتحدة، ولهذا يتم تقديس الوقت لأنه يمثل حقيقة ملموسة يجب تقديرها وتثمينها، وإخضاعه لعملية تخطيط دقيقة بحيث لا شيء يترك للاتفاق والصدفة كل شيء يرتبط بتوقيت معد سلفا، لا يجب التقدم أو التأخر عنه لأن الوقت كما قلنا صار معادلا للمال، وهذا هو منطق الإنتاج الصناعي الذي حول الوقت إلى ثروة12.

وهكذا يصير التقدير للوقت وللمواعيد اقتصاديا، ويتحول المعيار ماديا يدل أن يكون أخلاقيا أو اجتماعيا أو دينيا، وعندئذ يقاس الموعد بالخسارة أو الربح، وليس بالرجولة والشرف والإيمان أو بفقدان هذه الصفات.

ولذلك فإننا حين نقابل بين دلالة المواعيد في ثقافتنا وبين تلك التي توجد في الثقافة الغربية ربما نفهم لماذا لا تحترم المواعيد عندنا في الغالب، لأنه ما دامت سلطة الضمير والمعيار الأخلاقي هي السائدة في غياب صرامة القانون المعاقب على الإخلال بالالتزام والعقد ومنطق الشرف هو الذي يحكم العلاقات بين الأفراد، فإن الإخلال يكون واردا دائما؛ ذلك أن سلطة الضمير قد تضعف وتتضعضع وقوة الإيمان قد تفتر، بل والرجولة قد تفقد ولهذا نسمع اليوم هذه العبارة: «ما بْقاتش الكلمة» وبالتالي لم يبق الرجال. وقد لاحظ إدوارد هول الأنتروبولوجي الأمريكي أن في النسق الزمني المتعدد التوقيت الذي تتميز به ثقافات العالم العربي يكون التشديد حول التزامات الأفراد وإنجاز العقد بدلا من الارتباط بتوقيت معد سلفا، وفيه لا تؤخذ المواعيد بجدية، وبالتالي غالبا ما لا تحترم أو تلغى. فاحترام الموعد إذن يتوقف على مدى الالتزام الأخلاقي للفرد وليس على صرامة الجدول الزمني.

التأخر والانتظار:

الحديث عن المواعيد لدى الفاعلين الجزائريين يقودنا إلى ضرورة الحديث عن التأخر والانتظار كفاصلين زمنيين عن الموعد المحدد.

والانتظار فعل يرتبط دائما بحادث مستقبلي سواء كان محددا أو غير محدد، فانتظار وسيلة نقل مثلا أو حضور طبيب... في موعد محدد يندرج ضمن حادث محدد، ولهذا فإن هذا الانتظار مشبع بالزمان القابل للقياس، للتخلص من ضجره يقوم الإنسان بأفعال معينة تمضية للوقت، فقد يقرأ كتابا أو يتجاذب أطراف الحديث مع أحدهم، ولكن قد ننتظر حدوث شيء غير متوقع وغير قابل للتقدير الزمني. وفي كل الأحوال يتضمن الانتظار مشاعر القلق، وكما يقول مينكوفسكي «الانتظار هو دائما انتظارٌ قلقٌ»13.

ولا شك أن الانتظار يتضاعف ويزداد في حالة تأخير المواعيد، أما وقد صار مألوفا لدينا انتظار القطار الذي لم يأت في موعده، والطائرة، والحافلة...والمدير، والطبيب، والأستاذ...فما هو موقف الجزائري من الانتظار؟

من الملاحظ أننا هنا أمام موقف سائد هو الصبر والاستسلام وإن كان هناك بعض التذمر ورفض للوضع القائم، والواقع أن هذا الموقف الأخير هو ما نلاحظه كثيرا أو هو الموقف المألوف لدى الجزائريين، غير أن هذا الموقف ينبغي أن يجابه بالصبر لأن الصبر مفتاح الفرج كما أجاب أحدهم. إن هذا الموقف يرتبط في العادة بمثل شعبي يتردد على ألسنة الجزائريين والعرب أيضا في الحالات التي لا يتمكن فيها الفرد من الوصول في الموعد المحدد لأسباب قاهرة أو غير قاهرة على حد سواء، كأن يتأخر عن موعد انطلاق قطار أو أي وسيلة نقل أخرى، أو فوات الالتقاء بشخص مهم وغير ذلك، هذا المثل يذكر بصيغ مختلفة:

- «كل تأخيرة فيها خيرة»

- «كل توخيرة فيها خيرة»

- «كل عطلة فيها خير»

- «كل تعطيلة فيها خير»

إن هذا المثل يقوم على فكرة أن كل تأخر لا يخلو من الخير، طبعا الخير لا يستطيع الإنسان أن يحدده بنفسه فذلك مما يتجاوز القدرة البشرية. فما نكرهه قد يكون فيه الخير الكثير واللامتوقع وما نحبه قد ينطوي على ما يسوؤنا ويضرنا، ولذلك فإن هذا المثل لا يخلو من طابع توجيهي وتربوي.

وفي كتابه «أين يكمن الخطأ؟» تحدث برنارد لويس عن مسالة البعد والوقت والحداثة في العالم الإسلامي، والحداثة كما يذهب ابتدأت وهي نفسها مفهوم جديد وحديث، بالساعة وجدول المواعيد، التقويم والبرنامج، وهي أدواتها التي شاع قبولها على أوسع نطاق في كل المعمورة وضمنها الشرق الأوسط إلى درجة إغفال أصلها العربي. لكن ما يحاول تأكيده هو التعارض بين الإسلام والحداثة، فبلاد المسلمين فقدت الريادة الحضارية أمام التفوق الغربي، ومن مظاهر التخلف الذي يعاني منه العالم الإسلامي والذي يبدو فيه الصدام بين الإسلام والحداثة عدم احترام المواعيد والوفاء بها. ولتبيان ذلك يختتم فصله بكلمات للكاتب الفرنسي جورج ديهامال Georges Duahamel الذي تجول في الشرق الأوسط في العام 1947: «قمت بجهود مخلصة ولا أزال خلال رحلاتي في الشرق للوصول في المواعيد التي تلطفوا بتعيينها لي، وكانت مسألة الموعد تناقش بحرص ويتم الاتفاق أخيرا عليها. وعلي الإقرار بأن تلك المحاولات المتواضعة لم يحالفها النجاح. الحكماء والمجربون...قالوا لي أحيانا: السماء هنا شديدة الزرقة والشمس شديدة الحرارة، لماذا العجلة؟ لماذا نخسر حلاوة العيش؟ الجميع هنا متأخرون، الأمر الوحيد أن ننضم إليهم، ومن يصل في الساعة المحددة يجازف بإضاعة وقته، وهذا رغم كل شيء غير مريح وبالتالي ما من داع لكل تلك الدقة، فالدقة الصارمة لها مزايا قليلة، لكنها غير ملائمة أبدا، إذ تفتقر إلى المرونة والخيال والمرح بل وحتى الوقار»14.

إذن غياب الدقة وعدم الانضباط في المواعيد وعدم التعجل والتأخر...كلها سمات تميزنا في الشرق الأوسط أو قل العالم العربي والإسلامي وهذا ما يريد أن يخلص إليه برنارد لويس واعتمادا على شهادة غيره، ونحن لا نعترض على هذه الشهادة التي ترجع إلى أربعينيات القرن الماضي، بل إننا نأسف لأن حالنا لم تتغير وقد اجتزنا تقريبا العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين.

لكن إن كان برنارد لويس يبحث عن الخلل أو السبب، فإننا نقول له ولغيره إنه لا يكمن في الإسلام قطعا، وإنما الممارسة الشائهة والمنحرفة عن جوهره هي التي تتحمل بعضا من أسباب تخلفنا، والمثل «كل عطلة فيها خير»، حينما يتحول إلى جبرية مشينة تعطلنا عن العمل والالتزام بمواعيدنا وضبط جداولنا الزمنية يمثل مظهرا لتلك الممارسة.

العمل والزمان

هناك ارتباط حصل في المجتمعات الأوربية مع بداية الرأسمالية بين الزمان والعمل، ارتباط تجسده مقولة «الوقت مال» ولذلك صار العمل هو الفاعلية المحورية التي تدور حولها الفاعليات الأخرى، وخضع العمل لعقلنة اقتصادية تمثلت في التقسيم المنظم والمحسوب للأعمال، وهذا الحساب يتجلى في دقة المواقيت والجداول الزمنية، ولذلك فإن التصورات المرتبطة بالعمل والمواقف تجاهه والتي تختلف من ثقافة إلى أخرى بإمكانها أن تكشف لنا في الوقت ذاته الاختلافات المتعلقة بتصور الزمان والتعامل معه.

يمكن أن ننطلق من ثقافتنا الشعبية أي من الأمثال المتعلقة بالعمل والزمان ثم ننزل إلى الميدان لملاحظة الممارسات الفعلية، حتى نستطيع أن نكشف إن كانت العلاقة بين العمل والزمان قد تبلورت في ثقافتنا وسلوكنا بالصورة التي ينبغي أن تكون عليها، وهذه مجموعة من الأمثال المتعلقة بالعمل:

- «اخدم بالرطل ولا تعطل».

- «اخدم مع النصارى ولا قعاد لخسارة».

- «اعمل بدورو وحاسب البطال».

- «عاون النصارى ولا قعاد خسارة».

- «الفساد ولا لقعاد».

- «اللي اخدم ارتاح واللي قعد جاح واللي اتكى بغير الله طاح».

- «اخدم يا صغري لكبري واخدم يا كبري لقبري».

- «معاونة النصارى ولا النوم خسارة».

- «اخدم بصوردي وحاسب القاعد».

وثمة أمثال شعبية تونسية مشابهة لأمثالنا الجزائرية:

- «اخدم بناصري وحاسب البطال» (الناصري عملة نقدية قديمة تنسب إلى محمد الناصر باي وتحمل اسمه).

- «اللي ما يشقى ما يلقى».

- «اللي ما يشقى في صغره ما يرتاح في كبره».

- «الحركة بركة».

- «يخيَّط في الشوارع ويفصَّل في الزْنُق» (بمعنى دائم التسكع لا يعمل).

- «مْضَغْ العلك ولا البطالة».

- «شاقي ولا محتاج».

- «الشقا مخلوف».

لا أحد يجادلنا في أن هذه الأمثال جميعها تحث على العمل، فهو مطلوب وضروري، والبطالة مرفوضة، بل إننا نجد حتى في تراثنا ما يدعو إلى المبادرة بالعمل وإنجاز ما ينبغي إنجازه: «لا تؤجل عمل اليوم إلى الغد»، وهذه المبادرة يعبر عنها في ثقافتنا بمفهوم «البُكْرة» أي البكور والذي يحتل أهمية كبيرة والأمثال الحاثة عليه دليل على ذلك:

- «اللي بكَّر لحاجته قضاها».

- «الصباح فتاح».

- «شاو النهار رفيق».

- «اِذَا غلبوك بالكثرة اغلبهم بالبكرة».

- «اللي فاتو البَدري يروح يكري».

- «اللي اربح اربح الصباح، العشية ضيقة».

إذن هذه الأمثال والتي سبقتها إذا أخذناها من الزاوية التربوية فإنها لا تخلو من توجيه وإرشاد للأفراد على العمل وترك البطالة، بل والبكور للعمل الذي هو نوع من الحرص على الوقت واغتنام له لإنجاز ما يجب إنجازه فيه من أعمال ولا شك أنه في زمن لم تكن فيه وسائل النقل متوفرة ولا متطورة كما هي الحال اليوم فإن البكور كان ضروريا أكثر. ولكن لنتساءل في ضوء ما نلاحظه ونعيشه اليوم في أماكن العمل في المصانع والمكاتب الإدارية والحقول والمدارس...هل نحن نقدر العمل وبالتالي نقدر الوقت؟

بمعنى آخر هل نحن نستغل الوقت أحسن استغلال في إنجاز أعمالنا والقيام بواجباتنا المهنية؟ ولماذا تحث أمثالنا على البكور؟

لقد لاحظ بيار بورديو عالم الاجتماع الفرنسي، وهو بصدد تشريح المجتمع القبائلي في الجزائر، الطابع الاجتماعي للعمل، فالفرد ينبغي أن يعمل لأن العمل واجب اجتماعي تجاه الجماعة. فالعمل «موجه فقط لتلبية الحاجات الأولية وضمان استمرار الجماعة»15، ولذلك فهو يتعارض مع مفهومه في الاقتصاد الرأسمالي العقلاني حيث يقوم على الحساب والمردودية والمنافسة. إن الأمثال السابقة تظهر بوضوح سمات الفكر الاقتصادي التقليدي هذه. فالفرد مطالب بأن يقوم بأي شيء يمكن تسميته عملا، لأنه أن تفعل أي شيء أفضل من أن لا تفعل شيئا! هكذا ينبغي أن نعمل حتى ولو بأجر بخس وزهيد (صوردي، دورو، ناصري) بل وبدون أجر أو منفعة ترجى كأن يمضغ الواحد العلك ولا يرضى بالبطالة، فمضغ العلك نشاط عضلي على كل حال! لا بل إن اقتضى الأمر الإفساد في الأرض ولا البقاء عاطلا، بل وأكثر من ذلك إن مساعدة النصارى من غير مقابل، ونحن نعرف حساسية العربي المسلم تجاه النصراني أو اليهودي لأن الأمر يتعلق بالدين، رغم ذلك فإن تلك المساعدة عمل والعمل أفضل من القعود والبطالة. ولذلك فإن نظرة المجتمع هنا هي التي توجب ضرورة العمل وليس العمل في ذاته كقيمة اقتصادية. إن الاهتمام بجوهر العمل وهو المردودية يتم تغييبه وإبعاده أمام القيمة الاجتماعية. ولو تتبعنا أقصى ما يمكن أن يترتب عن هذا الفكر الاقتصادي التقليدي قد نستطيع أن نفهم ظواهر كثيرة ترتبط بالعمل في ثقافتنا كالتغيب والتأخر والغش وقلة المردودية...ونحن هنا لا نقدح في الأمثال المذكورة فحسبها أنها تعكس الواقع وتنقله إلينا بأمانة ولكن الذي حدث أننا لم نتجاوز هذا الفكر التقليدي رغم أننا أنشأنا المصانع والمعامل...

إن العمل حينما يتحول إلى قيمة اجتماعية فقط، فإن وظيفته تنحصر فقط في رفع اللوم عن الفرد والحرج، وكأن العمل يصير فقط شرطا للقبول الاجتماعي، فالمهم «راه يخدم» أليس من معايير الرجولة في ثقافتنا أن «تضرب ذراعك» «فالراجل بذراعه» و«القاعد تطير له كلمة». ولكن هذا هو السبب في شيوع تلك الظواهر المنافية لجوهر العمل. فإن غياب فكرة المردودية في فكر الفاعلين يؤدي إلى غياب فكرة المنافسة تماما، فلا شيء يفرض التنافس في العمل من أجل إنتاج أكثر ما دام الكل «يعمل» وينال أجرا. إن المهم هو ضمان اليوم pointage وليفعل «العامل» أو الموظف بعد ذلك ما يشاء حتى ولو ترك العمل أو مكان العمل.

والعمل في هذه الحالة يتحول إلى نوع من الإكراه والضجر ولا سبيل إلى التخلص من ذلك إلا بقتل الوقت. وهكذا يتحول قتل الوقت إلى سلوك داخل المصنع أو الورشة والمكاتب والقسم والمستشفى...وهذا من شأنه أن يقلل من المردود الحقيقي للعامل الجزائري.

لقد لاحظ «جيل ديشون» الكاتب الفرنسي أن الخدمات العمومية في الجزائر لا تشتغل بدقة، والموظفون لا يحترمون أوقات العمل والمدة الأسبوعية الحقيقية لعملهم الإداري تتراوح عموما بين عشرين وستة وعشرين ساعة»16. وقد وصل «رشيد بوسعادة» الباحث الجزائري إلى تقرير هذه النتيجة المتمخضة عن دراسته السوسيولوجية، وهي أن الوقت في الجزائر ليس من أجل الإنتاج والإنتاجية، بل إنه بالأحرى مخصص للاجتماع بمعناه الواسع الاجتماعات في أماكن العمل، في أماكن العبادة، في الشارع، في قاعات الحفلات...الخ، إننا نميل إلى اعتبار الوقت في هذه الحالة كفرصة للترويح والراحة17.

وهكذا فإن «قتل الوقت» الذي يمارس في المقاهي يتم أيضا في أماكن العمل، وعندئذ يصير العمل والقعود سيان، ألم يكن إدوارد هول الأنتروبولوجي الأمريكي محقا حينما تكلم عن مفهوم الفاعلية في الثقافات المتعددة التوقيت؟ لقد بين أن مفهومها في هذه الثقافات مختلف تماما عن مفهومها في الثقافات الأحادية التوقيت، ففي الأولى أن تكون جالسا في المقهى هو أيضا نشاط أو عمل18. إذن لا ينبغي أن نتفاجأ إذا كان الجلوس في المقاهي - التي لا تجد لك مكانا فيها ليس أيام العطل بل ربما أيام العمل- يعتبر جزءا من وقت العمل لدى الكثير من الفاعلين. وهكذا ففي ثقافتنا يكون الجلوس عملا والعمل جلوسا. ويصير تضييع الوقت عندنا بالساعات لا بالدقائق المعدودات كما هو الحال في المجتمعات الغربية. والسبب كما بيناه هو استمرار المجتمع التقليدي بمفاهيمه عن العمل في سلوكنا ومجتمعنا «الحديث».

وحينما لا يكون التحول على مستوى الذهنيات أو الرؤوس والسلوكيات، فإننا نلاحظ التناقض الصارخ بين الوسائل الحديثة المتاحة والتي هي بالأساس من أجل اختزال الزمن واستغلاله من مصانع مجهزة بأحدث الآلات والأجهزة، ووسائل نقل واتصال بسرعة عالية وغير ذلك، وهذا التناقض يتجلى في نقص المردودية وغياب النجاعة والفعالية والإتقان في كل ما نعمله وننتجه تقريبا. وكل هذا في النهاية لأننا نجهل قيمة الوقت التي تقاس بالمال بل بالحياة حياة الأفراد والمجتمعات والأمم، ولا يمكن تحقيق التقدم إلا بتدارك الفارق الزمني بيننا وبين المجتمعات التكنولوجية، ما يعني أنه ينبغي أن نعمل أكثر مما يعملون، وأن نحسب الوقت بمعيار الربح والخسارة.

ولو عدنا إلى ظاهرة البكور التي تحث عليها ثقافتنا الشعبية، فإن التحليل السابق يقودنا إلى النتيجة ذاتها أي إهدار الوقت لا استغلاله، ذلك أن البكور هو في النهاية من أجل إنجاز العمل بسرعة وكفى وليس من أجل المرور إلى عمل آخر أو مشروع آخر. فالبكور إذن هو من أجل الحصول على أكبر قدر من الراحة أي الحصول على وقت أكثر لقتله، طبعا لا أتحدث هنا عن الحالات التي ينبغي فيها البكور من أجل اللحاق بالمواعيد في وقتها لأن هذا شيء طبيعي.

وعموما فإن ما يمكن أن ننتهي إليه من تحليلنا لعلاقة الزمن بالعمل في ثقافتنا هو التباعد بين المفهومين. فالارتباط الذي حصل بينهما في الثقافة الغربية مع التايلورية وامتد إلى سائر حياة الإنسان الغربي ومجالاتها، بحيث صار زمن العمل عددا محددا من الساعات المقترحة على منظمات من أجل أن تستخلص منها أكبر قدر ممكن من المردودية، فهذا الزمن كما يقول «آبل جانيير» يقيس خصوبته ممثلو السلطة الاقتصادية بعبارات الإنتاج19. ولكن هذا الارتباط يبدو أنه لم يحصل عندنا بعد بالدرجة الكافية، ولهذا فإن خصوبة الزمان التي يتحدث عنها جانيير تتحول عندنا إلى ضدها فلا مردودية ولا إنتاج بالشكل المطلوب لأننا بكل بساطة نقتل الوقت حتى ونحن «نعمل».

الاحتياط للمستقبل

المستقبل هو ذلك الزمان الذي لم يأت بعد، ولم نعشه بعد، هو ذلك الأفق الذي يمتد أمامنا دون توقف، ولذلك فهو دائما حاضر في وعينا، فنحن لا نكف عن التطلع إليه والعمل على استباقه، ولهذا فإن المستقبل يتميز بمجموعة من الخصائص تجعله إشكاليا، فهو من ناحية مثقل بالحاضر والماضي رغم أنه جديد وهذا يعني أن الإنسان يتدخل جزئيا في تشكيله، ولكن ما هو مدى ذلك التدخل؟ والمستقبل يتميز بالغموض، إذ هو محمل دائما بما لا يمكن توقعه ومن هنا الخاصية الأكثر تمييزا له ألا وهي القلق، فهو دائما مقلق، وهذا القلق هو الذي يفسر لنا اهتمام الإنسان قديما وحديثا ولو بدرجات متفاوتة في الطرق والأساليب بالمستقبل، فالإنسان العراقي القديم كان يرى ضرورة التخطيط للمستقبل في هذا النص: «عندما تختط للمستقبل يكون إلهك إلهك، وإذا لم تختط للمستقبل ليس إلهك بإلهك»، أي إنك لن تحظى بالنجاح إلا إذا اختطت للمستقبل، وعندئذ فقط يكون إلهك معك20.

وقد كان الإنسان منذ القديم يحاول التنبؤ به اعتمادا على الاتصال بقوى غيبية كالآلهة والأرواح والجن... والاستدلال بالظواهر الطبيعية ومواقع النجوم وحركاتها وأحوال الطقس ووجهات الطيور في طيرانها وأيضا الكتابات والخطوط وما إلى ذلك من ظواهر طبيعية أو بشرية. وقد كان لهذه الأشكال من التنبؤ دورا خطيرا في حياة الشعوب القديمة كالمصريين والبابليين والهنود والصينيين وغيرهم، وقد كان التنبؤ عملا تختص به فئة معينة تتمثل في الكهان والعرافين والمنجمين والسحرة والأطباء وما إليهم، الذين كانوا يستشرفون المستقبل فيما يتعلق بشؤون الحياة كلها: شؤون الحرب، وتشييد المدن، وتتويج الملوك وحدوث ولادة أو مرض وغير ذلك، ويكفي أن نذكر ما لاقاه بنو إسرائيل من تنكيل وبطش على يد فرعون مصر بناء على نبوءة الكهان التي حذرته من عدو مستقبلي من غير قومه، سيكون موسى النبي الذي سينتهي بالفعل بإزالة ملك فرعون بأن أغرقه الله في اليم مع جنوده.

ولدى الصينيين يوجد «كتاب التغيرات» وهو من أعظم التراث الصيني الأدبي في الماورائيات، وهو كتاب تدرك من خلاله جميع القوانين الطبيعية وتدرس فيه طريقة التنبؤ بالغيب21.

وفي العصر الحديث سيظهر ميشال دو نوتردام Michel de Notre Dame المعروف بـ Nostradamus بكتابه Centuries et Prophéties.

ولكن محاولة استكناه المستقبل والتخطيط له ستكون سمة المجتمعات المعاصرة التي تتجه أكثر صوب المستقبل، ونقصد بهذه المجتمعات المجتمعات الصناعية وهذا بسبب التطور التكنولوجي الذي خلق ما يسميه بوتينيه الزمن التقني الذي يتميز بخاصيتين أساسيتين: الأولى هي خضوعه لعقلنة متنامية تتمثل في تجزئته وتقسيمه، فهذا الزمن يقوم على التكميم والدقة الكبيرة، ولكنه يتفلت من الإنسان الغربي ويجعله يشتكي بأن لا وقت لديه، إن هذه العقلنة للزمان القائمة على تخطيطه وتنظيمه تبين أن المجتمع الصناعي، عكس المجتمعات التي سبقته، له انشغال واع جدا وشديد بالزمن الخطي.

أما الخاصية الثانية لهذا الزمن التقني فتتجلى من خلال التقدير الفائق للمستقبل، لأن الشعور بنقص الوقت يدفع إلى تحميل المستقبل كل الآمال، والقيام بما لم يقدر على القيام به في الحاضر، فالبعد المستقبلي يثمن في الغالب على حساب الحاضر والتاريخ، ورغم أن المستقبل كان دائما الاهتمام الأول للإنسانية، فإنه قد صار اليوم الانشغال اليومي الموجه من أجل تحضير أبسط أشكال تكيف الأفراد مع بيئتهم، «إن الشعور بالوجود بالنسبة لفرد ما أو جماعة مرتبط منذ اليوم بالقدرة على الانقذاف داخل مستقبل قابل للتهيئة»22.

وهكذا يبدو أن هناك ارتباطا بالعقلنة والاهتمام المستقبلي أو الاستباق، ارتباط خلقته الثقافة التقنية في المجتمعات الصناعية،

الزمان قوة مؤثرة في الأشياء ويحمل الكثير من المفاجآة، فهو يحيل الطفل شابا والشاب كهلا، والكهل شيخا هرما، إنه بذلك يحول القوة إلى ضعف. كما إنه يأتي بالحوادث التي تنغص العيش وتعكر صفو الحياة ولهذا كان الزمان دائما مبعث قلق للإنسان. هذا القلق دفعه إلى الإعداد للمستقبل والتهيؤ لما سيأتي به الغد المجهول وهذا يندرج ضمن الاحتياط، الذي هو نوع من الاستباق يجعله بورديو خاصية المجتمعات التقليدية، صاحبة الذهنية المتعارضة مع الحساب والدقة والساعة. وهذا طبعا لا يعني عنده غياب الحساب تماما وإنما هو حساب يختلف عن الحساب العقلاني في العقلية الرأسمالية الغربية. وطبعا كان بورديو يتكلم عن الفلاح الجزائري إبان الاستعمار ولكن من المهم أن نتساءل عن الذهنية التي تحكم الفاعل الجزائري اليوم؟

بما أننا نتكلم عن ذهنية الجزائري في فترتين زمنيتين، فترة المجتمع التقليدي، والفترة التي تعيشها الجزائر في إطار التحديث، فإننا يمكن البحث عن مفهوم الاحتياط أو سلوك الاستباق هذا في الثقافة الشعبية من خلال الأمثال التي حثت على الاحتياط:

- «مَن لا يقرا للزمان عقوبة يجي على راسو مكبوب».

- «اخدم ياصغري لكبري، واخدم يا كبري لقبري».

- «ذاك قرا للزمان عقوبة».

- «اللي يعرف يخلي (يترك) من عشاه لغداه، ما يكون شفايا لاعداه».

- «كي كنت انا انطمر، كنت انت تزمر».

- «ما ترمي ما(ماء) حتى تصيب ما(ماء)»

- «اهبلها وما تعرف من يحلبها (اهبلها = جز النعجة)»

- «اخدم خدمة لَبْدا والموت غدا».

هكذا ينبغي التبصر في عواقب الزمان لأنه غدار ويتقلب، وعلى الإنسان أن يستغل شبابه فهو زمن القوة والفتوة والعطاء. ولذلك فإن ما ينجزه المرء في هذه الفترة يعد ضمانا لزمن الضعف والعجز في الكبر، الذي تنطرح فيه مهمة أخروية هي العمل الروحي وليس المادي أو العضلي. ومن المهم أن يحتاط الإنسان لأنه يجد العبرة في حكاية النملة والصرصور، هذه الحكاية العالمية.

واللافت للانتباه أن المثلين الأخيرين يتعارضان بشكل واضح مع الجبرية التي حاول بعض الدارسين الغربيين إلصاقها بالذهنية الجزائرية أو الإسلامية بشكل عام.

ويبدو أن المعنى الوارد في «حديث غرس الفسيلة وحديث اعمل لآخرتك كأنك تموت غدا....» يختزلان في هذين المثلين، وهو ما يعطي للمثل القدرة على توجيه السلوك ويتحول إلى حامل لقواعد تربوية عملية، تربي الفرد على حسن التصرف والتدبير في الحياة.

ولكن ما شكل الاحتياط اليوم في ظل المجتمع الجزائري؟ لقد حصل تطور وانتقال من الاحتياط كأسلوب استباقي تكيفي من النوع التجريبي الذي يعبر عنه مثل النملة والصرصور إلى الأسلوب الاستباقي من النوع العلمي وهذا بفضل شركات التأمين والضمان الاجتماعي ومؤسسات الاقتراض والتوفير. ولذلك فإن غالبية المبحوثين من الموظفين يمتلكون دفترا للتوفير. بل إن الأهم من ذلك فيما أخبرني بعضهم أنهم يحرصون على أن يكون لأبنائهم الصغار أيضا مثل هذا الدفتر، رغم أن بعض الجزائريين يرفض امتلاك هذا الدفتر أو الادخار في البنوك بحجة الربا أي الفائدة التي تقدمها المؤسسات المالية لعملائها، وبعضهم الآخر يتحايل بأن يمتنع عن الاستفادة هو شخصيا من تلك الفائدة حيث يقدمها لغيره من الفقراء والمعوزين.

وفي الوقت ذاته ينبغي ملاحظة التغير الذي حصل لدى الفلاح ذاته، فهذا الأخير صار يقبل بنفسه على التأمين ضد الأخطار والكوارث التي يمكن أن تهدد إنتاجه أو موسمه الزراعي. هكذا صار من المألوف لدى غالبية الفلاحين الجزائريين التأمين ضد الجفاف.

ولكن إذا كنا نجد في ثقافتنا الشعبية ما يدعو إلى الاحتياط، فإن هذه الثقافة ذاتها تتضمن ما يناقض هذه الدعوة، وهذا إنما يدل على عدم التجانس في التصورات والرؤى المتعلقة بالمستقبل لدى الأفراد والجماعات داخل المجتمع الواحد، ولذلك ينبغي تجنب الأسلوب الانتقائي حينما يتعلق الأمر بدراسة الثقافة الشعبية أو الوطنية كما أسميناها.

إن في هذه الثقافة توجد أمثال تدعو أو يمكن أن تتحول إلى دعوة إلى الاستكانة وترك الاحتياط والتخطيط لما سيأتي وبالتالي تعطيل أي نظرة عقلانية وربط منطقي بين الأسباب والنتائج. وهذه بعض تلك الأمثال:

- «اَخْدَمْ يا الشاقي للباقي».

- «ادفع ما في الجيب وربي يجيب ما في الغيب».

- «اذا عكست الايام ساميها».

- «اخدم يالتاعس على الراقد الناعس».

- «احييني اليوم واقتلني غدوة».

- «كول القوت واستنى الموت» أو «ناكلوا في القوت وانستناو في الموت».

- «اللي يحسب وحده يشيط له».

هكذا نلمس الدعوة إلى ترك العمل لأن الثمرة أو النتيجة لن يجنيها من يبذل الجهد ويسعى، بل والاستكانة المطلقة أمام الأحداث، فما دام الموت هو الحقيقة المحتومة التي تنتظر في كل حين فإن أي عمل للحياة يكون بلا جدوى وقد رأى مالك بن نبي أن المثل «كول القوت واستنى الموت» تعبير عن ذبول الجذوة الدافعة للحضارة الإسلامية ما بعد الموحدين وعن فقدان مبررات وجودها23.

وفي المثل الأخير «اللي يحسب وحده يشيط (أو يفضل) له» دعوة إلى ترك الحساب، والحق أن الأمور لا تجري دائما كما نريد ونخطط وخاصة فيما يتعلق بتسيير المال وإدارة المشاريع، وهذا ما يعطي للمثل بعض الصحة أو الواقعية، ولكنه ربما تحول لذلك في الذهنية الشعبية إلى قيمة وحقيقة لا لبس فيها، وعندئذ يصبح كل نظر عقلاني دقيق في الأمور مخيبا للآمال.

خصائص الفصول والشهور : تنقسم السنة إلى فصول وشهور تتكرر دوريا وتتكرر معها ممارسات اجتماعية وطقوس تنتظم الحياة وفق إيقاع معين، وبما أن لكل فصل خصائصه وأهميته وكذلك الشهور في حياة الشعوب بل حياة طبقات اجتماعية معينة، فقد خصت بأمثال شعبية تؤبد تلك الخصائص النوعية. هكذا فإن ثقافتنا الشعبية تتضمن أمثالا قيلت في الفصول وبعض الشهور يمكن القول أنها كانت تعبيرا عن زمانيات وإيقاعات معينة، وقد أجرى جان سارفيي دراسة إتنولوجية عن الفلاح الجزائري وبين أهمية الفصول والأشهر التي سنذكرها في حياته24.

يقول المبدع الشعبي عن الفصول:

- «الشتا ظلمة والربيع منام، الصيف ضيف، والخريف هو العام».

- «الشتا هّم وغم، والربيع ما تشكر ما تذم، والصيف اجرِ ولَّم، والخريف لو كان يتَّم».

- «فاكهة الشتا نار، وفاكهة الربيع نُوَّار، وفاكهة الصيف غْمار، وفاكهة الخريف ثْمار».

- «في الصيف العرايس، وفي الشتا الفرايس».

- «الصيف صيَّف، ما بقات عشبة خضراَ».

- «ضربة بالسيف وْلاَ بَرد الصيف».

- «الصيف زين بَلْفاعَه» أي بأفاعيه.

هذه الأمثال يوجد مايشبهها في الثقافة العربية :

- «أيام الشتا جات واللِّي ما غَزلَتْشْ عَريانهْ تْبات»

- «اللي يحب ياكل ويحرث ويبيع يزرع أرضه في الربيع».

- «الداخل يغلب الخارج». (الداخل والخارج الفصل)

- «نهار الشتا لفته».

- «الصيف ضيف، والربيع منام، والشتا شده، والخريف هو العام».

- - «الربيع ربَّع، واللبن قراص، واللي عنده طفله يعطيها لْتراس».

- «شَتِّي قبل الناس، وصيَّف بعد الناس ما ترى باس»25.

هذه جملة من الأمثال يتجلى لنا من خلالها كيف أن الذهنية الشعبية تقيم التقابل بين الفصول الأربعة وذلك على أساس الملاحظة والمعيش اليومي لأطوار وإيقاعات هذه الفصول والأهمية التي يحتلها كل فصل في حياة الناس وحياة الفلاح بوجه خاص. هكذا يتميز فصل الشتاء ببرده القارس وبالتالي بظروفه الصعبة على فلاح كان يعاني قلة الحيلة والوسيلة أمامها، وفصل الخريف هو الفصل الحاسم في الموسم الزراعي لأنه موسم الحرث. أما فصل الربيع فهو فصل جميل وفيه تنبعث الحياة من جديد، وفصل الصيف هو فصل نضج الغلال والثمار كما إنه فصل الأعراس وبالتالي ارتفاع إيقاع الحياة الاجتماعية. وهذه الخصائص التي تتميز بها الفصول تصنع زمنا نفسيا قد يطول كما هو الحال بالنسبة للشتاء، فهو غم وهم، أو يقصر حتى يغدو كالحلم أو البرهة القصيرة من الزمن ( لفته) وهذا يدخل ضمن الزمان المعيش كأحد موضوعات أنتروبولوجيا الزمان26.

ومن ناحية أخرى يمكن أن نستشف التوجيه التربوي في هذه الأمثال، فينبغي الاحتياط لفصل الشتاء خاصة، ويجب الاحتراز من برد الصيف، فلا ننخدع بحرارته المرتفعة.

أما الشهور فنجد هذه الأمثال:

شهر يناير:

- «اِذا دخل يناير، كلوا الخْماير».

- «اِذا نيَّر الناير، ما يبقاوْا امْطاير».

- « اذا اروات في يناير، نحِّ من الخماير وْزِيدْ في المطاير، واذا ما اروات في يناير، نح من المطاير وزيد في الخماير».

- «اذا دخل الناير، ما يبقاو امطاير».

- «اذا ادخل يناير كثَّر الكسرة للصغار ولْحطب للنار».

- « يناير بو سبع تقليبات».

هكذا يتجلى المثل الشعبي بوظيفته الاجتماعية، فهو يقدم النصح الاقتصادي للفلاح الذي لا ينبغي أن لا يضيع الفرصة فيحرث أرضه قبل أن يمضي شهر جانفي لأنه الشهر الذي ترتوي فيه الأرض وبالتالي فإن الموسم الزراعي يتوقف كثيرا على ما تجود به السماء في هذا الشهر.

شهر مارس:

- « في مارس هَّرس واغرس».

- «فات الغرس في مارس».

- « اخطاك يا الغارس في مارس».

- « في مارس بثلوج، اللولى بيضة والتالية عسلوج».

- « في مارس عشبة تنبت وعشبة تفارس».

- « بالس بن بالس حوَّاس زرعه في مارس».

- « اذا اروات في مارس هي الحبل علاه درس».

- «مطر مارس تِبْر خالص، يخلي الجديان تَتْراقص». والمثل التونسي يقول: «المطر في مارس ذهب خالص» و«نَّو مارس تِبر (ذهب) خالص».وفي المشرق: «ميَّة آذار تحيي الزرع والأشجار».

هذا الشهر الثالث في التقويم الجريجوري يحتل هو الآخر أهمية كبرى في حياة الفلاح أو زمن الفلاح لأنه الشهر الذي يكون الزرع في منتصف الطريق ولذلك فرية مارس مهمة وثمينة ونقية مثل الذهب، ثم إن مارس يمثل نهاية منشط زراعي هو غرس الأشجار، لأن فيه تورق النباتات وتزهر.

شهر أفريل:

- «يبرير جبَّاد السبولة من البير».

- « اذا فات يبرير اعمل فوق البحر سرير».

- « يبرير، فين شفت فدان الفول ميل».

- « اذا اروات في نيسان، مْشَى العام بلا نقصان».

- « اذا رَعْدَت في يبرير هي لمطار فاه ادير».

- « شهر ابريل يجبَد السبول من قاع البير». والمثل التونسي يقول: «في ابرير تصفار السبولة في قعر (أو قاع) البير».

فشهر أفريل أو نيسان هو أيضا يمثل مرحلة خطيرة في الموسم الزراعي وربما كانت أخطر مرحلة فيما أخبرني بعض الفلاحين، ذلك أن الأمطار التي تسقط في هذا الشهر ربما كانت آخر رية يحتاج إليها الزرع ليكتمل نموه ونضجه.

هكذا إذن يثبِّت المجتمع التقليدي تجربة الفلاح الزمنية في أمثال تحدد مناشط وتفرض احتياطات معينة. لكن هل يعطي المجتمع الجزائري اليوم أهمية لهذه الأشهر؟ إن التحول الذي يعيشه اليوم هذا المجتمع في ظل مشروع التحديث المتواصل يجعلنا نتكلم عن زمانيات متعددة بتعدد طبقاته وفئاته، فلم تعد طبقة الفلاحين هي الطبقة الأساسية في المجتمع، ولذلك فإنه إن كانت قلة من الناس لا زالت تحفظ تلك الأمثال مع أن أهمية الأشهر التي تكلمنا عنها لم تتغير بالنسبة للموسم الزراعي، فإن غالبية الجزائريين اليوم بما فيهم الفلاحين يتحدثون عن أشهر أخرى لها أهميتها ويتعلق الأمر بشهر سبتمبر، الذي يمثل بداية إيقاع جديد في الحياة الاجتماعية صار يعرف بالدخول الاجتماعي. ففي هذا الشهر يستأنف غالبية العمال والموظفين عملهم، وهو بداية الموسم الدراسي بعد عطلة الصيف، ولذلك فإن هذا الشهر يطرح أعباء مالية أمام الأسرة الجزائرية، ولذلك صرنا نسمع هذه العبارة» لقد جاء سبتمبر» تعبيرا عن انطلاق هذا الإيقاع الجديد، وعن التهيؤ لتلك الأعباء. وفي المقابل يترقب الجزائريون شهر جوان وجويلية وأوت لأنها أيضا تمثل إيقاعا مختلفا، فهي شهور الاستجمام وموسم الاحتفالات.

الهوامش

1. رفعة الجادرجي، في سببية وجدلية العمارة، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت- لبنان، ط1، 2006، ص 356.

2. عبد الرحمان التكريتي، دراسات في المثل العربي المقارن، مؤسسة الخليج للطباعة والنشر، الكويت، 1984، ص. 139.

3. شورتن إسكربي، الأمثال الشعبية، ترجمة صلاح الدين شروج، مجلة دراسات عربية، العددان 11 و12 سنة 1989، تصدر عن دار الطليعة ، بيروت- لبنان، ص 127.

4. Jacques Fardy, Anthropologie de la parole en Afrique, Karthla, Paris, 2010, p.254-255.

5. محمد العروسي المطوي ومحمد الخموسي الحناشي، الأمثال الشعبية التونسية والحياة الاجتماعية، دار الغرب الإسلامي، بيروت، لبنان، ط1، 1412هـ- 2004م، ص 16.

6. ينظر، توشيهيكو إيزوتسو، الله والإنسان في القرآن، علم دلالة الرؤية القرآنية للعالم، ترجمة وتقديم هلال محمد الجهاد، المنظمة العربية للترجمة، بيروت- لبنان، ط1، 2007، ص ص 197-211.

7. J. Desparmet, Ethnographie traditionnelle de la Mettidja, Revue Africaine، vol. 59, 1918، p. 28

8. Simonetta Tabboni, Les temps sociaux, Armand Coln,Paris, 2006, p.3.

9. أنظر: ماكس فيبر ، الأخلاق البروتستانتية و روح الرأسمالية، ترجمة محمد علي مقللا، مركز الإنماء القومي، لبنان.

10. Roger Sue, Le loisir, PUF، Paris، 1980, p. 31.

11. متفق عليه

12. Helga Nowotny, Temps à soi, genèse et structuration d’un sentiment du temps, Trad. de l’allemand par Sabine Bollack et Anne Masclet, Editions de la Maison des sciences de l’homme, Paris, 1992, p .6.

13. Eugène Minkovski, Le temps vécu، PUF, Paris, 2005, p. 84.

14. برنارد لويس، أين يكمن الخطأ، صدام الإسلام والحداثة في الشرق الأوسطـ تر. عماد شيحة، دار الرأي للنشر، دمشق، سوريا، ط1، 2006، ص 117.

15. Pierre Bourdieu, Sociologie de l'algérie، (coll. Que sui-je?), P.U.F., Paris, 8ème édition, 2001.p. 91.

16. Gilles Deschamps، Idéaux logiques? La pensée universelle, Paris، 1988، p .164.

17. Racid Boussaada، "Le temps social dans la culture algérienne et ses incidences quant au développement", in Culture et gestion، interventions au colloque international: 28-30 Nov. 1992, p. 45.

18. أنظر:

- Hall Edward T., la danse de la vie, temps culturel, temps vécu, Traduit de l'américain par Anne Lise Hacker, Seuil, Paris,1984.

19. Abl Jeannière، "Les structures pathogènes du temps dans les sociétés modernes", in Paul Ricoeur (sous dir.) le temps et les philosophes، Payot/ Unesco، Paris، 1978, p. 111.

20. هـ. فرانكفورت وآخرون ، ما قبل الفلسفة . الإنسان في مغامرته الفكرية الأولى، تر. جبرا إبراهيم جبرا، ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر 1982،ص 241.

21. أنظر:

- Chun- Chien Huang and Erik Zurcher (Edited by)، Time and space in Chinese culture، E.J.Brill، Leiden، New York-Köln، 1995.

22. Poutinet, Anthropologie du projet, PUF, Paris, 1990.p. 66.

23. أنظر: مالك بن نبي ، تأملات، دار الفكر المعاصر، بيروت – لبنان، دار الفكر دمشق – سورية، 2002 .

24. أنظر:

- Jean Servier, Civilisation et traditions Berbères. Les portes de l’année, Robert Laffont, Paris, 1962.

25. محمد العروسي المطوي ومحمد الخموسي الحناشي، الأمثال الشعبية التونسية والحياة الاجتماعية، مرع سابق، ص 18 - 20.

26. ينظر:

- E. T. Hall, la danse de la vie, op. cit., p. 149- 177.

المراجع العربية

- الحديث النبوي

- إسكربي شورتن ، الأمثال الشعبية، ترجمة صلاح الدين شروج، مجلة دراسات عربية، العددان 11 و12 سنة 1989، تصدر عن دار الطليعة ، بيروت- لبنان.

- إيزوتسو توشيهيكو ، الله والإنسان في القرآن، علم دلالة الرؤية القرآنية للعالم، ترجمة وتقديم هلال محمد الجهاد، المنظمة العربية للترجمة، بيروت- لبنان، ط1، 2007

- بن نبي مالك ، تأملات، دار الفكر المعاصر، بيروت – لبنان، دار الفكر دمشق – سورية، 2002 .

- التكريتي عبد الرحمان ، دراسات في المثل العربي المقارن، مؤسسة الخليج للطباعة والنشر، الكويت، 1984

- - الجادرجي رفعة ، في سببية وجدلية العمارة، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت- لبنان، ط1، 2006،

- فرانكفورت هـ. وآخرون ، ما قبل الفلسفة . الإنسان في مغامرته الفكرية الأولى، تر. جبرا إبراهيم جبرا، ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر 1982،ص 241.

- فيبر ماكس ، الأخلاق البروتستانتية و روح الرأسمالية، ترجمة محمد علي مقللا، مركز الإنماء القومي، لبنان

- لويس برنارد ، أين يكمن الخطأ، صدام الإسلام والحداثة في الشرق الأوسطـ تر. عماد شيحة، دار الرأي للنشر، دمشق، سوريا، ط1، 2006

- العروسي المطوي محمد ومحمد الخموسي الحناشي، الأمثال الشعبية التونسية والحياة الاجتماعية، دار الغرب الإسلامي، بيروت، لبنان، ط1، 1412هـ.

المراجع الأجنبية

- Bourdieu Pierre ، Sociologie de l’algérie، (coll. Que sui-je?), P.U.F., Paris, 8ème édition, 2001

- Boussaada Rachid ، «Le temps social dans la culture algérienne et ses incidences quant au développement»، in Culture et gestion، interventions au colloque international: 28-30 Nov. 1992.

- Deschamps Gilles ، Idéaux logiques? La pensée universelle، Paris، 1988.

- Desparmet J.، Ethnographie traditionnelle de la Mettidja، Revue Africaine، vol. 59، 1918،

- Fardy Jacques, Anthropologie de la parole en Afrique, Karthla, Paris, 2010

- Hall Edward T., la danse de la vie, temps culturel, temps vécu, Traduit de l’américain par Anne Lise Hacker, Seuil, Paris,1984.

- Helga Nowotny، Temps à soi، genèse et structuration d’un sentiment du temps, Trad. de l’allemand par Sabine Bollack et Anne Masclet, Editions de la Maison des sciences de l’homme, Paris, 1992

- Huang Chun- Chien and Erik Zurcher (Edited by)، Time and space in Chinese culture، E.J.Brill، Leiden، New York-Köln، 1995.

- Jeannière Abl ، «Les structures pathogènes du temps dans les sociétés modernes»، in Paul Ricoeur (sous dir.) le temps et les philosophes، Payot/ Unesco، Paris، 1978

- Minkovski Eugène ، Le temps vécu، PUF، Paris، 2005

- Poutinet، Anthropologie du projet، PUF, Paris, 1990

- Ricoeur (sous dir.) le temps et les philosophes، Payot/ Unesco، Paris، 1978.

- Roger Sue، Le loisir، PUF، Paris، 1980

- Servier Jean, Civilisation et traditions Berbères. Les portes de l’année, Robert Laffont, Paris, 1962.

- 25- Tabboni Simonetta, Les temps sociaux, Armand Coln,Paris, 2006, p.3.

الصور

1. https://img.newatlas.com/brain-time-perception-1.jpg?auto=format%2Ccompress&fit=max&q=60&w=1000&s=3ad3fca82634d29df09e7a75548c1430

2. https://magazine.utoronto.ca/wp-content/uploads/2010/02/aron-visuals-322314-unsplash-1600x0-c-default.jpg

3. http://poetsforamerica.com/wp-content/uploads/2016/10/time-machine-1.jpg

أعداد المجلة