فصلية علمية متخصصة
رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم
العدد
34

الدريشـــة النافذة البحرينية إطلالة فضول نحو المباح و المصادر

العدد 34 - ثقافة مادية
الدريشـــة النافذة البحرينية إطلالة فضول نحو المباح و المصادر
باحث من البحرين

 

لحظة تأملك الفاحص لهندسة ( الدريشة – النافذة ) البحرينية التقليدية ينتابك شعور غريب حيال انتصاف شكل النافذة بين جزئية علوية مكونة من أسياخ حديدية متعامدة تربط الجزء العلوي بالسفلي من النافذة بحيث تعطي مساحة جيدة للرؤية ، أما الجزء السفلي تأخذ خامة الخشب شكلاً منحرفاً بزاوية مائلة نحو الخارج خشبةً فوق الأخرى يقطعهما من المنتصف لوح خشبي يشكل حرف (T)، الجزء الداخلي عبارة عن أربع دفات بشكل هندسي مستطيل متصل بمفاصل حديدية تسمى بالعامية «بتات». استطاعة صاحب البيت مادياً هي التي تحدد شكل (الدريشة) ونوعية الخشب الداخل في نجارتها وأناقتها الخارجية و زخرفتها بما في ذلك الزجاج الملون في بعض النماذج التي تتصف بالبذخ كما في نوافذ مدينة المحرق والمنامة من حيث اختلاف المستوى المعيشي والطبقي، يقابله على صعيد قرى البحرين، قلة من الناس فيما مضى تزخرف نوافذها برفاهية الزجاج، نوافذها ذات طابع متقشف يراعي الحد الأدنى المطلوب للدور الذي تؤديه «الدريشة» لتهوية المبنى.

وكما نعرف .. النافذة بحكم أهمية وجودها ضمن هندسة البيت البحريني القديم، لا تمثل متنفساً طبيعياً يزود المبنى بالهواء الطلق ويخفف من درجة حرارة المكان وحسب، بل لــهُ أيضاً حسنات أخرى !   

شاعرنا البحريني المبدع «عبد الرحمن رفيع» في واحدة من قصائده يقول:

تذكرين يوم وكفت تحت الدريشة

وأنتي من بين الدريشة اتبصبصين !

آنـه من يومها على بيتكم آدور،

واشكثر خليت أخوج يلعب معاي،

حتى إنه يوم سألني:

إنت ليش رايح و ياي!

وهو مايدري، يكول لي:

تبي مــن؟

إنت ليش في السكة كل ساعة تبين!

تذكـــــريـــن . . . (1)

 على وجه الدقة لا نعرف بعد  كيف صار شكل النافذة البحرينية بهذه الكيفية الهندسية؟ النجار البحريني كفرد ينتمي لمجتمع عربي إسلامي الثقافة، ركز طاقته الابتكارية وقام بتقسيم «الـدريشة» لجزئين منفصلين كما نلاحظ في الصورة (شكل النافذة من الخارج) حيث استعمال النافذة يعطي انطباعاً خفيـاً يحاكي حالة التحفظ وثقافة «العيب» في المجتمع القروي، فيسمح للأنثى بفتح النافذة من جزئها السفلي، فدرجة ميلان التصميم ذكية توفر رؤية شحيحة لمحيط الشارع ولكنها بذات الوقت تحجب الرؤية من الخارج، هذا ما يطمئن الرجل الغيور على سلامة أهله، فهو فقط يستطيع فتح النافذة من جزئها العلوي و يحتكر تقريباً الاستمتاع برؤية ما حوله. أما حينما يكون المبنى عبارة عن مجلس للرجال، فصاحب البيت يحرص على تخصيص مساحة أكبر للنوافذ من الجهة الشمالية والجنوبية بغرض التهوية وتخفيف حرارة المكان، كما أنه تجدر الإشارة هنا إلى أن شكل (الدريشة / النافذة) لا يكون متحفظاً كما في النموذج السابق، وهذا طبعاً يرجع إلى ذكورية المجلس حيث لا يوجد مبرر لحالة «ستر» كما في بقية النوافذ الأخرى من البيت والتي تتأثر بطبيعة وضع ساكنيها .

ومن خلال الجولة الميدانية، كان واضحاً الغالبية العظمى من (الدرايش / النوافذ) التقليدية التي لا تزال موجودة في البيوت القديمة المسكونة أو تلك المهجورة، يطغى عليها طابع التقشف في التصميم وبدون لمسات جمالية تذكر ما عدا بعض بيوتات العوائل المقتدرة «درايش القرى بالذات». بالانتقال إلى المنامة فإن شكل الدريشة يحتفل بجمالية الزجاج الملون ويكون خشبها مصبوغاً، هذه الفوارق تعطي انطباعاً يؤكد الحالة الطبقية و تباين المستوى المعيشي كما سبقت الإشارة .

لكن .. من دون شك «الدريشة» تلعب دوراً جميلاً في تأطير ذاكرتنا الطفولية المغسولة بماء المطر في تلك الأزقة المتربة التي نهرول فيها حيث نرتع فرحين، فمن خلال هذه النوافذ كنا نرحب بمقدم الشتاء، أو نفتحها بغية البحث عن نسمة هواء تطرد حر الصيف، من هذه الكوة الصغيرة تتبادل الجارات الأخبار، يتسرب منها بخور العرس والزغاريد، أو نجد «أم راشد» تفتح منتصفها وسط الداعوس(2) تبيع على سكان الحي الباجلة و النخج(3) وهي شبه متوارية عن الأنظار وعندما نراها مغلقة ندرك أن صفاري «أم راشد فرغت» و.. (الطيور طارت بأرزاقها)!(4).

 النماذج المستوردة:

النشاط التجاري المتسارع وفر قاعدة استهلاكية واسعة من الخيارات، حيث دخلت إلى البحرين الكثير من البضائع المستوردة ومن جملة ذلك النوافذ الجاهزة المسبوكة من حديد الزهر والتي كانت تستورد من الصين، فقد ساهمت في إغراق السوق وقضت بالتدريج على محدودية المنافسة ومن ثم إنتاجية النجار البحريني المتخصص. فمن حيث المتطلبات تفوقت النافذة المستوردة على نظيرتها المحلية كجمالية الشكل وتوفير رؤية بانورامية من وراء الزجاج الذي يسمح بدخول شعاع الشمس وحجب الأتربة وزخات المطر وهو ما لم يكن متوفراً في النافذة التقليدية، على ضوء ذلك، المنتج المستورد شكل تحدياً صعباً لنظيره المحلي، وهذا الأخير بقي جامداً غير قادر على المنافسة أو التطور على حــدٍ سواء ثم أخذ مكانه في الظل والانحسار وقلت درجة الإقبال عليه حتى تلاشت ورش النجارة التي تقوم بتوفيره للمستهلك المحلي أو توقفت عن نجارته كتحصيل حاصل لنتيجة المنافسة غير المتكافئة.

نعم يبقى لخامة الخشب ذلك الإحساس الدافئ والذي يشحن الحواس بشعور جميل مبعثه تأمل ما تتركه عوامل الطقس من آثار على الخشب تشي بتقلب دورة الزمن حتى يصبح شكل النافذة كجزء أصيل من «لحم المبنى» إن جاز لنا التعبير، حيث نجد في البيوت القديمة تكامل للروح المعمارية المنطلقة من بيئتها والمعبرة عن هويتها الثقافية والشعبية. أشرنا إلى مميزات المنتج الأجنبي المنافس وكيف غزا السوق المحلية لكن.. لحصر المشهد بشكل أدق فإن التغييرات المتتالية التي طالت البنية العمرانية في البحرين أسهمت بشكل كبير في ترويج نماذج عمرانية معبرة عن ثقافات أخرى.

الشعوب بطبيعة الحال تأخذ وتعطي في تفاعلها ثقافيـاً ويتحول هذا التفاعل إلى محطات كثيرة فيما يتعلق بالحياة والأكل والملبس والعمران. جل هذه التحولات تترك آثارها على الهوية التراثية لهذا البلد أو ذاك تبعاً لقوة حضورها و كم هو جميل احتضان مثل هذا التلاقـح الحضاري لكننا نقيس كل ذلك بحذر لكيلا يتحول تبادلنا الثقافي لذوبان هويتنا في (الآخر). فالبنية المعمارية البحرينية المعاصرة لا تتيح «كما نرى» لنموذج النافذة التقليدية ذاك الحيز من خيارات التصميم الخارجي، مستعيضة عنها بالنماذج الغربية (اليونانية - الرومانية ) كما في بعض القصور و الفيلات بمناطق الرفاع - مدينة عيسى - سند وغيرها من المناطق .

الخامات تتنوع تبعاً لرغبة صاحب البيت في شكل ومقاسات النافذة، صارت التصاميم مربعية أو مستطيلة بأحجام كبيرة تركز على توفير أكبر قدر من الإضاءة الشمسية للبيت،  دخول خامة الألمونيوم مطلع الثمانينيات من القرن الماضي أحدث نقلة نوعية فارقة في تصميم النافذة. فمرونة وقوة هذا المعدن الخفيف وتحمله للحرارة والرطوبة جعلته اليوم يتسيد مكانه في تصميم النوافذ المحلية بخيارات أكبر نوعاً وكماً بحسب الاحتياجات الاستهلاكية. المكننة في إدارة العمل بالشركات الكبرى صارت توفر المنتج حسب الطلب وتغطي حاجة السوق على عكس ما كان ينتهجه النجار البحريني التقليدي، من تعبٍ وصبر وإبداع بحركة اليد والمخيلة الماهرة التي أعطت من عصارة فنها وشغفها، حيث امتزجت مع خامة الخشب روح النجار  وهويته الثقافية وهذا ما لا توفره لنا برودة الآلات وتكنولوجيات العصر الحديث.

لنسوق ثقافتنا:

من بداية موضوعنا و نحن نتحدث عن فنية تصميم «الدريشة» البحرينية، نتأمل تفاصيلها ونقرأ ما تخبئه خلفها، بعد هذا العرض آن لنا أن نتفحص «الدريشة» ونعتبرها تحفة خشبية أنيقة الحواس تنطق بهويتنا البحرينية، نحتاج لتعميم تصاميمها بشكل مكثف في المشاريع العمرانية لنعيد لها اعتبارها.

لماذا لا نعتبرها «تميمة» ثقافية كما نفعل مع «الصندوق المبيت» وبقية المشغولات اليدوية والتي نسوقها على أنها جزء من تراث البلد؟ لماذا النجار البحريني اختفى؟ وهل لوزارة الاعلام أو هيئة البحرين للثقافة والتراث أي اهتمام يذكر في إعادة إحياء مهنة النجار المحلي المتخصص في «الدريشة» أو على الأقل العناية بهذه المهنة التراثية التي لا تقل في أهميتها عن صناعة السفن. هل نعجز عن تسويق ثقافتنا على المستوى الدولي؟ أليس بمقدور هيئة الثقافة تدشين ورشة تراثية تعمل على حفظ تراث وحرفة النجار البحريني وتنقله إلى الأجيال الجديدة؟ في الواقع تتناهبني تساؤلات كثيرة من هذا القبيل لا أملك لها إجابات! الدول الأخرى من شرق وغرب قطعت شوطاً طويلاً في تسويق ثقافاتها حتى وصلت إلينا، نحن بالمقابل علينا أن نعيد النظر في الآليات المعتمدة في هذا السياق بغية الوصول إلى ثقافات أخرى و نعرض ما لدينا.

«الدريشة» كما سبق وأشرت (فــن) يجسد روح النجار البحريني القديم وحتى نتعاطى مع هذا الفن علينا أولاً النظر إليه على أنه كذلك وليس مجرد شيء من تفاصيل البنية العمرانية التقليدية لنعتبرها من مفردات زمنٍ مضى، مكتفين بعرض صورها في كتب المدارس وصفحات الجرائد «فنتوهم» أننا بهذا قد خدمنا تراثنا المحلي وكفى!

كلما كانت نظرتنا مدروسة أكثر في التعاطي مع ثقافتنا العمرانية الخليجية والعمل على تسويقها نظرياً وعملياً كما يفعل الآخرين، أقلها أن نشرع في الخطوة الأولى، حيث تكون هناك حاضنة أعمال تراثية خليجية تندمج مع رؤوس أموال محلية تصب جهودها في تصنيع وتصدير الأبواب والنوافذ المعبرة عن ثقافة الخليج العربي ومن ثم تسويقها عالمياً، أليس هذا التفاف تجاري واقتصادي يضيف إلى قائمة المنتج الخليجي المقتصر حالياً على بعض الصناعات الغذائية الخفيفة وصناعات التبريد وتصدير المنتجات البترولية والكيميائية. هي اللمسة الإبداعية التي نحتاج إلى بلورتها متى ما اتفقت التوجهات السياسية مع خطط الثقافة.

 

 

الهوامش:

1. عبد الرحمن، رفيع، ديوان دنيا.

2. الدهليز أو الزقاق الضيق.

3. الفول والحمص المسلوقين، وهو من الأكلات الشعبية البحرينية

4. مثل شعبي خليجي ويعني.. أن الكل مضى برزقه وقد فات الأوان.

الصور:

من الكاتب.

 

أعداد المجلة