فصلية علمية متخصصة
رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم
العدد
32

طـرق الصوغ في الزجل المغربي تأملات نظرية ونصية

العدد 32 - أدب شعبي
 طـرق الصوغ في الزجل المغربي  تأملات نظرية ونصية
كاتب من المغرب

في رحاب الدرس الجامعي والأكاديمي للمتن الزجلي المغربي، نقف على بعض ملامح تأخر أو تخلف الدرس اللغوي والبلاغي أو التداولي بشكل معين.. ولعل من مظاهر ذلك، استمرار هيمنة النمذجة المعقدة للكلام العربي القديم؛ فهذا الأخير قُعِّـد له وقنن كسجلات كلام(مدونات) مغلقة، أصبحت مرجعا للقياس الدائم للفصيح كما للعامي.. ومن هنا نعلن الآن الحاجة إلى رصد وجمع وضبط سجلات الكلام الحاضر/الراهن لغويا وبلاغيا ولسانيا، وإلا سوف يستمر قياس الحاضر على الغائب، وهو خلل منهجي كبير في الدرس الأدبي.

 

إن البدء بدراسة الأدب الشعبي ضرورة ملحة لفهم الأدب العالم/ الرسمي، يكمن ذلك في ضرورة الانتقال من حال غياب اللوغوس إلى حضوره، وكم هو مضر أن نقوم بالعكس، وبالتالي نفرض تطبيق آليات اللوغوس على فاقد له. يتعلق الأمر هنا بطبقة من النصوص العاكسة لفوضى منظمة تغني حقل الدلالة وتفتحه بشكل لانهائي على الفهم المتعدد، عكس الأدب المعقلن/المقعد الخاضع لقنوات تصفية كثيرة ومختلفة، تعمل على الحد من عنفوان العبارة وقدراتها التوليدية.  ومعنى هذا أن دراسات «المَقول» تفتقر إلى أسس نظرية ذاتية تحررها من قيود التبعية وتبني أنموذج دراسات الأدب المكتوب، «ذلك أن الخطاب الشفوي ليس بالمادة الجامدة، بل هو تراث حي في تطور مستمر يتغير من رواية إلى أخرى»(1). بناء على هذا الرأي النظري الصرف، نؤمن بأنه لا يمكن إرساء أي مشروع تنمية جامعية أكاديمية ومجتمعية داخل بلد من البلدان النامية «دون كشف مسبق لذهنيات وتمثّلات ساكنته، وبعبارة أصح، الوقوف على خاصيتها اللغوية ومخزونها الثقافي».

يذهب أديب مؤرخ مثل مصطفى صادق الرافعي إلى أن «اللغة العربية الفصحى مرت بأدوات من التهذيب كان آخرها الدور الذي سادت فيه لغة قريش قبل الإسلام، وبلغتهم نزل القرآن فتكونت به الوحدة اللغوية في العرب»؛ فالرافعي ينكر أن تكون هناك لغة أدبية قبل الإسلام، حيث يقول» إن هذه اللغة الأدبية وهم سخيف من أوهام المستشرقين، فإن اللغة الأدبية لا تنشأ ولا تستقيم إلا إذا كانت مدونة متدارسة، إذ الكتابة قيد من التغيير والتبديل، وهي نص في عموم الاحتذاء والمحاكاة، لأنها في مكان ما هي في كل مكان غيره»(2). فإذا كان الشعر الجاهلي عاميا أو شعبيا في زمانه، بالقياس إلى اللغة السريانية ولهجاتها وبيئاتها وقياسا لمختلف اللهجات القرشية.. وهي لغة الكتب المقدسة قبل نزول القرآن بلسان عربي مبين.. إذ من المفكرين والنقاد من يؤكد على كون «اللغة الأدبية التي نظم بها الشعر الجاهلي هي لغة فنية مصنوعة غير جارية في الاستعمال اليومي العام، وكانت تعيش إلى جانبها لهجات القبائل التي تستعملها في شؤون الحياة اليومية»(3)؛ وإذا علمنا أن العربية عربياتٌ عدة بلهجاتها وبيئاتها وتداولاتها.. فقد تم اختزال لغة المدرسة والإدارة والكتابة في مدونة لغوية محدودة هي لهجة قريش.. وما سواها اعتبر لهجات تتفاوت في نسبة القرب أو البعد من اللغة القرشية(4). وأكاد أزعم أن الأمر نفسه وقع ويقع في سائر البلاد العربية ومنها المغرب؛ حيث يُراد الآن أن تعم أو تهيمن عربيةُ لهجة المنطقة الاقتصادية الوسطى (منطقة الشاوية الكبرى) على أنها اللهجة العربية المغربية الأكثر تداولا في المغرب.. ولذلك فهي لغة المسرح والسينما والتنشيط الثقافي والتلفزة.. وهي لغة الزجل المتداول أيضا. ويقرر علماء اللغة أن الجماعة اللغوية الواحدة تحرص على أن تستعمل شكلاً للغة يرتفع عن الخصائص اللهجية المحلية للتعبير عن الفكر والأدب، ومظاهر التواصل الأخرى بين أفراد الجماعة اللغوية، وذلك «الشكل هو ما يسمونه اللغة المشتركة، فاللغة المشتركة هي الصورة اللغوية المثالية التي تفرض نفسها على جميع الأفراد في المجموعة اللغوية الواحدة(5)»..

وتقوم اللغات المشتركة دائماً على أساس لغة موجودة، تتخذ لغة مشتركة من جانب أفراد وجماعات تختلف لديهم صور التكلم؛ والظروف التاريخية هي التي تفسر لنا تغلب هذه اللغة التي اتُّخِذَت أساساً، وهي التي تعلل انتشارها في جميع مناطق التكلم المحلي، فهي دائماً لغة وسطى، تقوم بين لغات أولئك الذين يتكلمون بها جميعاً. أما «عوامل قيام هذه اللغات المشتركة فترجع إلى التفوق السياسي أو الديني أو الاقتصادي، أو الأدبي أو الاجتماعي»(6). وتقدم العربية الفصحى اليوم مثالاً واضحاً للغة المشتركة، فبينما نسمع مئات اللهجات المحلية في الأقطار العربية نجد العربية الفصحى تُستعمَل على نحو موحد للتعبير عن قضايا العلم والثقافة والمجالات العامة الأخرى.

وإذا تتبعنا منهجية سجلات الكلام(7)، سنقف على غنىً مذهلٍ في المدونة الزجلية في المغرب، وذلك وفق تعدد اللهجات المحلية والبيئية وغِناها؛ فلا معنى لتركيز الشعر الرسمي (المدرسي أو العمودي «بفهم ما») في المدن، والملحون(8)في تافيلالت وآسفي ومراكش وآزمور، والزجل في ابن سليمان والدار البيضاء وتيفَلِت وتارودانت(9). هذا التنميط مخِلٌّ بالصواب وأقربُ إلى تقطيع إداري محض للجهات والمناطق منه إلى استنباطٍ نقدي أدبي مُمَنْهج وواع.. وغاية هذه الملاحظات، تكمن في أهمية إعادة النظر في كثير من الدراسات السابقة في هذا المجال.

  الزجل، صياغة تحديد:

يمكن القول إن وجود لغة عامية إلى جانب اللغة العربية الفصيحة، كان منذ عصور مبكرة، ونفترض معه وجود أو نشأة الزجل.. فالزجل هو قول العوام.. وحيث كان ثمة عوام إلى جانب الفصحاء، كان هذا اللون من الزجل؛ فهو بنية عامية على نمط البنية العربية لا تلوين فيه يحتاج إلى جهد، كذلك التلوين الذي يحتاج إليه فن الموشحات والكان الكان والمواليا.. لهذا يرى بعض الباحثين أنه «يكاد يقدم نشأة الزجل على نشأة الفنون الأخرى، مخالفا بذلك من قالوا إنه نشأ في عهد الملثمين على يد أبي بكر بن قزمان بالأندلس، وأنه كان تفريعا على الموشحات»(10).

ومن معاني الزجل «التطريب»، غير أن هذا الإطراب لا يَنتُج عن وزنٍ مضبوطٍ بالبحور الشعرية العربية المعروفة، بل هو وفق وزن يضبطه النطق ولا يضبطه الرســـم.. هــــذا الـــــوزن يعتمــــد علــــــى مخـــــارج الحـــــــــروف والكلمات؛ إذ قد يدغم الناطق وقد يخفي، وقد يتخطى الحرف أو الحرفين ليستقيم له الوزن الأول الملتزَمِ به؛ على أنه ليس هناك إلزام برسم أو قاعدة، بل بالنطق الاختياري الأول؛ ونصوص هذه الأزجال كثيرة وديوانها التاريخي ضخم جدا؛ قال في شأنه ابن سناء الملك» منها ما هو الكثير والجم الغفير والعدد الذي لا ينحصر والشارد الذي لا ينضبط.. فهذه الأزجال ما لها عروض إلا التلحين، ولا ضرب إلا الضرب، فباللحن يعرف الموزون من المكسور والسالم من المزحوف»(11).

وقديما شاع أن ضعف الفصحى ينتهي إلى انتشار الدارجة أو العامية.. (وهل نصدق أن العرب كانوا جميعا فصحاء من المحيط إلى الخليج؟ بأي معنى للفصحى يتعلق الأمر؟)، ويترتب على ذلك أن ضعف الشعر الفصيح يؤدي إلى قوة الزجل. ومن قبيل الآراء التي تنزلق إلى التناقض، اعتبار «الزجل هو الأمة بكل مظاهرها، ليس في  كل العصور، بل في العصور التي انحطت فيها العربية وطغت فيها العامية»(12)؛ فكيف يستقيم أن نقول إن الزجل هو الأمة، لأنه «خير من يعبر عما يمس الشعوب ويصف أحوالها»، ونقول في نفس الوقت «إن الزجل دون الشعر ودون الفنون الأخرى»؟؟ صحيح أننا نلاحظ أن نماذج عديدة من الزجل الحالي تكاد تقدم وجها لسقوط العربية الفصحى والدارجة معا، فالضعف يشمل الفصيح والدارج في آن، إذ إن ضعف الفصيح يوازيه ضعف في الزجل. ومن هنا أهمية التأمل في بعض ما رسخ في الأذهان من أن الفصيح كانت له بيئته الفصيحة والزجل كانت له بيئته العامة التي لا تستقيم عندها العربية السليمة.. فلِلُّغة بكل لهجاتها بيئة واحدة تفرز الفصيح والزجل وغيرهما من فنون وألوان القول..

والشعر أوزان وبحور وقواعد، والخروج عنها عيب حتى في أكثر الممارسات اللغوية الشعرية حداثة، «إذ العبرة في النسج داخل إطار التشكيلي للغة الشاعرة، لأن الشاعر يتوخى فيه مطلق التشكيل للغة باللغة»(13).. ومع ذلك ينعت الشعر بالجمود إذا وقف متجمدا عند الحدود والقواعد؛ فهل الزجل نقيض ذلك تماما، هل شأنه شأن العامية التي تقبل الجديد كل يوم، وتلغي مِن قاموسها الكثيرَ فتنساه ولا تذكره؟ وإذن ما القول في الزجل المُداخِل، حيث يلتقي الفصيح بالعامي، وحيث يقول بعض الفصحاء شعراً عاميا يعلون به عن العامية السائدة؟ هل نطمئن إلى كون عامية الفصيح مهذبة فقط، دون الالتفات إلى إشكال تطور التداول باللغة في الفنون وفي سياق التخاطب العام؟؟ في هذا المقام، يرى العديد من محبي الزجل وحُفّاظه، أن «زجل الجاهل بقواعد العربية أحلى وأعذب»(14).

هكذا يندرج الزجل، وبحسب الكثير من الدراسات ضمن الأدب الشعبي الشفوي، لذا  فإن نصوصا عدة كانت وما زالت تُـلقى مصحوبةً بنغمات موسيقية أو بالرقص أو بالغناء، ومنها ما كان يلقى وسط طقوس جماعية أو دينية مهيأة لهذا الغرض.. ومفهوم الزجل الذي نشتغل به في هذه الأعمال هو أنه «أدب شعبي شفوي منقول كتابةً، ولذلك نحن نفتقد للكثير من مكوناته، وخاصة لشعبيته وسياقه»(15). إننا لا نريد هنا الخوض في تعريف معين للشعر ونحن ندرس الزجل، ذلك لأن الشعر هو الشعر سواء كان فصيحا أو دارجا؛ فعلاوة على أنه تعبير عما يفيض به الوجدان، وتعكسه المشاعر قبل أن ينطق به اللسان،(16) فهو مادة/معطى «أُنـتِجَ» داخل نسق من المكتسبات التصورية والمعرفية والمنهجية التي تتضمنها الخزانة النقدية والتحليلية التي اهتمت بكل أنواع الشعر وصيغه. من هنا، يبدو واضحا أن»ما يوحي به إلينا الزجالُ، قد لا يأتي بشيء من مثله اليومَ شاعرٌ يستوحي الكتب ويعبر للناس عن الحياة بألفاظٍ يدركونها ربع إدراك»(17) لسبب من الأسباب ذات الصلة بشعبيته خصوصا، من قبيل اللغة والتأليف والتراثية والديمومة والرواية الشفوية. ومن الطبيعي «أن هذا الأدب وهو يخرج من بنية شفوية إلى بنية كتابية، أن يتحول من مجراه الأصلي إلى مجرىً ثانٍ غيَّر شيئا من محتواه»(18).

ومهما يكن، فالبحث في الزجل، في إطار الأعمال الأكاديمية، يوفر على الدوام مناسبة وطقوسا يتباهى فيها الحرف، أو هكذا نفترض؛ لأنه بذرة ولادة ونمو مقام السر والبهاء الذي يضم الزجالين والزجالات في المغرب. ولكن بعض النصوص المدروسة تقدم ملامح للنضج والإدهاش والمتعة، أو أنها تدفع للتساؤل عن صلتها بالتجريب والبحث في آفاق جديدة للكتابة الشعرية المعاصرة. ومن هنا علينا أن نحدد موقفنا الدراسي من الزجل: الزجل التراثي وقد اكتمل نصيا، ويجب إنهاء جمعه وتصنيفه ودراسته؛ والزجل الحالي المعاصر وهو نص مفتوح على آفاق رحبة من التجريب الكتابي ويدعي الخرق والتجاوز والتحدي لنصوص زجلية كثيرا ما البعضُ لا يعلمها.. فما اكتمل ونضج يمكن أن نضيف إليه وأن نطوره، علما «أن ذلك لا يكون بالأمر أو بتوجيه من ناقد أو باحث، بل حين يوجد المبدع الحق.. إذاك سيُفرَض التطويرُ وسيفرضُ التجديدُ سواء أقُبِلَ هذا التجديدُ أو لم يُقبلْ.. فحين يوجد الشاعر المبدع سيكون هذا التجديد»(19).

  لغة الزجل، شعبية الشعر:

ليست هناك لغة شعرية وأخرى ليست كذلك؛ فالكتابة الإبداعية تعبير بالعلاقات لا بالكلمات والأشياء؛ كما أن الكتابة تصنع قوانينها، ومن ثم فهي تتحكم في شروط القيم الجمالية والفنية التي تنتجها. وعلى هذا الأساس، فالبحث في طرق الصوغ في الزجل المغربي، وربما كما في الزجل العربي قاطبة، هو عمل نصي بالأساس؛ ولكن دعونا نمحص النظر في شعبية الزجل وفي مصدرها وأولوياتها.. بحيث يمكن النظر في مدى شعبية الزجل المتداول بيننا الآن، مثل زجل محمد الراشق وإدريس بلعطار وعمر نفيسي ونهاد بنعكيدة ومحمد الصقلي واحمد المسيح ومراد القادري وحبيبة الزوكي وفؤاد بوعلي ورضوان أفندي وإدريس أومغار مسناوي وحسن أميلي واحميدة بلبالي ومحمد الزروالي ومحمد موتنا وحسن المفتي ومحمد اجنياح، ومحمد لشياخ (تارودانت) وعبدو بن الأثير والسعدية فاتحي (آسفي) ومحمد بوستة (زاكورة) والطاهر سباطة ومصطفى بغداد واللائحة تطول وتطول(20)... هل نسلم بانتماء كل هذا المتن لدى هؤلاء، إلى ديوان «الزجل المغربي» ونسلم بالتالي باعتباره شعرا شعبيا؟ هل تهيمن فيه الدارجة؟

مبدئيا الزجل الحالي ليس بالضرورة هو الشعر الشعبي، لأن الشعر الشعبي من خصائصه ما يلي:

- مجهولية القائل: شعر قديم متناقل لا يعرف قائله، إنه منتشر بين الناس ويتغنون به أو يلقونه ويعجبون به.

- دارجة اللغة أو العامية، بغض النظر عن تهذيبها أو تفصيحها، لأن ذلك يخرجها من عفويتها وسياقها الدلالي والتداولي.

- شساعة الانتشار وفق عادات وتقاليد الانتشار بين الجماعة الكبيرة المتداوِلة باللغة وبالصيغ المحفوظة بين أهاليها ومكوناتها(21)

 وبالنظر إلى هذه الخصائص ننظر إلى مَن مِن الشعراء المذكورين بعد أن ألم بالكتابة والقراءة، ظل وفيا في زجله للتقاليد الشفوية البدوية الأصل، والتي تقتضي أن يروي الشاعر شعر غيره ويلم بالطرائق المعروفة والأساليب والأوزان والتراكيب والألفاظ والصور والموضوعات.. قبل أن يقول سطرا واحدا.. بله ديوانا بكامله. لقد أصبح هذا الموضوع/الملاحظة معروفا ويكاد يكون في حكم المفروغ منه.. وبناء عليه، علينا أن نتحلى بالشجاعة الأدبية والنقدية فننزعَ عن زجلنا الحالي صبغته الشعبية، ما دام الزجل تخلى عن الكثير من التقاليد البنائية للشعب، وما دام معظمه هو من عَملِ شاعرٍ كاتبٍ قارئٍ مثقفٍ له كيانه الخاص وصياغته الخاصة التي تمتح من ثقافته وتجربته الفردية. صحيح أن هذا الشعر يظل ينتمي لظاهرة ثقافية عامة شأن أي شعر ينتمي إلى ثقافة واحدة؛ لكنه يظل يحمل من مقومات التفرد والاختلاف من شاعر إلى آخر وفقا لثقافته وقراءاته وتجربته وطولها ما يسلبه صبغة الشعبية.. لأنه لا ينتمي إلى التقاليد الجماعية. وهكذا فالجماعة هي التي تحدد ظواهر الشعر الشعبي سواء على صعيد الموضوع أو على صعيد الشكل.. وفي النتيجة ليس الزجل الحالي شعرا شعبيا، نظرا لضيق وعاء تلقيه تماما كما ضاق وعاء تلقي الشعر الفصيح وفي مختلف صيغه وأساليبه بصفة عامة.

إن العديد من النصوص الزجلية غدت غناء شعبيا يَطربُ له الجميع، والسر في ذلك أنها جمعت أمرين: الأول أنها ضمت كلمات يفهمها العوام والخواص من الناس، ثانيا تُـنشد وفق ألحان قائمة على موازين الموسيقى العذبة أو المقبولة والمنتشرة بين الأوساط الشعبية الواسعة؛ ومع هذه النصوص، يجوز القول «إن جمهور الزجال أوسع من جمهور الشاعر المثقف الذي ينظم لطبقة معينة»(22).

تأملات في نماذج:

إذا كانت معظم الملاحظات السابقة مقلقة للعديد من الزجالين، فإن حسن النية في طرحها يغذي الدرس الجامعي ويشاغب على فطرةٍ أو موهبةٍ تحتاج لمزيد من الصقل والدربة والحفظ والممارسة، لتحفر موطنها بعيدا عن سلطة الشكل والفكرة والمحتوى الحاصلة في القصيدة الشعرية الحديثة الراهنة في البلاد العربية. وإذا كان صحيحاً قول علماء اللغة: إنه لا يتكلم شخصان بصورة واحدة(23)، فإنه كذلك صحيح أن مجموعة من الأفراد يتكلمون بصورة متقاربة جداً، بحيث يمكن التغاضي عن الفروق الدقيقة في نطقهم، وتتشكل عندئذ لغوية (لغية = لغيوة) تشترك مع عدد من الجماعات اللغوية الأخرى في كثير من الظواهر اللغوية التي تسمح أن يتم التفاهم بين أفراد هذه الجماعات. وطريقة كل جماعة من هذه الجماعات في النطق تسمى لهجة. ويتكون من مجموعات تلك اللهجات لغة معينة. فاللهجة إذن مجموعة من الصفات اللغوية تنتمي إلى بيئة خاصة. ويشترك في هذه الصفات جميع أفراد هذه البيئة، وبيئة اللهجة هي جزء من بيئة أوسع وأشمل تضم عدة لهجات، لكل منها خصائصها، ولكنها تشترك جميعاً في مجموعة من الظواهر اللغوية التي تيسر اتصال أفراد هذه البيئات بعضهم ببعض، وفهم ما قد يدور بينهم من حديث، فهماً يتوقف على قدر المرابطة التي تربط بين هذه اللهجات. وتلك البيئة الشاملة التي تتألف من عدة لهجات هي التي اصطُلِحَ على تسميتها باللغة، فالعلاقة بين اللغة واللهجة هي العلاقة بين العام والخاص(24).. في سياق هذه الأفكار، أتأمل في ثلاثة مجاميع زجلية هي:

1 - مكسور الجناح لمحمد الراشق، الحاصل على جائزة الزجل في دورة ميسور، من منشورات الشعلة، وقد قدمه الشاعر أحمد لمسيح وصدر في 2005. ونصوصه هي:

 

 

 
الصفحة ملاحظات وصفية وفنية عنوان النص
11 على المثني، أو المبيت في 6 أبيات يا لمسوَّل عليّ
12   صباح الخير يا قصيدة
13 موشح اقرع (25) رباعي مقفول ثم ثنائي مقفول حروف لحروف
20 داخل أو بادل بين العديد من الأوزان:السوسي  المزلوك والمثني المبيت والموشح الأقرع، وفيه مذهب ودور وقفل وخرجة سماع الندى
27   حزام السلامة
34   كبيبة لعمر
29   موال الدواخل
55   الخبز الحرفي
61   خويا جاك سلطان الهم، الموت
64   حْزان لخزامى
69   كن طير لا تكون جرانة
76   لرياح الجايه
80   الحال
90 موشح اقرع( رباعي فثلاثي مقفول) مبروك عام الفيل الجديد
98   ما تقسنيش
100   نفير لحمام
104   سوق لكراسي
110   سوق لماكن
116   سوق السطولة

 

 

2 - شهوة الحريك(26) للزجال حسن أميلي، صاحب ديوان «البهموت»(27)، وهو من تقديم الشاعر أحمد حافظ، والصادر عن دار أبي رقراق في 2011 ونصوصه هي كالتالي:

 

 
الصفحة ملاحظات وصفية وفنية عنوان النص
9   شهوة البداية
13   شهوة القلب
19   شهوة الحريك
29   شهوة الخيال
37   شهوة الرصاص
43   شهوة الخراب
49   شهوة الكلام
59   شهوة التيه
67 هذا النص لا يوجد في يبض النسخ، ما يثير مشكلة في الطبع في هذا الديوان شهوة الروح

 

 

3 -شمس الما، للزجال احميدة بلبالي، والصادر عن مطبعة طوب بريس في الرباط 2011، ونوصه هي كالتالي:

 

 

الصفحة ملاحظات وصفية وفنية عنوان النص
7   ريوس المعنى
19   ب اسلامة عليك أَعَقْلي
29   محطة لحماق
35   حروف الأبدية
43   رماد الطين
53   إزوران
63   شمس الما
73   عهدي عليك
83   سر الشعى
89   الساعة سؤال
99   يد الشوق
115   سال لحجر إيلا يهدر

 

 

المتأمل في هذه الدواوين الزجلية سوف يلاحظ أن أكبر متن ورد في مكسور الجناح لمحمد الراشق ب 19 نصا، ويليه ديوان «شمس الما» لحميدة بلبالي ب 12 نصا وأخيرا ديوان شهوة الحريك لحسن أميلي ب 9 نصوص، وسأبني قراءتي لهذه النماذج على التأمل في النصوص التالية:

- حروف لحروف من ديوان مكسور الجناح لمحمد الراشق.

- شهوة الكلام من ديوان شهوة الحريك لحسن أميلي.

- حروف الأبدية من ديوان شمس الما لحميدة بلبالي.(شمس الماء)

إن الموضوع الرئيس في هذه النصوص هو الحرف والكلمة والكلام، أو بمعنى أوضح هو «الزجل/الشعر». ففي «الشعري» أو في جمالية الزجل، نعتبر أن الزجال له القدرة اللغوية والأسلوبية على التعبير؛ انطلاقا من أنه يدرك الأشياء التي لا يستطيع الآخرون إدراكها، ولأنه - في التراث الزجلي - ولد مطبوعا بغير صناعة، وأن الموهبة الشعرية هي نتاج سليقة لا نتيجة صفات مكتسبة.. «لا يعني هذا أن هذه المهارات الخاصة غير قابلة للتعلم، وإنما ما لا يمكن إدراكه هو ومضة العبقرية الموجودة بالفعل عند الشاعر، وهي ما يؤهله ليصبح عظيما بحق»(28). ربما ما يزال بين ظهراني المجتمع من يؤمن بأن الشعراء -والزجال شاعر الشعب- قد مُنِحوا نفاذ البصيرة وامتلكتْ ألفاظُهمُ المنطوقةُ قوةً خاصة؛ يمكن أن نَسبِرها عميقا في اتجاه المؤثر الديني أو السياسي أو غيره.. ومن الواضح هنا الإيمانُ بكون الزجل ينبثق من نفوسنا ومن قلوبنا ومن أعماق حياتنا، فيضمن بذلك إعجاب الناس به، لأنه من حياتهم وبلغتهم التي تصور محيطهم أصدق تصوير، بل ومن لهجتهم التي ترسم لهم صور الأشياء ناتئة بارزة، وما الألفاظ إلا ألوان وأصوات وأحياء وحركات عند من يحسها ويدركها»؛ هكذا» فالشعورُ بالحياة وإدراكُها الكاملُ لا يكونان تامّينِ إذا عبَّرتَ عنهما بغير اللغة الدائرة على الألسنة، وبهذا يثير الشاعر الزجالُ النفوسَ إثارة يعجز عنها أكبر شعرائنا الرسميين»(29). يتضح ذلك في موضوع هذه النصوص الثلاثة، التي انتبهت لقيمة الحرف ليس فقط في اللغة والتواصل اليومي، بل وفي بناء الدلالة والإيحاء بتوليدها على جميع الأصعدة، خاصة تلك التي يستعصي أمرها على عامة الناس، فيقوم الزجال ببسطها واللحاق بعالمها والتعلق بمحبتها.. وسيكون من المفيد أن نقف عند طرق الصوغ في هذه النصوص الثلاثة انطلاقا من مبدأ وصفي تحليلي هو التشابه والتكرار.

التشابه والتكرار في الزجل المغربي:

إن دراسة المتن الزجلي المشار إليه، يدفع بنا إلى تفصيل المحتويات العامة والشاملة لهذا المتن، لرصد أهم التحولات الطارئة على المحتوى وعلى الشكل الزجلي في آن. وطمعا في بلوغ هذه الغاية مع المختصر من الدرس، وفي ضوء النصوص النموذجية الثلاثة، يمكن القول إن الزجالين المغاربة هنا يتحدثون عن «الزجل فنا ونسيجا وهدفا ووظائف.. ولكن بتفاوت في مقدار العمق والبساطة بين الزجالين، كما يظهر ذلك في العبارة واللفظة وفي طبيعة المعاني المضمنة لدى كل واحد منهم. على أننا نلاحظ في سياق اطلاعنا على ما يصدر من دواوين لهذا الفن الشعري الرائع، أن من الزجالين من اختار لغة عربية ترتبط بالعيش في القرية المغربية نطقاً وصياغةً وتشكيلاً لفظياً وتركيبَ جمل؛ ومنهم من متح بعض مظاهر لغته من لغة التراث الصوفي المغربي أو الأندلسي أو العربي في المجالات التركيبية والدلالية والتداولية، وخاصة من التجارب الفنية لدى بعض المجاذيب، ويمكن أن ينطبق هذا الكلام على من ارتبط وتأثر بشعر الملحون المغربي على الخصوص؛ ومنهم من اختط لنفسه أسلوبا يعتمد اللغة العربية المدينية(نسبة إلى المدينة) أو المدرسية، والقريبة من اللغة العربية الفصحى مع بعض الجنوح النحوي والصرفي وما إليه..

  1 . التشابه الأفقي:

 فن الأدب لا تتحدد طبيعته إلا من خلال بنائه الفني والجمالي، ولهذا الغرض سنختار بعض المقاطع من الدواوين المذكورة، في ضوء مبدأ التكرار والتشابه، لا للتنقيص من القيمة الفنية لنص من النصوص، بل للوقوف على كون فنية الزجل تستمد وجودها من طبيعة وعي أصحابها بقدرات اللغة الزجلية الحديثة، وكيفية بنـــــاء التصــوير الزجلــي الموحـــــي، علاوة على طبيعة وقوة الزخم الموسيقي الموجود في لغة هذا الزجل، وكذا من طبيعة الرؤيا الخاصة والعميقة التي يريد الزجال إبلاغها.. تبعا لتفاعله مع المحيط والعالم من حوله.. إننا في هذا المستوى نريد أن نبرهن على امتلاء الزجل بالحياة والتفاعل، وهـــــو المدخــــل إلـــــى رصــــد الزخــــم النصي والثقافي المتفاعل معـــه، وخاصة ما تعلق منه بالملحون(30) وببعــــض مظـــــــــاهر التــــــراث الشفـــــهي المـغـــــربي الــذي يضـــــم القصـــــص والحكـــايـــات والأمثال والحكم وما إليها.. والنظـــر - في غير هذا المقام طبعا - في كيفية اشتغال كـــل هذه الألوان النصية في القصيدة الزجلية المعاصرة؛ بمعنى آخر: كيف يؤدي التشابه الأفقي إلى تشابه عمودي، يجوز لنا معه طرح السؤال: كيف يتبلور قلق الكتابة وقلق الوجود الإنساني وإكراهات اللحظة والمصير في الكتابة الزجلية المعاصرة؟؟

1 _ 1 .تشابه وتكرار الموضوع الواحد:

الحروف بمعنى العلامات أو الدلالات والمعاني والآثار التي تنبعث من الكلام.. وهذه هي التي تقوم الحروف بتوليدها داخل القصيدة؛ فالزجال يصوغ خيوط القصيدة ويمتح من الطبيعة والبيئة والواقع المغربي (الفلاحي أو القروي في الغالب)، وهو ما توحي به ألفاظ مثل (حصيدة، الخطوط، الماء، القربة، اللبن، التبن، الحب، الخيمة، القنديل..) بحيث لا يبارح الزجالون في هذا المستوى التعاملَ مع المعجم الفلاحي والطبيعي، وخاصة ما ارتبط منه بالزراعة والخصب والنماء والاخضرار والعطاء.. (شجرة، خضرا، صفرا، تزرع بذرة، نباح الجّْرا(الكلاب)، اشْكامْ، الفطير، يحرث خطوط البوار(إشارة إلى الأراضي البور «جناس»)،الكلمة شمعة،(أميلي)؛ (بالمحراث نحفر فْ الفدان الخط، السلة والعنب، قنديلنا، الكتابة زرّيعة فْ كتاب نغرسها ثاني، الشمع، البارود والمكُحلة..(احميدة بلبالي)، ونستطيع- بناء على هذا المعطى المعجمي- أن ندرس التشابهات والتكرارات الداخلية التي تشمل الحروف والكلمات، وتمتد إلى العبارات برمتها، على صعيد كل ديوان مفرد، كما على صعيد الدواوين بكاملها، مما يخرج عن طاقة هذا العرض هنا.

1 _ 2 .تكرار بعض العبارات بتلوين دلالي مغاير أو مصاقب مثل:

 

 
احميدة بلبالي حسن أميلي محمد الراشق
1 -  تايه بين اسراري
واسراره
متكي على عكاز اعرج
ناسي ف راس العقبة عكازه
2 - كيف نقرا الكتاب؟
كيف البناي، نجر الخيط
نسكم الحيط
نديره ميزان
نشيع بيه اطواله
1 - كانت الكلمة خيط الشعا
يغزل بيه العاقل برشمان
بالحكمة يلوح ايزارْ
بالرشمة يزرعه عرعار
ولعمى البصيره عكاز جرار
وصدى يجلجل ف وذن الطرشان
2 - هذا دواي حاضي لسانه
يمضّي الحرف فوق سنانه
كلمه يرميه، العين ميزانه
بنظرة وحدة يعلي شانه
1 - لا تحرك هزهوج هز كلامك
من قرن لقرن، لا تعيا بيه
... والليل طويل صايل وجايل
عكازي وعنايتي
عسل حايل ترياق ودوا
2 - ساوي لكلام
ويلا الميزان طاح، آح
ارجع، الرجوع حكمة والكتابة نجمة وما
لقلم قشة عايمة

 

 

بهذه الأشكال الأسلوبية المتقاربة، يبدو الحرف بلغة الزجالين براقا لامعا قويا في سماء التعبير الملبدة بالغيوم، وكأنه سحابة ينهمر ماؤها صافيا لا كدر فيه.. بهذا المعنى يصير الحرف لب الكلام، أس البناء الدلالي والمعرفي، والذي يحافظ بنقائه على توازن المعاني وحسن الإبلاغ.. بل وعليه المعول في الإفهام والتعبير عن شواغل الذات وهمومها.. وهذا هو ما يبرر التشابه الكبير في تحميل الحرف معاني بهذا الحجم من الدقة والعمق.. وفي الحالة المعاكسة، ينقلب الحرف/الكلام/الكلمة/اللسان (كلها استعارات تأخذ من بعضها البعض في علاقة تبادل الوظيفة بين الكلي والجزئي، وبين العام والخاص، وبين التصريحي والكنائي..) إلى بياض وقذى يصيب العين فتصاب بالعور، أو إلى عكاز خرب يسقط المتكئ عليه أرضا.. وقد استخلص أميلي كل التحليل في عبارة موازية قدم به قصيدته تقول:»البلا ذ الإنسان من اللسان، وراحة الإنسان من اللسان»(ص 49).

1 _ 3 .الجمع بين الأضداد:

 

 

احميدة بلبالي حسن أميلي محمد الراشق
1 - يخرج من الظلمة ل النور
2 - والشاهد يقدر يقول الحق يقدر يشهد الزور
3 - يصادق ولا ينافق
4 - يمكن يتحرك الساكن
5 - الزمان زاد القدام هذ سنين، ما وقف ما عاين حد
1 - البلا ذ الانسان من اللسان
وراحة الانسان من اللسان
2 - العمى البصيرة عكاز
3 - صدى يجلجل ف وذن الطرشان
4 - مرة مرتاح مرة نادم
5 - تنزل صفرا تطلع خضرا
1 -الحليب لبن والحب تبن
2 - راني معلق ما بين الخوف والرجا
3 - القنديل حالف ما يشعل
4 - القلم قشة عايمة، من طبعه هشيش وقاصح
5 - الخير كتاب الشر كتاب

 

 

ومن الممكن جدا العثور على تمظهرات عدة للتشابه والتكرار بين القصائد المدروسة، إذا نحن حكمنا آليات وصفية تحليلية أخرى من قبيل الجناس والطباق والاستعــارات المتشــابــهة وغيــرها من طرق الصـــوغ في هذا المستوى.

على أن التصور الحديث للشعر أيّاً كان لونه أو صياغته، يريد أن يحدد القيمة الدلالية للنص انطلاقا من دلالة الوحدات البارزة المشكلة للقصيدة؛ وانطلاقا من تأويل خصائصها البنيوية؛ من هنا قيمة دراسة العلاقات الحاصلة بين الكلمات والعبارات، والتي نرصد من خلالها الدلالة على العاقل وغير العاقل، والدلالة على السالب والموجب والحسي والمجرد والطبيعي والصناعي والمديني والقروي.. فهذه العلاقات هي التي تفجر الدلالة وتعددها.. وهكذا تصبح القصيدة الزجلية ليس فقط ذات بنية تكرارية متشابهة، بل أيضا ذات بنية تقابلية تنهض على التقابل والتضاد..

2 . التشابه العمودي:

 في هذا المستوى، نلاحظ أن الزجالين الثلاثة يبدأون قصائدهم بالحديث عن الحرف أو الكلمة أو الكلام كمعطى إشكالي يثير العديد من الأسئلة، ويعلن انتماءه إلى الحيز الوجودي الفلسفي للكلمة في الحياة الإنسانية.. «فبالحرف، تحقق الوجود اللفظي للكون بالقوة، وبالخط تحقق وجوده بالفعل، وبهما معا تمت الإحاطة به معرفيا، حيث اشتغلت الذاكرة والمخيلة والوجدان في نسج شبكة من العلاقات والتوازنات، وبناء منظومة من الترميزات والإبدالات يتماهى فيها الظاهر مع الباطن، الشاهد مع الغائب، الحسية مع الروحانية، وتتعالق فيها تجليات الألوهية في الموجودات مع إشراقات الذوات»(31).

محمد الراشق (حروف لحروف)

1 - «الحرف على الخط، قصيدة وحصيدة

2 - الحرف على الخيط، حكاية وحايك

3 - الحرف الضاوي مطلسم، جنو شديد، برجو حديد

حسن أميلي(شهوة الكلام)

1 - كان يا ما كان، كانت الكلمة أصل المكان، وكانت حبق وسوسان، من جمرها قْدى بنادم، مد جناح صباحه، وفرفط ف الزمان

 

احميدة بلبالي( حروف الأبدية)

1 - الكتاب ولد الكتبة، خطوط منقوشة، ف حجر الكهوف، على جلود لجداد وشام عَ لكفوف، بين دفاته عصير عقول، يخرّج من الظلمة ل النور

 

واضح من هذه النماذج تشابه الزجالين في طبيعة التناول الفلسفي المغاير في التعامل مع الكلمة والحرف والكلام.. وهو ما عـبر عنه بجناس ناقص ماكر احميدة بلبالي في العنوان «حروف الأبدية» بدل حروف «الأبجدية» ليكسر التوقع العادي من الحروف، وليعلن على معنى الحرف والكلمة التي تؤسس لمعرفة وجودية ووجودا معرفيا يزيدان في الثراء الإنساني ويقودان إلى أفق مفتوح على شتى الاحتمالات، كما تسمح به طرائق التخييل الشعري في هذا الزجل.

إن الزجال المغربي في حنينه الملحوظ للغة أهل الملحون، ينفتح على تجربة المشايخ الكبار الذين نهلوا من مجال الدين والمقدس والصوفي.. ولعل هؤلاء افتتنوا كثيرا باللغة.. فقد لاحظ بعض الزجالين، أن اللغة وسيلة عجن الوجود مادةً للخلق والتحول والصيرورة بكل أبعادها.. قال حسن أميلي في قصيدة (شهوة القلب):

أنا اللا أحد بينات الناس

وانا الواحد ومجموع الناس

أنا العادم

أنا الزاطم

أنا الفاهم

أنا الهايم

أنا الغاضب وما نادم.

 حيث تبدو «اللغة ليست مجرد مجال للتخاطب والتحاور، بل هي أيضا وأساسا الأفق الذي منه يتم الاتصال بالآخر وباللامتناهي، بالمطلق» (32). وهذا معنى مغرق في عالم التصوف  وموقفه من اللغة، بالنظر إلى طبيعة المعاني المحمولة فيها.. فأن يكون واحدا وليس فردا، وان يكون في نفس الآن مجموع الناس، هو عين حلول الواحد في الجماعة والجماعة في الواحد، كما الجمع بين الفهم والهيام والغضب، يذكر بالمعنى الأنطلوجي المأساوي الذي يربط مصير الفهم والعقل والالتزام بالمأساة والنكران.. مع ذلك فهو يختار ويتحمل مسؤولية اختياره، وبالتالي فلا مكان للندم عنده. بهذا الشكل يبدو الزجال المعاصر، أنه تخلص إلى حد كبير من الدارجة العامية البسيطة المسفة، وارتقى بها إلى مصاف المعاني الراقية التي ينشدها.. وقدم لغة حية تتناسل مع الفصحى، ويستمد المعاني من بيئته وثقافته وتفاعله الوقاد مع الواقع بكل مركباته وعقده. وهكذا يظهر أن الزجال المعاصر إذ يستجيب لنداء اللغة، قد تجاوز لغة الكلام العادي من داخل منظومة هذا الكلام، وارتقى بلغته الاجتماعية المعتادة، واتخذ لغة تكشف أسرار الكينونة والحياة..

هكذا نصل إلى اقتناع مفاده أنه «من غير المقبول تاريخيا وإبستومولوجيا الحكم على «شعرية ما بمفاهيم شعرية أخرى مختلفة من حيث أصولها النظرية، وتقاليدها الأدبية، ومفاهيمها وتصوراتها للفن ولوظيفته داخل فضاء سوسيوثقافي معين»(33).   

انطلاقا مما سبق، يمكن القول إن الزجل هنا ليس هو السجع العامي ولا هو الشعر الشعبي بمطلق الدلالة، بل هو كلام راقي تحف به مكونات الشفوية من كل جانب، وخاصة في كيفية إلقائه/إنشاده(34).. فقد كانت للزجل منذ بداياته، علاقة بالأغنية الشعبية أو بالعيوط أو بالملحون، أو بالأغنية المغربية العصرية، أو بالمسرح..أي أنه لم يكن فنا مستقلا بذاته، باستثناء ما يشبه (رباعيات المجذوب)، أما الزجل في عمومه، فقد كان تابعا يؤثث فضاءات فنون أخرى.. أما الزجل المعاصر، ومنه هذه النصوص فهو يعبر عن استقلاله التجنيسي الواضح اعتمادا على تراكمه وتنوعه وخصوبته.. ومن ملامح ذلك تعدد مظاهر الدارجة المغربية حتى على صعيد المدينة/المكان الواحد، تنتج تنويعات لهجية متعددة، مثل اللهجة الدارجة الجبلية والفاسية والمراكشية والحسّانية وغير ذلك كثير.. ومن المؤكد - علاوة على كل هذا - أن دارجة اليوم ليست هي دوارج الأمس، ولا دوارج الشباب هي دوارج الآباء والأجداد.. وهذا الاحتراز كفيل أن يبوئ الزجل الموقعَ العلمي اللائق به في البحث والدرس، فقد أثبتت لغة الزجل أنها لغة الخلق والإبداع. إننا عندما ندافع على انتماء الزجل للأدب الشعبي فلكي نتجاوز التصور القدحي الذي ووجهت به القصيدة الزجلية، ولكي يتموقع الزجل في نفس موقع الأدب الشعبي، فهو وجهه المضيء والخلاق الذي يبعده عن الفلْكلَرة (folklorisme) البشعة والمسفة للفن والإبداع؛ ولكنه أيضا وأساسا ليس فنا لمن لا فن له.

أخيرا، هل استطاعت هذه المداخلة أن تقدم تصورا أوليا ندرس من خلاله الزجل المغربي في خصوصياته الشعبية؟ وما هو المكان النظري والنقدي اللائق بالممارسات الزجلية الحالية والكثيرة والمتنوعة ونحن نراهن على دراسة المتن الزجلي أكاديميا؟

إن إثارة سؤال الصياغة المتعلق بالزجل المغربي، يذهب بنا بعيدا للتأمل في طبيعة المزاحمة التي يعاني منها الزجل الشعبي الأصيل، بدعوى تحديثه وتثويره وتحقيق انزياحاته.. وهذه كلها مزاعم كان لها الأثر السلبي على أنطولوجيا متن زجلي ضخم غير موثق ولا منقول ولا مدروس.. لذلك، فإن حظ هذا المتن المنسي يجب أن يكون وافرا كي يدخل الى الدرس الجامعي الأكاديمي، لأنه وسيلة لحفر الطرق الواضحة لتقييمه؛ أولا لتقييم فردية كل مجموعة بشرية ينتمي إليها والنظر في خصوصياتها التاريخية، وفي فضائها الخاص وما تملأه من عقائد وتقاليد وممارسات؛ أي باختصار النظر في ثقافته. هذا المبتغى لا يقبل في أي حال من الأحوال إنتاج أجساد عارية، إذ هو سلوك متسرع من شأنه إقبار هوية ثقافية برمتها.. ولكن لابد من اعتبار المكونات الداخلية للنسق الثقافي والسوسيوبنائي  للزجل التي تشمل نسق وثقافة الجماعة المحتضنة/المولدة للزجل والزجالين؛ وفي الحالة المعاكسة: لا نعرف مقدار الثمن الذي سنؤديه، ولكن من طرف من؟ دائما من طرف نفس الكائنات، وهي الأغلبية الساحقة، والأقل حظوة: بتعبير ميشال دو سيرطو(35).   

 

الهوامش:

1  - الحاج بن مومن، التراث الشفوي وإعادة بناء الهوية، ضمن كتاب التراث اللغوي الشفاهي هوية وتواصل، ص 13 وما بعدها.

2  - مصطفى صادق الرافعي، تاريخ آداب العرب، راجعه وضبطه عبد الله المنشاوي ومهدي البحقيري، ص48.، وبالمناسبة ينظر تعريفه للزجل وحديثه عنه ضمن الفنون الشعرية المستحدثة في نفس الكتاب،ج2 ص 154 وما يليها.

3  - رمضان عبد التواب، لحن العامة والتطور اللغوي، ص 113.

4  - أدونيس، الثابت والمتحول، ج1 ص 188 وما بعدها.

5  - إبراهيم السامرائي، العربية تاريخ وتطور، ص 78.

6  - كارل بروكلمان، فقه اللغات السامية، ترجمة رمضان عبد التواب، ص148/149.

7  -  من يروم التعرف على قيمة اللغة في الأدب لا يتردد في القول بأن هذا العمل مصنوع أولا وقبل كل شيء من كلمات، غير أن هذا الأمر يجعل الأدب كأي ملفوظ لساني، وقد يفرغه من التميز والخصوصية؛ لذلك يقرر تودوروف ومن يشتغلون بلسانيات الأدب أن «الأدب ليس مصنوعا من كلمات بل من جمل، وهذه تنتسب لسجلات مختلفة من سجلات الكلام، بما هو مفهوم يقترب من بعض معاني الأسلوب» انظر: تودوروف، الشعرية، ترجمة رجاء بن سلامة وشكري المبخوت،  ص 38.

8 - Dellai Ahmed Amine, Guide bibliographique du Melhoune du Maghreb(1854/1996), p 6 -12

9  - كل هذه أسماء مدن ومناطق في المملكة المغربية، متباعدة جغرافيا ومختلفة لهجيا إلى حد ما

10  - محمد قنديل البقلي، فنون الزجل، سلسلة كتابك، رقم 128، د ت، ص 63/ 64.

11  - ابن سناء الملك، دار الطراز في صناعة الموشحات، تحقيق جودة الركابي، ص 29.

12  - مارون عبود، الشعر العامي،  ص 66.

13  - أحمد العزب، طبيعة الشعر، ص 79/ 80.

14  - أحمد رشدي صالح، الأدب الشعبي، ص36، وانظر أيضا: مرسي الصباغ، قراءة جديدة في الشعر الشعبي العربي، ص 17 وما يليها.

15  - عبد المجيد الزكاف، حول بعض خصائص النص الأدبي الشعبي، ضمن كتاب الأدب الشعبي المغربي، ص29.

16  - محمد مفتاح، مفاهيم موسعة لنظرية شعرية، ص 20/ 21.

17  -  عبد الحميد بورايو، محاضرات في الثقافة الشعبية، التاريخ والقضايا والتجليات، ص 2/3.

18 - Goody Jack, Entre l’oralité et l’écriture, p18.

19  - أعمال ندوة شعر الملحون، الواقع والآفاق، منشورات كلية الآداب، عين الشق، ط1 الدار البيضاء 2011، ص 309.

20  - ينظر الحديث عن كثير من هؤلاء وعن تجاربهم الزجلية في :محمد داني، في تاريخية الزجل المغربي، ضمن مجلة مجرة، عدد22/23، (عد خاص بالزجل)،الصادرة عن دار البوكيلي للطباعة والنشر، القنيطرة.

21  -  علي محمد برهانة، كتاب الشعر الشعبي، ج 1 ، ص 3/4.

22  - عباس الجراري، الزجل في المغرب، القصيدة، ص 38 .

23 - Louis Goudart, Le pouvoir de l’écrit au pays des premières écritures, , p 25.

24  - سعد مصلوح، دراسة السمع والكلام، ط1 عالم الكتب، القاهرة 1980.

 25 - الموشح التام ما ابتدئ فيه بالأقفال، والأقرع ما ابتدئ فيه بالأبيات، وهذا الشعر هنا شبيه بالموشح، لأن الأصل فيه أن يكون التام من ستة أقفال وخمسة أبيات، والأقرع من خمسة أبيات وخمسة أقفال.. انظر: ابن سناء الملك، دار الطراز في عمل الموشحات،  م س، ص 25.

26  - حسن أميلي، شهوة الحريك، ط1، أبي رقراق، الرباط 2011.

27 - حسن أميلي، البهموت، ديوان زجلي، الرباط 1996.

28  - روجر آلن، مقدمة للأدب العربي، ترجمة رمضان بسطاويسي وآخرين،  ص 129.

29  - مارون عبود، م س، ص 62/63.

30  - للوقوف على  مختلف الدلالات والمفاهيم المتعلقة بهذا الفن المغربي الأصيل( الملحون)، يمكن الاطلاع على: أحمد سُهوم، الملحون المغربي، ط1 منشورات شؤون جماعية، الرباط 1993، وعباس الجراري في:الزجل في المغرب، القصيدة، ط1  نشر مكتبة الطالب، ومطبعة الأمنية، الرباط  1970 وغير ذلك كثير..

31  - أحمد بلحاج أيت وارهام، الخط العربي  وعلم الحرف، جمالية وأسرار، ص 13.

32 - Max Billen, Le comportement mystique de l’écriture, in : Le mythe et le mythique, p15/16.

33  - محمد الوهابي، ظواهر شفاهية في الشعر العربي الفصيح في المغرب، اقتراحات نظرية ومنهجية، ضمن كتاب (التراث اللغوي الشفاهي)، م س ، ص119

34  - نبيلة إبراهيم، أشكال التعبير في الأدب الشعبي، ص 3/4

35 -Michel De Certeau, La culture au pluriel, éd Seuil, Points, Paris 1993, p 18

المراجع :

 - محمد الراشق، مكسور لجناح( زجل)، ط1 منشورات الشعلة، الدار البيضاء 2005

- احميدة بلبالي، شمس الما(زجل)، ط1، طوب بريس، الرباط 2011

- حسن أميلي: البهموت، ديوان زجلي، ط1، مطابع التكتل الوطني، الرباط 1996

شهوة الحريك، ط1، دار أبي رقراق، الرباط 2011

الدراسات باللغة العربية والمترجمة إليها:

- الحاج بن مومن، التراث الشفوي وإعادة بناء الهوية، ضمن كتاب التراث اللغوي الشفاهي هوية وتواصل، منشورات كلية الآداب، الرباط رقم 125، مطبعة النجاح الجديدة الدار البيضاء 2005

- مصطفى صادق الرافعي، تاريخ آداب العرب، راجعه وضبطه عبد الله المنشاوي ومهدي البحقيري، ط1 مكتبة الإيمان القاهرة 1997

- رمضان عبد التواب، لحن العامة والتطور اللغوي، ط2 مكتبة زهراء الشرق، القاهرة 2000

- أدونيس، الثابت والمتحول، بحث في الإبداع والإتباع عند العرب،ج1 ط10 دار الساقي، بيروت 2011

- إبراهيم السامرائي، العربية تاريخ وتطور، ط1 مكتبة المعارف، بيروت 1993

- محمد قنديل البقلي، فنون الزجل، سلسلة كتابك، ط1 دار المعارف، القاهرة رقم 128، د ت

- ابن سناء الملك، دار الطراز في صناعة الموشحات، تحقيق جودة الركابي، ط3 دمشق 1983

- مارون عبود، الشعر العامي، ط1 دار الثقافة ودار مارون عبود، بيروت 1968

- أحمد العزب، طبيعة الشعر، ط1 مطابع دار الكتاب، الدار البيضاء 1985

- أحمد رشدي صالح، الأدب الشعبي، ط3 مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، 1971

- مرسي الصباغ، قراءة جديدة في الشعر الشعبي العربي، ط1 دار الوفاء، الإسكندرية2002

- عبد المجيد الزكاف، حول بعض خصائص النص الأدبي الشعبي، ضمن كتاب الأدب الشعبي المغربي، ط1 منشورات عكاظ، الرباط 1989

- محمد مفتاح، مفاهيم موسعة لنظرية شعرية، ط1 المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء 2010

- عبد الحميد بورايو، محاضرات في الثقافة الشعبية، التاريخ والقضايا والتجليات، باتنة، الجزائر 2005

-   علي محمد برهانة، كتاب الشعر الشعبي، ج 1 ، ط1 مطبوعات اللجنة الشعبية للثقافة والإعلام، ليبيا 2006

- عباس الجراري، الزجل في المغرب، القصيدة، ط1 نشر مكتبة الطالب، ومطبعة الأمنية، الرباط 1970

- أحمد سُهوم، الملحون المغربي، ط1 منشورات شؤون جماعية، الرباط 1993

- أحمد بلحاج أيت وارهام، الخط العربي وعلم الحرف، جمالية وأسرار، دلالات ورموز، ط1البوكيلي للطباعة والنشر، القنيطرة 2007

- نبيلة إبراهيم، أشكال التعبير في الأدب الشعبي، ط دار نهضة مصر، القاهرة، د ت

- مجلة مجرة،عدد22/23،(عدد خاص بالزجل)،الصادرة عن دار البوكيلي للطباعة والنشر، القنيطرة

الدراسات المترجمة:

- كارل بروكلمان، فقه اللغات السامية، ترجمة رمضان عبد التواب، منشورات جامعة الرياض، السعودية 1977

- تودوروف، الشعرية، ترجمة رجاء بن سلامة وشكري المبخوت، ط1 دار توبقال، البيضاء 1987

- روجر آلن، مقدمة للأدب العربي، ترجمة رمضان بسطاويسي وآخرين، ط1 منشورات المشروع القومي للترجمة، العدد293، القاهرة 2003

Références:

-  Dellai Ahmed Amine, Guide bibliographique du Melhoune du Maghreb (1854/1996), éd l’Harmattan, Paris 1996

 - Goody Jack, Entre l’oralité et l’écriture, PUF, Paris 1994

 - Louis Goudard, Le pouvoir de l’écrit au pays des premières écritures, Ed Armand Colin, Paris, 1970

 - Max Billen, Le comportement mystique de l’écriture, in : Le mythe et le mythique, éd Albin Michel, Paris 1987

 - Michel De Certeau, La culture au pluriel, éd Seuil, Points, Paris 1993

Footnotes:

1  - الموشح التام ما ابتدئ فيه بالأقفال، والأقرع ما ابتدئ فيه بالأبيات، وهذا الشعر هنا شبيه بالموشح، لأن الأصل فيه أن يكون التام من ستة أقفال وخمسة أبيات، والأقرع من خمسة أبيات وخمسة أقفال.. انظر: ابن سناء الملك، دار الطراز في عمل الموشحات،  م س، ص 25

الصور :

1-www.arab-ency.com/servers/gallery/126-2.jpg

2-www.dorar.at/imup2/2014-07/bouquet_for_nine55rose.jpg

أعداد المجلة